لم تكن سوريا الحقيقية التي تشبه أهلها واضحةَ المعالم يوماً في الإنتاج الفني التلفزيوني السوري. نادرة جداً هي الأعمال التي يمكننا فيها التعرُّف على ملامح بلادنا الحقيقية، فالواقعيّة الصرفة لم تكن يوماً سمة للدراما السورية حتّى في أوج ازدهارها، على الرغم من غلبة الأعمال الاجتماعية كمّاً، وهي الأعمال التي يُفترَض أنها ابنة الواقع. كان تبنّي الواقع فنيّاً بصدق ووضوح في الحالة السورية مهمّةً في غاية الصعوبة، ولا تنبع تلك الصعوبة من تحديات رقابية سياسية فقط، بل تنبع أيضاً من الواقع نفسه برتابة مكوّناته وتراجيديته المفرطة، التي تجعل من الصعوبة بمكان جعله مادّة فنيّة ممتعة دون المساس بتفاصيله وتغييرها. وقد جعلت تلك العوامل من الكوميديا، بل والتاريخ أيضاً، مواد تلفزيونيّة أكثر قدرة على التأثير والشهرة والخلود، أكثر بكثير من الدراما الاجتماعيّة الواقعيّة. ولعلَّ استثناءات قليلة تخرج عن ذلك، وأهمها تلك التي كتبها السيناريست والكاتب الفلسطيني السوري الذي غيّبه الموت قبل أيام حسن سامي يوسف.

اللاجئ الفلسطيني الذي ولد في فلسطين، ثم تنقّلَ بين مخيمات اللجوء وصولاً إلى مخيم اليرموك في دمشق، عاش التجربة السوريّة الكلاسيكية التي عاشها عشرات الكتّاب والمخرجين السوريين في الستينيات والسبعينيات، إذ برزت موهبته مبكراً في المسرح، فسافر إلى الاتحاد السوفييتي ليدرس، ثم عاد حاملأً الشهادة في منتصف السبعينيات، واتجه إلى القطاع العام حيث الزملاء الذين مروا بالتجربة ذاتها وأسسوا للواقعيّة في السينما السوريّة على الشكل السوفييتي. لم تحقق تلك التجربة حضوراً مميزاً لنصوص السيناريست الموظَّف في المؤسسة العامة للسينما كمُشرِف على النصوص، ومن الواضح أن موهبته لم تلتقِ مع السينما السوريّة، فاتجه نحو الرواية، فَالتلفزيون. وقد اتَّخذَ طريقاً حداثياً في الكتابة التلفزيونيّة من خلال ورشات الكتابة، التي سيشكل بعد ذلك من خلالها الثنائي الأكثر نجاحاً في الكتابة التلفزيونية في تاريخ الدراما السورية، أي حسن سامي يوسف ونجيب نصير.

حققت نصوص الثنائي منذ أول تجاربهما سويّة نقلة نوعيّة في الدراما السوريّة، تضافرت في أول تجربتين مع كاميرا هشام شربتجي، التي ابتعدت كلياً عن الكوميديا التي كان يحترفها المخرج إلى قاع المجتمع مع أسرار المدينة (2000) وأيامنا الحلوة (2003)، واللّذين يمكن اعتبارهما فاتحة أعمال الدراما السورية الأكثر انتماءً للواقع، والتي تُمثِّلها مجموعة قليلة العدد من المسلسلات التي تميّزت من بين عشرات الأعمال الاجتماعية الأخرى التي مرت دون أثر.  

لهثت الدراما السوريّة الاجتماعية في مرحلة انتعاشها، وبأيدي أشهر صنّاعها من كُتّاب ومخرجين، وراء محاولة التوفيق بين الوفاء للواقع والإمتاع. وانتهت في غالبية منتجاتها إلى أنَّ التَمحوّرَ حول الطبقة الوسطى هو ميزان الانتماء للواقع، وأنّ تحريك هذه الطبقة للأعلى أو الأسفل عن طريق الحكاية هو ما يخلق الدراما، بالتالي كانت فكرة تَخلخُل البنية الاجتماعية السوريّة وزوال الطبقة الوسطى الشغلَ الشاغل لصُنّاع الدراما الاجتماعية السوريّة لسنوات. لكنّ المُميَّزَ فيما اشتغلَ عليه حسن سامي يوسف ونجيب نصير دراميّاً، في هذا الصدد، هو عدم الالزام بتخلخل الطبقة الوسطى ذاك، بل الانتقال إلى ما بعد انهيارها. لذا لم يَعُد البطل هو الموظّف الحكومي فقط، أو الأستاذ أو المثقف أو المحامي أو الأسرة النمطيّة، بل هو كل هؤلاء منهارين إلى طبقة أدنى، وهو شخوص الطبقة الفقيرة أو حديثة الفقر. يمكن رؤية هذا جليّاً في مجموعة من أعمال الراحل التلفزيونية، خاصة تلك المقدّمة في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الثانية، وخاصة تلك التي كانت تُنتجها ورشات الكتابة. 

كان تفويض الفقر ليكون الحامل الأساسي للمسلسل النقطة التي منحت الخصوصيّة لمجموعة من أعمال الراحل، في أعمال مثل الانتظار أو أيامنا الحلوة أو زمن العار، كان التفكُّكُ الأسري والفساد والإدمان والهجرة وسوء التربية والجريمة والجهل؛ كامن كلُّها نتيجة الفقر بشكل مباشر أو غير مباشر، وبأسلوب بعيد عن التكلُّف والنقد المباشر للمنظومة السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، وهو من أكثر المطبّات التي وقعت فيها الدراما السورية التي حاولت مقاربة الواقع. في تلك الأعمال سابقة الذكر كان الفقر وحده يحكم المجتمع الحاضر في المسلسل، ويتحّكم بالمصائر، وتلك هي أكثر النقاط التي طبعت تلك الأعمال بالانتماء الخالص للواقع السوري.      

من مخيّم اليرموك حيث نشأ «أبوعلي» كما اعتاد رفاقه مناداته، خرجت صورة الحي الشعبي السوري «المُخيّمجي» الحاضرة بقوّة في أهم أعماله، بتفاصيلها التي لا تقتصر على أزقّة ضيقة موحلة، وبيوت تكشف بعضها، وأسطح مفتوحة للسماء يهرب إليها السكّان للتنفُّس والمراهقون للتلصُّص. بل هي شخوص الحيّ أيضاً؛ سائق التكسي والشرطي والبلّاط وبائع البسطة والرقّاصة والحرامي، أولئك كانوا أبطالَ أفضل أعماله. تلك الشخصيّات التي لم تكن عادة تحضر كبطلة في منتجات الدراما السوريّة، إلّا في لوحات لأعمال كوميدية كبقعة ضوء أو مرايا، أو كانت كومبارسات تستكمل المشهد الرئيسي الذي يعجُّ بالتجار والموظفين. الاستثناء جاء مع ما كتبه حسن سامي يوسف الذي احترفَ نقل البيئة بوفاء، وهو ما تطلّبَ أصلاً الخروج من الاستديوهات الجاهزة نحو الأحياء الحقيقية، فكانت أعماله مع نجيب نصير بمثابة تحدٍّ لمخرجين كثر على اعتبار أن تركيب البيئات الجاهزة لتلك النصوص هو أمر شبه مستحيل. هكذا كانت كاميرات هشام شربتجي والليث حجو في أقرب تماسِّها مع الشارع السوري حينما صَوّرت تلك الأعمال.

نحتَ حسن سامي يوسف شخصياته باحترافية قلّ مثيلها سوريّاً، خاصّة وأنها أنماط شعبية أكثر ممّا هي أنماط فنيّة. هي ليست شخصيات مُكرَّرة الحضور على الشاشات العربية، بل هي مُكرَّرة الحضور في قاع المجتمع. فكان مسلسل مثل الانتظار (2006)، وهو تحفة خالدة في تاريخ الدراما الاجتماعية السورية ووثيقة بصريّة عن الحي الشعبي السوري، الذي تضمَّنَ مجموعة من الشخصيات مُتقَنة البناء وحديثة الحضور على الشاشة السورية حينها. شخصيّات مثالية لتقديم صورة الانهيار الاجتماعي والإنساني، تُقدّم صورة العشوائيات بأوضحِ وأبلغ أسلوب، وتُقارِب الممنوع رقابياً كقصص الاستغلال الجنسي مثلاً، والتي لامسها العمل ولم يعرضها مباشرةً. صُوِّرَ هذا العمل في أحياء عشوائية واقعيّة بريف دمشق، وتنقَّلت كاميرته في «سوق الحراميّة» وأسواق أخرى، لتكون بعض مشاهده وثائقية تعرضُ القاع على الشاشة.

الجهد الذي بذله حسن سامي يوسف في بناء الشخصيّة منح نجوماً في الدراما السوريّة شخصيات ستلازمهم في بقية مشوارهم الفني. في هذا الصدد يمكن ذكر شخصية الصعلوك «عبّودس التي أداها تيم حسن في مسلسل الانتظار، والتي ستمنح الممثل سَمة الناجح في أداء دور «البلطجي الحليوة»، الشخصية التي ستلازُم الفنان في كثير من أعماله اللاحقة. وكذلك شخصية «زاهية» ابنة الحي العشوائي المزهوّة بنفسها، التي أدّتها أمل عرفة في مسلسل أسرار المدينة، وهي شخصية ستلعبها الممثلة مثيلتها في مجموعة من الأعمال اللاحقة أيضاً.

من فلسطين إلى لبنان إلى سورية، مشوار يعجّ بالأحياء العشوائية والمخيمّات، مرَّ به حسن سامي يوسف، واستقى منه القصص والأبطال. شخوصٌ لا آباء لها، مشرّدون وصِيَّع، موظّفون انتهت بهم القروض خارج المجتمع، حِرَفيون بُسطاء وسائقون وعمّال مياومة، مدمنون ومجرمون، هم قاع المجتمع الذي ما انفكَّ يسحب المزيد باتجاهه، ليزداد الفقر وتتسع العشوائيات، ويُخلِّفَ الانهيارُ انهياراً آخر. لم تنته أعمال حسن سامي يوسف إلا بالانهيارات، ولم يكن التفاؤل يوماً موضوعه أو رسالته الفنيّة؛ أليست هذه سوريا التي نعرف!