في سابقة هي الأولى منذ استقلال سورية عام 1945 وإقرار ميثاق الأمم المتحدة مع النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية في السنة نفسها، تَمثُلُ الجمهورية العربية السورية أمام المحكمة كطرف مُدَّعى عليه لمسؤوليتها عن خروقات مُدَّعى بها لاتفاقية مناهضة التعذيب. تفصل محكمة العدل الدولية في النزاعات بين الدول، وتُصدِرُ آراء استشارية بطلب من هيئات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وهي «تقول القانونَ الدولي» عندما تحسم النزاعات بين الدول بأحكام مُلزِمة وعندما تصدر آراء استشارية.
كان قد تمحورَ دور محكمة العدل الدولية تاريخياً في الفصل في النزاعات بين الدول حول مسائل ترسيم حدود برية أو بحرية، أو خروقات لسيادة الدول أو حصانات دبلوماسية. وقد برز كذلك دورٌ للمحكمة في الفصل في خلافات بين الدول حول قضايا تتعلق بتطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وذلك بالتوازي مع نزاعات نجمَ عنها ارتكاب جرائم جماعية. فكان أن نظرت المحكمة مثلاً حول وجود إبادة جماعية في يوغسلافيا السابقة في نزاع بين صربيا والبوسنة، أو بين غامبيا وميانمار حول ما تَعرَّضَ له شعبُ الروهِنغا (القضية قيد النظر الآن).
لم يكن لسورية حضورٌ كطرفٍ مدَّعٍ أو مُدَّعى عليه أمام محكمة العدل الدولية، إلى أن ادَّعت عليها في عام 2023 كل من كندا وهولندا بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، بعد ثلاثة عشرة سنة من اندلاع الأحداث السورية في سياق الربيع العربي.
تستعرضُ هذه المقالة القضية الماثلة حالياً أمام محكمة العدل الدولية ضد الجمهورية العربية السورية، فتُبيّنُ كيف نشأت وما هي الإجراءات التي وصلت إليها حتى اليوم. ومن ثم تبحث في أهميتها في إعطاء بعض المعنى لما حدث للسوريين في السنين التي تبعت الربيع العربي. كما تحاول أن تتلمَّسَ دوراً للقضية في طرح مسؤولية الدولة بكامل أركانها عن نظام التعذيب الذي سحق مئات الآلاف من السوريين، وهو ما يكمّل الجهود التي تحاول أن تتعقب المسؤولين فردياً عن ارتكاب جرائم التعذيب.
اتفاقية مناهضة التعذيب
بتاريخ 10 كانون الأول (ديسمبر) 1984، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في قرارها رقم 39/46، اتفاقيةَ مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (اتفاقية مناهضة التعذيب). بتاريخ 2 تموز (يوليو) 2004، صادقت سورية على اتفاقية مناهضة التعذيب بالمرسوم التشريعي ذي الرقم 39، ما يعني بأن أحكام الاتفاقية أصبحت مُلزِمة لها وجُزءاً من قانونها الوطني.المرسوم التشريعي رقم 39 تاريخ 1/7/2004، الجريدة الرسمية السورية، الجزء الأول، العدد 36، ص 1983.
وعرَّفت المادة الأولى من الاتفاقية التعذيب بأنه «أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يُلحَق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يُشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث – أو عندما يُلحَق مثل هذا الألم أو العذاب لسبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يُحرِّضُ عليه أو يُوافِق عليه أو يَسكُتُ عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرّف بصفته الرسمية».
وألزمت المادة الثانية كلّاً من الدول المُنضمَّة إلى المعاهدة أن تتخذ «إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعّالة أو أي إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب». كما نصَّت المادة الخامسة عشرة من الاتفاقية على أن تضمَن كل دولة «إنصاف من يتعرّضُ لعمل من أعمال التعذيب وتَمتّعه بحق قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب، بما في ذلك وسائل إعادة تأهيله على أكمل وجه ممكن، وفى حالة وفاة المُعتدَى عليه نتيجة لعمل من أعمال التعذيب، يكون للأشخاص الذين كان يَعولهم الحق في التعويض». كما نصَّت المادة السادسة عشر من الاتفاقية أن تتعهد كل دولة منضمة لها «أن تمنع… حدوث أي أعمال أخرى من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المُهينة التي لا تصل إلى حدّ التعذيب».
ونصّت المادة الثلاثون من الاتفاقية على أنه في حال نشوء أي نزاع بين دولتين أو أكثر من الدول المنضمة للاتفاقية فيما يتعلق بتفسيرها أو تنفيذها، ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يُطرَح للتحكيم بناء على طلب إحدى هذه الدول، فإذا لم يتم التوافق بين الدول المتنازعة على تنظيم التحكيم؛ «يجوز لأي من تلك الأطراف أن يُحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بتقديم طلب وفقاً للنظام الأساسي لهذه المحكمة».
نشوء الادعاء على سورية
بحسب مذكرة الدعوى المقدمة من قبل هولندا وكندا إلى محكمة العدل الدولية ضد سورية في 8 حزيران (يونيو) 2023، تبيَّنَ أنَّ هولندا كانت قد أرسلت بتاريخ 18 أيلول (سبتمبر) 2020 إلى سورية مذكرة شفوية (Note Verbale) بالطريق الدبلوماسي، تدعوها للتفاوض بموجب المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب، الأمر الذي رفضته سورية بتصريح رسمي.سانا، الخارجية: الحكومة الهولندية آخر من يحق له الحديث عن حقوق الإنسان بعد فضيحتها أمام شعبها بدعم تنظيمات إرهابية في سورية، 19/9/2020.
وبتاريخ 3 آذار (مارس) 2021 أعادت هولندا وكندا دعوتهما الحكومة السورية للتفاوض بسبب وجود نزاع حول تفسير وتنفيذ سورية لاتفاقية مناهضة التعذيب، وبتاريخ 18 آب (أغسطس) 2021 قدَّمَت هولندا إلى سورية مذكرة شفوية دبلوماسية، تضمَّنت بيانات مُفصَّلة بالوقائع المُدَّعى بها من خروقات سورية لاتفاقية مناهضة التعذيب منذ آذار (مارس) 2011.
بتاريخ 30 أيلول (سبتمبر) 2021 ردَّ الجانب السوري بمذكرة شفوية دبلوماسية رفضت فيها بالكامل تكييف النزاع على أنه يُنشِئ مسؤولية دولية على سورية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيبمذكرة دعوى هولندا وكندا، الفقرة 18. ، وفي هذه الأثناء شكلت سورية لجنة باسم «اللجنة الوطنية المكلفة ببحث الجوانب المتعلقة بالتحرك الهولندي ضد سورية»، اجتمعت لمرات عديدة، في إشارة إلى الاهتمام السوري الخاص الذي تم إيلاؤه لتبعات «التحرُّك الهولندي».قرار رئاسة مجلس الوزراء السوري رقم 1962 تاريخ 23/11/2021، الجريدة الرسمية السورية، الجزء الأول، 2021، العدد 46، ص 734.
وفيما يبدو أنه تحضيرٌ للتفاوض مع هولندا، ولقطع الطريق على سعي هولندا لجرّ سورية إلى نزاع قضائي دولي، أصدرت سورية بتاريخ 29 آذار (مارس) 2022 القانون رقم 16 لتجريم التعذيب الجريدة الرسمية السورية، 2022، العدد 13، ص.215.. تضمَّنَ القانون تعريفاً للتعذيب مُشابهاً لما ورد في المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب، وتجريماً لأعمال التعذيب تصل عقوبته إلى حدّ الإعدام «إذا نجم عن التعذيب موتُ إنسان أم تم الاعتداء عليه بالاغتصاب أو الفحشاء أثناء التعذيب أو لغايته» بحسب المادة الثانية (الفقرة و) من القانون.
بتاريخ 5 نيسان (أبريل) و5-6 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، عُقِدَت اجتماعات في أبو ظبي بالإمارات العربية المتحدة بين لجنة تفاوضية سورية ونظيرتيها الهولندية والكندية للبحث في طلب التفاوض بناء على اتفاقية مناهضة التعذيب. أثناء هذه الاجتماعات وجهاً لوجه، قَدَّمت هولندا وكندا مذكرات تفصيلية بوقائع التعذيب المُدَّعى بها، وطلبت وقف أعمال التعذيب في سورية مع إعطاء ضمانات بعدم تكرار التعذيب ومنح تعويضات لمن تعرَّضَ للتعذيب في السجون السوريةمذكرة دعوى هولندا وكندا، الفقرة 19.. وبحسب مذكرة دعوى هولندا وكندا، لم تُسفر الاجتماعات عن أي حل للنزاع، الأمر الذي حدا بهولندا وكندا إلى توجيه مذكرة شفوية دبلوماسية إلى سورية بتاريخ 17 تشرين الأول 2022، تُبيّنان فيها أن النزاع وصل إلى طريق مسدود. وبتاريخ 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 دعت هولندا وكندا سورية لتنظيم عملية تحكيم دولي لفضّ هذا النزاع، وفق ما يوجبه شرطُ فضِّ النزاعات الوارد في المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب، إلا أن سورية لم تتجاوب ولم تقرّ استلامها الطلب بحسب ما ورد في مذكرة دعوى هولندا وكندا.
ردّاً على ذلك، وجَّه الجانب السوري مذكرات شفوية دبلوماسيةالمذكرات الشفوية الدبلوماسية الموجهة من قبل البعثة الدائمة السورية لدى الأمم المتحدة في جنيف إلى بعثتي هولندا وكندا في جنيف ذوات الأرقام، 236/22، تاريخ 27/10/2022، و246/22، تاريخ 17/11/2022، و32/23 تاريخ 1/2/2023، و114/23، تاريخ 10/4/2023، منشورة كوثائق مرفقة مع مذكرة الرد المقدمة من قبل سفارة سورية في بروكسيل إلى محكمة العدل الدولية تاريخ 10/10/2023. بينت فيها بأنه لا يمكن التسرّع بالاستنتاج أن الأمور وصلت إلى طريق مسدود من اجتماعين للتفاوض، ودعت الحكومتين الهولندية والكندية لعقد اجتماعات لاحقة لمنح فرصة التقدم في الوصول إلى نتائج ذات معنى، بحسن نية مع رغبة حقيقية بإجراء مباحثات جدية. إلا أن الجانب السوري لم يتطرق إلى، أو يردّ على، طلب التحكيم المُقدَّم من الحكومتين الهولندية والكندية، ما حدا بالدولتين للجوء إلى محكمة العدل الدولية استناداً إلى المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب.مذكرة دعوى هولندا وكندا، الفقرة 21.
موضوع دعوى هولندا وكندا
في الموضوع، بيّنت مذكرة الدعوى المقدمة من قبل هولندا وكندا أمام محكمة العدل الدولية بتاريخ 8 حزيران (يونيو) 2023، بأن الاعتقال والاحتجاز التعسفي والتعذيب والمعاملة المهينة والقاسية واللّاإنسانية في أماكن الاحتجاز هي ممارسات مُتجذّرة وروتينية في سورية، منذ ما قبل بدء الأحداث السورية عام 2011، وفق ما أثبتته ملاحظات لجنة الأمم المتحدة المشكلة بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب عن وضع احترام الدولة السورية لالتزاماتها بموجب الاتفاقيةعلى سبيل المثال: تقرير لجنة مناهضة التعذيب المتضمّن تعليقاتها على تقرير سورية الدوري للجنة، تاريخ 26/5/2010، وثيقة الأمم المتحدة رقم (CAT/C/SYP/CO/1).. وأكدت مذكرة دعوى هولندا وكندا بأن أفعال التعذيب أصبحت مُعمَّمة على نطاق واسع وجماعي في سورية منذ عام 2011مذكرة دعوى هولندا وكندا، الفقرة 25 وما بعدها.، وفصّلت مذكرة الدعوى في ممارسات التعذيب وفق شهادات الناجين كما وثَّقتها تقارير أممية وتقارير منظمات حقوقية دولية على مدى سنوات الأحداث السوريةالمصدر السابق، الفقرة 37 وما بعدها.. وركَّزت المذكرة على حالات الاغتصاب الجنسي والاختفاء القسري، والمقابر الجماعية والتعذيب المُمارَس ضد الأطفالالمصدر السابق، الفقرات 41، 46، 49.. وطلبت مذكرة الدعوى من محكمة العدل الدولية إصدار حكم يقرر خرق الدولة السورية التزاماتها الواردة في اتفاقية مناهضة التعذيب، ولا سيما:
– بارتكابها لأعمال التعذيب والمعاملة المهينة والقاسية واللّاإنسانية، وفي عدم اتخاذها إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية لمنع اللجوء لهذه الممارسات، في مخالفة للمواد الأولى والثانية والسادسة عشرة من اتفاقية مناهضة التعذيب؛
– بامتناعها عن محاسبة مرتكبي أعمال التعذيب والمعاملة المهينة والقاسية واللاإنسانية، وامتناعها عن مراجعة كافة إجراءات الاعتقال والتحقيق والاحتجاز، وعن إعطاء الفرصة للمتضررين من التعذيب للاشتكاء من تلك الأفعال والمطالبة بالحصول على تعويض عادل، في مخالفة للمواد السابعة والعاشرة والحادية عشرة والرابعة عشرة و السادسة عشرة من اتفاقية مناهضة التعذيب.
كما قدمت هولندا وكندا مذكرة منفصلة بتاريخ 8 حزيران 2023 طلبتا فيها من محكمة العدل الدولية إصدار تدابير مؤقتة مستعجلة، قبل الدخول في موضوع الدعوى، لحفظ الحقوق. وتضمنت الطلبات التحفظية أمرَ الدولة السورية بوقف والامتناع عن ارتكاب أي أفعال تعذيب ومعاملة مهينة أو قاسية أو لاإنسانية، والامتناع عن إتلاف الأدلة أو منع الوصول إليها حول ممارسات التعذيب ولا سيما السجلّات الطبية، والإفصاح عن أماكن المقابر الجماعية، والامتناع عن ارتكاب أي أفعال من شأنها مُفاقمة الحال وتعميق النزاع، وتقديم تقارير دورية بتنفيذ تلك التدابير.طلب هولندا وكندا باتخاذ تدابير مؤقتة، 8 حزيران 2023، الفقرة 35.
جلسةُ مرافعة في غياب «سورية»، ودفاعُ «سورية» الكتابي
بتاريخ 10 تشرين الأول 2023 عقدت محكمة العدل الدولية جلسة استماع علنية لسماع الأطراف في طلب هولندا وكندا الأمر بتدابير مؤقتة. امتنعَ الجانب السوري عن المثول في الجلسة، وقدمت في اليوم نفسه، بعد انتهاء الجلسة، مذكرة مفصلة تبين موقفها من طلب الأمر بتدابير مؤقتة.مذكرة الرد المقدمة من قبل سفارة سورية في بروكسيل إلى محكمة العدل الدولية تاريخ 10/10/2023.
أكدت سورية في مذكرتها على «احترامها للقانون الدولي»المصدر السابق، الفقرة 2. بما في ذلك اتفاقية مناهضة التعذيب. ولكنها نازعت في اختصاص المحكمة.
احتجت المذكرة السورية بشكل خاص بأن اتفاقية مناهضة التعذيب «تتضمن التزامات فردية ولا تُنشئ نزاعاً بين الأطراف (الدول المنضمة للاتفاقية) إن لم يتم إثبات وجود ضرر بطرف آخر، وعلاقة سببية بين الفعل والضرر وفق قواعد المسؤولية الدولية»المصدر السابق، الفقرة 6.، أما هولندا وكندا فلم تُثبتا وجود ضرر لحق بهما، بحسب المذكرة السورية، ما يعني عدم وجود مصلحة لهما لرفع الدعوى.
كما احتجت المذكرة السورية بأن هولندا وكندا لم تتّبعا الإجراءات الشكلية المحددة في الاتفاقية، التي توجب حسب قولها، إثارة النزاع بين الدول حول الاتفاقية أمام لجنة مناهضة التعذيب المنبثقة عن الاتفاقية أولاً، وقبل اللجوء إلى شرط فضّ النزاعات والتفاوض الوارد في المادة 30 من الاتفاقية. فلا هولندا وكندا لجأتا إلى لجنة مناهضة التعذيب أولاً، ولا سورية قبلت باختصاص لجنة مناهضة التعذيب أساساً، بعد أن أدرجت تحفظاً على اختصاص هذه اللجنة لدى تصديقها للاتفاقية؛المادة 2 من المرسوم التشريعي رقم 39 لعام 2004 المتضمن التصديق على اتفاقية مناهضة التعذيب: «لا تعترف الجمهورية العربية السورية باختصاص لجنة مناهضة التعذيب المنصوص عليه في المادة 20 من الاتفاقية المذكورة وذلك سنداً لأحكام الفقرة 1 من المادة 28 من هذه الاتفاقية». ما يعني عدم مقبولية مقاضاة سورية أمام محكمة العدل الدولية لعدمِ اتّباع الشروط الشكلية، ولعدمِ إمكانية ذلك بسبب التحفّظ السوري على اختصاص لجنة مناهضة التعذيب.مذكرة الردّ المُقدَّمة من قبل سفارة سورية، الفقرة 17.
وركزت المذكرة السورية على القول بأنه لا يوجد نزاعٌ أصلاً بين سورية من جهة وهولندا وكندا من جهة أخرى حتى يكون مُنشِئاً لاختصاص محكمة العدل الدولية، وأكدت بأن مراسلات الجانبين لم تظهر بأن سورية كانت تتمسك بآراء متعارضة، بل «كانت تُحاول الوقوف على المشاغل التي أثارها مُقدِّما الطلب، وفهم وجهة نظرهما، والحصول على مزيد من المعلومات بشأنها، بهدف التحقُّق منها ومعالجتها إن كان ذلك لازماً والوصول إلى اتفاق معهما».مذكرة الردّ المُقدَّمة من قبل سفارة سورية، الفقرة 21.
كما شدَّدت المذكرة السورية على أنه لم يكن صحيحاً القول بأن المفاوضات حول تفسير وتطبيق سورية لاتفاقية مناهضة التعذيب قد وصلت إلى طريق مسدود، إذا أن سورية «أكدت باستمرار بأنها مستعدة للانخراط بجدية وحسن نية مع مقدمي الطلب استناداً إلى اتفاقية مناهضة التعذيب»مذكرة الردّ المُقدَّمة من قبل سفارة سورية، الفقرة 28، وبالتالي لم يكن هناك محلٌ لطلب تحكيم، ولا لإحالة سورية إلى محكمة العدل الدولية، في ظل ظروف قابلية استمرار المفاوضات بين الجهتين. وقد كررت المذكرة السورية بذلك دفعاً أولياً لمنع اتخاذ تدابير مؤقتة، تُثيره الدول المُدَّعى عليها في قضايا حول خروقات لاتفاقيات تتعلق بحماية حقوق الإنسان، وآخرها إسرائيل في الدعوى التي رفعتها ضدها جنوب أفريقيا حول تطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية في حربها على غزة، حيث يتم الاحتجاج بنفي وجود نزاع أو عدم تحقيق شرط المفاوضات بينما «المحادثات الودية» لا تزال مستمرة.انظر على سبيل المثال مرافعات إسرائيل في الدعوى المقدمة ضدها من جنوب أفريقيا حول اتفاقية الإبادة الجماعية، جلسة 12/1/2024، ص.28، الفقرتين 25 و26: «قررت جنوب أفريقيا من جانب واحد أن هناك نزاعًا قائمًا، بغض النظر عن رد إسرائيل التوفيقي والودي، الذي تكرر منذ ذلك الحين. وربما لو قبلت جنوب أفريقيا هذا العرض المقدم في ذلك الوقت نتيجة لمذكرتها الخاصة، لربما قرر الطرفان أنه لا يوجد نزاع في حد ذاته لعرضه على المحكمة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، ولربما تبددت مخاوف جنوب أفريقيا المُعرَب عنها بشأن ادعاء الإبادة الجماعية».
وأخيراً نازعت المذكرة السورية بشأن وجود أي مبررات للأمر بتدابير مؤقتة، حيث لا يوجد إلحاح خطر وشيك وحقيقي يمكن أن يؤدي إلى ضرر لا يمكن جبره في حقوق الأطراف، بينما كل ما تمت إثارته من وقائع تعذيب يتمحور حول فترة زمنية بين عامي 2011 و2014. كما لا توجد حقوق مُحتمَلة مطلوب حمايتها لكل من هولندا وكندا تُبرَّر التدابير المؤقتة، وكل ما تم عرضه ما هو إلا حالات تعذيب مُفترَضة لم يتم تحديدها. وحذرت المذكرة السورية من أن إعطاء التدابير المؤقتة المطلوبة «سيشكل حكماً مسبقاً فاصلاً للموضوع وذلك دون استيفاء أسس الإثبات القانوني المعتمدة…».مذكرة الردّ المُقدَّمة من قبل سفارة سورية، الفقرة 48.
وختمت المذكرة السورية بتركيزها على مبدأ «الأيادي النظيفة في القانون الدولي»، وطعنت بمصداقية هولندا بعد أن أشارت إلى أن رئيس وزرائها يتعرّضُ للتحقيق أمام البرلمان الهولندي لتورطه المزعوم بتقديم الدعم لفصيل سوري مسلح.مذكرة الردّ المُقدَّمة من قبل سفارة سورية، الفقرات 46،48، 50.
قرار المحكمة بأمر سورية اتخاذ تدابير مؤقتة
بتاريخ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً يتضمن أمر سورية بتنفيذ تدابير مؤقتةقرار محكمة العدل الدولية بالتدابير المؤقتة، هولندا وكندا ضد سورية، 16/11/2023.. أسفت المحكمة لعدم حضور سورية جلسة الاستماع، وقررت مع ذلك بأنها، ولحسن سير العدالة، ستأخذ بالحسبان الحجج المبينة في مذكرة سورية الكتابية المقدمة في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وتماشياً مع اجتهادها في معرض الأمر بتدابير مؤقتة، بيّنت المحكمة أنها ستنظر أولاً فيما إذا كان اختصاصها في الدعوى الماثلة متوفراً ظاهرياً، دون أن يعني ذلك أنها تقرر بشكل نهائي انعقاد اختصاصها للنظر في القضية، وهو أمر تنظر فيه المحكمة عندما تنتقل لبحث موضوع الدعوىالمصدر السابق، الفقرة 20.. ولأجل التحقق من توافر اختصاصها ظاهرياً، استعرضت محكمة العدل الدولية بعد ذلك الشروط المطلوبة للّجوء إلى قضائها بحسب أحكام المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب.
فكان عليها أن تتحقق أولاً من وجود «نزاع» بين هولندا وكندا من جهة وسورية من جهة أخرى حول تفسير وتطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب، وهو مسألة تبحث فيها المحكمة ولها اجتهاد مستقر فيه.انظر على سبيل المثال الحكم الصادر في الدفوع الأولية في النزاع بين جامبيا وميانمار حول تطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية، الصادر في 22/7/2022، الفقرة 63 التي تعيد التذكير بقضاء المحكمة المستقرّ. في هذا الصدد، لاحظت محكمة العدل الدولية أولاً بأن هولندا وكندا وسورية هي دول مُنضمَّة لاتفاقية مناهضة التعذيبقرار محكمة العدل الدولية بالتدابير المؤقتة، هولندا وكندا ضد سورية، الفقرة 23.. وفي معرض التحقق فيما إذا كان قد نشب نزاع بين هولندا وكندا من جهة وسورية من جهة أخرى حول تفسير وتنفيذ الاتفاقية، استعرضت محكمة العدل الدولية كافة تفاصيل الاجتماعات وتبادُل المذكرات الشفوية الدبلوماسية بين هولندا وكندا من جهة وسورية من جهة أخرى حول الاتفاقية، التي تمت بين عامي 2020 و2022، ولاحظت وجود نزاع بين الأطراف، ذلك لأن هولندا وكندا تدّعيان بأن سورية هي في حالة خرق لاتفاقية مناهضة التعذيب، فيما ترفض سورية هذا الموقف بكامله. كما قررت محكمة العدل الدولية بأن أفعال التعذيب المُدَّعى بها تدخل في صلب نطاق اتفاقية مناهضة التعذيب، التي يختلف الأطراف على تفسيرها وتطبيقها. المصدر السابق، الفقرتان 31 و32.
واستعرضت محكمة العدل الدولية بعد ذلك الشروط الإجرائية المُسبقة للجوء إلى قضائها لفض النزاع الناشب فيما بين الأطراف، بحسب أحكام المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب. فحيث تتطلب المادة 30 الدخول في مفاوضات مسبقة، لاحظت محكمة العدل الدولية بأن هولندا وكندا قد سعيا بشكل حقيقي للدخول في مفاوضات بهدف التوصل إلى فض النزاع على مدى سنتين، وتبيَّنَ للمحكمة بأن مواقف الأطراف لم تتقدم حتى في الاجتماع الأخير المنعقد في 6 و7 تشرين الأول 2022 في أبو ظبي كما تُبينه المذكرات الشفوية الدبلوماسية، ما أدى بالمحكمة إلى تقرير تحقق شرط استنفاذ طريق المفاوضات المسبقة.المصدر السابق، الفقرة 42.
وحيث تتطلب المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب اللجوء إلى التحكيم الدولي بين الدول المُتنازعة، لاحظت محكمة العدل الدولية بأن هولندا وكندا عرضتا تنظيم إجراءات تحكيم دولي، إلا أن سورية لم تردَّ على هذا العرض، ما أدى بالمحكمة إلى تقرير تحقُّق شرط عدم الاتفاق على التحكيم قبل اللجوء إليها.المصدر السابق، الفقرة 43.
ورفضت محكمة العدل الدولية دفاع سورية بأن اختصاص محكمة العدل الدولية مشروط بأن تمر عملية فضُّ النزاع أولاً أمام لجنة مناهضة التعذيب المنبثقة عن اتفاقية مناهضة التعذيب، قبل تطبيق المادة 30 من الاتفاقية والذهاب إلى محكمة العدل الدولية.المصدر السابق، الفقرة 46.
كما رفضت محكمة العدل الدولية دفاع سورية بأنه ليس لهولندا وكندا مصلحة قانونية لرفع دعوى على سورية، طالما أن الاتفاقية، بحسب القول السوري، تُنشِئ التزامات فردية على الدولة السورية، ولا تُنشِئ التزامات تجاه هولندا وكندا اللتين لم تتعرّضا لضرر. وأكدت المحكمة في هذا الصدد اجتهادها المستقرعلى سبيل المثال، حكم محكمة العدل الدولية في قضية التزام تسليم المجرمين (حسين حبري) بين بلجيكا والسنغال بناء على اتفاقية مناهضة التعذيب، تاريخ 20/7/2012، الفقرة 68: «ويمكن تعريف هذه الالتزامات على أنها ’التزامات في مواجهة الكافة‘» بمعنى أن لكل دولة طرف مصلحة في توفير الامتثال بها في أي حالة مهما كان. وفي هذا الصدد، تشبه الأحكام ذات الصلة من اتفاقية مناهضة التعذيب أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي لاحظت المحكمة بشأنها أن «الدول المتعاقدة في مثل هذه الاتفاقية ليس لها أي مصلحة خاصة بها؛ بل إن لها مصلحة مشتركة في تحقيق تلك الأغراض السامية التي هي سبب وجود الاتفاقية». وبناء على هذا القضاء المستقر، أقرت محكمة العدل الدولية مؤخراً في قرارها بالتدابير المؤقتة بين جنوب أفريقيا وإسرائيل حول تطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية، بمصلحة أفريقيا الجنوبية القانونية برفع القضية. قرار المحكمة المؤرخ في 26/1/2024، الفقرة 33.، بأن الالتزامات المقررة في اتفاقية مناهضة التعذيب هي التزامات كل دولة منضمة للاتفاقية في مواجهة كافة الدول المنضمة إليها (erga omnes partes)، وليس فقط التزامات تجاه شعبها. ما يعني بأن أي خروقات لاتفاقية مناهضة التعذيب ترتكبها دولة ضد شعبها، هي في الوقت نفسه خروقات تجاه كافة الدول المنضمة للاتفاقية، وبأن كل دولة طرف في الاتفاقية لها الحق بتأمين الالتزام بنصوص الاتفاقية، بالرغم من أنها ليست بذاتها أطرفاً متضررة؛ الأمر الذي يسبغ على كل دولة منضمة للاتفاقية المصلحة القانونية في الادعاء على الدولة التي ترتكب خروقات لطلب وقفها وإعلان المسؤولية الدولية للدولة المُدَّعى عليها عن هذه الخروقات. وبناء عليه قررت محكمة العدل الدولية بأن لهولندا وكندا المصلحة القانونية لرفع الدعوى على سورية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب. قرار محكمة العدل الدولية بالتدابير المؤقتة، هولندا وكندا ضد سورية، الفقرتان 50 و51.
ومن ثم بحثت محكمة العدل الدولية، بالشروط التي تُوجِبُ إصدار أوامر بتدابير مؤقتة على ضوء قضائها المستقر، وأكَّدت على اجتهادها بأنه ليس المطلوب في مرحلة التدابير المؤقتة أن تقرر بشكل نهائي فيما إذا كانت الحقوق التي يسعى إليها الطرفان المدعيان (هولندا وكندا) لحمايتها هي مُستحقَّة لهما، وإنما يكفي أن يكون استحقاقها مُحتمَلاً (plausible). وحيث أن محكمة العدل الدولية قررت بأن لكافة الدول المنضمة لاتفاقية مناهضة التعذيب حقوقاً أصلية في تأمين الامتثال لأحكام الاتفاقية، حال خرق أحد الدول المنضمة للالتزامات الناشئة عنها تجاه شعبها، فإن تلك الحقوق (التي لا تقرر المحكمة استحقاقها نهائياً)، هي حقوقٌ مُحتمَلةٌ لكندا وهولندا ناشئةٌ عن اتفاقية مناهضة التعذيب، يجدر حمايتها بإجراءات مؤقتة.المصدر السابق، الفقرات 53، 57، 62.
ومن ثم تعرضت محكمة العدل الدولية إلى الدفع السوري بعدم وجود إلحاح أو خطر محدق يوجب حماية حقوق للدولتين المدعيتين هولندا وكندا، وذلك بسبب عدم إثبات حالات تعذيب بعينها. وفي هذا الصدد استعرضت محكمة العدل الدولية تقارير لجنة التحقيق المستقلة حول الوضع في سورية، المُشكَّلة من قبل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. فاستشهدت أولاً بتقرير لجنة التحقيق الدولية حول الاحتجاز التعسفي، الصادر بتاريخ 11 آذار 2021، الذي استعرض أفعال الاحتجاز التعسفي والتعذيب والمعاملة المهينة والقاسية واللاإنسانية خلال 10 سنوات من النزاع السوري، والذي بيّنَ بأن هذه الممارسات كانت «من الأسباب الجذرية للنزاع… ومن دوافعه وسماته المستمرة»المصدر السابق، الفقرة 72، ويمكن الرجوع إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة عن الاحتجاز، تاريخ 11/3/2021، وثيقة الأمم المتحدة رقم (A/HRC/46/55).. وكانت سورية قد انتقدت التقرير في حينه أمام مجلس حقوق الإنسان، حيث نفت «الاتهامات الواردة في إحاطة اللجنة وتقاريرها، والتي تؤكد منهجها غير الموضوعي إزاء الأوضاع في الجمهورية العربية السورية، ودورها في توفير الأرضية لتمرير قرارات خلافية، وترويج اتهامات مُستقاة من مصادر غير محايدة وأجهزة استخبارات معروفة أنفقت ملايين الدولارات على الدعاية التي تروجها ضد سوريا. سوريا لم تعترف بهذه الولاية المسيسة منذ إنشائها بقرارات خلافية ودون التشاور مع الدولة المعنية وتحض المجلس على عدم تجديدها»بيان الجمهورية العربية السورية أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تاريخ 11/3/2021.. ومع ذلك لم تأخذ محكمة العدل الدولية بتلك الانتقادات، واعتمدت ما ورد فيها على أنه يشكل وصفاً أولياً لوضع راهن يُحتمَل أن يتضمن خروقات لاتفاقية مناهضة التعذيب.
واستشهدت محكمة العدل الدولية كذلك بتقرير لجنة التحقيق الدولية الصادر في 10 تموز (يوليو) 2023، وعنوانه «لا نهاية تلوح في الأفق: التعذيب وسوء المعاملة في الجمهورية العربية السورية». لاحظت محكمة العدل الدولية تأكيد التقرير على «استمرار مشاركة أطراف فاعلة متعددة تابعة للدولة في أعمال… التعذيب والاغتصاب والعنف الجنسي والاختفاء القسري والقتل والإبادة والسجن وغير ذلك من الأفعال اللاإنسانية في سياق الاحتجاز، بما في ذلك إدارات الاستخبارات والشرطة والجيش والقضاء، إلى جانت الافتقار التام للمُساءلة بين أجهزة الاستخبارات أو الأمن، يدل على أن الهجوم على السكان المدنيين لا يزال مستمراً ومنهجياً وواسع الانتشار، وأنه يُنفَّذ تعزيزاً لسياسات الحكومة». وكانت سورية قد عقّبت على هذا التقرير ببيان أمام لجنة حقوق الإنسان ندّدت فيه باللجنة لأنها «مُصرّة على الاستمرار في ذات النهج المُتحيّز، وفي قراءتها غير الموضوعية للأوضاع في الجمهورية العربية السورية وأسبابها ونتائجها، إذ نجد أنفسنا من جديد، أمام مصفوفة ادعاءاتٍ وتشويهٍ مُتعمّدٍ للحقائق، وأحكامٍ متناقضةٍ، وتطبيقٍ اعتباطيٍ لما أسمته اللجنة زوراً ‘معايير إثبات’، وروايات أطرافٍ غير محايدةٍ، ما أدّى إلى استنتاجاتٍ أقل ما يُقال عنها إنها مَعيبة من المنظور المهني. إنَّ مثل هذه التقارير تؤكد، من جديد، أنّ هذه اللجنة مجرد أداة تحريض ضد الحكومة السورية، وتؤكد أيضاً صوابية موقفنا بعدم الاعتراف بها، وبالقرارات غير التوافقية التي أنشأت وتعمل بموجبها»بيان الجمهورية العربية السورية أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، تاريخ 22 أيلول 2023.. ومع ذلك لم تأخذ محكمة العدل الدولية بهذه الانتقادات، بل اعتمدت ما جاء في التقرير بما يتضمنه ظاهرياً من وصف لوضع راهن من الخروقات المستمرة لاتفاقية مناهضة التعذيب.
كما أشارت محكمة العدل الدولية إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 77/230 تاريخ 15 كانون الأول 2022، عن حالة حقوق الإنسان في سورية، ولا سيما الفقرة التي أكدت فيها الجمعية العامة بأنها «تشجب وتدين بأشد العبارات الانتهاكات والتجاوزات الجسمية والمنهجية والواسعة النطاق لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في سورية؛ ولا سيما التعذيب والعنف المنهجي الجنسي والجنساني، بما في ذلك الاغتصاب أثناء الاحتجاز وسوء المعاملة وغير ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان وتجاوزاتها، بما في ذلك حقوق الإنسان الواجبة للمرأة والطفل».قرار محكمة العدل الدولية بالتدابير المؤقتة، هولندا وكندا ضد سورية، الفقرة 73.
وعلى ضوء ما سبق، قررت محكمة العدل الدولية أنَّ ما يتعرّض له الأفراد في سورية من تعذيب أو معاملة مهينة أو قاسية أو لا إنسانية هو بذاته خطر محدق لا يمكن تفاديه، ونظراً لارتباط ما يتعرّض له الأفراد بحقوق الدول المدعية التي لها لهذا السبب وحده حقوق أصلية بتأمين الالتزام بالاتفاقية بمواجهة سورية، فإن الخطر المحدق الذي لا يمكن تفاديه حالٌّ ويُبرر بذاته الأمر بتدابير مؤقتة لحماية تلك الحقوق.المصدر السابق، الفقرتين، 69، 71.
واستناداً إلى سلطتها التقديرية في إقرار التدابير التي تراها مناسبة، قررت محكمة العدل الدولية أمر سورية منع اللجوء إلى التعذيب والمعاملة المهينة والقاسية واللاإنسانية، بموجب التزاماتها الناشئة عن اتفاقية مناهضة التعذيب من قبل أي من مسؤوليها أو من قبل كافة المنظمات التي هي تحت سيطرتها. كما أمرت محكمة العدل الدولية سورية باتخاذ تدابير فعالة لمنع إتلاف، والمحافظة على أدلة الإثبات المتعلقة بادعاءات التعذيب والمعاملة المهينة والقاسية واللاإنسانيةالمصدر السابق، الفقرة 83.. ولكن لم تستجب المحكمة لبعض طلبات هولندا وكندا، التي كان من بينها أمر سورية بوقف الاحتجاز التعسفي، وتحسين ظروف السجن على وجه السرعة، والكشف عن مواقع دفن الأشخاص الذين توفوا نتيجة للتعذيب، أو إلزام سورية بتقديم تقرير إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المتخذة لإنفاذ أمر المحكمة في غضون ستة أشهر من صدوره، وكل ستة أشهر بعد ذلك.Mona Rishmawi, «The Plausibility test in the Recent Provisional Measures Orders of the International Court of Justice,» EJIL Talk!, 18 December 2023.
اتُّخذ قرار محكمة العدل الدولية بأكثرية ثلاثة عشر قاضياً ومخالفة قاضيين، وهما القاضي الروسي جريجوريان، والقاضية الصينية شيو. خالف القاضي الروسي جريجوريان لاعتقاده بأن هولندا وكندا لم تقوما بإجراء محاولات جدية لتسوية النزاع بالتفاوض، كأحد الشروط المسبقة للجوء لمحكمة العدل الدولية بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، وبالتالي ليس للمحكمة اختصاص على ما هو ظاهر للبحث في موضوع طلب هولندا وكندا ضد سورية.الرأي المخالف للقاضي كيريل جريجوريان، الفقرة 5. وخالفت القاضية شيو لأنها تعتبر بأن اتفاقية مناهضة التعذيب لا تُنشِئ حقوقاً لهولندا وكندا بمواجهة سورية لانتهاكات ترتكبها سورية ضد شعبها، وبالتالي فإن الدولتان المدعيتان ليست لديهما المصلحة القانونية لرفع القضية، ما يعني عدم وجود اختصاص لمحكمة العدل الدولية.رأي القاضية هانكين شيو، 16/11/2023، الفقرة 4.
وكان قرار محكمة العدل الدولية قد أكّدَ بأن الأوامر باتخاذ تدابير مؤقتة تتمتع بالقوة الملزمة، وتنشئ بالتالي التزاماً دولياً على الدولة التي صدر بحقها هذا القرار لتلتزم به، وذلك ريثما تبت محكمة العدل الدولية بأصل النزاع.قرار محكمة العدل الدولية بالتدابير المؤقتة، هولندا وكندا ضد سورية، الفقرة 81.
توجب المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية إعلام الأطراف ومجلس الأمن بالتدابير التحفظية التي أمرت بها. ليس لمحكمة العدل الدولية القدرة على إجبار الدول على تنفيذ ما أمرت به، ويعود لمجلس الأمن اتخاذ القرارات لانفاذ ما أمرت به المحكمة. إلا أنه في ظل عطالة مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي والصيني في الشأن السوري، فإن التدابير التي أمرت محكمة العدل الدولية سورية باتخاذها لن يُمكنَ الإجبارُ على إنفاذها. ومع ذلك فإن عدم تنفيذ تلك التدابير، يمكن أن يؤخذ على الدولة عند بحث محكمة العدل الدولية لموضوع النزاع.
الخطوات الإجرائية اللاحقة
بعد استطلاع محكمة العدل الدولية لآراء الأطراف حول الإجراءات اللاحقة، أصدرت أمراً إجرائياً بتاريخ 1 شباط (فبراير) 2024، حددت فيه تاريخ 3 شباط 2025 موعداً لتقديم هولندا وكندا مذكرة دعوى تفصيلية في الموضوع؛ وتاريخ 3 شباط 2026 موعداً لتقديم سورية مذكرة دفاعها في الموضوعالأمر الإجرائي لمحكمة العدل الدولية في قضية هولندا وكندا ضد سورية، 1/2/2024.، على أن تتخذ المحكمة قراراً لاحقاً في الخطوات الإجرائية التي تتبع ذلك.
تُصدر محكمة العدل الدولية أحكامها النهائية في القضايا التي تنظر فيها بعد وقت طويل من رفع الدعوى، وكما جرت عليه الممارسة أمام محكمة العدل الدولية، ستقدم هولندا وكندا مذكرة تفصيلية بدعواهما تتضمن أقوالهما المتعلقة بتثبيت اختصاص المحكمة وادعاءاتهما التفصيلية بوقائع التعذيب والمعاملة المهينة واللّانسانية في أماكن الاحتجاز السورية. ويُرجَّح أن تقدم سورية مذكرتها الدفاعية، التي تتضمن دفوعاً أولية تفصيلية تتعلق باختصاص المحكمة ومقبولية الدعوى شكلاً، بالإضافة إلى دفاعها في الموضوع. ومن استقراء التصريحات السورية السابقة، يمكن التكهّن بأن سورية ستُنازع في وجود وقائع التعذيب المُدَّعى بها من أساسها، وتُنازع في أدلة الإثبات التي ستقدمها هولندا وكندا حيث ستصفها بأنها مفبركة. كما أنها ستُبرِزُ الإجراءات القانونية التي تتخذها التزاماً باتفاقية مناهضة التعذيب، ولا سيما إصدار قانون لمنع التعذيب، إضافة إلى قوانين العفو العام المختلفة. ويُتوقَّع أن تُعقَدَ جلسة استماع لمرافعات شفوية للبحث في الدفوع الأولية ينتج عنها حكم بهذه الدفوع. وإن قبلت محكمة العدل الدولية بعض هذه الدفوع، كما هو مُرجَّح، استناداً لاجتهادها السابق، وما يمكن استقراؤه من قرارها بشأن التدابير التحفظية، فإنها ستتيح للأطراف تقديم مذكرات تعقيب في الموضوع. ومن ثم تعقد جلسة استماع للمرافعات في الموضوع، وتُصدِرُ حكمها النهائي.
إذا قبلت محكمة العدل الدولية الدعوى موضوعاً، فإن من المرجح أن تنطلق المحكمة من المبدأ القانوني الراسخ في القانون الدولي، الذي قررته في حكمها في قضية بلجيكا ضد السنغال حول تسليم المجرمين استناداً لاتفاقية مناهضة التعذيب، ومفاده الآتي: «ترى المحكمة أن حظر التعذيب هو جزء من القانون الدولي العرفي، وقد أصبح قاعدة أساسية آمرة لا يمكن الاتفاق على خلافها (jus cogens). ويرتكز هذا الحظر على ممارسة دولية واسعة الانتشار وعلى الاعتقاد بإلزامية هذا الحظر (opinion juris). وهو يظهر في العديد من الصكوك الدولية ذات التطبيق العالمي (ولا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، واتفاقيات جنيف لعام 1949 لحماية ضحايا الحرب؛ والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966؛ وقرار الجمعية العامة 3452/30 المؤرخ 9 كانون الأول (ديسمبر) 1975 بشأن حماية جميع الأشخاص من التعرُّض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة)، وقد أُدرِجَ في القانون المحلي لجميع الدول تقريباً؛ وأخيراً، يتم التنديد بأعمال التعذيب بانتظام في المحافل الوطنية والدولية». حكم محكمة العدل الدولية في قضية التزام تسليم المجرمين (حسين حبري) بين بلجيكا والسنغال بناء على اتفاقية مناهضة التعذيب، تاريخ 20/7/2012، الفقرة 99.
ولئن أكَّدت سورية في أقوالها السابقة أنها لا تُنازع بأن حظر التعذيب مبدأ مُلزِمٌ في القانون الدولي، فإنها ستناقش في الأدلة المقدمة، وتشكك في صحتها، وفي انحيازها، مثلما شككت في كل ما تقدمت به لجنة التحقيق الدولية المستقلة المشكلة من قبل مجلس حقوق الإنسان في تقاريرها. وكما تبيَّنَ في قرار المحكمة حول التدابير التحفظية، فإن المرجّح أن تعتمد المحكمة هذه التقارير الأممية كأدلة إثبات تبني عليها حكمها القانوني، بالرغم من الدفوع السورية بأن تلك التقارير الأممية مُسيَّسة ومبينة على وقائع مفبركة.
تعمل محكمة العدل الدولية، بإيقاع بطيء وتُصدر أحكامها بعد مضي زمن طويل على نشوء الظروف التي أدَّت إلى إحالة النزاع إليها. في قضية يوغسلافيا السابقة حول الإبادة الجماعية، رفعت البوسنة دعواها بتاريخ 20 آذار (مارس) 1993، بعد وقت قليل من الاعتراف بها كدولة، وصدر حكم المحكمة النهائي بتاريخ 26 شباط (فبراير) 2007، أي بعد أربعة عشر سنة من تاريخ إيداع الطلب. تغيرت أثناء ذلك معالم الصراع السياسي في يوغسلافيا السابقة. أقر خلالها مجلس الأمن الدولي تأسيس محكمة خاصة بيوغسلافيا السابقة للنظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أصدرت أحكاماً بحق مجرمي حرب من كافة أطراف النزاع، وكانت على مشارف نهاية مهمتها. وتم في هذه الفترة شن حرب من قبل حلف شمال الأطلسي على صربيا في عام 1999 أدت إلى إحالة رئيسها إلى محكمة الجنايات الدولية الخاصة بوغسلافيا السابقة، وقد توفي أثناء المحاكمة.
بين محكمة العدل الدولية والعدالة الجنائية الدولية
في سؤال العدالة في النزاع السوري، لا بدَّ أنه سيبقى لسان حال ضحايا الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري وأهاليهم هو: أين العدالة في إجراءات قضية تَمثُلُ فيها سورية كمُدَّعى عليها أمام محكمة العدل الدولية دون الضحايا بذاتهمأسئلة وأجوبة: رفع دعوى ضد سوريا أمام محكمة العدل الدولية، المركز السوري للعدالة والمساءلة، 20/7/2023.، وهي لا تُحيل مُتَّهماً إلى محاكمة جنائية، ولا تعاقب مرتكبي الجرائم المدانين، ولا تجبرُ ضرراً لأي ضحية، ولا تكشفُ مصير أي مختفٍ قسرياً، ولا تُخرِجُ معتقلاً، ولا تفتح مقبرة جماعية؟
كان قد تركَّزَ السعيُ نحو العدالة في سورية على الملاحقة الجنائية لمرتكبي جرائم جماعية. وفي ظل عدم انضمام سورية لمحكمة الجنايات الدولية بسبب عدم تصديق سورية على اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة في العام 1998 بالرغم من توقيعها عليها، وعدم قدرة مجلس الأمن على إحالة الوضع السوري إلى محكمة الجنايات الدولية أو إنشاء محكمة خاصة بسورية (ad hoc) تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة بسبب الفيتو الروسي والصيني، بقي باب العدالة الدولية موصداً في وجه الملايين من الضحايا السوريين على يد كافة أطراف النزاع. ونشطت عوضاً عن ذلك ملاحقات جنائية في دول مختلفة تعترف بالاختصاص الجنائي الدولي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لمتهمين من كافة أطراف النزاع السوري بجرائم تعذيب بوصفها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في العديد من الدول الأوروبية، ولاسيما في ألمانيا وفرنسا، حيث لوحقَ متهمون من الأجهزة الأمنية التابعة للدولة ومن الجماعات المسلحة ، ممن لجأوا إلى أوروبا، بصفتهم الشخصية نتيجة تورطهم في جرائم تعذيب، وبعد أن تم التعرف عليهم من قبل الضحايا. كما برز دور الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أحدثت آليتين دائمتين لأول مرة في تاريخها، الأولى تُعنى بجمع وتوثيق الأدلة المرتكبة في النزاع السوري منذ عام 2011 من كافة الأطراف، والثانية تُعنى بالمختفين، لتُكمِّلا جهود الملاحقات الجنائية الجارية في العديد من الدول الأوروبية.
يرى الكثيرون بأن للملاحقات والمحاكمات الجنائية دوراً أبعد من مجرد ملاحقة فاعل لارتكابه أفعالاً جرمية معينة، وعقابه بما يحقق الإنصاف للضحايا. فهي تساهم، عبر المحاكمات العادلة لمرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في كتابة تاريخ ما حدث في سورية، والسوريون هم الأكثر حاجة لمعرفة ما حدث وإسباغ معنىً مشتركٍ لما حدث لهم يكون محوره العدالة.
إلا أن هناك من يُشكك في قدرة المحاكمات الجنائية على كتابة تاريخ جامع لما حدث، فالمحاكمات الجنائية لا تُغلِّب إلا رواية أحادية على حساب أخرى، غالباً ما تكون رواية المنتصرين؛ ولا تترك للجلاد إلا مجالاً ضيقاً ليحكي قصته في الظروف التي أدت به إلى أن يتحول إلى وحش، ما يجعل قدرتها على كتابة تاريخ جامع محدودة جداً. ومثل ما أنتجَ الصراع السوري روايات متنافرة لما حدث، فإن المحاكمات ستعمق التباعد بين الروايات وتعزز مظلومية الجلادينانظر على سبيل المثال: Damien Scalia, Génocidaire(s). Au coeur de la justice internationale pénale, (Paris: Dalloz, 2023).، وتزيد من ضياع أو تشظّي المعنى بين السوريين. كما أن تركيز المحاسبة الجنائية على أفعال فردية وأحداث إجرامية بعينها لن يُمكِّنَ من معرفة الصورة الأوسع، ألا وهي السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني الذي سمح لجرائم جماعية، بما فيها جرائم تعذيب، أن تُرتَكب في سورية على نطاق واسع وطويل الأمد لتصبح مؤسِّسةً لمشروعيات سياسية وهويات قاتلة.انظر على سبيل المثال: Martti Koskenniemi, Between Impunity and Show Trials, Max Planck Yearbook of United Nations Law Online, 2002.
تنخرط القضية السورية أمام محكمة العدل الدولية في صلب هذه التساؤلات التي يُبرِزُ بعضها أهمية المحاسبة الجنائية، ويشكك بعضها الآخر في قدرة المحاسبة الجنائية على الإجابة على سؤال العدالة للسوريين. ومع ذلك فإن اجتهاد محكمة العدل الدولية على مدى سنين عملها منذ عام 1945 لا يرى تعارضاً بين المحاسبة الجنائية وغيرها من مسارات العدالة التي تركز على سياقات أوسع من وقائع إجرامية بحد ذاتها، كالمسؤولية الدولية للدولة بحد ذاتها عن أفعالها غير المشروعة.
لقد أجابت محكمة العدل الدولية على هذه الأسئلة في قضية البوسنة ضد صربيا، حول اتفاقية الإبادة الجماعية، فقد أكدت المحكمة على الآتي: «تلاحظ المحكمة أن ازدواجية المسؤولية لا تزال سمة ثابتة من سمات القانون الدولي. وتنعكس هذه السمة في الفقرة 4 من المادة 25 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية… التي تنص: ”لا يؤثر أي حكم في هذا النظام الأساسي المتعلق بالمسؤولية الجنائية الفردية على مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي“. وتلاحظ المحكمة أيضاً أن مواد لجنة القانون الدولي المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً …. تؤكد في المادة 58 على أنه: ”لا تخلُّ هذه المواد بأي مسألة تتعلق بالمسؤولية الفردية بموجب القانون الدولي لأي شخص يتصرف نيابة عن دولة ما“. وقالت اللجنة في تعليقها على هذا الحكم: ”عندما يرتكب موظفو الدولة جرائم ضد القانون الدولي، كثيراً ما تكون الدولة نفسها مسؤولة عن الأفعال المعنية أو عن عدم منعها أو المعاقبة عليها…. ومع ذلك، فإن مسألة المسؤولية الفردية تختلف من حيث المبدأ عن مسألة مسؤولية الدولة. فالدولة لا تُعفَى من مسؤوليتها عن السلوك غير المشروع دولياً بمحاكمة ومعاقبة موظفي الدولة الذين ارتكبوه“…».قرار محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة ضد صربيا حول اتفاقية منع الإبادة الجماعية، تاريخ 26/2/2007، الفقرة 173.
معاني مسؤولية الدولة
تتمحور القضية السورية أمام محكمة العدل الدولية حول مسؤولية الدولة السورية عن خروقات اتفاقية مناهضة التعذيب، وليس حول المسؤولية الجنائية الفردية لمسؤولين فيها. وبهذا تطرح القضية السورية سؤالَ دور الدولة السورية بكامل أجهزتها عن خرق اتفاقية مناهضة التعذيب، ما يفتح بدوره التساؤل حول مدى صحة التمييز السائد بين النظام بصفته مجموعة أفراد قائمين على الدولة من جهة، والدولة بصفتها مؤسسات تسعى إلى تحقيق الصالح العام من جهة أخرى.
إذا قبلت المحكمة الدخول في موضوع الدعوى، فإنها ستبحث في مسؤولية الدولة عن أفعالها غير المطابقة لما تتطلّبهُ الالتزامات الواردة في اتفاقية مناهضة التعذيب، وهي كما أكدت المحكمة تُعبّر عن قواعد آمرة من قواعد القانون الدولي العام. وستنسبُ المحكمة إلى الدولة بالحد الأدنى تصرفات كافة أجهزتها، «سواء كان هذا الجهاز يمارس وظائف تشريعية أم تنفيذية أم قضائية أم أي وظائف أخرى، وأياً كان المركز الذي يشغله في تنظيم الدولة»المادة 4 من مشروع المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، الصادر عن لجنة القانون الدولي، حولية القانون الدولي، 2001، الجزء الثاني، رمز وثيقة الأمم المتحدة:( A/CN.4/SER.A/2001/Add.1 (Part 2))، ص 32.. كما ولن تكتفي المحكمة بالنظر إلى خروقات اتفاقية مناهضة التعذيب بحق معتقلين بعينهم، وإنما ستبحث في خروقات اتفاقية مناهضة التعذيب التي لها طابع استمراري، ومنها ما يتمثَّلُ في بناء شبكة واسعة من أماكن الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية، بما اصطلح على تسميته بالغولاغ السوريانظر في هذا الصدد: Jaber Baker et Uğur Ümit Üngör, Syrian Gulag : Inside Assad’s Prison System, (London: I.B. Tauris/Bloomsbury, 2023).، تجري فيها خروقات منهجية لاتفاقية مناهضة التعذيب، تضافرَت العديد من أجهزة الدولة في شرعنتها أو التغطية عليها أو الإعفاء من المحاسبة بشأنها بما يؤدي إلى إرساء حالة إفلات من العقاب حولها.
سيكون لسورية الحق الكامل والمتساوي مع الدولتين المدعيتين لإبداء الدفوع. وليس من المؤكد أن تأخذ المحكمة بكافة أقوال المدعيين، إذ أنها تبحث في الأدلة بشكل مُنظَّم، وهي تُعامِل الطرفين على قدم المساواة، وهي بحكم تكوينها من قضاة خمسة عشر متعددي الثقافات القانونية ورسوخها كأحد أعمدة القانون الدولي المتشكل عند تأسيس الأمم المتحدة، لا تتأثر بحملات إعلامية مؤدّاها فرض تكييف قانوني أو إعلان مسؤولية دولية لدولة في النزاعات الدولية. ففي قضية البوسنة ضد صربيا حول تطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي تمحورت في جزء منها حول طرح مسألة مسؤولية صربيا الدولية عن المذابح التي جرت في مدينة سربيرنيتسا، تفحَّصت المحكمة الأدلة الواقعية بشكل مستفيض، وقامت بمراجعة قضاء محكمة الجنايات الخاصة بيوغسلافيا حول قضايا متهمين بمذابح في تلك المدينة، وقررت بأنه ولئن كان قد ارتُكبت في سربيرنيتسا جرائم إبادة جماعية إلا أن نسبتها إلى صربيا لم يمكن إثباتُها.قرار محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة ضد صربيا حول اتفاقية منع الإبادة الجماعية، تاريخ 26/2/2007، الفقرة 413: «لم يثبت أن المذابح التي ارتُكبت في سريبرينيتسا قد ارتكبها أشخاص أو كيانات من أجهزة الدولة المدعى عليها (صربيا). وتخلص أيضاً إلى أنه لم يثبت أن تلك المذابح قد ارتكبت بناء على تعليمات أو بتوجيهات من أجهزة الدولة المُدَّعى عليها، ولا أن المُدَّعى عليها مارست سيطرة فعلية على العمليات التي ارتكبت خلالها تلك المذابح التي تشكل جريمة الإبادة الجماعية».
ولا تخضع المحكمة كذلك لتأثير دول وازنة بعينها على حساب أخرى على الصعيد الدولي، فقد قررت المحكمة في حكمها بقضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة حول الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها لعام 1986 بأن الولايات المتحدة الأميركية، بتدريبها وتسليحها وتجهيزها وتمويلها وإمدادها لقوات الكونترا في الثمانينيات من القرن الماضي، أو تشجيعها ودعمها ومساعدتها للأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها، قد تصرَّفت ضد جمهورية نيكاراغوا مُنتهِكَة التزامها بموجب القانون الدولي العرفي بعدم التدخل في شؤون دولة أخرى، وأن الولايات المتحدة بشنِّها هجمات معينة على أراضي نيكاراغوا، قد تصرفت ضد جمهورية نيكاراغوا مُنتهِكَة التزامها بموجب القانون الدولي العرفي بعدم استخدام القوة ضد دولة أخرى؛ وأنها بتوجيهها أو إذنها بالتحليق فوق أراضي نيكاراغوا، قد تصرفت ضد جمهورية نيكاراغوا مُنتهكِة التزامها بموجب القانون الدولي العرفي بعدم انتهاك سيادة دولة أخرى؛ وأنها بزرعها ألغاماً في المياه الداخلية أو الإقليمية لجمهورية نيكاراغوا خلال الأشهر الأولى من عام 1984، قد تصرفت ضد جمهورية نيكاراغوا مُنتهِكَة التزاماتها بموجب القانون الدولي العرفي بعدم استخدام القوة ضد دولة أخرى، وعدم التدخل في شؤونها، وعدم انتهاك سيادتها، وعدم عرقلة التجارة البحرية السلمية.حكم محكمة العدل الدولية بقضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة حول الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها، 27/6/1986، فقرة 292.
تتخذ الدول مواقف متناقضة أمام محكمة العدل الدولية تُمليها عليها مصالحها الضيقة، وإن تشابهت الأوضاع التي تتطلب منها اتخاذ مواقف على الصعيد الدولي. ففي وقت متزامن مع تقديم كندا لطلباتها مع هولندا في القضية السورية أمام محكمة العدل الدولية، والتي هدفت إلى إعطاء الأولوية لمحكمة العدل الدولية في النظر في الأحداث السورية التي تتضمن خروقات لاتفاقية مناهضة التعذيب، طلبت كندا من المحكمة ذاتها الامتناع عن إبداء الرأي الاستشاري حول الآثار القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، على اعتبار بأن ما يمكن أن يقوله القانون الدولي حول تلك الممارسات الإسرائيلية لا يمكن أن يتمتع بالأولوية على الحلول السياسية.مذكرة كندا الكتابية المقدمة بتاريخ 24/7/2023، في إجراءات الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية بموضوع الآثار القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، الفقرة 21: «تشعر كندا بالقلق من أن إصدار رأي استشاري بشأن الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة قد يسهم في استقطاب المواقف التي قد تبعد الأطراف أكثر عن حل عادل ودائم للصراع. وعلى الرغم من أن الرأي الاستشاري غير ملزم قانوناً، إلا أنه قد يؤثر على نتائج إطار المفاوضات الذي وضعه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة».
إلا أن قضاء المحكمة، سواء عندما تمارس وظيفتها في فصل النزاعات بين الدول، أو في إبداء آراء استشارية، له نسق واحد ترسَّخَ على مدة سبعين سنة من عملها في تأكيده على أولوية احترام القانون الدولي في العلاقات بين الدول وفي ممارسات الدول تجاه شعوبها وفي حماية المدنيين تحت سيطرتها، بغض النظر عن الظروف السياسية التي تحيط بتلك الممارسات. ولهذا فإن ما ستقوله محكمة العدل الدولية في القضية السورية يتمتع نسبياً بمصداقية عالية، تجعلها في منأى عن محاولات التشهير بها من قبل أي طرف في النزاع السوري. فلن يكون من الممكن القول بأنها مُسيَّسة أو منحازة، كما جرت العادة عندما تندد أجهزة الدولة السورية الإعلامية بالمحاكمات التي تجري ضد متهمين بقضايا تعذيب سوريين أمام بعض المحاكم الأوروبية التي تمارس صلاحيتها وفق قواعد الاختصاص العالمي، وعلى الرغم من كافة ضمانات حقوق الدفاع الممنوحة للمتهمين.
لا يعني ذلك تفضيلَ المسار القضائي أمام محكمة العدل الدولية على المحاكمات الجنائية، سواء ما يجري منها في بعض الدول الأوروبية، أو تلك التي يمكن أن تجري أمام محكمة الجنايات الدولية، أو أمام قضاء وطني مستقل في سورية. فكلا المسارين يُكمِّلان بعضهما بعضاًانظر في هذا الصدد: Beth Van Schaack, Imagining Justice for Syria, (Oxford: Oxford University Press, 2020, pp. 319 ff.. وإن قررت محكمة العدل الدولية تأكيد اختصاصها والنظر في الموضوع لبحث مسؤولية الدولة بموجب القانون الدولي العام، فإن أقصى ما يمكن الحكم به هو إقرار مسؤولية الدولة بكامل أجهزتها عن خروقات ممنهجة وواسعة لاتفاقية مناهضة التعذيب. أما النتائج القانونية لإقرار المسؤولية فلن تتجاوز بأحسن الأحوال أن تتخذ المحكمة القرار بأمر الدولة السورية بالكفّ عن الخروقات المستمرة لاتفاقية مناهضة التعذيب، وتقديم التأكيدات والضمانات الملائمة لعدم تكرارها، والترضية على شكل إقرارات بخرق أحكام اتفاقية مناهضة التعذيب أو تعبير عن الأسف أو اعتذار رسمي تجاه مواطنيها، وهو على ما يبدو جلُّ ما تطلبه الدولتان المُدعيتان هولندا وكندا.
وبالرغم من محدودية هذه النتائج القانونية، فإن الإقرار بمسؤولية الدولة بحد ذاته من قبل المرجع الأخير في قول القانون الدولي الذي يتمتع بمصداقية نسبية عالية، سيشكل مساهمة كبيرة في فهم أحد السياقات الأساسية لما حدث في سورية منذ عام 2011، ويُساهم بدوره في إسباغ معنىً يمكن أن يلتقي حوله السوريون لفهم ماضيهم وحاضرهم الأليم ولبناء مستقبل لعيش مشترك فيما بينهم. إذ لا ريبَ أن إسهام المحكمة في «قول القانون» وإقرار مسؤولية الدولة في سورية سيتجاوز في مساهمته ما ستقضي به المحكمة من منطلق قانوني صرف، ليكشف عن كيفية تَحوُّلِ الدولة بكامل أجهزتها لتصبح جهاز عنف عارٍ يجسده التعذيبانظر في هذا الصدد: Salwa Ismail, The Rule of Violence. Subjectivity, Memory and Government in Syria, (Cambridge: Cambridge University Press, 2018).، وتغيبُ عنه كافة الضمانات الداخلية لمنع حدوث خروقات لاتفاقية مناهضة التعذيب أو لمنع أي محاسبة بشأنها. سيُساعد القرار في الكشف عن كيفية تَحوُّلِ أجهزة دولةٍ كانت حاملة لمشروع وطني وحداثي وتحرري من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية لتفقد كل الإمكانيات المؤسسية الداخلية للضبط والمحاسبة على ارتكاب جرائم جماعية ولمنع التعسف في استعمال السلطة، وليصبح العنف العاري والمحض الذي يجسده التعذيب بذاته مُؤسِّساً لمشروعية الدولة السياسية.
وسيُساهم القرار المرتقب من محكمة العدل الدولية في فهم تَعمُّم هذا الشكل من الحكم القائم على العنف العاري على كل الجماعات المسلحة التي نشطت ولاتزال في الأراضي السورية، والتي ادّعت ممارستها لصلاحيات الدولة في المناطق التي سيطرت عليها. فقد بنت هذه الجماعات مشروعياتها السياسية المُدَّعى بها على العنف العاري الذي يجسده التعذيب ضد السكان الواقعين تحت سيطرتها. وليس أدلَّ على ذلك أكثر ممّا أحلته المعتقلات التي عُرفت «بسجون التوبة» من عنف وتعسف في مناطق ريف دمشق بين العام 2013 و2018، وغيرها من سجون داعش في الشمال السوري.انظر على سبيل المثال: إبراهيم القاسم، قراءة في تجارب الفصائل السورية المسلحة في إدارة سجونها، حكاية ما انحكت، 26/2/2016.
كما سيُساعد قرار المحكمة المُرتقَب ليس فقط في فهم ما حصل من تحولات في وظائف وغايات مؤسسات الدولة السورية الحاضرة، بل كذلك المساهمة في تَلمُّس كل ما يمكن عمله لاستعادة مقومات الدولة بكافة ضماناتها المؤسسية التي من شأنها أن تمنعها في المستقبل من أن تتحول إلى جهاز حكم بالعنف العاري يزدري أبسط متطلبات الكرامة الإنسانية.
وسيُعطي حكم المحكمة أخيراً بعض المفاتيح لفهم مسيرة فشل العديد من دول المشرق والمغرب العربي وهي الناشئة بعد التحرُّر من الاستعمار، في تأمين الحياة الكريمة لمواطنيها، لتفرض نفسها عليهم من حيث كونها أجهزة حكم بالعنف العاري سمحَ للثورات المضادة للربيع العربي أن تتبلور وتصبح، بما تُمثِّله من فعالية في القمع، عوامل استقرار يتودّد إليها الشرق والغرب على حد سواء.