صدر فيلم جنّيات أنشرين سنة 2022 من إخراج وكتابة الإيرلندي مارتن ماكدونا. تقع أحداث الفيلم التراجو-كوميدي، في جزيرة خياليَّة على ساحل إيرلندا الغربي، في عشرينيات القرن الماضي إبّان الحرب الأهلية، عن الصديقين كولم وبادريك. يرفض كولم فجأة ذات يوم التحدُّث إلى بادريك والخروج معه في الميعاد اليومي المعتاد إلى الحانة، لا يفهم بادريك هذا الموقف الغريب. وحين يسأل كولم، يؤكد له أنه لم يقل أو يفعل شيئًا ضايقه، لكنه لم يعد يعجب به. نعرف سريعاً أن كولم لديه طموح فني في التأليف الموسيقى، ويريد أن يقضي الوقت الباقي من عمره مُفكِّراً ومُؤلِّفاً للألحان المحليَّة التي يقوم بكتابتها، لا أن يقضي ساعات طويلة في سماع أشياء عديمة النفع من صديقه بادريك محدود التفكير. 

شيبون أخت بادريك، المثقفة الذكية، تخبر كولم أن المرء لا ينهي صداقته فجأة هكذا «لأن هذا ليس لطيفاً». 

هناك إصرارٌ على ذكر «اللُّطف» في الفيلم، فالكاهن في جلسة الاعتراف يقول لـ كولم إنه «ليس لطيفاً» أَلَّا يتحدث مع بادريك، وحين يسأله بادريك وهو سكران، في واحد من المشاهد الرئيسيَّة في الفيلم: «هل تعرف ما اعتدتَ أن تكون؟»، يضيف: «لطيفاً، اعتدتَ أن تكون لطيفاً (..) والآن أنت لستَ لطيفاً». يُخبره كولم أن اللّطف لا يدوم إذن، على خلاف الموسيقى واللوحات والشعر. يصرّ بادريك: «وأيضاً اللّطف». فيرد كولم ما معناه أن التاريخ لا يذكر أحداً لكونه لطيفاً، لكن يذكر من قاموا بأعمال فنية خالدة مثل موتسارت. يقابل بادريك ذاكرة التاريخ الكبيرة بالذاكرة الشخصية الصغيرة، يقول إنه يتذكر والديه اللّطيفين، وسيتذكر أخته اللّطيفة إلى الأبد. يُضيف بوضوح: «أنا لا أهتم مطلقًا بموتسارت أو بورفوفن أو أي من تلك الأسماء العجيبة. أنا بادريك سوليابين وأنا لطيف.» 

من فيلم جنّيات أنشرين

حين تتنبأ العجوز بموت اثنين من قرية أنشرين، تضيف أنها ستصلي أَلّا يكون بادريك أو أخته أحدهما، ليرد بادريك باستنكار: «أهذا شيء لطيف لقوله؟»، فتُخبره أنها لا تحاول أن تكون لطيفة بل دقيقة. وعندما يخدع بادريك أحد العازفين الذي يتقرَّب منه كولم، عبر إخباره أن والده قد وقع له حادث، يُصدَم المراهقُ بسيطُ العقل دومينيك حين يعرف تلك الخدعة، قائلاً إنه قد ظنُّه «ألطفهم جميعاً»، يرتبك بادريك ويؤكد إنه «ألطفهم جميعاً»، لكن المراهق يتركه ويرحل. وحين يموت حمار بادريك الضئيل مُختنِقًا بسبب كولم، يقرر الانتقام لكنه يرفض الاقتصاص من كلب كولم لأنه «الشيء الوحيد اللّطيف فيه».

الانحياز إلى اللّطف

استمرار ذكر ونقاش الجوانب المختلفة من «اللّطف» يجعله المفهوم الأساسي للفيلم. ينحاز الفيلم بخفة لكن بثبات إلى جانب اللّطف، مُعليًا شأنه على الإبداع الفني، أو على فكرة تكريس حياة المرء لخدمة هدفٍ أعلى. فبالرغم أن كولم ينجح في وضع لحنه «جنّيات أنشرين»، إلا أنه في مشهد النهاية يُدندنه في حالة كرب وهَمّ، كأنه السبب في وصوله إلى تلك الحالة. وأثناء تفضيله تكريس وقته للخلود الفني، يرتكب خطأً مُنفِّراً يشير إليه بادريك، وهو تفضيل القرب من الشُرطي كيرني البغيض الذي يضرب ابنه «حتى يزرَقّ ويسودَّ كل يوم» بحسب تعبيره، والذي يقف أيضاً في المشهد الختامي له مُتحسِّراً أمام ابنه الغريق.

يُقدِّم الفيلم بالمقابل نموذجاً للمثقف اللّطيف، وهو شيبون. فعلى الرغم من تشابهها في الذكاء والتميُّز العقلي مع كولم، إلا أنها ترفض حب الصبي دومنيك محدود التفكير برفق ولُطف، وتتحمَّل ثِقَل المرأة العجوز وتُحييها بابتسامة، وتطلب من أخيها الذي يمثل لها عبئاً المجيء ليعيش معها حين تسافر. كما يقدمها الفيلم أيضاً بصفتها المثقف الحقيقي، فهي تُصحِّح لِـكولم معلومة أساسيَّة، وهي أن موتسارت عاش في القرن الثامن عشر لا السابع عشر، مما يشير إلى زيف أو ضحالة معرفته.

بدا هذا الأمر ضعفاً في كتابة السيناريو، لأنه أراد أن يظهر ضعف حُجّة ما يمثله كولم، أي مبدأ التضحية باللُّطف أو العلاقات الشخصيَّة من أجل الإبداع (أو هدف أوسع آخر)، وبذلك لا يأخذ الجدل إلى آخر مداه، بل يَصِمُهُ بالزيف دون أن يواجه جوهرَ السؤال: ماذا لو كان هذا هو موتسارت أو بيتهوفن مثلاً؟

في مشهد الاعتراف الأخير بالفيلم، يَردُّ كولم على الكاهن بأنه لا يعتقد أن اللـه يهتم بالحمير الضئيلة، ومن هنا سار كل شيء بشكل خاطئ. من منظور ليبرالي، يُرفَض اللاهوت الذي لا يُقيم مركزيَّةً لِلُّطف، فالخير الذي لا يتلطَّفُ بالكائنات الضئيلة والبشر السُذَّج لا يُنتِج إلا شراً.

من فيلم جنّيات أنشرين

احتياج إيديولوجي

يمكننا التساؤل: لِمَ هذا المركزيَّة لمفهوم «اللُّطف» في الفيلم، بغض النظر أنه من اللطيف أن نكون لُطفاء؟ 

في وقتنا الحالي، يعمل اللُّطف إيديولوجياً بصفته الوجه الإنساني لعالم يعتمد في كيفية عمله على مبدأ الربح دون أخلاقيات أو قيم تُنظِّمُ وترشِّد هذا السعي الوحشي للمادة. وهو ما يَظهر جلياً في المجال الأكثر شراسة لالتصاقه بهذا المبدأ، أي مجال الأعمال والتجارة. فهناك إصرار على وضع التنافسيَّة والاستحواذ والصراع العنيف على الموارد والمكاسب في إطار واجهة من التعاون والمؤازرة والودّ واللُّطف. بل لم يَعُد من مزايا رجال المال الناجحين أن يكونوا قُساةً بلا قلب، وعمليين تماماً (يمكن قراءة أدبيات حول تنمية المال وريادة الأعمال حتى التسعينيات لرؤية ذلك)، بل أن يكون شخصاً لطيفاً ومُحباً للآخرين وللمجتمع والعالم (بداية من «بيل غيتس» وصولاً إلى «مارك زوكربيرج» و«إيلون ماسك»، ويعتبر «غاري في» النموذجَ الأوضح لهذا التناقض). هذا طبعاً أثناء، عملياً، شفطِ الأرباح والموارد لِمَركَزتها عندهم، مثل شفّاطة دانيال داي لويس في المشهد الشهير من فيلم سيكون هناك دم، والقيام بعمليات الاحتكار والاستحواذ التي لا ترحم لكل ما هو أصغر حجماً في السوق. 

هناك احتياج عملي أيضاً لِلُّطف في الإيديولوجيا الليبراليَّة، فإلى جانب الوظيفة التجميليَّة، اللُّطف نحو الآخرين هو الدافع الأخلاقي الإنسانوي في السياق الليبرالي الحالي لمساعدتهم في احتياجاتهم ومعاناتهم المادية والنفسيَّة والاجتماعيَّة، حتى لا ينهار النظام الاجتماعي-الاقتصادي، في وضع فصامي باعتبار أن هذا النظام ذاته، الذي يستفيدون منه، هو الذي يخلق تلك الاحتياجات والمعاناة نفسها.

يمكن رؤية ذلك على مستوى دولي أيضاً، في مساعدات الدول الغنية التي تُهيمن على السوق العالمي وتستحوذ على المصادر الطبيعيَّة للطاقة والمعادن، بل والكيانات الاقتصاديَّة المحليَّة الأصغر، لدول الجنوب العالمي الأكثر فقرًا وانتهاكًا لاقتصادها ومواردها. يمكننا مثلاً، من خلال حركة المقاطعة الحاليَّة، رؤية جانب من عمل آليات الرأسماليَّة الراهنة، وهو انتهاء الشكل الكلاسيكي للمنافسة بين منتجات وصناعات كولونياليَّة عولميَّة كبرى ومنتجات وصناعات محليَّة ووطنيَّة (والتي لم تكن أبداً عادلة وشريفة في «سوق عالمي حر»، الخيال الزائف الذي طرحته الرأسماليَّة العولميَّة)، لكن الاستحواذُ عليها وسحبُ أرباحها.

وبهذا يكون هناك انتشارٌ ومركزيَّةٌ لمفهوم اللُّطف في العالم الليبرالي الذي نعيش فيه، والذي يزداد توحشاً في تناقض فصامي صريح.

فصل الفنان عن فَنِّه

نرجع إلى سؤال يطرحه فيلم جنيَّات أنشرين بشكل أساسي: هل يُفترَض أن يكون الفنان لطيفاً حتى يكون فنه حقيقياً وعظيماً؟ أو بصيغة أخرى: هل يمكن فصل الفنان عن فَنِّه؟

يُخبرنا تاريخ الفن أن هذا ليس ضرورياً، فكثير من الفنانين الذين أنتجوا فناً عظيماً، كانوا بالمعايير الأخلاقية اليوم، قُساة متوحشين وعديمي الأخلاق. ورغم الربط المتواصل في السياق النيو- ليبرالي بين شخصية الفنان وفَنِّه، وبين أخلاقه الشخصيَّة ومستواه الفني، إلا أنه لا يزال يُعتبَر نوعاً من النضج أن يتم الفصل بين مواقف الفنان وأعماله الفنيَّة.

الكثيرون لا يعرفون مثلاً أن المخرج الأميركي المحبوب بين الشباب العربي، كوينتين تارانتينو، متزوج من مغنية إسرائيليَّة ويعيش معها في تل أبيب منذ عام 2020، حيث أنجبت طفليهما، متنقلاً بينها ولوس أنجلوس، مادحًا الحياة فيها وواصفًا إياها بـ «بيته الجديد». وبعد هجوم السابع من أكتوبر دعمَ الجيش الإسرائيلي، وقام بزيارة أحد قواعده العسكرية لرفع معنويات الجنود. هل من المفترض أن يقلّل ذلك من قيمة أفلام مثل بالب فيكشن وكيل بيل وجاكي براون وإنجلوريس باستردس؟

نظرياً لا يُقلّل ذلك من فنيَّة هذه الأعمال، فلا بدَّ من الحذر في الحديث عن علاقة المواقف الأخلاقيَّة بالفن، لأنه يمكن السقوط بسهولة في فخ «خَلقَنة الفن»، أي التعامل مع الفن بصفته وسيطاً يحمل رسالة أخلاقيَّة واضحة ومباشرة، وهو الفكر الذي آذى وسجنَ بالفعل كتاباً وفنانين في مجتمعاتنا. كما أن هناك ضرورة لفهم أن الخطاب الأخلاقي الإنسانوي الحالي -المسمَّى «الصوابيَّة السياسيَّة» والذي وُضِعَ في مسائلة جديدة من الحرب الدائرة الآن- هو حصراً أخلاق ليبراليَّة انتقائيَّة تحمل إيديولوجيا سياقها التاريخي والسياسي.

الانحياز إلى الانتقام

لكن مع ذلك، يُلقي موقف تارنتينو الشخصي التساؤل حول الأفكار التي بُنيت عليها أفلامه. فإذا نظرنا إلى القاسم المشترك بينها، سنجد أنها أفلام تدور حول تيمة واحدة هي «الانتقام المُجاز أخلاقياً»، أي الانتقام الدموي للضحية من ظالميها، مع تنويعات لهوية الضحية في أفلامه من الفئات المهمشة أو المستضعفة غالباً: امرأة سوداء أو شقراء، شابات صغيرات، عبد أسود، يهود، زوجان مُسالمان.. إلخ. وبذلك يُطلِق على الشاشة الحقدَ دون قيود، كحلٍّ للنزاعات التي تُثار من التمييز والظلم. وهو ما يتماشى مع موقفه السياسي والإنساني ممّا يدور الآن.

فبالنسبة إلى تارانتينو، كما يتضح مع تصرفه أعلاه، يرى أن الإسرائيليين لديهم كامل الحق في الانتقام مما حدث في السابع من أكتوبر من تنكيل مروِّع. وكما يحدث في أفلامه، يكون هذا الانتقام بلا حدود، لأنه مُبرَّر أخلاقياً، بل يكون فعلَ خيرٍ بصفته قضاءً على الشر. ففي فيلمه الشهير إنجلوريس باستردس أو «أوغاد مجهولون» الصادر سنة 2009، يقوم مجموعة من الجنود الأميركان اليهود بمهمة قتل وترويع الجنود النازيين داخل فرنسا المحتلة. المفارقة أن مهمة فرقة اليهود في الفيلم تشبه في طبيعتها الخاطفة والسرّية والترويعيَّة عملية حماس في السابع من أكتوبر، أكثر من شبهها بعملية الجيش الإسرائيلي بعد ذلك، كعملية انتقام موسَّعة من جيش نظامي يَستخدم فيها أحدث الأسلحة.

يُحاضِرُ الملازم ألدو رين، الذي يقوم بدوره الممثل براد بيت، في فرقة جنوده قائلاً إن مهمتهم تتلخص في شيء واحد فقط، هو قتل النازيين، لا أن يُعلِّموهم الإنسانية: «فالنازيون ليست لديهم إنسانيَّة». هذا هو الشيء الضروري للانتقام غير المحدود، نزعُ إنسانيَّة العدو، ما يذكرنا بتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت بأن الفلسطينيين «حيوانات بشرية» في بداية الحرب، حين أعلن أنه سيقطع عن سكان مدينة غزَّة الغذاء والكهرباء.

في المشهد نفسه يُحدِّد الملازم ألدو هدف العملية في قتل كلِّ من يلبس الزي العسكري النازي. بالفعل لا نرى في الفيلم أي ألماني مدني يُقتَل إلا في مشهد حريق السينما بالنهاية، حيث يموت جنرالات الجيش النازي مع نسائهم وما يمثلون صفوة المجتمع الألماني. يحدث العكس في الحالة الواقعيَّة لـ «انتقام اليهود الأخلاقي»، فقتلُ العدد الأكبر من المدنيين الفلسطينيين مع إذلالهم وترويعهم يبدو وكأنه الهدف المقصود الأساسي، لا القضاء على حماس أو استعادة الرهائن منها. 

يسعدُ ألدو برفض رقيب ألماني الإدلاء على زملائه، قائلاً «بصراحة تامة، مشاهدة دوني يضرب النازيين حتى الموت هو أقرب شيء إلينا للذهاب إلى الأفلام». هذه يمثل بالفعل جزءاً كبيرًا من جوهر سينما تارانتينو: سادية ممتعة فنياً، مُبرَّرة أخلاقياً، بحيث تُعطِّل الحواجز النفسيَّة التي تَحجُب التلذذ بها. يتجلَّى هذا الأمر في المشهد التالي الدموي حيث يضرب دوني هذا العريف حتى الموت بعصا بيسبول في وحشية مذهلة أمام عين الكاميرا/المشاهد، بعد تمهيد سينمائي طويل لدخوله إلى الكادر يليق بفيلم لورنس العرب، ليصيحَ بعدها كمصارع مخبول فوق جثته.

من فيلم أوغاد مجهولون

الرؤيَّة الليبرالية وحدودها

حين يستكمل ألدو محاضرته، يتحدث، في تضاد واضح مع مفهوم «اللُّطف» الذي يتمركز حوله فيلم جنيَّات أنشرين، عن «القسوة». القسوة مع «الألمان»، كما يشرحها ألدو، هي «نزع الأحشاء، تقطيع الأطراف، وتشويه الجثث وذلك حتى يعرفوا من نحن». الهدف، كما أوضح ألدو بلكنة أميركيَّة ثقيلة، أداها الممثل الشهير الوسم براد بيت، هو بثُّ الخوف والعذاب حتى أثناء نومهم. ويبدو أن تلك هي وجهة نظر الفيلم للفوز بالحرب مع الأشرار: الانتقام بقسوة.

على عكس هذا المنطق، يأتي ذكر الحرب في أماكن متفرقة من فيلم جنيَّات أنشرين كحدث غير مفهوم أو ذي صلة، يحدث بسبب الأحقاد والمرارة التي لا يريد أحد الأطراف تجاوزها. يمكن الحدسُ أن إجابة الفيلم على مأساة الحرب هي أن نكون لُطفاء مع بعضنا ونترك أحقاد الماضي لتمضي. ربما يساعد هذا المنطق على الوصول إلى السِلم، كما كان مُتطلَّباً في حالة الحرب الأهليَّة الآيرلنديَّة. لكن لا يُعتبَر حلًا جذريًا لمشكلة في تعقيد وعنف الحرب بين إسرائيل وفلسطين كما يلحُّ الحل الليبرالي في الوصول إلى عملية سلام شاملة قفزاً على كل تفاصيل الصراع.

يبدو تارانتينو مُتّسقًا أخلاقيًا مع نفسه حين يأخذ الجانب الإسرائيلي في الحرب ويؤيد «انتقامه» المروِّع، لكنه مع ذلك اتساق شكلِّي، فهو في النهاية يؤيِّد هذا المنطق بسبب إنساني. فهو مثلاً كان مناهضًا نشطًا لعنف الشرطة في أميركا «لأنه إنسان له ضمير» بحسب قوله. هل لا يحتمل ضميره الإنساني قمع الشرطة للأقليات العرقيَّة في أميركا لكن يقبل ما يفعله الجيش الإسرائيلي بالفلسطينيين الآن؟ ألا يبدو له أن هذا الانتقام غير أخلاقي أو عادل أو إنساني بأي معيار من المعايير؟

في خلطة الأقليات الثابتة عند تارانتينو الليبرالي، يضيف إلى فرقة الأميركان اليهود في الفيلم جنديًا يدعى عُمر، الاسم المسلم بوضوح. لا يُفهم كيف يمكن ليهودي أن يُسمِّى عُمر، لكن السؤال هو: هل كان سيفعل ذلك بعد السابع من أكتوبر؟ هل كان سيجول في خاطره أن هناك «عُمر» غزَّاوياً مظلوماً فيما يحدث الآن بسبب هويته مثل عُمر اليهودي في الفيلم؟

إن تلك الرؤية الليبراليَّة عن «اللُّطف» و«الانتقام» كحل للصراعات والمظالم التاريخيًّة شديدة السطحية والسذاجة، لأنها تَغفَلُ عمدًا عن الانحيازات البنيوية الظالمة وفروق القوى بين الأطراف. كما أن الإله الليبرالي الذي يتلطَّف على الحيوانات الضئيلة ومحدودي العقل، أو ينتقم للأقليات المضطهدة، لا يرى غضاضة في التنكيل بشعب أعزل أمام عينيه، إذا كان هذا وفقَ مصالحَ أو كي يشفي غليل انتقامه. 

ربما علينا إبلاغ هذا الإله أن اللُّطف، وإن كان مهماً ومحورياً في حياتنا، لا يكفي بمفرده، بل يجب أن يُعضَدَ بعدالة جذريَّة كي يكون لُطفًا حقيقيًا، لا قناعًا تجميليًا أو أداة حفاظ على الوضع القائم الظالم والوحشي، وإن الانتقام القاسي غير المحدود لا يحلّ أي صراع، ولا ينتصر في أي حرب، بل فقط يُفاقِمُها ويُوسِّعها.