إن أقدم الإشارات إلى مفهوم «متتالية» من الأعمال هي ما وردَ في كتاب الأغاني عن ترديد ثلاثيات من الألحان على القوافي نفسها في مُنافسات بين المُغنّين، ثم عند الحسن الكاتب (ص 126 ـ 127) الذي يسميها «الهزاز» أو «الأقساط» نقلاً عن القدماء، ويشترط على المغني «أن يستعمل الأجناس الثِّقال من الإيقاعات والألحان في أول المجلس، ويبدأ بالنشائد والاستهلالات، وبالجملة بالألحان الثِّقال، ويختم بالأرمال والأهزاج»، وهو المنطق نفسه الذي سيسود تاريخَ الوصلات، أي الانتقال من الأبطأ والأعقد إلى الأسرع والأخفّ. 

وربما كانت هناك علاقة ما بين «أقساط» و«بساط» الذي نجده تقريباً بالمعنى نفسه عند ابن الطحان، مع اشتراط أن يكون أقلّه ثلاثة أصوات تُختَم عند الدرجة نفسها، أو ربما يكون القصد جنس القرار نفسه حسب ما يُفهَم من كلامه. إلا إن ابن الطحان يستعمل أيضاً مصطلح «النوب» في منافسات بين المُغنّين حيث يستقي هؤلاء منها ألحاناً في المقامات نفسها التي يتنافسون على الأداء فيها، كما يذكر مسألة غناء المُغنّين معاً إما بالتناوب أو على مسافة ديوان (أوكتاف) من بعضهما، وهو بعبارته «أن يضعّف أحدهما» عندما يغني الآخر في «الدرجات اللينة» (الباب التاسع والثلاثون). 

ونجد النوبة أيضاً في الحديث عن الأندلس، كما لدى التيفاشي في إشاراته إلى «النوبة» الأندلسية، وهو التعبير الذي لا يزال مستعملاً إلى اليوم. وإن كان أصل النوبة قد يرجع إلى تناوب المُغنّين (ولا دليل في ذلك على الارتجال، بل هو تناوبٌ في الأداء)، على ما يقول البعض، أو تناوب قوالبِ الغناء. والنوبة مصطلح لا يزال مُستخدماً للدلالة على فرق الآلات النحاسية والإيقاعية المستخدمة في الأفراح والاحتفالات في لبنان، ويبدو أن أصله قديم إذ يذكر فارمر (مصدر سابق، ص 181) أن عزف فرقة الخليفة العسكرية سُمّي بالنوبة.

بعد ذلك، وفي الفترة الأقرب إلينا، رأينا مع الشرواني وجود «الفصل»، كما وجدنا عنده وعند السيلكوني انتظامَ عدد من القوالب الغنائية في إطار «النوبة المرتبة» الموروثة من مدرسة المراغي، فضلاً عن «النوبة الصحبية» عند السيلكوني، بل من قبل ذلك وجدنا «النوبة المرتبة» أيضاً في شرح مبارك شاه لكتاب الأرموي. 

ولا نريد في هذه المقالة التوسُّعَ في التغييرات التي طرأت على «الفاصل» الغنائي (وهو غير الفاصل الآلي) في موسيقى البلاط العثماني في إسطنبول بِدءاً من الهيمنة الفارسية، مروراً بإحلال آلات وقوالب وموسيقيين أتراك بدلاء لتلك الهيمنة، وصولاً إلى انحسار بعض القوالب المُعقّدة وبروز البسته والشرقي لاحقاً، خاصة في القرن التاسع عشر. بل نودّ أن نُركِّزَ على الإطار الشامي ـ المصري الذي يَمدُّنا أيضاً بتنوع كبير في «الوصلات»ونستثني في هذا الإطار الذكرَ الصوفي الذي لم يصلنا من ممارساته القديمة سوى الكلمات، فمن المتواتر إن الموالد الصوفية في مصر وحتى التلاوة القرآنية قد تعرّضت لتغييرات جذرية في أواخر القرن التاسع عشر، مع مشايخ مثل إسماعيل سكّر في مجال الموالد والمديح النبوي، وحنفي بُرَعي وأحمد ندا في مجال التلاوة (عبد العزيز البشري في «المختار»).  حتى وإن كان قوامها المُلحَّن الأساسي ظل لفترة طويلة هو «الموشّح» الغنائي إلى حين بروز قالب «الدور» في صيغته المنسوبة إلى محمد عثمان وعبده الحمولي في مصر، ثم وقت تفكّك الوصلة التقليدية الحلبية لاحقاً. 

في هذا الإطار الشامي ـ المصري، لا دليل يسمح لنا بالربط المباشر بين «النوبة الصحبية» المُشار إليها في مخطوط السيلكوني و«الصهبجية» أو «الصحبجية»، وهي فِرقٌ من مُغنّي الموشّحات في المقاهي استمرت في القاهرة تقريباً حتى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، أو بـ«الصحبة الحجازية» التي تشترك في كلمات أعمالها أحياناً مع الموشّحات المؤداة في الوصلات المصرية والشامية دون الاشتراك في اللَّحن. فبعض أقدم المخطوطات المُتضمِّنة لموشَّحات مُغناة لا تنسقّها في إطار نوبة أو وصلة متتابعة على أساس المقام، بل قد تعرضها بشكل عشوائي الترتيب، أو على أساس الكاتب أو أحرف الابتداء في الشعر أو غير ذلك. 

لكن من المُستبعَد أن تكون فكرة «النوبة» قد اختفت تماماً ثم عادت فجأة مع مطلع القرن الثامن عشر، خاصة أن فكرة عدم التزام الإيقاع المُوحَّد (وهي إرث النوبة الصحبية) استمرت أساسية رغم بعض الاستثناءات النادرة التي وصلت إلينا في تتابع مُعين لبعض الموشّحات، ووصلت حتى سنة 1932 حين سجّلها الشيخ درويش الحريري بهذا الترتيب، ونرى فيها تَداخُلاً واضحاً بين نهاية موشّح وبداية الآخر رغم اختلاف إيقاعهما، كأن ينتهي الأول بوحدة زمنية زائدة على إيقاعه ويبتدئ الثاني من الوحدة الثانية في إيقاعه المختلف.

الشيخ درويش الحريري

كذلك نلاحظ ترتيب وصلة الموشحات المشرقية عموماً وفق معايير إيقاعية مشابهة للنوبة في الأندلس، حيث البدء بإيقاعات طويلة ومعقدة (مثل الشنبر والمحجر وغيرها) تكون أبطأ ممّا يليها من موشحات متوسطة التعقيد والسرعة (كالمصمودي والنواخت)، والانتهاء بإيقاعات السماعيات، كالثقيل والدارج والسربند. والسماعيات هذه كانت تُعزَف بسرعة، وكان رقص السماح (أو السماع) في الأصل يجري عليها قبل أن يتوسع إلى سائر الإيقاعات لا سيما في حلب (رغم إنه كان موجوداً في سواها أيضاً كما في دمشق بدليل إتقان أبي خليل القباني له حتى قبل تبادُله الخبرات مع أحمد عقيل الحلبي على ما يصفُ كامل الغزي في مقاله «الموسيقى والموسيقاريون في حلب»، العدد العاشر من مجلة المجمع العلمي العربي، سنة 1925).

ونلاحظ أيضاً أن نوبات الموشّحات، أو وصلاتها، قبل عصر الحمولي لم تَستعِرْ من قطع «الفاصل العثماني» أي قالب آلي أو غنائي، ولم تترتب قِطَعُها في شكلٍ مشابهٍ لهذا، لذا لا نرى دليلاً على علاقة قربى أو تفرّع في محض التقارُب اللفظي بين «فاصل» و«وصلة» (وهو مصطلح لم يفرض نفسه إلا متأخراً بعد فترة طويلة من استعمال «نوبة» التي ظلت مستعملة في مصر حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولا تزال مستعملة حتى اليوم في بعض بلدان شمال أفريقيا الأخرى).

على أن هذه النوبات أو الوصلات قد تعرَّضت لتغييرات كثيرة ويُمكننا أن نعرض عدداً منها:

1 ـ النوبة التي نجدها في سفن قديمة من بينها سفينة الكبيسي حوالي 1785 م أو غيرها، وهي تعتمد كما ذكرنا على تسلسل عدد من الموشحات بتتابُع إيقاعي ينطلق من إيقاعات طويلة ومعقدة إلى إيقاعات متوسطة وينتهي بالسماعيات والدوارج. ونجد هذه النوبة لاحقاً في سفينة الشهاب في منتصف القرن التاسع عشر وفي كتاب الخُلَعي في مطلع القرن العشرين، وبينهما في سُلافة الحان الشامية، ونجدها أيضاً في وصف الخُلَعي الذي يشن هجوماً عنيفاً على «الصهبجية»، وكذلك عند زكريا أحمد في إحدى جلساته، لكنه يصف بشكل أقرب إلى الانشراح سهرات الصهبجية وتنافُسَهم على أداء الموشّحات واعتبار الإيقاع هو معيار التنافس ومَناطه (خلافاً لقول الخُلَعي). 

2 ـ النوبة المذكورة في سفينة من سفن النصف الثاني من القرن الثامن عشر للميلاد مرتبة على أساس الناي من الجواب إلى القرار (رقم 3460 بالمكتبة الفرنسية)، حيث يُدرِج صاحبها المجهول في كل مرة نحواً من عشر موشحات ويختمها في أغلب الوصلات بالقول «تمت النوبة»، وهي إذن مُشابهة للنوع الأول، لكنه يُتبِعها بإنشاد قصيدة ثم أبيات مزدوجة غالباً من الدوبيت، فيذكر اثنين أو ثلاثة من الدوبيتات، ثم ينتقل إلى المواويل فيعرض اثنين أو ثلاثة منها، ثم يختم بالعودة إلى إنشاد قصيدة.

ـ السهرة الدينية كمثل التي جرت في ليلة الرابع إلى الخامس من محرم سنة 1215 للهجرة (أيار/مايو 1800)، المذكورة في كتاب وصف مصر الذي أنتجته الحملة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر (ص 712 وما يليها في النص الفرنسي، وص 189 وما يليها في الترجمة العربية بترجمة زهير الشايب)، وهي تؤدَّى بدون آلات موسيقية، وتتضمن ثلاثة أجزاء: يبدأ الأول بسورة البقرة يتلوها الفقهاء بشكل لا يختلف كثيراً عن الغناء، ثم بعد ذلك يُنشد فقهاء آخرون الموشّحات، وبعد ذلك تأتي القصائد ثم الأدوار (والمقصود هو الأدوار البسيطة المكونة من «كوبليهات» متكررة اللحن، وفي وصف مصر نماذج عليها) حيث ينشد كل فقيه أحد تلك الكوبليهات على التتابع، وهذا الجزء يشبه بعض الشيء الوصلات التي يذكرها عثمان الجندي ودرويش محمد الحريري، كما يشبه النوبةَ المذكورةَ في السفينة 3460 لجهة سبق الموشحات للقصيدة. أما الجزء الثاني فيتألف من مقاطع صغيرة يقع كل منها في بيتين أو ثلاثة أبيات، «ينشدها على التوالي كل واحد من الفقهاء، وينتهي الأمر بإنشاد كل الجوقة» معاً اللحن ذاته «à l’unisson»، وهذا يعني وجود لحن ثابت في النهاية على الأقل بافتراض أن المقاطع الصغيرة يتم فيها الارتجال (وفي سياق آخر حين يشير الكاتب إلى الانتقالات المقامية، يُفهَم من كلامه أنها تُغنَّى ارتجالاً، ولذا ففيها عنصرٌ من المجازفة بإفساد المقام أو تغيير الطبقة بشكل صادم). أما الجزء الثالث من السهرة فيبدأ بالموّالات من خمسة أبيات ينشد أحد الفقهاء أربعة منها ويترنم الجميع معاً بالخامس على هيئة لازمة «refrain» (وهذا يعني أيضاً وجود لحن ثابت له). وبعد ذلك تُؤدَّى التسابيح، وهو يصفها بأنها مبهجة وعلى إيقاعات ثلاثية نشيطة، ويلي ذلك موشّح دارج سريع، «وأخيراً انتهت السهرة بنوع من اللحن الكبير مصحوب بمدٍّ نَغَمي على شكل لحن أَرغُن رتيب» بحسب المترجم أو ـ في رأينا «بلحن جليل مصحوب بطنين ممتد في القرار bourdon». وتجدر الإشارة إلى ملاحظة فيوتو، كاتب هذا الجزء من وصف مصر، حول استعادات الفقهاء للمقاطع نفسها حتى عشر مرات أو اثنتي عشرة مرة وإفراطهم في الزخرفة، ويوحي كل ذلك على الأرجح بوجود مساحة أوسع للارتجال.

3 ـ الوصلة التي يذكرها عثمان الجندي في كتابه روض المسرّات مطلعَ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وفي كتابه هذا نلمح بدايات ظهور «الدور الموسّع» المُختلف عن الأدوار ذات الألحان المتكررة المشار إليها في وصف مصر. فهو يورد (ص 23) أن البدء يكون بالبشروات ثم الموشّحات ثم يغني المطرب قصيدة «وفي أثناء غنائه يطرب (ولعلها في الأصل ’يضرب‘) بآلة مثل العود أو القانون ويسمى بالتقسيم» (أي إن التقسيم ليس استهلالاً بحسبه، بل هو يقسِّم أداء المُغنّي لأبيات القصيدة)، وبعدها «يضربون بالآلات القدود والتحاميل ثم يُنشِدُ المُغنّي مِراراً» (ولعلّه يقصد أنه ينشد أبياتاً من القصائد)، ثم إثرَ ذلك «بعد انتهائه ينشد أدوار الغزل أو المدح (…) ثم بعد انتهاء ذلك يغنون جميعاً موشَّحاً دارجاً وتسمى هذه وصلة كاملة».

كامل الخُلَعي

والخُلَعي في كتاب الموسيقي الشرقي (1904، الفصل الرابع عشر، فقرة «طريقة الغناء في مصر الآن») يبدو ناقلاً لما ورد عند الجندي، مع اختلاف بسيط حيث يُغنّي المطرب بعد البدء بالبشروات والموشحات حسب وصفه قصيدة أو «موّالاً»، و«يطرب» (أو يضرب) التقسيم بالآلة، ثم يضيف عن ولوع أهل مصر في زمانه «بالأدوار البسيطة»، حيث ينشدون معاً المذهب ثم ينفرد المطرب بالقسم الثاني من الدور أو يعاونه بعضهم (وهذه إشارات تشبه النموذج الحمولي العثماني لقالب الدور)، ثم يعودون إلى المذهب ويختمون بالدوارج. وقد ينشد المغني قصيدة في «أخريات الليل»، وقد يكون لها لازمة يُعيدونها عليه. والوصلة التي يصفها درويش محمد الحريري في كتاب صفا الأوقات في علم النغمات مطلع القرن العشرين شديدة الشبه بما يورده عثمان الجندي، ومن الواضح أنه ينقل عنه مع بعض التصرُّف، ذلك أن البدء فيها يكون «بالتقاسيم» ثم بعد ذلك «البشروات فالموشّحات ثم يقول المغني قصيدة ثم يضربون بالآلات القدود والتحاميل»، وهو لا يشير بعد ذلك إلى العودة إلى إنشاد القصائد بل «يبتدئ المغني بالأدوار (…) ثم بعد ذلك يضربون جميعاً موشحاً دارجاً ويسمون ذلك وصلة كاملة» (ص 15). ويُلاحَظ إذن أن الآلات كانت تؤدي التحاميل (وهي قوالب نصف ارتجالية، فيها أجزاء مُلحَّنة وفيها تجاوب ارتجالي بين الآلات المنفردة) والقدود، ولعله يقصد بها عزفاً آلياً على «قدِّ» أغانٍ مشهورة. ونلاحظ اختلاف هذه الوصلة عن تلك الحمولية ـ العثمانية في أنها تتضمن معاً القصيدة و«الأدوار» (وليس دوراً واحداً)، ولعل المقصود هنا هو نوعٌ أقدم من الأدوار مثل ذلك الذي أشار إليه كتابُ وصف مصر (مثل «محبوبي فايت علي» و«محبوبي لابس برنيطه» و«يا عاذلي خليني» و«يا لابسين الشيشكلي» و«اسأل على اللي يعزوك») مما هو أقرب إلى الأغاني متكررة اللحن، وليس الدور المُطوَّر في صيغته المُوسَّعة. 

بالمقابل يشير محمود عبد القادر إلى وصلات موشّحات لا تتجاوز الثلاثة على التوالي، ويُبرز في كتابه الفلك المشحون في الأغاني واللحون (مصر، 1918) الوزنَ الضخم الذي أخذته «الأدوار» في صيغها الأحدث (وبمناسبة الحديث عنه فإنه يورد ستة من أدوار سيد درويش الذي يصفه بالملحن الشهير، رغم أن كتابه مطبوع سنة 1918، وفي ذلك دليلٌ على شهرة سيد درويش منذ بدايات عمله المسرحي وعلى سبق اشتغاله بالأدوار عليه).

العود وصندوقه، من كتاب «وصف مصر»

4 ـ أما الوصلة التي استقرَّت على أنها الوصلة الحمولية ـ العثمانية، أو الخديوية أو النهضوية كما تُسمّى أحياناً، من أجل دراسة وافية عن مدرسة النهضة وقوالبها، يُنظر «يوسف المنيلاوي مطرب النهضة العربية، عصره وفنه»، لفريدريك لاغرانج ومحسن صوة ومصطفى سعيد، إصدار مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية عن دار الساقي، 2011، ص 20 وما بعدها وص 56 وما بعدها. وهي المنسوبة إلى عبده الحمولي ومحمد عثمان وعليها كانت تسجيلات مطلع القرن العشرين، فخيرُ من يَصفُها عبد العزيز البشري (في المختار)، وهي تبتدئ بالاستهلال الآلي الذي يكون من البشارف والسماعيات والتقاسيم، ويقول إنهم «يستفتحون وصلاتهم بالموشّحة، ثم ينفرد رئيسهم بمناداة الليل والعين، ثم يتناول بعض الموالي فيروح يرجعه ويطوف به على فنون من النغم، ثم يردُّه على عقبه ويفضي منه إلى الدور، يشترك الجماعة معه في مذهبه، وينفرد هو بالتغني في غصنه، إلّا أنْ يحتاجَ منهم إلى المعونة في الترجيع والترديد…». وقد تحل القصيدة محل الدور على ما يبدو من بعض تسجيلات الشيخ المنيلاوي مثلاً (وهو من القلائل الذين أدوا موشَّحاً دارجاً، «أفديه ظبياً ابتسم»، في ختام وصلة مسجلة على الأسطوانات). أما علي جهاد الراسي فيذكر نَسقَاً قريباً من هذا، إلا أنه يذكر أنه ليس من شواهد في الروايات أو التسجيلات على عزف البشارف الآلية في مطالع الوصلات، بل السماعيات أو الدواليب تلي تقاسيم قصيرة على العود ويأتي بعدها تقاسيم لآلات أخرى ثم الموشّح، فتقاسيم وبعدها الليالي والموال ثم الدور. علي جهاد الراسي، «الوصلة: قالب مركب في الموسيقى المصرية»، مجلة مواقف، العدد 43، سنة 1981، ص 99.  

والحقيقة أنَّ هذه الوصلة لم تَدُم طويلاً، فسرعان ما حلّت محلها «حفلات» هي مزيج من الطقاطيق والمواويل والأغاني الطويلة على النسق الذي صارت عليه حفلات عبد الوهاب و«وصلات» أم كلثوم (والوصلة هنا تُستعمَل مجازاً)، ولم يحتفظ بها إلا القلائل مثل صالح عبد الحي وماري جبران بالخصوص، وبقدر أقلّ عباس البليدي الذي قَدَّمَ بعض الوصلات في وقت لاحق.

جدول تأثير النغمات من سفينة السيفي

5 ـ أخيراً، في الجانب الشامي، بعد طرد أبي خليل القباني من دمشق، كانت حلب قد باتت عاصمة وحيدة للموروث الأقدم، واستمر فيها هذا الإرث على ما نرى في سفينة عبد الوهاب السيفي المخطوطة المُسمّاة نظم العقود، والتي استقى الكثير من معلوماتها من الشيخ صالح الجذبه ومن آخرين بينهم محمد سلمو. إلا أن المقارنة بينها وبين سُلافة الحان (مجهولة المؤلف) المكتوبة قبلها بنحو ستين عاماً تدلُّ على تَراجُع كبير في استخدام الموشّحات وازدياد هائل في استخدام «العروض» أي المعارضة أو الكتابة على «قدّ» نصٍّ أسبق، وكان ممن برع فيها كثيراً الشيخ أمين الجندي الحمصي، وقد بقي كثيرٌ من شُغله حيّاً (مثل «هيمتني تيمتني» و«باهي السنا» و«يا صاح الصبر وهى مني» وغير ذلك كثير)، أو هي هنا موشحات بالفصحى على ألحان أغانٍ شعبية مثل «القراصية» و«الأوف مشعل» و«لولو بلولو» و«قدك المياس»، أو حتى على ألحان أدوار مصرية مثل «كنت فين يا حلو غايب» أو «في مجلس الأنس الهني» (لعثمان الجندي، بحسب ما ورد في كتابه روضة المسرّات). وهذا يدلُّ على تقليل الشوام من أهمية الارتجال على الطريقة المصرية في أداء الأدوار، من أجل أن يتمكنوا من أداء لحن ثابت تقريباً. ويدلُّ أيضاً على أن دخول الأدوار إلى الشام قديم، لكنه دخولٌ بمنطق الأداء الأقدم للموشّحات والأدوار القديمة مُتكررة اللحن، وليس في صيغتها الحمولية ـ العثمانية. وكذلك نلاحظ دخول طقاطيق حديثة على الوصلة عند السيفي، مثل «زوروني كل سنة» و«طلعت يا محلا نورها» و«يا منعنشة يا بتاعة اللوز» و«عصفوري يمّا». كما نُلاحظ في الوصلات التي تتضمنها سفينة السيفي أن بعضها (الأحدث) لا يلتزم بالتراتبية الإيقاعية التي تفرض البدء بإيقاعات طويلة معقدة، والانتقال منها إلى الدوارج والإيقاعات السريعة. وقد حفظت لنا التسجيلات الحلبية استمرار تقليد وصلات الموشّحات التي سجلها كُثُر (مثل بكري الكردي ومحمد خيري ومصطفى ماهر وصباح فخري وصبري المدلل وحسن الحفّار)،  كما يظهر من تلك التسجيلات ما طرأ من الخلخلة على منطق الوصلات الأقدم، حيث أن بعض هؤلاء أنفسهم كان قد بدأ في أداء أدوار أو مواويل أو حتى أغنيات كلثومية تتخلل هذه الوصلة وتُفكِّكُ سلسلة موشّحاتها.

يَظهرُ إذن أن تقليد الوصلات حافظَ على استمراريته في المشرق العربي لقرون طويلة، خاصة في صورة تسلسل الموشّحات. وهي الصورة التي صمدت على الأرجح منذ ما بعد الدخول العثماني إلى المنطقة بقليل، حتى تَفكُّكها في مصر قبيل مطلع القرن العشرين وتَخلخُلها في الشام في أواسط ذلك القرن. ولسنا ندري ما ستكون عليه الحال في الشام إثر الكارثة التي حلّت بحاضنة الغناء في هذه البلاد منذ العام 2011.

عن دفق حياةٍ لا يتوقف

ربما طال كثيراً هذا العرض لرحلة امتدَّت نحو ألف عامٍ من الموسيقى، ولعلّ بعضهم من المهتمين قد يجد فيه فوائد بحثية، كما قد يكون فيه أفكار عن تركيبات مختلفة للنغمات والقوالب والوصلات لمن يرغب من المُمارسين.

 لكن ما هو أهمّ من ذلك في ظنّي أن في التدقيق في الكتابات العربية حول الموسيقى، وتَطوُّرها عبر ما ينوف على أحد عشر قرناً، فائدةٌ هي نقض خطابٍ عامٍ شاعَ واستحكمَ حتى صار غير قابل للمُساءَلة، وهو خطاب يفترض «أصالةَ» واستمراريةً مزعومةً لصورة مُحدَّدة لموسيقى عربية، يمكن تلخيصها في هذا الإطار بأنها نشأت في الحجاز وازدهرت في بغداد، فتولَّدت عنها مدرسة واحدة مهيمنة امتدت من الأندلس إلى حدود الصين، قبل أن تنقسم إلى فرعين فارسي وعثماني. 

وهذا خطاب، شأنه شأن باقي الخطابات الأصولية التي تتجاوز حدود الموسيقى بكثير، يَفترضُ وجود «جواهر» غير متغيرة ومصطلحات ظلَّ معناها ثابتاً عبر القرون. 

ونحن نحصر أبرز خُلاصات هذا العرض في ما يلي:

أ ـ ليس للموسيقى العربية من «أصلٍ» أصيل جوهري خالص واحد لا تشوبه شائبة أو اختلاط: 

كل المؤثرات التي دخلت على الموسيقى العربية أو خالطتها، من التنظير اليوناني إلى الأثر الفارسي والخُراساني إلى التقاليد المحلية السابقة على التعريب في مصر (حتى في حال إغفال التلاقُح الذي حصل في شبه الجزيرة الإيبيرية)، وما اتّسمت به في مرحلة لاحقة من العُزلة النسبية ثم التلاقُح المُتأخِّر مع الموسيقى التي تطورت في ظل البلاط العثماني، قبل التحديث المرتبط بأوروبا حتى أيامنا هذه، تدلّ بجلاء على أنه لا يمكن للموسيقى أن تنفصل عن التأثيرات الخارجية واللقاءات مع شعوب متنوعة الأمزجة. 

ولا تخضع هذه التلاقُحات لقواعدَ نظرية تُحتّم أي توافقٍ مسبق، إذ لم يكن ممكناً مثلاً التوفيق النظري بين السلالم الفيثاغورية وتلك المبنية على وُسطى الفرس ووُسطى العرب ووُسطى زلزل، بل كان التعايش بينهما مفروضاً بحكم التذوق العام لها باختلافاتها. وهذا يعني أيضاً أن السلالم والإيقاعات والقوالب نفسها لم تكن تخضع لمنطقٍ واحد صافٍ، ويجعل أية محاولة لإخضاع موسيقانا الموروثة (فضلاً عن الحالية!) لمثل هذا المنطق الموحّد عملاً منافياً للموروث نفسه، ويتجاهل أنَّ ما وَصَلنا منه ما هو إلا ما رسبَ من مُقاربات وحقبٍ متعددة ومتغيرة.

ب ـ طموح الفارابي أساساً، ثم ابن سينا، إلى إنشاء نظرية موحدة للإيقاع تضم في آن واحد إيقاع النغم وإيقاع الكلم وإيقاع النقرات: 

التنبه إلى سعة هذا الطموح ربما يُسهّل علينا فهمَ بعض الملامح الغامضة في هذه النظرية، ويسمحُ بالجمع بينها وبين الممارسة التلحينية المشار إليها. وهذا الطموح لم نجد له نظيراً حتى اليوم، وهو حريٌّ بأن نخصّه بنظرة متأنية قد تجد فيه ما يفيدنا في التعامل مع بروز ممارسات موسيقية حديثة تعتمد أساساً على إيقاع الكلمات (كالراب)، وتحتاج إلى إطار نظري للتعامل معها يتجاوز حدّ الإدانة باسم الانتصار للماضي أو الحفاوة باسم المُعاصَرة.

ج ـ حدوث اختلافات جذرية ضخمة في سياق هذه الموسيقى:

ليس من علاقةٍ مباشرة بين التلحين والمُمارسة الإيقاعية وقسمة الكلام وتجزئة الألحان واحترام الفاصلة والابتعاد عن التنافر بين النغمات في كل جزء من اللحن، بحسب ما كان في زمن إسحاق الموصلي وربما الفارابي أيضاً، وبين ما حصل إثرَ ذلك في أيام الأرموي، ومن ثم التغييرات اللاحقة المُتعدّدة على مستوى القوالب وترتيب الوصلات والممارسة الإيقاعية والتلحينية. 

هنالك فجوة هائلة تفصلنا عن تلك الممارسات، ولم يبقَ لنا منها سوى بعض الآثار الضئيلة، وإن فاجأنا بقاءُ بعض التقنيات التي ظلت تُستخدم حتى اليوم في بناء اللحن، من نوع نقل الطبقة إلى أخرى أو نقل اللحن إلى جنس أو مقام آخر (transposition أو modulation)، وهي كما رأينا تقنيات كانت موجودة منذ القدم ومُقنّنة بشكلٍ ما. وهذا يعني أن تلك الألحان أو بعضها على الأقل كانت أعقدَ مما قد نظن، وأكثر حساسية تجاه موضوع التنافر بين الدرجات. ثم إن وصفها لدى الفارابي خاصة يَشهدُ على قدرة فائقة على التحليل والاختزال البنيويين وعزل النغمات الأساسية عمّا كان مجرد تزيين لها، كما يدلُّ كلُّ ذلك على أن تلك الممارسة كانت على قدرٍ عالٍ من التَفنُّن (والأمر نفسه يصح على الممارسة الإيقاعية أيامها)، لكنها فُقِدَت واندثرت ولم يَنتُج عنها تقليدٌ متواصل حتى يومنا هذا.

د ـ التحولات المستمرة للممارسة والقوالب والأبعاد والمدى النغمي:

يجدر بنا التنبّه إلى التغييرات الهائلة التي اعترت الممارسة الموسيقية عبر الأزمنة، مثل موضوع تحولات القوالب المستخدمة في التلحين وتوسع المدى النغمي، الذي شهدَ توسعاً كبيراً ثم انكماشاً بقدر مُماثل قبل أن يعود إلى التوسّع (وقد تكون الأنماط الموسيقية السائدة اليوم مثل الراب وما يُعرَف بالمهرجانات مرحلة أخرى من الانكماش في المدى النغمي، وقد يعقبها لاحقاً توسّع جديد). 

كذلك شأنُ الممارسة الإيقاعية حيث انتقلت من تعامل أرحب مع «عائلات» إيقاعية وامكانيات تركيبية هائلة، لكن مُتعالِقة مع التركيبات النغمية غيرِ منفصلة عنها (ففكرةُ الإيقاع عندهم لم تكن تفصل بين المضراب على الوتر وبين النقر على آلة إيقاعية)، إلى صيغة أكثر إلزاماً بكثير في زمن الأرموي واللاذقي (وإن احتفظت بجانب اختياري في الزخرفة والتحلية)، وصولاً إلى صيغ أبرزَ تَمايُزاً (بالتفريق بين الدم والتك أساساً) حيث انفكَّ الإيقاعُ عن اللحن وظهرت إمكانياتٌ أوسعُ للتلاعب معه (من قبيل دخول المُغنّي قبل الإيقاع أو بعده، أو بين نقرتيه الأولى والثانية، وليس بالضرورة مع النقرة الأولى كما يبدو أنَّ الحال كانت عليه زمنَ العباسيين الأُوَّل).

هـ – تعددية التقاليد الموسيقية في هذه المنطقة من العالم:

لا يمكن في أي عصرٍ من العصور أن تُختزَلَ موسيقى بلاد شاسعة مترامية الأطراف، تمتدُّ اليوم من إسبانيا إلى أفغانستان، في نمط موسيقي واحد، فحتى وجود موسيقى مركزية في بغداد (أو ما يسميه خالد جبران «الموسيقى الفصحى»، بمعنى مركزيتها وليس بمعنى أي نقاءٍ موهوم)، التي تهمنا هنا أساساً بسبب تدوين نظرياتها وإشارات عنها، بسبب قُدرة الخلافة في أيام عِزِّها على استقطاب الموسيقيين، لم يكن يعني بالضرورة هيمنة تلك الموسيقى على كل هذه المنطقة هيمنةً كاملة. 

فقد ظلّت هنالك أذواقٌ وتطوراتٌ وتقاليدُ محلية (كما في مصر والشام وخُراسان وسمرقند) تتفاعل مع الموسيقى البغدادية دون أن تكون مجرد تابع لها، أو تتفاعل مع المدرسة الأرموية في وقت لاحق دون أن تستتبعها هذه الأخيرةُ على الرغم من شهرة بعض أقطابها مثل الأرموي والمراغي.

وبالمثل لا يمكن أن يُختزَلَ أي من المصطلحات الموروثة في معنىً واحد عبر القرون. وإذا ما كانت الأسماء تُتوارَث من عصر إلى عصر، فإن مسمياتها لم تكفّ عن التغيُّر في اتجاهات مختلفة، بل وأحياناً مُناقِضة لأصلها. وهذا يجعل من الواهي محاولات التفسير التي أجراها بعض المحققين أحياناً، مُسقطينَ حقبةً على حقبة أو كتاباً على آخر، بل ينبغي الحذر والتدقيق في مقاربة هذه المصطلحات وتقلُّباتها.

قد لا يكون هذا المقال الطويل بأجزائه المتعددة في آخر الأمر إلا مديحاً للتهجين والتمازُج والتركيب والاختلاط، واحتفاءً بالتغيُّرات التي لا حصر لإمكانيّاتها وما يترتّب على كلّ ذلك من ثراء. فهو في الواقع احتفاءٌ بالحياة الحقّة المُتدفقة وبصمود التيارات المُتعددة، في مواجهة محاولات التوحيد القسري ماضياً وحاضراً، أي أنه احتفاءٌ بالحرية.