سيكون اليوم، 16 تموز 2024، هو تاريخ جنازة وصيتي، الوصية التي كنتُ أختمُ بها كل مرة حديثي معك.

ما أوجع الجنازات التي لم ندفن بها أحباءنا، فيما كان آخرُ الحبلِ السرّي بين عالمنا وعالمهم شاشةَ موبايل أو بالكاد فيديو لأكُفٍّ غريبة تحمل نعشهم أو تحفر قبورهم، أو تحثو عليهم التراب بعيداً عن عجزنا وخيبتنا وقِصَرِ أيادينا على طول دروب الحرب.

بالكاد يستطيع قفصي الصدري الصغير احتمالَ طوفان شهقات الغياب الآن، وأنا التي عاقرتُ كل أنواع الغيابات حتى صار الموتُ لعبتي المُشتهاة كل مساء، بينما أصارعُ الأرقَ منذ سنوات طوال.

ما زال يلوح مساءً، بين زواريب المخيم في طريقي إلى دكّان الحارة، رأسٌ ويدٌ أبيضان يُصارعان كيس قمامة. بدا أن قطاً داخله، لكنه كان جُزءاً ممّا تبقى من جسم قط يتحرّك بالكاد، ويحاول تمزيق الكيس عَلّه يأكل! ربما لم أستوعب أن الشيء المُمدد قربه هو جسمه سابقاً حتى عدتُ من الدكان ووجدته ينتظر وأمعنتُ النظر في حالته!

«الله يصلحك يا وئام، رحتِ تشتري رجعتي بقط جديد كمان، مو ناقصها الحارة!»؛ تُلاقي لي الجارات على الباب.

انطفأ اللومُ وملأ الصمتُ المكان حين وضعتكَ أمامهم وصرتَ تتلوى، وكلّما حاولتَ وقوفاً ترتطمُ وتميل على جنبيك وتناجي الجميع متألماً. يحضرني ذاك المشهد بحزن، وكذلك المجاعةُ التي انفجرت على حواف الصحن وأنت تأكلُ كمُحاصر لحظة نزوله من الباص الأخضر، مُنتقِلاً من خانة المُحاصَرين إلى خانة المُهجَّرين، ليلتقي الرغيفَ الأول -البشري- بعد الحصار!

الذي قال إن الحبّ من النظرة الأولى لم يكن سورياً، وإلّا لأضاف: من الحصار الأول، من الصاروخ الأول، من البتر الأول، من الاعتقال الأول، من الجرح الأول، من الإصابة الأولى! كانت ليلتَها سهرتنا الأولى معاً. خابرتُ الطبيب البيطري-الصديق، أشار ببضع أدوية ما بين مسكنٍ ومقوٍّ. في ليل المُخيمات لا مُسكِّنَ لكثير من آلامنا ولا مقوٍّ على الكثير من العتمات؛ وحيدةً لهثتُ في الطريق الطويل بلا قلب لأنه ظلَّ ليحرسك؛ صيدليةٌ بعيدة أوفت بالغرض. هل تذكر الحَمَّام الأول يا صغيري؟ كم تَعذّبنا معاً لأُنقِّبَ عن تضاريس جسدك في كتلة من الأوساخ والقذارة تخنق كل تفاصيلك، وأنت تجرُّ جسدك هنا وهناك مع رائحة نتنة واخزة! مُواءَكَ مخنوق عميق بالكاد كان يُسمَع: «دعيني!».

كنتُ أغسلكَ بدمعي وماء غصّتي لِئلا أراكَ مثلي تبكي، لم أعرف قطّاً من قبل يدمع ويبكي مثلك، وكم بكينا بعدها معاً.

في قوقعتي-منزلي هناك غرفة صفّ لأطفال برّيين مثلك، وفي غرفة الصف مصطبةٌ خلف الباب، وعلى المصطبة تلكَ اخترتَ أن تنزوي خلف الباب وتتكوَّرَ على وجعك؛ رتبتُ الزاوية لتكون أحنَّ عليك، وصارتْ تلك المصطبة بوصلة قلبي أنّى تحركت.

خلف الجدار كنتُ أحاول على بعد أمتار منك الغفو، بعد أن أكلتَ ولم تشرب، حاولتَ المواء ولم تستطع!

(طك)! هي صدى 10 سنتيمترات خانت جمجمتكَ الصغيرة حين حاولتَ النزول عن المصطبة لتبولَ في الخارج، فخبطتَ بها الأرض! وهل أنسى كيف كنتَ تُخبئ وجهك الحلو بعد أن وقعت عنها على الأرض وسط بقعة تبولك مُبلَّلاً مُنكسِراً، أنت النظيف المُنظِّف لنفسه دوماً. ربما أستطيع الآن أن أحكي لك عن صوت الجماجم التي حضرتُ تكسيرها يوماً، والتي ما زالت تلاحقني إلى اليوم بين الخيام، وكيف كانت تَعولُ حتى الصباح في أذني كلما سمعتُ ارتطام جمجمتك الصغيرة يا حبيبي بعجزك وعجزي قبل الأرض.

سامحني لأنك لم تكن تحب الماء وكنتُ أغسلُ عنك كل حين غزارة البول، التي كم تمنيتُ أنها أغرقت من صدمكَ ورَماكَ بلا رحمة إلى كل هذا الألم!

سامحني لأنني اشتريت قماشات برائحة البالة لأُجفّفك وألتقطَ قطرات الحزن من عينيك، فلم يعد لدي ما يكفي من ثياب برائحتي لأُمزِّقها لأجلك!

سامحني لأني وضعتُ لك فُوَطَ الأطفال وأنتَ زينة الشباب، لكني كنتُ أخاف أن أغفو وتُبلِّلَ نفسكَ وتُخبِّئَ وجهكَ الحلو عني.

سامحني لأني غفوتُ أحياناً من شدة التعب وتركتكَ تتوجع وحدك.

سامحني لأني أجبرتكَ على الدواء والماء فقد كنت أحلمُ أن تُشفى.

ليتكَ أخبرتني عن طعم التراب الذي غافلتني وأكلتَ منه! ما السحر في ذَرَّاته السمراء؟ ربما لكتبتُ رسالة منك إلى من يبيعونه بالرخيص!

ليتكَ عَلَّمتني المواء بصمت كما كنتَ تفعل، ولم أكن أفهم ما كنتَ تُريدني ألّا أفعله.

ليتك وليتك، ولا (ليتني) واحدة لي!

سأحفظُ عن ظهر قلبٍ وروحٍ كل حكايا عينيك في ليلتنا الأخيرة معاً، وستحفظُ كفيّ عن ظهر شوكٍ وشوقٍ كل تربيتةٍ غَرستُها في تفاصيل جسدكَ المنهك حتى الصباح، وأنت! هل ستحفظ كل الحَكايا التي حكيتها لك؟ كنتَ ستحكي الكثير كما أظن حين تعودُ من الاستشفاء، وبعضُ الظنِّ جمراتُ حنين.

هل تعرف؟ كنتُ أخشى ألّا نلتقي بعدها لكني صفعتُ نفسي!

سأعترف لك:

لم يكن ما أفعله قبل أن نسافر صباح ليلتنا الأخيرة ترتيباً، كنتُ أخفي معالم الجريمة! جريمة أنني أنقذتك من الشارع، وقد حكى لي الجميع أنهم كانوا لأسبوع كامل يشاهدونك تجرُّ نصفكَ المشلول، جيئة وذهاباً، لا تلوي إلّا على لقمة أو رشفة في قيظ الحرّ بين الخيام!

نعم، لم أكن أرتبُ المكان بل كنت أُضيِّعُ معالم وجودك معي لأني سأعود بدونك وحدي، وأنا تقتلني تفاصيل الأمكنة بعد أن يُخلِّيها الجميع فارغةً في كل مرة وأبقى مُحنَّطة وحدي، تعلّمتُ أن أخبِّئَ عن نفْسي حتى نَفَسي حين يضطرني الألم!

هل كان عدلاً أن أُخفيكَ كطفل في الوشاح المُزهَّر لأحملكَ إلى السيارة ونمضي بعيداً عني؟

«مشلول، ما بيعمل شي!»، جملةٌ كانت هي جواز سفرنا حتى نصلَ العيادة في إدلب ليطمئن الركاب، و يا أسفي!

كم كان عتبكَ الجميل كسيراً عندما رفعتُ الوشاح عن وجهك لتصله الشمس، يا حلواً كزهرة في مَهبِّ الطريق!

مؤونةُ الروح من ضَمَّاتكَ تكفي كثيراً يا حبيبي، لكن الحزنَ أكثر!

هل تذكر حين وصلنا العيادة البيطرية وفحصوكَ وصوروك؟ كُلَّما شرح لي المختص عن عُظيماتك المُفتَّتة وحبلك الشوكي التالف وأكياس الهواء التي سرقت صوتك، كلما عرفتُ ماذا تعني متلازمة الشلل؛ تمنيتُ هذا لقلبي بلا تَردُّد وسالَ دمعي.

هل تدري لحظة وضعوك في حقيبة النقل إلى المحمية كيف تفجَّرَ سيلُ السوريين- الأرقام في تلافيف دماغي: معتقلون، مُغيَّبون، محاصَرون، لاجئون، مُهجّرون، جثثٌ في البر والبحر والجو، جثثٌ حية في الملاجئ والمخيمات!

راقبت نظراتك من خلف فتحات الحقيبة، غرزَتَ في قلبي قضباناً وقضباناً! هل كنتَ تقول: «لا تتركيني وحدي فأنتِ الآن أهلي؟»، أنتَ الذي صرتَ أياماً أهلي!

لملمتُ الوشاح المُزهَّر-آخر ما يحمل رائحتك- لأخبّيه، وطلبتُ منهم بترجٍّ ألَا يعطوكَ رقماً، بل اسماً: «الله يخليكم سمّوه حمْص!».

لحظتها صار اسمكَ «حمْص»، وصار لي حمْصان، حمْص التي فيها قبر أمي وأبي وحصاري، وحمْص الذي يحاول المواء في حقيبة النقل إلى محمية القطط ولا يطالُ صوتاً!     

في لحظتها لمستُ الحقيبة كأنها قلبي، تَحسستُّها بحرقة وعُدتْ، طريقُ العودة كان طويلاً طويلاً، وكان حبل بكائي أطول!   

ما تركتك وحدك! لكن الزيارات ممنوعة، وكم يَقتلُ ألّا يسمحوا لميتَيْن أن يتودّعا ريثما يرحل أحدهما!

سأعترفُ اليوم أيضاً لك! كنتُ في تواصلي لأطمئن عنك أستعيدُ اطمئناني عن أبي في أشهره الأخيرة كما عنك، كنتُ على شفا الفجيعة دوماً، لم يهنأ لي نبضٌ وأنت لم ترسل لي بعد مُواءةً ساحرةً من السماء، كما لم تهنأ لي روح قبلها حتى سمعتُ ضحكة أبي بين الغيمات في طريقه إلى السماء!

كم كانت جنازتك غير المعلنة بعدُ تنوحُ حولي وعلى كتفي وقرب كأسي وفي صحني!

لكني كنت أصرُّ في آخر كل سؤال عنك أنْ أوصي: «حمْص بأمانتك يا محمد!».

منذ اليوم لم يعد لي وصية! اليوم صرتَ في أمانة الله يا «حمْص»ـي، اليوم ستغفو بلا وجع ولا جوع ولا يُتْم. سَلِّم كثيراً على الغيّاب وعانقهم كما كنتُ أضمكَ إلى صدري، وإن سألوك عني لا تجرح موتهم أكثر، وقلْ لهم: «ستلحق بي».

من اليوم قلبي في أمانة الحزن والغياب إلى أجل غير مُسمّى طالما استمرَّ رحيلُ الأحبة وبقاء كفي محنطة تُلوِّحُ وتَهذي لظلّي.