اجتمع كثيرون في المظاهرات والتجمُّعات التي نادت بإسقاط النظام السوري منذ عام 2011. كان هذا الحراك لحظةً مفصليةً في حياة الآلاف، إذ كان الخروج فيها مخاطرة حقيقية بالحياة، وتعبيراً عن تحولٍ جذري في فهم كثير من السوريين للعالم من حولهم، وكَسراً لرتابة العيش في ظل ديكتاتورية دموية عاش كثيرٌ من المعارضين جُلَّ أعمارهم أو كُلَّها تحت وطأتها.

شاركَ في تلك المظاهرات أناسٌ من خلفيات متنوعة، أبناء طبقة وسطى مدينية محافظة، وطلاب جامعات يعيشون في غير مدنهم، عمّال مياومة يشكون من تعسُّف أصحاب المصانع، أصحاب مصانع، تُجار صغار، مثقفون، وعاملون في الحقل الفني، خريجو حلقات دينية في دمشق، وأبناءُ شيوعيين، وشلل متفرقة كانت تخصص يوم الجمعة للعب الورق، أبناء ريف في المدينة، وأبناء مدينة في الريف، وآخرون غيرهم.

لم يكن من بين هؤلاء أبو محمد الجولاني أو من تبيَّنَ لاحقاً بأنّ اسمه أحمد الشرع.

يمثل الجولاني نقيضَ هذا المشهد تماماً، فهو ليس ممثلاً فعلياً للتيار الإسلامي في سوريا، بأقصى اتساعٍ له؛ من أبناء التيار المسجدي في المدن إلى أعضاء التيارات الإسلامية باختلافها، حتى المقاتلين السلفيين. وهو ليس بطبيعة الحال مقبولاً بأي شكلٍ من الأشكال من قبل التيارات الليبرالية أو اليسارية أو التي تطمح لدولةٍ مدنية ديمقراطية في سوريا.

الجولاني ابنٌ للسياق العراقي ما بعد 2003، سياقٌ التقى فيه التيار الجهادي العالمي مع حربٍ أهلية جرت على أنقاضِ بلدٍ ورِثَهُ الاحتلال الأميركي عن نظام ديكتاتوري. ليس بمعنى أنّه اكتسب فعلاً تجربته السياسية من صراع الأفكار الجهادية وتطرُّفها الطائفي في العراق فقط، بل أيضاً من السياق الذي قفز فيه خريجُ كلية شريعة متوسط الموهبة من مدينة سامراء يدعى إبراهيم بن عواد، إلى أن يصبح «خليفةً» باسم «أبو بكر البغدادي»، بكل ما في ذلك من عبثية وعنف شديد.

لم يرَ الجولاني على الأغلب طوابير السوريين وهم ينتظرون الحصول على بونات المازوت اللازمة لشرائه بسعرٍ مدعوم هو ضعف السعر الذي اعتادوا عليه لأكثر من عقدٍ من الزمن، ولم يشاهد النازحين إلى المدن بسبب موجات الجفاف، متروكين دون أدنى مساعدةٍ من الدولة. كما لم يقف في طوابير السفارات الأجنبية للحصول على فيزةٍ تسمح له بالنجاة، ولم يشعر بالتأكيد مثل ملايين السوريين بأن البلاد بدأت تضيق بأصغر أحلامهم بعد تراكم سنوات من الوعود بالتغيير.

يُمثّل أحمد الشرع، على العكس من ذلك، مزيجاً من جنون العظمة الذي دفعه مثلاً إلى اختيار لقب «الفاتح»، وإلى تسمية أولى المؤسسات الإعلامية التابعة لتنظيمه بـ«المنارة البيضاء»، وهي بحسب الروايات اسمٌ للمئذنة التي يهبط عليها المسيح في دمشق «آخر الزمان» بعد قدوم المهدي. الرجل كان يظن بأنّه المهدي بطريقة أو بأخرى، بالإضافة إلى التذاكي الذي يصيب من يقتنع بأحقيته بالزعامة، مع وجود استعدادٍ واضح للقيام بكل ما يلزم حتى يصل إلى هدفه في الحصول على تلك السلطة، بما في ذلك التخلي عن ماضيه الجهادي، الأمر الذي بدأ يظهر بوضوح خلال السنوات القليلة الماضية.

خلال حُكمه لشبه دولته في شمال غربي سوريا، والتي تمتد اليوم على أجزاء مُعتبَرة من محافظة إدلب وقِطَعٍ أصغر من محافظات حلب واللاذقية وحماة، أظهرَ الشرع قدرةً فريدة على تنظيم كل شيء ليعمل وفق مصالحه مُقلِّداً نموذج دولة الأسد، فهناك مؤسسات وهيئات وحكومةٌ لا تحكم، وجهازٌ أمني تطال يده الجميع بمن فيهم قادةٌ عسكريون في تنظيمه، يُخفي ويسجن ويعذب حسب الحاجة، وهناك أقارب وأصدقاء بدأوا يمسكون بالمناصب الحساسة، أو يديرون من الخلف مؤسسات لها وجه ظاهري لا يملك من أمره شيئاً، وهناك رجال أعمال مقربون وواجهات أعمال يحتكرون القطاعات الاقتصادية، من شركات المحروقات إلى تجارة السيارات المستعملة حتى استيراد المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة، ويجنون بسبب الاحتكارات تلك، لا بسبب مهاراتهم الفذة، ثروات تصبُّ في صالح استمرار تشغيل تنظيم الجولاني ومَدّه بالقوة اللازمة. 

وفي مواجهة الحراك الذي خرج ضده قبل أشهر، استخدم الجولاني كل الحيل التي سبق للنظام السوري استخدامها، فقد حاول تفرقة المجتمعات المحلية من خلال اختيار «وجهاء»، يرى هو بأنّهم يمثلون مجتمعاتهم وبلداتهم، حتى «يتحاور» معهم، ومن خلال الترهيب وقطع أوصال المدن والبلدات، ومن خلال الاعتقال والإخفاء القسري، ودفع الشبيحة والملثمين للاعتداء على الناشطين والمظاهرات والاعتصامات، ومن ثمّ استخدام جهاز الأمن والقوة العسكرية للمداهمة والحصار والاعتقال وفرض الأمر الواقع، وطبعاً القيام بتأديب أحد مراكز الحراك ليكون درساً للباقين، كما حصل في مدينة بنش التي استقدمَ إليها ألفاً من عناصر الجهاز الأمني والقوة العسكرية، وقام بمحاصرتها ومداهمة بيوتها والاعتداء على ناشطيها ومن ثم إخفائهم، عدا عن قيامه باستخدام حيلة التفريق بين أهالي المنطقة والساكنين فيها من باقي المناطق.

تجتمعُ في الجولاني اليوم أعراضُ الثورة المضادة، والنظام الديكتاتوري، وشعبوية أقصى اليمين، مع ميلٍ واضحٍ للتشبُّه ببشار الأسد أو اتّباع الخطة التي تبدو من حيث يجلس الجولاني حلّاً ناجحاً للبقاء في الحكم رغم كل الاعتراضات.

فلم يصل الرجل إلى ما وصل إليه «قائد المحرر» إلا بعدما اتخذ كل الطرق الممكنة للاستحواذ على السلطة والتشبُّث بها، ومن موقعه ذاك يبدو أنّ الجولاني يرى نفسه الأحقَّ في الجلوس على مقعدٍ يُمثّل السنّة في سوريا، عندما يكون هناك طاولة ذات معنى فعلاً لتقاسم السلطة والنفوذ بين المتحاربين.

يختلف الذين خرجوا في المظاهرات عام 2011 سياسياً على الكثير، هذا عدا عن العدمية التي خلَّفتها ظروف القضاء على حركة الإحتجاج الشعبي في سوريا، ومع ذلك، وعلى الرغم من التباين الشديد في خارطة المحتجين، فإنّ موقع الجولاني ليس فيها، بل هو على خارطةٍ أخرى تخص المتصارعين على حصص النفوذ والسلطة والثروة في بلاد تحتضر، يمتلكها اليوم مزيجٌ من احتلالات متفرقة وأعيان حرب ورثوا سوياً نظاماً دكتاتورياً امتدَّ لخمسين عاماً.

وعلى ما في محاولة سُنِّةٍ سوريين الحصولَ على اعترافٍ بهم كطائفة جديدة قديمة من عبثٍ ومعارضةٍ لقوانين الاجتماع والتاريخ، فإنّ الجولاني ليس جزءاً ممكناً من هذه الطائفة ولا مُمثّلاً عنها في الحقيقة، بل إنه سقطَ بالمظلة تماماً على هؤلاء من عوالمَ أخرى.

بكلمة أخرى، إنّ الصراع على هوية سوريا والسوريين ومستقبلهم لا يشغل بال الجهادي السابق. يمثل أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني، طبقة أعيان الحرب وممثلي المحتلين في سوريا، أي أنه النقيضُ التام لما جمع سوريين مختلفين جداً في مظاهراتٍ هتفت لإسقاط النظام السوري منذ ربيع عام 2011، وتَجَذُّرُ هذه الطبقة وداعميها هو تماماً ما يجب علينا مقاومته وعدم قبوله أبداً.