سؤدد كعدان، مخرجة سينمائية سورية مقيمة في لندن، خريجة قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق وقسم الأدب الفرنسي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق، كما درست السينما في معهد الدراسات السمعية البصرية والسينمائية في جامعة القدّيس يوسف اللبنانية.
صنعت كعدان أفلاماً وثائقية وروائية، قصيرة وطويلة، من أبرزها: مدينتان وسجن، عتمة، سقف دمشق وحكايات الجنة، البحث عن اللون الوردي، عزيزة (جائزة لجنة التحكيم الكبرى للفيلم القصير في مهرجان ساندانس 2019)، خبز الحصار، يوم أضعتُ ظلي (جائزة العمل الأول في مهرجان البندقية 2018)، نزوح (جائزة الجمهور في مهرجان البندقية 2022)، وقد اختيرت لتكون عضو لجنة تحكيم في بينالي البندقية السينمائي في دورته الـ81 الحالية.
تستعرضُ هذه المقابلة معها ظروف الإنتاج والعرض السينمائيين في الشتات، والتعقيدات الثقافية التي تحيط بعملية صناعة الفيلم، ومسائل الهوية واللغة ضمن هذه السياقات المُركَّبة، ومسائل أخرى:
عُرض في الأسابيع القليلة الماضية، هنا في بريطانيا حيث تقيمين، فيلمك الأخير «نزوح» من بطولة كندة علوش وسامر المصري وهالة زين. هل استُقبِلَ الفيلم بالطريقة التي كنت تأملينها في أحد أهم بلدان الإنتاج الفني وفي مدينة عالمية متعددة الثقافات مثل لندن؟
تفاجأت بردود فعل دافئة للغاية، على مستوى الجمهور أو المختصين. وفجأة نتيجة ما حصل في غزة، استُقبِلَ الفيلم بطريقة مغايرة، وتم التفاعل معه بشكل مختلف. من هنا ترى أن الأفلام تعيش إلى مراحل تتجاوز فترة صناعتها، وكذلك قد تتخطى القصة التي تقدمها. عندما أنجزته كنتُ أعتقد أنني أتكلم عن سوريا فقط وحربنا، وبالطبع مع بُعد إنساني قد يجعله مؤثراً في أي شخص بغض النظر عن خلفيته الثقافية. لكن بالفعل لاحظت أن تلقّي الفيلم والتجاوب معه تأثّرا بسياق الحرب في غزة، حتى أن البعض عبّروا عن ذلك صراحة بالقول إن بعض مشاهد الخراب والدمار ذَكَّرتهم بغزة أو العكس، وهذا يدلّ على أنك تصنع أفلاماً لكنها في النهاية ملك الناس و قراءة الجمهور للفيلم. العرض الأول لنزوح كان في 2022، والعرض الجماهيري الأول في بريطانيا أتى بعد سنتين، كان من الممكن أن يموت مثلاً بمعنىً من المعاني، ويُعتبَرَ فيلما قديماً، وإنما في الحقيقة أخذ حياة جديدة.
من جانب آخر يمكن القول إن الفيلم يحمل الخط السياسي والنَفَسَ الإنساني ذاتهما في الفيلم السابق يومَ أضعتُ ظلّي، لكنني لاحظتُ أن احتواءه على كوميديا سوداء وعدم تَضمُّنه لشعورٍ بالذنب وتقديمه نوعاً من الأمل، كل هذا جعله يصل إلى جمهور متنوع. فوجئتُ بعد أحد العروض بفتاة تبكي، ظننتُها سوريّة في البداية، لتخبرني أنها أوكرانية وأنها خَبِرَت شعور القصف والحصار في داخل منزلها. وعلى تويتر نشر شابٌ في غزة صورة لبيت مُهدَّم جزئياً واستُخدِمت فيه شراشف مُورَّدة لتغطية النوافذ المحطمة، وكتب تغريدة تقول إنه كان يعتقد أن فيلم نزوح سريالي لغاية اللحظة التي شاهد فيها هذه الأغطية المماثلة على الشبابيك.
هذا من ناحية توقيت العروض، ماذا عن مكان العروض، أي بريطانيا، المعتادة عموماً على الإنتاجات الكبرى والنجوم العالميين؟
حقيقةً هناك صعوبة بأن تعرض فيلماً في صالات السينما البريطانية باللغة العربية، الجمهور هنا عموماً لا يهتم باللغات الأخرى، مع بعض الاستثناءات والاختراقات التي تحققها ثقافة ما أو لغات أخرى كاليابانية مثلاً. مع ذلك، استطعنا توزيعه في عدد من دور السينما ذات التوجه الفني وليس التجاري Art Houses، وهذا بحد ذاته ممتاز في سياق ما بعد كوفيد. وعلينا أن نتذكر أن نجومهم غير نجومنا، فهم لا يعرفون ممثلينا وثقافتنا. في الوقت نفسه، وجود جرعة من الكوميديا السوداء في الفيلم جعل الجمهور البريطاني يتماهى معه أكثر لأن هذا النوع من الكوميديا تحديداً مألوفٌ هنا.
لكن، هل كنتُ أتمنى لو عرض في مدن وصالات سينما أكثر؟ بالتأكيد، بيد أن الصعوبة الأساسية أنّنا نتحدث عن ميزانية فيلم مستقل وصغير، والمشكلة الأساسية بأفلامنا الدرامية الـ fiction أنه لا يحق لنا التقديم للمشاركة في الأوسكار، والأفلام عادة تنال ضجة إذا انضمت لسباق الجوائز، فنحن لا نستطيع تقديم أفلامنا الدرامية للأوسكار إلا عن طريق البلد الأم، وهو في حالتنا عن طريق المؤسسة العامة للسينما بسوريا، أي أن ذلك غير ممكن ببساطة، ولهذا فإن كل الأفلام تُعاني من حالة من النقص في الترويج والتسويق ولا تصل إلى قطاعات أوسع من الجمهور إجمالاً. أما الأفلام الوثائقية فيمكن أن تُقدَّمَ للأوسكار عبر مشاركتها في مهرجانات معينة و حصولها على بعض الجوائز.
لنبقى في لندن، تعملين على مشاريع جديدة الآن، وأفلامك السابقة جميعها صُنعت في سوريا أو جوارها؛ هل سيؤثر ابتعادك عن تلك المنطقة على اختيار مواضيع أفلامك المستقبلية؟
عندما أكتب سيناريوهات، فالموضوع السوري يفرض نفسه بشكل أو بآخر، هذه هويتي وشخصيتي وتخرُجان للعلن، لكن ما يتغير بكل تأكيد هو مكان الفيلم، مثلاً أكتب حالياً فيلماً تدور أحداثه في لندن، وهو باللغة العربية والإنكليزية، فكلاهما أصبحا جزءاً من عُدَّتي اللغوية، من حواري اليومي، من بحثي عن وطن ومكان سكن وعائلة والأشياء المشابهة. على العكس، هناك من يقول: كفى حديثاً عن سوريا. كيف يمكن أن أتجنَّبَ الموضوع السوري؟! الموضوع السوري لم يصل إلى حلٍّ لغاية الآن، والموضوع لم نتجاوزه ولا أستطيع أن أقول إنني تجاوزته الآن. من البديهي أن يبقى حاضراً في أفلامي وإن بطرق مختلفة. أعمل على ثلاثة مشاريع بشكل متزامن إلى حد ما، من أجناس سينمائية متنوعة، وفي مراحل إنجاز مُتباينة، جميعها يحضر فيها العنصر السوري بشكل ما.
مما يثير الانتباه في أفلامك المُنتَجة بعد الانتفاضات العربية التعاون مع ممثلين وممثّلاث سوريين، سواء من المحترفين أو الهواة، بينما اختار مخرجون ومخرجات سوريون أو غير سوريين صنعوا أفلاماً عن سوريا الاستعانة بممثلين عرب لأداء الأدوار الرئيسية.
نحن فقدنا الحق أن نُصوِّرَ في بلدنا، فقدنا الحق أن يكون لدينا مواقع التصوير التي نعرفها، والذي هو ليس فقط مكان الحدث، ولكن روح الفيلم أيضاً، فما لا يمكن أن أقبله أن تُفرَض علي جنسية ثانية في فيلمي إذا كان الموضوع سوريّاً. لأن هذا يحصل عادة، وقد يسأل الممول والمنتج: لماذا تذهبين إلى ممثلين وممثلات من سوريا، ونتعرض لضغوطات بهذا الصدد، وأحياناً قد يكون ضمن شروط التمويل وجود ممثل يحمل جواز سفر فرنسي أو بريطاني أو أوروبي عموماً. ونحن للأسف ليس لدينا تمويل محلي، نقصد جهات متعددة لإقناعها بحكاياتنا لنحصل على تمويل، ومن حق هذه الجهات في المقابل أن تقول: «حسناً سنمنحك تمويلاً لإنتاج حكايتك وبلغتك، لكن هناك جنسيات معينة نريد حضورها». رغم كل هذه الظروف والضغوط، أبحث عن الممثل السوري، وأحياناً أصل إلى حلول وسط، فعلى سبيل المثال، نزار العاني الذي أدى دور عامر في نزوح يحمل الجنسيتين السورية والبلغارية. الإصرار على الممثل السوري مهمة شاقة، فعدا عن مشكلة شروط الممول، تبرز المشكلة اللوجستية المتعلقة بصعوبة سفر حامل الجواز السوري وعدم منحه تأشيرات دخول، سواء كان سفره لأمور متعلقة بصناعة الفيلم نفسه أو للمشاركة لاحقاً في المهرجانات. لكن إذا كنتُ أنا السوريّة حاملة الجواز السوري سأقبل بهذا التنازل، فكيف سأرفضُ أن يقوم به مخرج آخر؟ فمثلما أواجه صعوبات كمخرجة في الحصول على تمويل، عليَّ كذلك أن أقاتل لأدعمَ وجود ممثلين وممثلات من بلدي، رغم ما يخلقه ذلك من صعوبات. مثال آخر من فيلم نزوح، فالممثلة اليافعة والموهوبة هالة زين التي أدّت دور زينة الرئيسي لم تستطع أن تحضر أيّاً من عروض الفيلم خارج تركيا سواء في أوروبا أو عربياً، بسبب مسألة الفيزا. لا يوجد أجملُ من أن يقف أبطال وبطلات الفيلم إلى جانبك على خشبة المسرح خلال العرض الأول، وأن يتفاعلوا مع الجمهور. أذكرُ أنني بكيتُ من القهر عندما لم تتمكن هالة من المشاركة في أي مهرجان، حتى في العرض العربي الأول في مهرجان البحر الأحمر بجدّة. شعرتُ بالحسرة أن تفقد فتاة في بداية مشوارها هذه الفرصة.
وأنا أيضاً ابنة المعهد العالي للفنون المسرحية، وأعرفُ جودة وبراعة الممثلين السوريين. الموضوع كذلك ليس فقط غيرةً على فناني بلدي، أنا أعرف تماماً أن حرفة التمثيل في سوريا أقوى من بلدان عربية أخرى، وهي من نقاط قوتنا.
ومن جهة أخيرة، لا أحد قادرٌ على نقل مصداقية الدور ومشاعره وأحساسيسه غير ممثل أو ممثلة ممن شهدوا الحرب ويعرفون المكان والبلد. الممثل الذي يؤدي بلهجة غريبة عنه سينشغل بالتفكير باللهجة خلال التصوير، وهذا سيُفقده جانباً من صدقية الحالة الشعورية.
وحتى الكومبارس في فيلم نزوح من السوريين اللاجئين والقاطنين في تركيا..
عندما طلبتُ وجود كومبارس سوريين في تركيا، واجهتُ اعتراضات متعددة من فريق الكاستينغ تحتجُّ على هذا الإصرار على أن يكون هؤلاء أيضاً من السوريين رغم أنهم لن يتكلموا في الفيلم وأدوارهم ومساهماتهم لا تتضمن استخدام اللغة. كنتُ أُردِّدُ أن الفارق سيظهر على الشاشة. أنا أهتمُّ بالتفاصيل، والكومبارس أحياناً يحملون روح الفيلم. قد يفسد مشهد كليّاً لأن أحد أعضاء الكومبارس لا يعرف ماذا عليه أن يفعل، وأصررتُ على موقفي. حينها أذكرُ أنه لم يكن ممكناً تأمين سيدتين كبيرتَي السن سوريتين، فتمت الاستعانة بسيدتين تركيتين، على اعتبار أن السحنة نفسها وثقافة مدينة غازي عنتاب التركية قريبة من الثقافة السورية، ومع ذلك عندما صَوَّرنا مشهداً يُفترَض أنه على حاجز عسكري، أخبرني فريق الكاستينغ التركي أن تلك كانت المرة الأولى التي يشاهدون بها كومبارساً يؤدون بهذه الروح ويقدمون من قلبهم كما يُقال، لأن الموضوع يخصّهم ويُعبّر عن شيء يعنيهم ويريدون قوله، بينما كانت ردة فعل السيدتين التركيتين مختلفة رغم محاولة شرح الخلفية والفكرة من المشهد مراراً؛ الموضوع لم يكن يعنيهم وجودياً مثل باقي الكاست.
ماذا عن شروط الإنتاج وظروفه؟ هل تواجهين هنا صعوبات تتعلق بهويتك؟ صعوبات بشأن الحصول على فرصة ضمن سياق معقد وصعب وتنافسي كذلك الموجود في بريطانيا، أو على العكس ربما، هل أنت قادرة على الحصول على دعم من جهات تسعى لتشجيع التنوع الثقافي والتعدد؟
إجمالاً، صناعة أي فيلم سينمائي هي عملية بالغة الصعوبة. في بريطانيا، سَهَّلت الجوائز التي نلتُها حصولي على دعم من أهمّ جهتين في هذا المجال، وهما معهد الفيلم البريطاني BFI وفيلم فور FILM 4، علماً أنني أتحدثُ هنا عن ميزانية صغيرة نسبياً، لكنني قبلتُ بذلك لأنني سأحافظ على وجود اللغة العربية في الفيلم، والمشكلة الأساسية هنا أن الحصول على تمويل أعلى يقتضي أن يكون الفيلم بالإنكليزية بالمطلق. كذلك الصعوبات في بريطانيا مختلفة عن نظيراتها في البر الأوروبي، هناك، بالإمكان العثور على مِنَح تُقدِّمها مؤسسات قطاع عام وتُقدّم تمويلاً لا يضع شروطاً على اللغة، بينما هنا المِنَح من جهات خاصة وتُركّزُ على الإنكليزية. والتفضيلات هنا كذلك تمتد إلى نوع الفيلم، بما يشمل في الأفلام الوثائقية التركيزَ على الأفلام المباشرة والتلفزيونية والغنية بالمعلومات Informative، بينما في دول أوروبا الأخرى قد تحمل قيمة فنية مختلفة. لذلك يكون عليك اللعب والتحايل على مفهوم تجاري كي تروي قصتك.
الصعوبة الأكبر التي أُواجهها أنني كمخرجة أعمل على كتابة سيناريو، شعرتُ فجأة أن مكاني تغير وعلاقتي بالمكان طبعاً ولغتي، وأن جمهوري تغيَّرَ بالكامل، وهذه تساؤلات ومصاعب وجودية أكثر منها إنتاجية، فأنا في مرحلة البحث والكتابة، وأجد نفسي قد انتقلت لمكان جديد كي أصنع فيلماً. والانتقال هنا ليس فقط انتقالاً فيزيائياً ونفسياً، وإنما كذلك انتقالاً لعلاقات إنسانية كاملة وبحث عن وطن.
يقارب نزوح بشكل واضح مسائل السلطة الذكورية وتَحرُّر المرأة خلال الحرب أو حتى كإحدى نتائج الحرب، هل يعكس ذلك واقعاً شائعاً لاحظتيه؟ أو أنه يقتصر على عدد محدود قد لا يمثل شرائح اجتماعية واسعة؟ أو ربما هو صدى لمسار شخصي؟
لا يوجد فيلم واحد فقط قادر على عكس تنوع وتعقيد حالة الحرب السورية وتعقيد المجتمع ما بعد هذه الحرب، هناك اليوم مجتمعات مختلفة الأوضاع في الشمال أو الجنوب أو في المدن الرئيسية مثل دمشق وحلب، وحتى داخل المدينة الواحدة تتعددُ الظروف وتتباين. في هذا الفيلم أُقارِبُ مسألة تَحرُّر بعض النساء نتيجة تَهدُّم المجتمع الذكوري والمحافظ، وخوض تجارب لم تكن قادرة على خوضها سابقاً قبل الحرب، والحالات هذه كثيرة وموجودة. هل يعكس هذا أوضاع جميع النساء؟ لا طبعاً، هناك نساء عشنَ تحت سلطة داعش وتنظيمات أخرى، هناك من أصبح بسبب عامل الخوف أكثر تَشدُّداً من الناحية الاجتماعية. لكن أنا أعرف كذلك نساء كثيرات في محيطي خُضنَ تجارب مهنية ومسارات حياتية جديدة بعد الحرب، بما يشملني شخصياً، إذ لم أكن أتخيل أن أكون اليوم في لندن أعيشُ وأعمل.
في سياق ذي علاقة، نرى اليوم كذلك بروز مُخرِجات سوريات في عالمي السينما الوثائقية والروائية، بعد أن كان الأمر مقتصراً قبل 2011 على عدد محدود نسبياً من الأسماء، وسابقاً غالبيتهنّ الغالبة صنعنَ أفلاماً وثائقية أو قصيرة، ما سبب ندرة المخرجات سابقاً في مقابل وجود عدد معقول من الممثلات مثلاً؟
توجد عوامل عدة ساهمت وتساهم في رسم هذا المشهد؛ أولاً، ليس لدينا في سوريا معاهد لتدريس الإخراج السينمائي أو المسرحي، فالطريق الأكاديمي المحدد غير موجود. الطريق الآخر كان عبر دراسة النقد المسرحي ومن ثم تشجيع المحيطين بك وأساتذتك للتوجه نحو الإخراج، أو أن يتم منحك فرصة ما. الفرص جميعها كانت تذهب للرجال دون منح فرص للنساء. حتى في المعهد العالي للفنون المسرحية، رغم أنني تعلّمتُ الكثير في هذا المكان، ورغم أنه أحد أكثر الأماكن المتحررة ثقافياً في سوريا إذ يمتلك هامش حريات أعلى قليلاً، إلا أنه لم يتضمن أي تشجيع لأن تكون المرأة مُخرِجة، سواء في أسلوب التدريس أو في المنهاج، في مقابل تشجيع الرجل على الخوض في مجال الإخراج، بينما يترك للخريجات مجال النقد والكتابة، طبعاً دون التقليل من صعوبة وأهمية العمل الكتابي. ورغم تزايد عدد المُخرِجات بعد 2011، إلا أن العدد ما يزال قليلاً مقارنة بالرجال. علماً أن الزيادة ترتبط بزيادة عدد المنح الإنتاجية الخارجية ووجود تمويل أوروبي قد يشترط في بعض الأحيان تكافؤ الفرص بين الجنسين.
هناك حنينٌ إلى ماضٍ ما، ورغبةٌ بالعودة في الزمن إلى ما قبل الانتفاضات العربية والحرب، نراهما ونسمعهما بوضوح في فيلم «نزوح» وكذلك في فيلمك القصير «عزيزة»؛ ألا يمكن قراءة ذلك وكأنَّ زمن ما قبل العام 2011 كان زمناً جميلاً مليئاً بالرخاء، أو أنه ليس ثمة موجبات سياسية واجتماعية واقتصادية أدت إلى هذا الانفجار الهائل؟
الشخصيات التي تعيش أحلام العودة إلى الزمن الماضي في هذه الأفلام هي شخصيات موهومة ومأزومة. سواء الشخصية التي يؤديها عبد المنعم عمايري في فيلم عزيزة أو شخصية سامر المصري في نزوح، شخصيتان فاقدتان لعلاقتهما مع الواقع، تعيشان في ماضٍ متوهم وغير موجود، ومن هنا أساساً تنبع المفارقات الكوميدية في شخصيتيهما نتيجة النوستالجيا وتَمسُّكهما بماضٍ موجودٍ في رأسيهما فقط. بينما الشخصيات المحيطة بهما واقعية أكثر، وهنَّ نساء يُردنَ المضي قدماً لأنهنَّ لم يجدنَ أنفسهنَّ لا في الماضي ولا في الحاضر.
ثمة في «نزوح» شغلٌ ملفت على الصورة، لا تقتصر على أشهر لقطات الفيلم والموجودة على البوستر، والتي نرى فيها فجوة في سقف مع يافعَين حالمَين يتأملان النجوم، ولكن هناك اعتناءً بالعديد من الرموز والتفاصيل الأخرى؛ كيف نجحت في خلق بصمة خاصة بك في العمل على الصورة؟
أول ما أراه في الفيلم كمُخرِجة كاتبة هو الصورة، إن لم أرَ صورة فأنا أُدرِكُ أنه ليس لدي فيلم. سواء في فيلم يومَ أضعتُ ظلّي أو في نزوح. في الفيلم الأخير، رأيت صورة فتحة ضوء تخترق مكاناً مُهدَّماً وفتاة يافعة تنظر للأعلى وترى النجوم، هذه الصورة البصرية كانت كافية بالنسبة لي لأخلق السيناريو. الكثير من الأشياء لا ينطقها النص وتقولها الصورة، وأحياناً ما تنطق به الشخصيات تقول الصورة عكسه تماماً. وفي الفيلم الأسبق، أول ما تصورته هو الناس التي تفقد ظلّها، صورة الظل، عندما شاهدت صورة حقيقية لظل شخص انحفر على الأرض بعد إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما، وهذه الصورة جعلتني أرى العكس لدينا، أننا أحياءُ نعيش بلا ظلال.
دائماً أفلامي تنطلق من صورة بصرية تحمل الفيلم، وكثيراً ما أُعنى بالجزئيات الصغيرة، وأحياناً هذه التفاصيل البصرية تسعى لنقل حالة فكرية ما، وقد تتطلب وقتاً وجهداً أكبر. المثال الأنسب هنا ربما هو مشهد انفجار المنزل في فيلم نزوح، يهمني أن يشعر المشاهد وكأنه جزء من التجربة. كان من الأسهل أن أتَّبِعَ ما يجري عادة في مشاهد الانفجارات، من تقطيع سريع للصورة مع كاميرا مهزوزة والكثير من النيران والمؤثرات البصرية والأصوات العالية دون الانتباه للتفاصيل، بينما أنا صمّمتُ من البداية أن يكون الانفجار عبارة عن ثلاث لقطات فقط، ولحظة الانفجار الأولى بلقطة واحدة قائمة على لقطة عامة general shot وحركة بطيئة slow motion وهو عكس ما يُصوَّر عادة في الانفجارات. الهدف من ذلك كان أن يوحي بالحالة الرمزية التي مرّ بها المنزل والمجتمع ككل، أي الظلام الدامس والخراب الكامل والتشظّي. استغرقَ التحضير لهذا المشهد نحو شهر كامل بمشاركة 3 فرق تصوير، لأنني فضَّلتُ أن أُصوِّرَ مشهد تفجير حقيقي على الاستعانة بالمؤثرات البصرية.
أخيراً، دمشق حاضرة دائماً في أفلامك، هل ستظلُّ حاضرة يا ترى؟
(تضحك)، كما ذكرتُ لك، مُنكَّبةٌ حالياً على ثلاثة مشاريع، جميعها تتضمن عناصر سورية، في واحد منها فقط توجد دمشق. هي بالتأكيد مدينتي التي فقدتُها، وألَّا تملكَ الحقَّ بالعودة ليس سهلاً على أي شخص.