يجدر بي أن أشارك الصديق شكري الريان تبرُّمه من العطالة السياسية التي لازمت وتلازم «السوريين المعارضين»، على صعيد العلاقة فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين فاعلين أو مهتمين غير سوريين ، يُفترَض الوصول إليهم وفتحُ نقاش مُوسَّع معهم حول القضية السورية وحول استعصاء التغيير في بلدنا من جهة أخرى: أسباب هذا الاستعصاء واحتمالات الخروج منه (مقاله في الجمهورية: مَن، وماذا، بقي للسوريين فعلاً؟)؛ هذا سؤال اللحظة الحارق بالفعل، أو «سؤال المليون» كما يُقال.

هنا ردٌّ على شكري واختلافٌ معه في نقاط يَفترضُ كاتب هذه السطور أنها أساسية، وأنّ تناولها مدخلٌ لا بد منه للبدء بنقاش جدّي حول السؤال آنف الذكر، على عكس ما جاء في مقاله من إيحاءات وإشارات ترى في تلك النقاط نقاطاً ثانوية على ما يبدو، مع إضافة مسألة أساسية هنا هي مسألة «الهوية» و«البُعد الأهلي» في الصراعات السورية اليوم، والتي كان الصديق العزيز قد أغفلها لصالح انقسامات أخرى، جرياً على عادة «الإنكار» التي ثابرَ عليها كتاب سوريون معارضون كثر منذ ارتفع صوت الهوية ودمويتها والرقص السوري حولها منذ أزيدَ من عقد.

حرق المراحل

يبدو شكري على عجلة من أمره، يستعجل الحشد والتحشيد في صفوف السوريين، خصوصاً سوريي أوروبا وأميركا، من حيث أنه لا يريد تقليب المواجع القديمة كما يقول. وإذا كان صحيحاً ما قاله من ضرورة أن النقاش حول ثورة عام 2011 يبقى أساساً لأي مشروع جماعي، إلا أنه يقفز عن ذلك الحدث الذي قلَبَ وغيّرَ وجه سوريا والمنطقة إلى الأبد، ونتجت عنه مآلات كثيرة بعضها ذو صلة بالمُراوحة السورية في المكان حالياً أو بِعدم إمكانية فعل أي شيء، مُفضِّلاً طرح سؤال المستقبل مباشرة. ملاحظتي هنا على كلامه مزدوجة:

أولاً، أَفترضُ أن ثورة عام 2011 كانت مرآةً متعددة الأوجه تعكس أوجه البلد وانتماءاته ومكوناته، حتى أن كل وجه منها كان يعكس ثورة مختلفة عن الأخرى، تبعاً للمنطقة أو اللون الاجتماعي أو «الطبقة» أو الهوية (دين، طائفة، قومية…). وهي كانت محاولة لتكوين شعب سوري أكثر منها ثورة شعب ناجز ومُتشكِّل سياسياً. هذا المشروع فشلَ لأسباب كثيرة، وعلى رأسها طبعاً سلوك النظام قبل الثورة وبعدها. لكن، ثمة أسبابٌ أخرى، وإن كان المجال يضيق بذكرها هنا، وليس هذا المقال مناسبة للتوسع فيها، تغيبُ عن نصه أو أنها تَحضرُ من باب رفع العتب لا أكثر، وهذا يحيلنا إلى ثانياً. حيث لا يُفهم، بالمناسبة، قوله إن المؤسسات السياسية المعارضة «لا  تتحمل، للإنصاف، مسؤولية الدمار، بل تعتاش عليه» كما يقول. يغيب عن كلامه أن تلك «المؤسسات» كانت طرفاً في مفاوضات ولقاءات مع مسؤولين كبار في دول تقود العالم ومنخرطة في الشأن السوري، ولا بد أن أداءها المُنحطَّ سياسياً ومالياً وثقافياً، لعبَ دوراً في تقديم صورة عن الثورة وعمّا يُفترض أن تكون عليه «طليعتها» السياسية المتحدثة باسمها في عواصم العالم. أضف أن تلك «المؤسسات» بارتهانها لجهات إقليمية (تركية خصوصاً)، كانت تقدم الغطاء السياسي لانتهاكات وجرائم تحصل على الأرض من قبل فصائل معارضة ارتكبت ما ارتكبته. 

نقف اليوم، شكري وأنا، في لحظة من الأفضلية الزمنية بالنسبة لثورة عام 2011، لكننا مختلفان في قراءتنا للحامل الاجتماعي لتلك الثورة وأفكاره واتجاهاته، وسأوضح كلامي هنا من خلال نقاشي لنقطتين في مقاله:

النقطة الأولى هي في اعتباره السوريين كتلة واحدة، يجمعها التوق إلى التغيير والارتباط بالبلد، في حين أن هؤلاء، في الواقع، أمزجة واهتمامات وتيارات ومشاربُ اجتماعية تنوس بين الانفتاح والمحافظة، والليبرالية والتشدُّد، الإيديولوجيا وما بعد الإيديولوجيا، والتجارب الشخصية والتجارب العامة، وحبّ البلد وكراهيته، وهؤلاء «مطلوب منهم» إما التضامن أو الالتقاء أو الحوار أو التنظيم من أجل سوريا المستقبل. فكأنّ المقال ينتهي، وإن عن غير قصد، إلى أنّ البشر ليسوا إلا براغي في ماكينات كبرى للتغيير والعمل السياسي أو التنظيمي، وأنّ الإنسان ليس إلّا خلية ضمن حشد يُفترض أن يشكل جسداً متراصاً ينطلق إلى الأمام من أجل الأوطان العظيمة.

القرينة الثانية تنطلق من استسهال واضح في نصه، يرى إلى كل اللاجئين أو المهاجرين (سوريين وغير سوريين) حالة بالغة النقاء من ناحية سعيهم للعمل بكل طاقتهم، لا يعتمدون على الرعاية الاجتماعية وغيرها، إلى آخر القيم التي تجعل كاتب هذه السطور يشعر، لوهلة، وكأنه لا يقيم في أوروبا نفسها. ثمة أمثلة إيطالية كثيرة جداً، بالمناسبة، على سوريين يقيمون هنا، وينفون حكم القيمة الذي يطلقه شكري عليهم وعلى أقرانهم من جنسيات أخرى، وأنا شخصياً لست على استعداد للتعاون والعمل السياسي والثقافي معهم (رغم ثوريتهم ومعارضتهم الجذرية للنظام)، وذلك تبعاً لاعتبارات كثيرة من بينها علاقتهم مع «نظام الرعاية الاجتماعية» هنا. لا أملك إحصاءات وأرقاماً بخصوص العاملين وغير العاملين في صفوف من وصلوا إلى أوروبا، وأحسدُ شكري على يقينه وقطعيته وتوصيفه لهؤلاء وزجِّهم في كتلة خير مطلقة في تشابه وتنميط، وإن يكن مقلوباً مع ما يفعله متطرفون يمينيون يضعون اللاجئين والمهاجرين في كتلة وخانة شر مطلقة. فإذا أضفنا إلى ذلك، حديثه عن معجزة «بنغالورية» و«جاذبية سورية»، عُدنا إلى الحديث عن طبائع مُفترَضة أو مُتخيّلة أكثر من انتمائها إلى عالمنا وإلى ما هو ملموس وملاحَظ فيه. 

في ما خصَّ السويداء 

شكري على حق في اعتباره الحديث عن سوريا التي «ليست سوريا الأسد» مدعاة احتفاء، مُنطلِقاً من احتمال «استقلال» السويداء عن سوريا الأسدية. هذا موقف وكلام متقدّم قياساً بالكلام السوري الكثير حول وحدة الوطن وعبادة التراب المقدس، غير أن السويداء اليوم تعيش انتفاضة شعبية، تتقدم أياماً وتنحسر أياماً أخرى، ومن المبكر «العثور فيها على الكثير من سوريا التي يحلم بها السوريون جميعاً» (هكذا، السوريون جميعاً وبالمطلق، بحسبه) أو يرتاحون للعيش فيها. لا أعتقد أن العيش في ظروف اضطراب اجتماعي وأمني هو مما يأمل ويحلم (السوريون) أو يرتاحون للعيش فيه، وإن تكن انتفاضة ضد نظام متوحش، وأَفترضُ أن كثيرين من المنتفضين في السويداء ينتظرون أول فيزا او إمكانية سفر تقلّهم إلى الخارج. تحتم تعقيدات المشهد اليوم انتظار تبلور شكل واضح للسويداء وعلاقتها مع الكيان السوري ككل، وهو كيان يكاد وجوده اليوم يكون على المحك، كما تُحتِّم، طبعاً، دعم انتفاضة تلك المنطقة بالصوت وبالكتابة وبكل ما أمكن، ودعم الخيار «اللّامركزي» فيها إن توضَّحَ وتبلورَ شعبياً بالفعل.

شكري مُحقّ أيضاً في حديثه عن ضرورة التحالفات الخارجية الداعمة للسويداء للخروج من قبضة الأسد، وهو ما ينبغي العمل عليه من الخارج وبالتلاقي مع خطابات شرائح من سكان جبل العرب. لكن من الغريب فعلاً، أقلّه حتى اللحظة، أنَّ كثيراً من الأصوات المقيمة في السويداء، وحتى في الخارج والمُحتكة مع الغرب وثقافته ونماذجه، ما زالت تشيطن وتهاجم وتخوّن كل صوت يُقدّمُ دعوة أو رؤية فيدرالية للبلد، في مزايدة منها على النظام ودولته المركزية. وفيما خصَّ هذه النقطة بالتحديد، لا يوضح الكاتب رؤيته في ظل عدم إمكانية الانفصال عن الكيان الأسدي من قبل القوى الذاتية في السويداء، مكتفياً بإحالتها إلى السوبرمان، أي إلى سوريي الخارج، من دون رؤية واضحة لكيف وماذا يمكن ان يفعلوا؟، باستثناء الحديث عن التجمُّع والضغط، (تَجمُّع مَن مع مَن؟ الضغط على مَن؟ هل الأوساط الغربية الفاعلة في المنطقة جاهلة بالملف السوري وتفاصيله وتنتظر تنويرها سورياً بما يحصل؟ هذه كلها أسئلة تستحق نقاشاً مُفصَّلاً!).

والحال، أن السويداء كما شمال شرقي سوريا سابقاً واليوم، هُما ملعبان من ملاعب الحراك المُنجدِل مع الهوية، والهوية وجهٌ أساسي من أوجه الصراعات المشرقية برمَّتها اليوم (سوريا والعراق ولبنان). وإذا كان لبنان وانقساماته الهوياتية لم يعبّر عن نفسه في صيغة صراع داخلي مُسلّح حتى الآن، فإن العراق وسوريا أرضان خصبتان لصراع الهويات على أُسس طائفية أو إثنية. ليس الصراع الهوياتي هو وجه سوريا الوحيد، والهويات ليست مسألة مكتوبة في جيناتنا وحمضنا النووي كسوريين، على ما يرى عنصريون كثر في الغرب والشرق، لكنه الصراع الأعلى صوتاً اليوم ولزمن طويل قادم، وتغييبه والتركيز على انقسام قد يراه شكري وآخرون «انقساماً أولياً» في مقابل «انقسامات ثانوية» وفق السُنّة الماركسية الشهيرة، غير دقيق. ولا معنى للحديث عن السويداء، ولا عن مناطق الساحل وشمال شرقي وشمال غربي سوريا والعلاقة فيما بينها، إن لم تحضر الانقسامات الشاقولية والهواجس تجاه الآخر والانفجارات الحاصلة أو المحتملة على أساس الدين أو الطائفة أو العِرق بين مناطق سورية كثيرة، وهي انفجارات لها مقدمات سياسية أولاً، ذات صلة بالأسدية وإيران ووجود هذه الأخيرة ودورها في سوريا، كما أنَّ لها علاقة ببنية الكيان السوري وإشكالية علاقة المكونات مع بعضها تاريخياً. لستُ ممن يُغيّبون دور الثقافة والاجتماع والدين عن رفد الكوارث بما يلزمها.

اقتراحات أولية

ليست هذه دعوة إلى التشاؤم ولا إلى التفاؤل، وإلى اعتبار أن ما حصل قد حصل ولا مخرج منه على الإطلاق. سوريا في النهاية جزءٌ من هذا العالم، تؤثر فيه ويؤثر فيها، بِدءاً من هوية واسم سيد/سيدة البيت الأبيض في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وصولاً إلى نتائج حرب غزة الحالية والإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون هناك، وتأثيرها على شكل المنطقة والتسويات المحتملة فيها، وبين هذا وتلك، صعود الشعبوية واليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي والشعبوي، وشكل الاتحاد الأوروبي وعلاقته مع المنطقة، وحركة التثاقف القوية، كتابة وترجمة وحواراً مع الغربيين. 

هذا كله يحتاج إلى سنوات طويلة حتى يتبلور تأثيرٌ ما على الساحة السورية، قياساً بحجم الكارثة الواقعة، لكن لا مهرب من مواجهته ومن القيام بما يلزم من تفاعل معه. أما الحامل الاجتماعي والثقافي لذلك، والذي أجدُ نفسي (وربما كثر معي) جزءاً منه، فهم ليسوا (السوريين) ولا سوريي الخارج، بل «سوريون تقدميون»، باستعارة تعبير ياسين السويحة، ممن يتحلون بعزيمة قوية في مقارعة الأسدية لا تقل عن عزيمتهم في مقارعة الإسلاميين وعداء هؤلاء للحياة والحرية، يمتلكون همة في الدفاع عن هذه الأخيرة بمعناها الأوسع، من حيث هي الحرية الاجتماعية وحرية المرأة والجسد والمأكل والمشرب والانفتاح على تجارب يرونها مُلهِمة لهم، خصوصاً أفكار التنوير ومُراجعاتها وتاريخ الحروب ومقاومة النازية والفاشية، وما كُتبَ حول ذلك وغيره باللغات الأوروبية الأم. يندرجون ضمن الحركات السياسية والاجتماعية التي تنظر إلى العالم بعيداً عن القوميات المُغالية والحركات اليمينية المتطرفة واليسار الشعبوي المُعادي للمؤسسات، بحيث يلتقي نضالهم هذا مع تَصوُّر لسوريا أخرى غير منغلقة وغير نهائية ولا شيء فيها فوق النقاش. هذه التجارب والحريات ليست تفاصيل بالمناسبة، بل هي في عُمق فلسفة وجودنا كبشر على هذه الأرض. 

السوريون-ات التقدميون-ات، على ما أرى، معنيون اليوم بمهمتين أساسيتين:

أولاهما، الانفصال والقطيعة الثقافية مع «السوريات الأخرى» أو الموازية، الرجعية، التي لا تقول شيئاً عن شكل البلد ولا عن العدالة والمساواة فيه، ولا عن الحريات الخاصة والعامة وعن الليبرالية بمعناها السياسي، وهي القطيعة التي قد تأخذ شكل انفصال عِمادُهُ أفرادٌ أولاً، يلتقون على خطوط محددة ومصالح ورؤى مشتركة في السياسة والثقافة وكثير من شؤون الحياة، يفكرون ويتحاورون ويتفاعلون مع سوريين وغير سوريين انطلاقاً من «الحرية» كمسألة لا يُساوَم عليها، ولا يتم الالتفاف عليها باسم أي قضية مهما بدت كبرى. وثانيهما، التعامل مع سوريا كبلد عادي، بلا أوهام عن الجاذبية وغير ذلك، ومغادرة طوبى «الشعب الواحد» كحالة ثابتة فوق سياسية غير قابلة للنقاش والتشكيك. 

سوريا بلد أقل من عادي، لكنه يعنينا كثيراً، فيه ذكرياتُنا وسنوات غير قليلة أفنيناها من أعمارنا، وتضحياتنا وكفاحاتنا وشهدائنا الذين دُفنوا فيها دفاعاً عن ثورة مهزومة، وقضية تستحقُّ التأمل فيها بروية وبكثير من الصبر والتمحيص والتأني، بعيداً عن الحشد والتحشيد والغزْل على نول الجماهير والجموع التي يُفترَض أن «تجتمع» أو «تضغط» وإن كانوا «مليوناً في الغرب». قد لا أعود إلى سوريا حتى للزيارة وإن رحل النظام، لكنني لن أتوقف عن التفكير والنقد والتفكيك والتأمّل فيها وفي كل ما حصل خلال سنوات الثورة وما قبلها. هذا ليس شعراً، بل هو كلام في عمق السياسة بالنسبة لي.

«الوعي المطابق» بتعبير الراحل ياسين الحافظ، من حيث فهم الواقع كما هو لا كما نريد له أن يكون، مسألة تبقى أساسية وقد تكون لُقاحاً ضد الانجراف وراء الأوهام وحرق الطاقات والوقت والجهد وملاحقة السراب، وهذه بداية معقولة لمن يريد أن يبدأ.