لم تحظَ إمكاناتُ الممارسات الفنية في سياق النضال من أجل العدالة بقدر كافٍ من الاهتمام، بل على العكس، لطالما اعتُبر عالمُ الفن مختلفاً ومنفصلاً تماماً عن عالم العدالة، المنشغل بالحقائق والأدلة ومؤسسات العدالة الرسمية. مع ذلك، وكما يتضح لنا من الصراع السوري، فإن الفنون ليست مقتنيات جميلة وحسب، بل هي جزء لا يتجزأ من السعي لتحقيق العدالة والمُساءلة. مُستنِدةً إلى أبحاثي حول إمكانات الممارسات الفنية في الإسهام في السعي لتحقيق العدالة للشعب السوري، والذي يتضمن عدّة مقابلات مع فنانين وفنانات، أُسَلِّطُ الضوء على الطريقة التي تستحضر بها الفنون تجربة التعرُّض للمظالم، وعلى كيفية بناء أرشيف بديل للمفاهيم المُهيمنة، يُبيّنُ وجود حقائق مغايرة لإدعاءات الحقيقة التي يسعى النظام السوري المسيطر لاحلالها في الأذهان، ويُعزِّز المقاومة ضد الظلم.  

تَخيُّل العدالة في الظلام

ما هو نوع العدالة التي يمكن تصورها في السياق السوري، حيث يستمر الجاني الرئيسي بالحكم؟ هل يمكن اعتبار المحاكمات بموجب الولاية القضائية العالمية في الدول الأوروبية شكلاً من أشكال العدالة؟ كيف يمكن للضحايا وعائلاتهم النهوضُ بمتطلبات تحقيق العدالة في ظل التعب الدولي من الشأن السوري؟ هذه، والعديد من الأسئلة الصعبة الأخرى، هي موضوع نقاش حاد بين المشاركين-ات في جهود تحقيق العدالة للشعب السوري، الذين أدعوهم هنا بالجهات الفاعلة في مجال العدالة. صحيحٌ أن جرائم النظام الفظيعة وتَكاثُرَ مرتكبيها قد حطّمَ الانتقال المأمول إلى الديمقراطية، إلا أن الجهات الفاعلة في مجال العدالة لا زالت مستمرة، سورياً ودولياً، في سعيها لتحقيق العدالة والمُساءلة. لقد سمح الانشغال بتنظيم داعش في دول الشمال العالمي أن يفلت نظام الأسد من العقاب؛ واستفاد هو بدوره من وجهات النظر الاستشراقية التي تبثّها وسائل الإعلام الغربية ودوائر السياسات لتصعيد حَربهِ السرديَّة، والتشكيك في سرديات المعارضة، ومحو جرائمه، وتقديم نفسه كحصن منيع ضد الجهادية.  

ولولا تجارب الناشطين والناشطات السوريين مع نموذج العدالة الانتقالية، المُصمَّم في الأصل لتسهيل التحوّل من الحرب أو الاستبداد إلى نظام ديمقراطي، لكان الإذعان للجرائم الوحشية هو القاعدة. 

إن الجهات الفاعلة في مجال العدالة السورية مُدرِكة تماماً لحدودها، لذلك تُمسِك بخطّ الحياة الذي يقدمه نموذج العدالة الانتقالية، وتستخدمه لتخيُّلِ بدائل عن الإفلات من العقاب ومحو الجرائم. وهي – أي الجهات الفاعلة – لا تدّعي بأي حال من الأحوال أن جهودها في مجال التوثيق والمُساءلة الجنائية والبحث عن الحقيقة ترقى إلى مستوى الحلول المثالية، بل يعترفُ أعضاؤها بأنه حتى أكثر النتائج الملموسة إلى الآن، وتحديداً قضايا الولاية القضائية العالمية ضد مسؤولي النظام، لا يمكنها لوحدها أن تُوصل إلى العدالة. مع ذلك، فإن هذه المحاكمات تؤكّد حقيقة وجود الغولاغ السوري، ووقوع جرائم التعذيب والاختفاء القسري، وتَسمح للضحايا بالإدلاء بشهادتهم-ن، وتهزّ ثقة النظام بإمكانية الإفلات من العقاب عبر فرض النسيان.

استحضار تجارب التعرُّض للأذى

أصبح وصفُ تجارب التعرُّض للأذى وتقديم الشهادات حولها سِمة أساسية للفنون السورية المعاصرة، بالرغم من أنّ قليلاً من الفنانين والفنانات السوريين يعتبرون أنفسهم-ن من الجهات فاعلة في مجال العدالة؛ إلا أن الكثيرين منهم-ن يشتركون في الرغبة بفضح الظلم ومواجهة السلطة بالحقيقة. فقد تعرّضوا وتعرّضنَ، أولاً وقبل كل شيء، إلى إسكاتهم لمنع سرد ما تعرضوا له من قبل النظام. وما يزال الصمت الذي فُرِضَ بعد مجازر حماة عام 1982 حاضراً في الذاكرة الجمعية. مدفوعةً بالخوف السائد لدى أغلب الشعب السوري، كتبت الروائية السورية منهل السرّاج رواية كما ينبغي لنهر عام 1997: «كان هناك صمتٌ حول الأمر، وكان الناس يخافون من ذِكره، ولكن القصص فرضت نفسها لأن هناك الكثير من الضحايا». وفي عام 2002، رغم الحظر الذي فرضه النظام عام 2000 على الرواية، تمكّنت السرّاج من نشرها في الإمارات.

وقد تمثّلَ نوعٌ آخر من الإسكات الذي تعرّضَ له فنانو وفنانات سوريا، وحثَّ على استحضار تجربة تعرُّضهم للأذى، ما تعرَّضَ له السوريون من لامبالاة الشمال العالمي، حيث أُبعِدَت تجارب التعرّض للأذى من قبل السوريين إلى الخلفية بسبب التعب الدولي من الشأن السوري، وحرب النظام السرديّة (بتحريضٍ من روسيا وفئات من اليسار المناهض للإمبريالية)، والانشغال إلى حد الهوس بجرائم داعش، حيث أدت هذه الأشكال المختلفة من الإسكات إلى التعتيم والتغييب. في مواجهتها، قامَ الفنان التشكيلي خالد بركة بصنع عمله الفني الذي يحمل عنوان صامت، والمؤلَّف من 49 شخصية ترتدي ثياب المتظاهرين في الانتفاضة السورية، في إشارة إلى قمع الأصوات السورية والنّبذ الذي تعرَّض له الشعب السوري. ولتسليط الضوء على النضال من أجل العدالة، قام بركة بوضع عمله الفنّي خارج محكمة كوبلنز أثناء انعقاد محاكمة فرع الخطيب، التي كانت المحاكمة الأولى بشأن التعذيب الذي يمارسه النظام السوري.

يوجد بالطبع تباين بين المحاولات الفنية «لتوثيق» المظالم، وجهود التوثيق التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية السورية والدولية. ليست وظيفة الفنون – إن وجدت – جمعَ الأدلة الجنائية؛ إلّا أن بإمكانها استكمال الأدلة وتقديم روايات مضادة. ويمثل أدبُ السجون في سوريا، هذا اللون الثري الذي بحثت فيه الراحلة شريعة طالقاني في كتابها: قراءات في أدب السجون السورية، شعرية حقوق الإنسان، خيرَ مثالٍ على ذلك. تؤكد الروائية روزا ياسين حسن أنّ الأدب قادر على تسليط الضوء على مظالم كانت ستظل مخفيّة لولاه؛ كما فعلت هي في رواية حرّاس الهواء، حيث استكشفَت الصدمات التي يعاني منها شُركاء وشريكات المساجين السياسيين، ورواية نيغاتيف، التي تناولت فيها تجارب السجينات السياسيات في سوريا. ورغم أن نيغاتيف تُصنَّف كـ «رواية توثيقية»، إلا أن روزا ياسين حسن تعتقد أن الأدب ليس معنياً بالتوثيق في المقام الأول، بل باستكشاف العوالم الداخلية للأفراد؛ وتؤكد أن الفنانين والفنانات قَدّموا مساهمات كبيرة في سجلّ الثورة، رغم اختلاف طبيعة عملهم عن مساعي تقصي الحقائق: «نحن ننقل صوت من لا صوت لهم إلى العالم. نحن نتحدث عن العالم الحقيقي، من وجهة نظرنا. نحن نروي القصص. إذ أن الأشخاص الذين ليس لديهم قصص لا يعتبرون موجودين..». على هذا النحو، يساهم الفنانون والفنانات في مكافحة النسيان.

إنشاء الأرشيف البديل

لقد أكَّدَ التحوُّلُ الذي طرأ على الانتفاضة السورية، وما تلاها من حرب أهلية وتشرذم، على أهمية تخليد الذكرى، وأسفرَ عن توجه نحو إنشاء الأرشيف البديل وغير الرسمي. كما لعبَ السعي الحثيث لمحو الجرائم وإخفائها من قبل النظام وغيره من الجناة، دوراً أساسياً في هذا التوجس من النجاح في إعادة كتابة التاريخ حسب روايتهم. يرى المسرحي محمد العطار أن هذا الخوف له مبرراته، لأن التطبيع مع النظام السوري ينطوي على عملية مستمرة لدفن الحقائق والتاريخ. ويصرُّ على أنه من الممكن للأسف إعادة كتابة التاريخ: «قد يحدث أن ننسى أكثر فأكثر خطاب الانتفاضة الديمقراطيّ الذي صدح ذات مرة في سوريا عام 2011».

من الأمثلة الملموسة على أهمية الأرشيف البديل الفيلم الوثائقي عيوني للمخرجة الفلسطينية السورية ياسمين فضة. يتناول الفيلم مصير أكثر من 130 ألف شخص من المفقودين والمختفين قسرياً، من خلال شهادات نورا غازي، أرملة الناشط الإلكتروني باسل الصفدي الذي أعدمته قوات النظام، وماتشي، شقيقة القس الإيطالي باولو دالوليو، الذي اختُطف في الرقة عام 2013 ولا يُعرَف مكان وجوده حتى اليوم. تُصِرُّ ياسمين فضة على أهمية المحفوظات، باعتبارها آثاراً لأحداث سابقة، وعلامات على الوجود الفعلي: «نحن في الحقيقة نتحدث على وجه التحديد عن أشخاص لهم أصوات، وهم جزءٌ من الصراع في سوريا. وأَفترضُ أن سبب استخدام الاختفاء القسري هو ضرورة إسكات هذه القصص. إذ لا يمكنك سماع هذا الشخص، ولا يمكنك رؤية هذا الشخص بعد الآن». إنّ إنتاج فيلم يعتمد على لقطات شخصية وسيلةٌ لتحدي «التغييب»، وشكلٌ من أشكال إحياء الذكرى – إلى جانب كونه وسيلة لدفع الناس إلى التحدُّث عن حالات الاختفاء القسري والاختطاف، وتحفيزهم على إقامة روابط حول هذه الجرائم التي تحدث في مختلف السياقات.

ولضمان عدم ضياع هذه الذكريات والإنتاج الإبداعي المرتبط بها، عملت مُصمِّمة الجرافيك سنا يازجي على إنشاء مشروع ذاكرة إبداعية للثورة السورية. اندهشت سنا يازجي من الإنتاج الإبداعي الهائل الذي أخرجته الثورة السورية، سواء من قِبَل الفنانين والفنانات المعروفين أو المواطنين والمواطنات السوريين الذين جرّبوا أساليب التعبير الفنية لأول مرة. وللإشادة بهذا الثراء، بدأت بإنشاء سجلٍّ رقمي للتعبيرات الفنية التي ظهرت خلال الثورة السورية، بما في ذلك الشعارات والمنحوتات والجداريات والكتابات على الجدران، والموسيقى والأغاني واللوحات، والشعر والملصقات والكاريكاتير، والتصوير الفوتوغرافي والمنشورات والمسرح، واللافتات ومقاطع الفيديو والطوابع البريدية. يُمثِّلُ هذا السجلّ الرقمي وسيلة غير رسمية لتخليد الذكرى، تضمنُ الحق في المعرفة، وتُغذّي في الوقت نفسه الممارسات الثورية المستمرة، كما هو موضح أدناه.

البحث غير الرسمي عن الحقيقة

يعترف الفنانون والفنانات من سوريا بأهمية تسجيل المظالم، ولكنهم يُدركون أن دورهم-ن يختلف عن تقديم الحقيقة. ورغم رفض الكثيرين منهم-ن لإضفاء النّسبية على ادعاءات الحقيقة التي يقدمها الضحايا، إلا أن العديد منهم-ن يصرّون على تعدّدية الحقائق، ويرون أن جزءاً من دورهم-نّ يكمنُ في الإشارة إلى صعوبة إصدار الأحكام. يرى خالد بركة أن الفنانين والفنانات يخلقون بيئات بديلة تَسمحُ بإعادة التفكير في الافتراضات وتَحمِلُ الناس على التفكير بشكل مختلف. إن قدرة الفنون هذه – التي غالباً ما يُخلَط بينها وبين إضفاء طابع النسبيّة على ادعاءات الحقيقة، والتصورات المبتذلة بغياب الحقيقة في الصراعات – لهو أمرٌ ضروري.

لا تدّعي التعبيرات الفنية تقديم الحقائق أو الدلائل القانونية، بل تُرحِّبُ بتعدد الأصوات وحتى الغموض. مع ذلك، فإنها غالباً ما ترقى إلى مستوى ممارسات الحقيقة لأنها تُثير أسئلة حاسمة في عملية البحث عن الحقيقة. يرى محمد العطار أن المسرح لديه القدرة على «بناء حالة معقدة، وطرح الأسئلة، ومحاولة إشراك الجمهور في العملية». كما يدفع المشاهدين والمشاهدات إلى النظر إلى الواقع من دون الصور النمطية. مثل معظم فناني-ات وناشطي-ات سوريا، اضطُرَّ العطار للعيش في المنفى، الأمرُ الذي أثَّر على ممارسته الفنية. تتناول مسرحية العطار الأخيرة، المصنع، دور مصنع شركة الإسمنت الفرنسية لافارج، التي أبقت مصنعها في شمال شرق سوريا يعمل بين عامي 2012 و2014، رغم وجود تنظيم داعش في المنطقة. وقد تم توجيه الاتهام الرسمي لشركة لافارج عام 2022 من قبل محكمة الاستئناف في باريس، بتهمة المساعدة والتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. يشعرُ العطار أنّ دوره لا يقوم على تقديم الاستنتاجات، بل تقصّي الحقيقة. تنطبق هذه النظرة النقدية على محاكمة فرع الخطيب، التي حظيت باهتمام السوريين والسوريات في ألمانيا، ممّن يجمعهم العداء للنظام – فهم غالباً ما يختلفون على ما إذا كانت المحاكمة تخدم سبيل العدالة. يتساءل العطار عمّا إذا كان بإمكان المسرح أن يلعب دوراً في هذه النقاشات، وإذا كان بإمكانه، فكيف؟ الأهم من ذلك، برأيه، هو أنّ «المسرح يمكنه الاستفادة من القدرة على الخيال، ولا يقتصر على حدود الواقع. يسمح لنا ذلك بالقفز إلى المستقبل، أو استخدام الخيال للتوصل إلى حلول، أو شدّ النقاشات إلى أبعد مما هي عليه الآن».

تكتسب القدرة على الاستمداد من الخيال أهمية خاصة في سياق الحرب السرديّة التي يشنّها النظام، وقدرته على خلق مناخ من عدم اليقين حيال وقوع الجرائم والانتهاكات. إذ يمكن للممارسات الفنيّة أن تتحدث عن مفارقة أنّه بالرغم من الأدلة الدامغة على الفظائع التي ارتكبها النظام السوري، إلا أنها لم تكن ذات تأثير حاسم على الاعتراف بالمظالم. لا تدّعي الممارسات الفنية تقديم الحقائق، ولكن بإمكانها أن تقترب من تمثيل الحقيقة بشكل عميق. إن اختلاف أنماط إنتاج الحقيقة مهم وضروري في سياقات الصراعات، خصوصاً فيما يخصّ تفسير الوقائع، كما يؤكد إيال وايزمان في كتابه بعنوان علم البحث في الوقائع الجرمية: العنف على عتبة الكشف. إن قدرة الممارسات الفنية على استحضار الازدواجيات واحتضان المفارقات تساهم في عملية البحث عن الحقيقة، فمن خلال الأساليب التي تُحاكي التجارب بحقيقتها، يمكن للفنون أن تُسلّط الضوء على التجارب المُعاشة وادعاءات الحقيقة التي تتعرض للتهميش في التقارير الإعلامية، من دون أن تَدّعي تقديم حقيقة واقعية أو تتطلَّعَ إلى تقديم حقيقة مطلقة. بل بدلاً من ذلك، قد تكون مُكمِّلة لوسائل البحث عن الوقائع وأدلة الإثبات الرسمية. مع ذلك، يمكن أيضاً استخدام الممارسات الفنية لإثارة الشكّ بشأن الجرائم المُرتكَبة، عن طريق المساهمة في البروباغندا، وتعزيز عدم اليقين المحيط بالوقائع والتشكيك بالأدلة على وقوعها. يتجلى هذا الوضع في السياق السوري، حيث استخدم نظام الأسد الفن كأداة لتحدّي ادعاءات الحقيقة المعارضة. وخير مثال على ذلك ما قام به بعض المخرجين السينمائيين بإعلان موالاتهم للنظام، وانخراطهم بنشاط في الحرب السردية من خلال إنتاجاتهم السينمائية.

ليست الممارسات الفنية منفصلة عن تعقيدات إنتاج الحقيقة والدعاية خلال الحرب الأهلية، بل يمكنها المساهمة في تجزئة الحقائق وتعزيز ادعاءات الحقيقة لدى المجتمعات المُتعارضة. ولكن يمكنها أيضاً توسيع مواقع البحث عن الحقيقة عندما يتم الاعتراف بإمكانياتها وقيودها كما ينبغي. في عالم صناعة الصور والسينما، أدَّى الدافع الأولي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان تدريجياً إلى إنتاج المزيد من الأفلام ذات الطابع الشخصي، التي تبرز وجهات نظر حميمية ومتعددة الأصوات. ومن الأمثلة على ذلك فيلما يوم أضعتُ ظلي ونزوح من إخراج سؤدد كعدان. ناقش صانعو وصانعات الأفلام السوريين، خلال فترة الصراع وبشكل متزايد، تعقيدات صناعة الصور خلال الحرب الأهلية التي نفَت أغلبية المجتمع الفني السوري إلى الخارج، وخطر إضفاء طابع رومَنسي على الانتفاضة، وتقديم تصوّرات مسطّحة وثنائية القطب عن الواقع على الأرض، بالإضافة إلى الواقع السياسي الاقتصادي لصناعة الصور، وتوقعات «الجماهير الثورية» على حد تعبير عروة نيربية. لا يمكن أن نتوقع تمثيلَ الفنون للواقع، ولكن يمكن أن نتوقع أن تَدفَعَ الفنونُ الجمهورَ للنظر إلى الواقع مُجرَّداً من اليقينيات، وبانفتاح جذري على ادعاءات الحقيقة المتضاربة، بما من شأنه أن يؤدي بالنتيجة إلى تعطيل الروايات المُهيمنة.

المقاومة المستمرة

لم يوقف زوال الانتفاضة والمشروع التحرري الجامع بين السوريين مقاومةَ شتى مصادر العنف المعرفي، سواء كان مصدرها النظام أو أطرافٌ أخرى أو حتى صانعوا السياسات والمؤسسات والجمهور في الشمال العالمي. يتحدى العديد من الفنانين والفنانات سوءَ تمثيل التجارب السورية من خلال تقديم روايات مضادة، تُفكِّكُ التصورات المُهيمنة التي ترى على سبيل المثال في الصراع السوري مواجهة بين نظام الأسد وداعش. تتولد هذه الرغبة من إيمان قوي بأن الممارسات الفنية يمكنها أن تدعم مقاومة ألوان الظلم التي يتعرّض إليها الشعب السوري. هذا الإيمان ليس بالجديد، فلطالما كان الإنتاج الثقافي السوري فعلاً مُعارِضاً. ولطالما اعتنق العاملون والعاملات في عالم الفنون، سواء في مجال صناعة الأفلام أو الكتابة أو الإخراج أو رسم الكاريكاتير، مقاومةَ الاستبداد. إلا أن انتفاضة 2011 أحدثت تحولاً في المجال الثقافي، أدت إلى ظهور العديد من الممارسات الفنية الجديدة، إلى جانب تصاعد نشاط المجتمع المدني. استلزم كل ذلك إنشاء فضاءات لمواصلة المعارك الثقافية المتعلقة بالعدالة، التي تجري في أغلبيتها الساحقة في الشتات، وبشكل أقلَّ بكثير في سوريا. إن هذه الفضاءات المناهضة لنظام الهيمنة، أينما وُجِدت، هي سوريّة وعالمية لأنها تُحاكي تجارب السوريين المُعاشة وتسلط الضوء على حاجة كل فرد خاضع للهيمنة إلى الاستمرار في مقاومة المظالم.

وعلى عكس التصور الغربي المُهيمن حول الثورات، فإن الفنانين والفنانات والجهات الفاعلة في مجال العدالة في سوريا ليسوا محدودين بالفهم الثنائي للثورات، باعتبارها إما ناجحة أو فاشلة، إذ ليس لديهم ترفُ انتظار التحول السياسي لمواصلة الممارسات الثورية في مجال الفنون أو تحقيق العدالة. إنما تنبع مقاومتهم من إصرارهم على محاربة قوى الإبادة، ورفض الإسكات. تُوضح روزا ياسين حسن هذا المنظور من خلال وصفها الرواية كشكل من أشكال المقاومة: «إنها حركة ضد السلطة المُهيمنة، ضد السلطات، ضد الخداع والطغيان، وضد الصوت الواحد والوحيد. إنها تنقل التعددية والحرية، والانفتاح والمعنى. إنها تقف إلى جانب الأقليات والمستضعفين، وتدعم الفئات المهمشة بشكل عام». يشارك هذا المنظورَ كثيرٌ من الفنانين والفنانات الذين يدفعون باستمرار حدود المعارضة.

وهذا أمر مهم بشكل خاص في مجال السينما، حيث أسفرت الثورة عن طفرة في محتوى الفيديو والإنتاج السينمائي السوري المستقل، أدت إلى ظهور موجة من الأفلام السورية التي حظيت باهتمام عالمي – منها وثائقيات، مثل إلى سَما من إخراج وعد الخطيب، وآخر الرجال في حلب من إخراج فراس فياض؛ وأفلامٌ خيالية مثل يوم أضعتُ ظلي ونزوح من إخراج سؤدد كعدان. تُسلّط الكثير من الأفلام السورية الحديثة الضوء على مقاومة الأذى الذي لا يُحتمَل، وتُشرِّح استحالة الثورة وكلفتها، منها وثائقي بلدنا الرهيب من إخراج محمد علي الأتاسي وزياد الحمصي، الذي يؤرخ رحلة الكاتب والمعارض السوري ياسين الحاج صالح في أرجاء سوريا، ابتداء من ضاحية دوما المحاصرة في دمشق، فالرقّة التي كانت تحت سيطرة داعش، انتهاء بالمنفى في إسطنبول. خلال تأمُّله السؤال الذي يُطرح عليه مراراً، عمّا إذا كانت هذه هي الحرية التي يريدها الشعب السوري، يجيب الحاج صالح: «لو كنّا قادرين على الاختيار، لا. نريد حريّة أكثر أناقة وأقل تكلفة. لكن يبدو أنّ هذا هو الثمن الذي فُرض علينا». أثناء تصوير الفيلم، يتلقى الحاج صالح نبأ اختطاف زوجته سميرة خليل في دوما، مع محامية حقوق الإنسان رزان زيتونة، ووائل حمادة، وناظم حمادي. إنّ سَعي الحاج صالح الحثيث لمعرفة الحقيقة بشأن اختفاء سميرة خليل تذكيرٌ بأن المقاومة ضرورة شاقة، وأن التعابير الفنية يمكنها أن تسلّط الضوء على مثل هذه الصراعات الوجودية. 

ويكمن وجه حاسمٌ آخر لهذه المقاومة في الطريقة التي يسعى بها بعض الفنانين والفنانات إلى استخدام تعبيراتهم الفنية لقلب معادلة الغياب القسري وإبراز السرديات أو الأصوات التي كانت ستظل مُغيَّبة لولا ذلك. من الأمثلة البارزة على هذا أعمال الروائية سمر يزبك، التي تُعرِّفُ نفسها بصفتها كاتبة معارضة، تواجه ترهيب النظام في عملها الأدبي، وترفض الصمت. تتناول أعمال يزبك دور النساء الحاسم في الانتفاضة السورية، فتُبرِزُ على سبيل المثال أصواتهنّ وتشيد بمقاومتهنّ، في كتابها تسعة عشرة امرأة: سوريات يروين. علاوة على ذلك، تُشير يزبك إلى أن الضحايا ليسوا مجردين من قدرتهم على الخيار واتخاذ المبادرة، فبطلة روايتها المَشّاءة مراهقة بكماء لديها رغبة دائمة في المشي. ورغم وصفها بأنها معاقة من قِبَل كثيرين، إلا أن ريما تمتلك ذكاءً عميقاً وقدرة رائعة على توظيف خيالها كوسيلة لمقاومة الأذى. بمعنى ما، تمثل ريما عدداً لا يحصى من السوريات اللواتي تعرّضنَ لإساءة الفهم والتهميش والإسكات. على هذا النحو، تعرض يزبك قوة الفنون في الدفع بالتغيير في السياق السوري، حيث يستمر الأفراد، حتى عندما يشعرون بأنهم بعيدون عن الإنسانية، في تأكيد وجودهم وإعادة تَصوُّر العالم رغم كل الصعاب.