ملابس رياضيّة واسعة أو سُترات يغلب عليها اللون الأسود، إضافة للقبعات الرياضية والسلاسل الفضية في الرقبة وشُنَط صغيرة حول الخصر أو على الكتف، هي بعضُ ملامحَ تجمعُ شبابَ ظاهرة «تعالهون» في ألمانيا. وهذه مفردة شاع استخدامها في الأسابيع الماضية بعد تَصدُّرِها «الترند» لتُشكّل ظاهرة أثارت اهتمام الناس سواء من خلف الشاشات أو في محاولة تَرصُّد ملامحها في محطات القطارات في الشوارع الألمانية. «تعالهون» أغنية راب كُتبت باللغتين العربية والألمانية وتتضمن مفردات تُشكّل دعوة صارخة للعنف واستعراض القوة. ظلّت الأغنية موجودة فترةً طويلة على منصة يوتيوب قبل أن يُعيد أحياءها مستخدمو تطبيق تيك-توك من خلال مقاطع فيديو قصيرة، يَظهر فيها الشباب (والفتيات أحياناً) ممّن تتراوح أعمارهم ما بين 15-20 سنة وهم يؤدّون بعض الحركات على إيقاع الأغنية، كاللّكمات في الهواء، أو إشارات اليدين بحركات سريعة يُراد منها إثبات القوة أو التهديد، إضافة للبصق أو التدخين في بعض المقاطع والنظر إلى الكاميرا بنظرة تحدّي. شَكّلت مفردة «تعالهون» بديلاً، أو ربما امتداداً، لمصطلح «عجيان البانهوف»، أي الصِبية من ذوي الأصول المهاجرة العربية والمسلمة غالباً الذين يتجمعون غالباً عند ساحات محطات القطار الألمانية. وسرعان ما علت الأصوات مُحاوِلةً فهم الظاهرة وتحليلها وتَوقُّع آثارها. وهو ما أعادني إلى مكتبي حيث أعمل كمُرشدة اجتماعية في برلين: غرفة صغيرة والكثير من الحكايات!
من هم شباب «تعالهون» وما الأسباب المحتملة لانجذابهم للظاهرة؟
مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المراهقين/ات من الخلفية المهاجرة، وأن هذا ما سُوِّقَ عنها، لكن من الضروري أن نسأل: لماذا تجد نسبة كبيرة من ذوي الخلفيات المهاجرة مكاناً لها في مثل هذه الظواهر؟ وللبحث عن الأسباب، لا بدَّ في رأيي من فهم ملامح هذه الفئة وخصوصيتها. أتاح لي عملي الفرصة لأكون قريبة من تجارب مراهقين-ات تتراوح أعمارهم بين 15-20 سنة في مدينة برلين، ومعرفة الكثير من قصصهم. يصل هؤلاء إلى أوروبا بعد رحلة شاقة في البحر والغابات، وهرباً من عيون شرطة الحدود. يصل البعض مباشرة من سوريا أو العراق أو أفغانستان مثلاً، بينما يستقر البعض الآخر في تركيا أو لبنان لبضع سنوات قبل الوصول إلى أوروبا. وعلى اختلاف المرحلة السابقة للوصول، إلّا أن الكثير من العوامل تجمع بين هؤلاء الشباب، فبدايةً هناك فرق ملحوظ في العدد الكبير من الفتية مُقارنة بالفتيات، وذلك لخوف الأهالي -إن كانوا على قيد الحياة- على بناتهم من مخاطر طريق اللجوء، وتعرُّض الفتيات بالتالي للتحرش الجنسي أو الاغتصاب مثلاً. وبالتالي، يكون الذكور هم كبش الفداء ولهم هدف واضح من المغادرة: «سافروا لتنقذونا جميعا، نحن ننتظر!».
تُلقي هذه المهمة ثقلاً كبيراً على كتف الشباب، وتُشعرهم بالتالي بالعجز والذنب نظراً لأن الواقع لم يكن مُطابقاً لتصوراتهم، فمثلُ هذه الإجراءات المتعلقة بتقديم طلب اللجوء ومن ثم العمل على إجراءات لم الشمل قد تمتد إلى شهور طويلة. إذاً، يصل الشباب دون أي فرد من أفراد أُسَرهم، ترافقهم صدمات نفسية مركّبة نظراً لوجودهم في مناطق الصراع، وبالتالي يكون هؤلاء ممّن شهدوا صدمات نفسية بشكل مباشر (كالإصابة الجسدية بفعل القصف) أو بشكل غير مباشر (مُشاهدة قتلى وجرحى في الشوارع). غُيّبت عنهم مرحلة الطفولة، فقد كانوا أطفالاً بالجسد فقط لا على صعيد التجربة والظروف التي صَيَّرتهم كبارا واضطرتهم للعمل في سن صغيرة بُغية دعم الأسرة في بلدان الأصل أو في البلدان المرحلية خلال رحلتهم، وغالباً ما كان هذا العمل مُجهِداً بدنيّاً (ورش تصليح السيارات، وورشات البناء مثلاً) أو في مجالات تقترن بوصمة اجتماعية سلبية، وتمرُّ في بالي هنا عبارة قيلت لي ولا أنساها: «خجلان منّك لكن كان الشغل في لمّ الزبالة والله يا آنسة»، وهي واحدة من عبارات كثيرة تُذكَر بتردد وخجل في هذا السياق. هذه المعطيات حرمت الشباب من فرصة التعليم، ففي بعض المناطق لم يكن هناك مدارس، وإن وُجِدت قد يكون طريق الوصول إليها غير متاح أو محفوفاً بالمخاطر. وبالتالي، يصل عدد كبير من الشباب إلى ألمانيا مع فقد شبه تام للقدرة على الكتابة أو القراءة باللّغة الأم. وبالطبع ليس كل الشباب الواصلين وحيدين، إذ يوجد الكثير من الشباب الذين وصلوا إلى ألمانيا مع أسرهم أو مع أحد الوالدين، ورغم مرور السنوات لا تزال نسبة كبيرة من اليافعين والشباب غير قادرة على فهم معطيات المكان الجديد والتعامل مع نظام التعليم فيه، مثلاً. وهنا قد يُضاف إلى المشهد ما حمله الوالدان معهما من صدمات نفسيّة وتحديات قبل وأثناء وبعد الوصول، ما قد يؤدي إلى تعطيل دور الأهل الفاعل في دعم العملية التعليميّة أحياناً.
هل يعني الوصول إلى أوروبا تحقيق النجاة؟ وهل يكفي ذلك لخلق تغيير جذري في حياة الشباب؟
للحياة في ألمانيا متطلّباتها من اتِّباع روتين واضح على صعيد التنظيم وإدارة الوقت والالتزام بالمواعيد والتخطيط المسبق. وهذه من السلوكيات التي من المهم للشباب تَعلُّمها بالتوازي مع بِدء تعلم الألمانية. وهنا تبدأ المشاكل في الظهور على السطح. بداية تخيلوا معي، وفق المعطيات السابقة، كيف يمكن يا تُرى لشاب في عمر السابعة عشر، مثلاً، وهو غير قادر على الكتابة والقراءة جيداً بلغته الأم أن ينجح في تعلُّم اللغة الألمانية؟ عوامل كثيرة تقف عائقاً أمام تفكيك هذه الأهداف إلى أهداف قابلة للتطبيق، فمن وجهة نظر تربوية، على الطالب أن يكون في حالة نفسية تُساعد على استقبال المعلومات أولاً، وأن يتمتع بالمهارات الأولية الضرورية لتعلّم مهارة جديدة ثانياً. فضلاً عن المشكلات النفسية التي تُبقي الحاجز بين الأفراد والتعلم قائماً، ففي الكثير من الحالات يُتاح للشباب الحصول على مكان في الصفوف الترحيبية أو دورات اللغة، ولكن في حال انشغال ذهن الشخص بأفكار مثل «تأخرت في لم شمل أهلي»، أو «عليَّ البحث عن عمل لأساعد عائلتي» وغيرها، سيبقى هؤلاء في مكانهم دون أي تَقدُّم يُذكَر. تعيش هذه الفئة الغربةَ بكل أبعادها، المكانيّة منها واللغوية، ممّا يُعقِّد الموقف ويؤدي في حالات كثيرة لتقوقع الأفراد ورفضهم لأي مساعدة من الخارج، خاصة إن واجهتهم أسئلة من قبيل: «ما هي أهدافك بعد الوصول إلى ألمانيا؟»، أو «أين ترى نفسك بعد أربع سنوات؟». يعيش هؤلاء الشباب هذه الأسئلة كعبءٍ ثقيل لا يتقنون التعامل معه، فكيف يمكن لفرد عاش ما عاشه هؤلاء أن يتمتع بالقدرة على رسم تَصوُّر لحياته، هو الذي يشعر بفقد سيطرته عليها منذ سنوات؟
كيف يمكن لِفَهمِ أسباب الظاهرة أن يُساعدنا؟
الفهم لا يعني الموافقة. فالبحث عن الأسباب العميقة التي تُحَلّي «تعالهون» في عيون كثيرين يُقصَد منه البحث بغرض الفهم والمساعدة. قد تساعدنا الملامح المذكورة أعلاه في فهم سبب انجذاب البعض إلى ظاهرة جوهرها العنف، وهو ما لا يمكن أن يكون عبثياً، وغالباً ما يأتي لتلبية احتياج الشباب للشعور بالقيمة والمكانة. قد يعطي التماهي مع مفردات الأغنية بشكل خاص، ومع الظاهرة بشكل عام، هؤلاء الشباب جرعة من الثقة بالنفس بصورة أسرع من أي عملية تعليمية أو إرشادية تتطلّبُ وقتاً وجهداً وقراراً واعياً ومسؤولاً بالتغيير. تُوهِمُ هذه الحالةُ الانفعالية الشبابَ بأن لديهم سيطرة على اللحظة ضمن واقع لا قِبَلَ لهم على التحكم فيه، بل فقط الانصياع لمتطلّباته. أضف إلى أن هذه الظاهرة قد تعطي الفرد شعوراً الانتماء إلى جماعة ما، مع ما يعنيه ذلك من حماية وقوّة.
من المهم كذلك، لِفَهم إشكالية قدرة الأهالي والشباب على ملاحظة السلوك العنيف، أن نفهمَ الدور المُعطِّل لهجرة بعض المفاهيم المحفزة للعنف مع البعض منهم ضمن الظروف الصعبة التي عاشوها. وفي هذا السياق يصعب على الأهالي والشباب ملاحظة وجود العنف ما لم يكن عنفاً (جسديّاً غالباً) واضحاً في تَجسُّده وآثاره (كدمات-نزيف-ازرقاق) وغضّ النظر عن كل السلوكيات التي يمكن تصنيفها تحت نوع العنف الرمزي (كالتهديد والشتم)، ببساطة بسبب عدم قدرتهم على ملاحظتها واستيعاب حقيقة أنها أيضاً عنفٌ يمهّد الطريق لعنفٍ أشد. وبالتالي يكون السؤال هنا: هل يَفهم الشباب أصلاً مضمون هذه الكلمات والرسالة المقصودة منها وتصنيفها على أنها عنف؟ وهل لديهم القدرة على تعريف العنف وتحديد ملامحه وأنواعه؟ وهل تتشابه عتبة العنف عند الأهالي والشباب مع غيرهم ممن لم يختبروا الظروف القاسية نفسها؟
يبدو الأمر معقداً، أليس كذلك؟ كيف للأهل والشباب والمدارس والمرشدين-ات الاجتماعيين والنفسيين إذاً التعاون في مواجهة أسباب ظاهرة مثل «تعالهون»؟
اعذروني إن بدا المشهد أكثر تعقيداً، إذ أن محاولة بسيطة لتحليل دور كل طرف من الأطراف وما يواجه من تحديات كافيةٌ لفهم صعوبة الموقف. لكن لو بدأنا مع الشباب والأهل، فمن المهم أن نكون واقعيين في توقعاتنا وأن نفهم كيف تضع الصدمة النفسية -خاصة إن كانت من فعل إنسان آخر- الأشخاص تحت ما يُعرَف باسم «موضع الكمّاشة»، فيكون للفرد ثلاثة خيارات: المواجهة، أو الانسحاب، أو الجمود في مكانه. هل تتشابه خيارات الجميع؟ بالطبع لا. وقد يمر الفرد نفسه في المراحل الثلاث السابقة، فنرى مثلاً أن بعض الشباب يُبدون حماساً كبيراً للتعلّم في مرحلة ما، لتغيبَ تلك الدافعية بصورة تامة لاحقاً. يُلقي ما سبق الجزءَ الأكبر من العبء بطبيعة الحال على الطرف الآخر، يعني على عاتق المدارس، والمعلمين-ات والمرشدين-ات، وهو أيضاً موضوعٌ شائكٌ لاختلاف درجات الفهم لمعطيات واقع الشباب تبعاً لعوامل ثقافية ولغوية مثلاً. هنالك حاجة كبيرة لوجود ترجمة أو وساطة ثقافية في الجلسات، ولكن في الكثير من الحالات لا تُسهِمُ الترجمة في نقل الحالة الانفعالية والعاطفية تماماً وتبقى بالتالي على درجة سطحيّة من حيث مُقاربتها للحالة، خاصة على الصعيد العاطفي، الذي أصلا يعاني منه الشباب والأهل في اللُّغات الأم (ضعف القدرة على التعبير العاطفي). أضف إلى وجود أعداد كبيرة من الشباب في مقابل نقص كبير في الكوادر التعليميّة التي تعمل ضمن عجلة «السيستم»، ما يُصعِّبُ حصولَ كل فرد بالتالي على الوقت والاهتمام، وقد يُترَك كثيرٌ من الشباب بعيدين عن دوائر الدعم على اختلاف صيغه. وكذلك لأنَّ «السيستم» غير مرن، إلى درجة النزوع للقيام بخطوات محددة بغض النظر عن القيمة الحقيقية للفائدة منها، مثل وضع بعض الشباب في صفوف ترحيبية لتعلُّم اللغة دون أخذ جهوزية الشباب التعليمية والنفسية بعين الاعتبار، ودون الاهتمام لضرورة العمل على تحسينها.
الموقف صعب، وكيفما حاولنا مُقاربته سنجده شائكاً بالتأكيد، لكن التعامل السليم لا شكَّ قائمٌ على صبر كل الأطراف واستعدادهم للمشاركة الفعليّة لمساعدة الشباب، وعلى قُدرة الأطراف على فهم أن النتيجة لن تكون دوماً ناجحة، فقد ننجح مرة ونخفق مرة؛ وهو مرتبط كذلك بتوافر الموارد البشريّة والماديّة وحدودها، فقد يتجاوز الأمر في بعض الأحيان قدرة الأفراد كأفرادٍ على إحداث فرق، ويحتاج تالياً قرارات حكومية تُغيّرُ، مثلاً، من شكل أبنية «سكن الشباب» بحيث لا تبدو كسجن أنيق تُفتَح أبوابه وتُغلَق في ساعة محددة، ولا يتشارك أفراده روتيناً يومياً يشبه ملامح الحياة في بيوت أسرهم.
أذكر مرةً لم يتجاوز فيها أحدهم تفصيلاً في علبة الطعام خاصّتي في المكتب، فقال: «في ريحة زعتر بالمكتب.. شو طيبة!». شعرتُ حينها أن هذه فرصتي، فتقاسمنا الفطائر بكل حب، وبعد الانتهاء من الجلسة شعرتُ أن شيئاً من الكلام والتدريبات لم يُجدِ نفعاً ويترك أثراً كما فعلت فطيرة الزعتر. هذه مُقاربة رومانسية للموقف ربما، لكن القصد منها أن أقول إنَّ الحل قد يكون في الاقتراب من مشاعر الشباب وجوهرهم واحتياجاتهم العاطفية، لأن العنف هنا نتيجةٌ كان الشباب وُقودَها، وهي نتيجة طبيعية ومُتوقعة لكل الصدمات المتراكمة ولكل الذكريات القاسية، وهو الملجأ لكل من مرَّ في تجارب قاسية ولا يملك أداة لغوية أولاً، ومعرفية ثانياً، تُمكِّنه من البحث عن طرق مختلفة لمواجهة الحياة، كل الحياة.
هي ربما محاولة لنُغيِّرَ المعادلة بعض الشيء، وأن نحاول، كل بحسب قدرته وموقعه، أن نقول للشباب: «تعوا لهون لنُفكِّرَ معاً».