لم تكن المواجهات بين مسلحين من العشائر وقوات سوريا الديمقراطية في دير الزور في آب (أغسطس) 2023 مُفاجئة للمتابعين، ذلك أن من يتابع تطورات المحافظة يُدرك أنّ الأوضاع كانت تتدهور على هذا الصعيد بشكل متسارع. إلا أن ما شهدته وتشهده دير الزور لا يمكن تبسيطه بتمرد مجموعة عشائرية انتهى خلال فترة قصيرة، ثم يتجدد الآن بعد عام كاملٍ بدعم صريح من جانب النظام وحلفائه هذه المرة، تماماً كما أنه لا يمكن تضخيمه بالمقابل إلى حدّ وصفه بأنه اقتتال عربي كردي أوصل المنطقة إلى نقطة اللاعودة؛ لكنه يبقى على كل حال واحداً من أبرز المؤشرات على جاهزية المنطقة للانزلاق على طريق العنف في أي وقت.
بعد أيام من القتال الذي دار العام الماضي، استعادت قوات سوريا الديموقراطية سيطرتها على كافة المناطق، وعلى الرغم من إعلان إبراهيم الهفل، شقيق زعيم قبيلة العكيدات، خلفَ الشيخ مصعب الهفل والده الشيخ خليل عبود الجدعان الهفل في مشيخة قبيلة العكيدات، وبسبب تواجده في قطر، أوكلَ الشيخ مصعب لأخيه الأصغر الشيخ إبراهيم الهفل، المتواجد في معقل عائلة المشيخة في بلدة ذيبان الواقعة شرق دير الزور والواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، «بإدارة شؤون القبيلة في سوريا» لحين عودة الشيخ مصعب إلى سوريا. تتزعم عائلة الهفل مشيخة قبيلة العكيدات، واستقرَّ العرف على اضطلاع نسل جدعان الهفل بشؤون المشيخة. وهي واحدة من أكبر العشائر السورية، لمزيد من الاطّلاع، راجع العدالة من أجل الحياة (2017)، أبناء العشائر في دير الزور من الاستقرار إلى الثورة، ديناميكيات الصراع وعوامل السلم الاهلي. تاريخ الاطلاع 25 حزيران 2024. تشكيل «جيش العشائر» لمواصلة القتال، إلّا أن هذا الإعلان لم يؤثر على الحياة اليومية للسكان، خاصة مع غياب قادة العشائر المتمردين عن مناطقهم وانتقالهم إلى مناطق سيطرة النظام السوري.
بعد عام كامل على المواجهة المذكورة، في الأيام الأولى من آب 2024 الجاري هاجم مسلحون نَسبوا أنفسهم لقوات العشائر قرىً خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، انطلاقاً من مناطق سيطرة النظام السوري والميليشيات الإيرانية وبدعم من عناصر متواجدة في المناطق المُستهدَفة. أكَّدَ هذا الهجوم الواسع استغلال القوات السورية وحلفائها، خاصة الجانب الإيراني، الجانب الإيراني هو أكثر من توجه له الاتهامات في التحركات الحالية، في ظل التوتر الإقليمي والأحداث الأخيرة التي طالت طهران وحلفائها في أكثر من دولة في الشرق الأوسط، وبسبب تواجد ميليشيات تابعة له بكثافة في مناطق سيطرة النظام شرقي دير الزور. للتمرد العشائري الذي حدث قبل عام واستخدامها له في مواجهة خصومها.
شكلت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عام 2017، وتأسيس أجسام حوكميّة، مرحلة جديدة في دير الزور، خاصة أنها جاءت بعد سنوات تنظيم الدولة (داعش) العجاف التي سبّبت حرمانها من التعليم والرعاية الصحية والدعم الإنساني، فضلاً عن أشكال من القهر والقمع بالغ العنف كما في مجزرة الشعيطات مثلاً.
يُركّز هذا المقال على التوتر الذي شهدته مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في دير الزور صيف العام 2023، ويسعى إلى تحديد الأسباب التي أدت إليه ويصف مجرياته ومآلاته ويحللها، ويرصد محاولات تطويق التوتر/الأزمة وإيجاد حلول لها، مُعتمِداً على الرصد من جهة وجهود قيادات منظمات المجتمع المدني من جهة أُخرى. لا ينحاز المقال إلى روايات طرفي المواجهة، ويعتبر استغلال أطراف أخرى للصراع (على وجه الخصوص الحكومة السورية وإيران وتركيا)، أمراً لاحقاً لا يُفسِّر عُمقَ التوتر، ويرى أن هذه التدخلات زادت من تعقيد التوتر وخطورته على مناطق الجزيرة السورية. يسعى المقال إلى توجيه الأنظار نحو العوامل الجذرية للتوتر والأزمة، وينتهي بتصورات للخروج من هذا الوضع.
عن دير الزور قبل آب 2024
استعادت دير الزور أنفاسها مع طرد داعش على يد قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وتشكَّلت عقب ذلك مجالسُ مدنية ولجانٌ خدمية وأخرى أمنية لتوجيه عمليات «إعادة الاستقرار» وضبط الأوضاع الأمنية.
أتاحت الإدارة الذاتية عملَ المنظمات المدنية من خلال منح تراخيص للعمل في مناطق سيطرتها، الأمر الذي ساهم في تدفق الدعم المالي إلى المنطقة، والذي تَوزَّعَ على لجان الإدارة الذاتية والمنظمات المحلية والدولية. مع مرور الوقت، لم تحقق الخدماتُ النتائجَ المأمولة منها، وهذا يعود لثلاثة أسباب رئيسية: الأول هو الأضرار الكبيرة التي أصابت البنية التحتية خلال الحرب؛ والثاني هو عجز الجهات المسؤولة عن تقديم الخدمات، لجان الإدارة الذاتية والمنظمات، وعدم إيصالها بشكل مستمر ومتساوٍ لكافة المواطنين والمناطق بسبب قلة الخبرة من جهة والمحسوبيات وتفشّي الفساد من جهة أخرى؛ أمّا السبب الثالث فهو تدهور الحالة الأمنية، العدالة من أجل الحياة (2021)، دير الزور: تنامي المخاوف المحلية بعد سلسلة مخاوف نتيجة «الفلتان الأمني»، تاريخ الاطلاع 20 أيار 2024. حيث لم تتمكن القوى الأمنية والعسكرية المسؤولة عن الملف الأمني، في دير الزور خاصة، من كبح تدهورها طيلة السنوات التي سبقت اندلاع مواجهة العام الماضي.
بناء على ضعف نتائج جهود إعادة الاستقرار، أخذ أبناء دير الزور بالمقارنة بين ما آلت إليه أوضاع المحافظة خدمياً وأمنيّاً بعد تخليصها من تنظيم داعش وبين مناطق أخرى تقعُ تحت سيطرة الإدارة الذاتية، حيث أشارت دراسة صادرة عن منظمة العدالة من أجل الحياة حملت عنوان «مشاركة المواطن في الإدارة المحلية» إلى وجود تفاوت في أداء مؤسسات الإدارة الذاتية: «يوجد تفاوت في عمل المؤسسات الرسمية من منطقة إلى أخرى. لا يوجد اتفاق على سبب هذا التفاوت، لكن يبرز ضعف الكفاءة والعلاقات والمصالح الشخصية وسطوة المال وبعض العشائر والمتنفذين في السلطة، إضافة إلى عدم تخصيص مبالغ كافية تتناسب وحاجة كل منطقة».
كان للعديد من الأحداث المحلية دورٌ في إجراء تلك المقارنة، كفرض بطاقة الوافد على فئة من سكان الجزيرة السورية، وانتشار عصابات السلب والنهب، وارتكاب انتهاكات سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (2022)، شمال شرق سوريا: توثيق حالات تعذيب وسوء معاملة بحق محتجزين، تاريخ الاطلاع 21 أيار 2024. بحق مدنيين كالاعتقالات التعسفية والحبس بدون محاكمة، وانتشار الكوليرا، حيث سجلت دير الزور أرقاماً مرتفعة مقارنة بغيرها من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لصعوبة الوصول إلى المياه النظيفة، إضافة إلى فرض مناهج تعليمية اعتُبرت، من قبل كثيرين، مخالفة للثقافة المحلية.
إضافة إلى التحديات الخدمية، تصدّعت ثقة المجتمع المحلي بالإدارة الذاتية مع الغموض الذي اكتنف المفاوضات بينها وبين النظام السوري، خاصة لجهة عدم معرفة الترتيبات الأمنية التي يمكن أن تنتج عن تلك المفاوضات، وبالتالي، مصير العديد من المناطق نتيجة الترتيبات، ومستقبل مئات الناشطين المُلاحقين أمنياً، والمشكلات الاقتصادية التي تواجه المنطقة في حال الوصول إلى اتفاق مع النظام السوري الذي يواجه عقوبات اقتصادية تنتقل معه أنّى وُجِدَت مؤسساته. ظلّت الإدارة الذاتية تؤكد على أن محادثاتها مع الحكومة في دمشق تأخذ بالاعتبار أمن ومصالح سكان مناطق سيطرتها، وأن المحادثات «تخدم مصلحة سوريا وشعبها». ولا تكمن المشكلة في التواصل بحد ذاته، خاصة وأن مناطق سيطرة قسد في الجزيرة السورية تواجه تحديات كبيرة متعلقة بالتنقل بينها وبين مناطق سيطرة النظام، بالإضافة إلى أزمة التعليم التي يتأثر بها عشرات آلاف الطلبة، وصعوبة الحصول على الوثائق الثبوتية، وبالتالي فإن هذا التواصل يمكن أن يُشكّل فرصة لإيجاد حلول لتلك التحديات على نحو يُسهِّل حياة السكّان اليومية، كما أنه فُرصة لخفض التوتر بين منطقتي السيطرة وقد يُمهّد لأي مفاوضات شاملة مستقبلاً على المستوى الوطني، لكن المشكلة في غياب المعلومات عن مسار التفاوض بين الطرفين ونتائجه المُحتملة على أمن السكّان ومستقبلهم.
لسنوات متتابعة، عبّرَ ممثلون عن أهالي دير الزور، من وجهاء ومنظمات محلية ونشطاء، عن استنكارهم لظروف دير الزور، مستخدمين وسائل سلمية أبرزها التظاهرات الشعبية والإضرابات وحملات المُناصرة الإلكترونية. واجهت القوى الأمنية هذه التحركات بالتجاهل حيناً وبالقمع والتهديد حيناً آخر، لكن دون استخدام العنف المفرط في التعامل معها.
ثم جاءت حملة «تعزيز الأمن» في آب 2023 لتكون نقطة تحوّل في دير الزور، وعزلت قوات سوريا الديمقراطية أحمد الخبيل أبو خولة، قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لها، محمّلة إياه المسؤولية عن تراجع الأوضاع الأمنية وارتكاب الانتهاكات في حق المدنيين. وجاء في بيان العزل أن القرار صدر على خلفيّة «تقارير وشكاوى الأهالي»، كما شمل القرارُ عزلَ أربعة من قيادات مجلس دير الزور، ووعدت قوات سوريا الديمقراطية أن يكون هذا التحرك بداية مرحلة جديدة تشهد فيها المحافظة تَحسُّناً واضحاً في كافة المجالات وخلال وقت قصير.
قوات سوريا الديمقراطية وعشائر دير الزور
لم تستقر علاقة قوات سوريا الديمقراطية مع عشائر دير الزور منذ بسط سيطرتها على مناطق شمالي نهر الفرات، ومن الأمثلة على ذلك الحملات التي قادها قائد مجلس دير الزور العسكري، المُقال، ضد قيادات عشائرية بارزة ومستقرة منذ سنوات طويلة، والتي تمثلّت بالتشهير ومحاولة التلاعب بالمناصب العشائرية. ظلّت علاقة الطرفين بين تصعيد وتهدئة دون أن تتطور إلى صدام مباشر. ورغم محاولات قائد المجلس العسكري (السابق) العبث بالتوازنات العشائرية، مُعتمِداً على حجم قوته العسكرية والدعم المادي الكبير الذي يحظى به، لوحظَ تَوجُّه القيادات العشائرية، حتى شهر آب (أغسطس) 2023، للإبقاء على ردودها متوازنة بعيدة عن العنف، ويمكن إرجاع موقف العشائر هذا أولاً إلى التوازنات العشائرية والرغبة في الابتعاد عن مواجهات جديدة قد يكون حلّها عسيراً، وإلى الاعتقاد بأن تصرفات قائد مجلس دير الزور العسكري حالة طارئة زائلة بالضرورة مع الوقت ثانياً. ومن أوضح الأمثلة التي تَعمَّد فيها قادة العشائر الإبقاء على حالة الهدوء وضبط ردود أفعالهم هو الموقف من اغتيال مطشّر الحمود الهفل، أحد أبرز الزعماء في قبيلة العكيدات، اغتيل العديد من النشطاء والوجهاء القبليين خلال السنوات السابقة، وهو ما راكم اتهامات لممثلي قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور بالمسؤولية عن الانفلات الأمني. للاطلاع أكثر، العدالة من أجل الحياة (2020)، تداعيات الاستقرار الهش وانتهاكات حقوق الإنسان، تاريخ الاطلاع 22 حزيران 2024. والتي نجا منها الشيخ إبراهيم الهفل، حيث اقتصر ردُّ الفعل على تجميع الآلاف في ديوان قبيلة العيكدات، والتأكيد خلال التجمّع على قدرة العشائر على حماية نفسها والتأثير في المنطقة، بدون تحميل أحد المسؤولية بشكل مباشر.
حاولت العشائر بهذا التصعيد المنضبط إيصال رسالة مفادها أنّها قادرة على الحشد، ودلّلَ التصرّفُ على أن المسافة كبيرة بين قيادات قوات سوريا الديمقراطية، خاصة ممثليها في دير الزور، وقيادات القبائل، وأنّ عوامل الصدام تتفوّقُ على عوامل التوافق.
إضافة إلى ما سبق، من المفيد النظر هنا إلى خارطة علاقات قوات سوريا الديمقراطية مع زعماء القبائل الرئيسيين في دير الزور، ويمكن القول بأن قسد لم تستثمر وجودها في تحسين علاقاتها مع العشائر، بل كان المفهوم الزبائني للعلاقة هو المسيطر على استراتيجيتها بهذا الشأن، وهو ما أثبتت مجريات الأحداث في دير الزور حتى قبل التوتر/الأزمة في آب(أغسطس) 2023 فشله في نقطتين؛ الأولى إخفاق حلفاء قسد من القيادات العشائرية في تحقيق إنجازات في إطار تحسين أداء مؤسسات الإدارة لصالح أبناء المحافظة، والثانية هي الفشل في إعادة الهدوء بعد إعلان التمرد العشائري المسلّح. كما لم تستثمر قسد بالارتياح المحلّي الذي رافق دخولها وطرد داعش لبناء علاقة متوازنة قائمة على الثقة والتشاور المستمر مع قيادات عشائرية ذات وزن اجتماعي كبير، وتركت المجال لقادة عسكريين محليين انصاعوا لأطماعهم في السلطة والنفوذ، وعبثوا بالعلاقة مع تلك الزعامات العشائرية بشكل كان واضحاً أنه سيؤدي، لا محالة، إلى الصدام.
دور الصراع الداخلي في قسد في إثارة التوتر/ الأزمة
من المُرجَّح أن تمرد الصيف الماضي، والذي تزامن مع إقالة قائد مجلس دير الزور العسكري، لم يكن مُخطَّطاً له، خاصة وأن الإقالة هذه كانت مطلباً أساسياً من كافة القوى المحلية، وتُعتبَر إقالته مصلحة للقيادات العشائرية التي خاضت صراعاً غير مُعلَن معه كما ذكرنا سابقاً.
لكن المواجهات المسلّحة التي دارت بين قسد والعناصر التابعين لها، الذين رفضوا قرار إقالة أحمد الخبيل وهُم من أبناء العشائر، توسَّعت شيئاً فشيئاً وأدت إلى وقوع ضحايا بين المدنيين وقطع الطرق على عدد من القرى. يبدو أن هذه الظروف شكلت اللحظة الفارقة التي انتظرها زعماء بعض القبائل لاستعادة هيبتهم ولملمة ما خسروه من رمزية جرّاء تصرفات العسكري المُقال أبو خولة. وهو ما ظهر في رسائل الزعامات القبلية التي ميّزت نفسها عن أبو خولة، وأكّدت على أن أي تحرك لها سيكون نُصرة للأهالي والضحايا وليس دفاعاً عن عسكري عصى قيادته، مُعلِنة عن مطالب محددة لعودة الهدوء، ومُعتبِرة أن القتال بين قسد والمجلس العسكري شأنٌ داخليٌ لا يعنيها. تطابقت مطالب زعماء العشائر مع المطالب المحلية، التي عبر عنها الأهالي خلال السنوات السابقة، خاصة المتعلقة بإدارة المنطقة وثرواتها، ويمكن تفسير ذلك في إطار الرغبة في إعادة الاعتبار لرمزيتهم ومكانتهم من خلال إبراز قدرتهم على الدفاع عن أبناء عشائرهم.
ظلت رسائل زعماء العشائر تتطور بشكل متسارع إلى أن وصلت إلى إعلان النفير العام في مواجه قسد، رافضة أي حوار معها، مُحمِّلةً إياها المسؤولية عن تدهور الأوضاع في دير الزور، وداعية إلى الحوار مع التحالف الدولي حصراً.
بالمقابل، اتّضحت رغبة قسد، في البداية، في عدم توسيع المواجهات من خلال سحب قواتها من المناطق المأهولة الأساسية وإعادة تجميعها في مناطق أخرى، وتأكيدها المستمر على أن عمليتها الأمنية مُوجَّهة حصراً ضد ما أسمته العناصر الخارجة على القانون. ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين؛ الأول هو عدم رغبة التحالف الدولي وقسد في توسيع المواجهات مع العشائر وبالتالي تصاعد مشاعر العداء تجاههما، والثاني عدم توقع قسد للتصعيد العشائري المفاجئ، خاصة أنها اعتقدت أن قرارها بإقالة قائد مجلس دير الزور العسكري استجابةٌ للإلحاح المحلي؛ وبالتالي فضلّت تجنب توسّع الصدام.
مع تطور المواجهات، اتهمت قسد الحراك العشائري بالتعاون مع حكومة دمشق، وأن قادة الحراك، وعلى رأسهم شقيق زعيم قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل، يتلقون الأوامر والتمويل من الأجهزة الأمنية السورية بشكل مباشر، وهي بذلك مُجبَرةٌ على مواجهة هذا الحراك من باب «واجبها في منع تدخل أطراف خارجية»، وهو ما تحدَّثَ عنه العديد من النشطاء السياسيين والوجهاء العشائريين مؤكّدين أن النظام في دمشق حاول تأجيج الأزمة وعرض دعم التمرد مباشرة.
إعلانُ النفير العام من طرف العشائر، وسيطرتهم على مناطق عديدة في ريف دير الزور الشرقي والشمالي، وقرار قوات سوريا الديمقراطية المضي قدماً في ردّها العسكري كخيار وحيد لإعادة السيطرة على المناطق، أشعلَ مواجهات عسكرية عنيفة لم تشهد دير الزور مثيلاً لها منذ إعلان انتهاء العمليات العسكرية في مواجهة تنظيم الدولة عام 2019. وقد تأثَّرَ المدنيون، كالعادة، بقرارات المواجهة العسكرية، وسقط العشرات بين قتيل وجريح فضلاً عن الأضرار المادية الجسيمة.
الموقف الثالث
على عكس الشائع، فإن المواقف في دير الزور، خلال التوتر/الأزمة، لم تنحصر بين تأييد التمرد العشائري المسلح وتأييد ردِّ قوات سوريا الديمقراطية عليه فقط، وهو ما رَوَّجت له وسائل إعلام وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، بل ظهر موقفٌ ثالث لدى عدد من منظمات المجتمع المدني والوجهاء المحليين. وقد بُني هذا الموقف على ركيزتين؛ الأولى هي الرفض القاطع لاستخدام السلاح كحل للتوتر/الأزمة حفاظاً على سلامة الأرواح والممتلكات وحرصاً على عدم الانجرار في طريق العنف، مع التشديد على أن يكون الحوارُ الطريقَ الوحيد للوصول إلى حل طويل الأمد؛ والركيزة الثانية أن يقوم أي حلٍّ على مُعالجة المشكلات الأمنية والخدمية والاقتصادية التي تواجه دير الزور، والتي رأى فيها أصحاب هذا الموقف لُبَّ الأزمة، معتبرين أن حمل السلاح من مجموعة من أبناء المنطقة ليس هو أزمتها الرئيسية.
انعكس هذا الموقف بداية من خلال تصريحات متفرقة، وتمثَّلَ خلال أيام في مبادرات عديدة، وصلت إلى سبع مبادرات، طرحها نشطاء سياسيون ومدنيون وتجمعات ومنظمات مدنية قُدَّمت جميعها لقيادة قوات سوريا الديمقراطية وقادة العشائر، تضمنت تحليلاً لأسباب الوضع الحالي، ومطالب رأى أصحاب المبادرات أن في تلبيتها حلاً جذرياً للأزمة.
لم يحظَ هذا الموقف بالاهتمام الكافي في ظل التراشُق المتبادل للاتهامات بين مؤيدي طرفي المواجهة، بل أكثر من ذلك تعرَّضَ الداعون إلى الحوار ورفض المواجهات المسلحة إلى تشهير واسع على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وظلّ التركيز، والتحشيد، حول دعوات اللجوء للعنف، كما لوحظت قلّة الثقة في فاعلية المبادرات المدنية والقائمين عليها من قبل الأطراف الفاعلة المحلية، سواء قادة العشائر أو قادة قوات سوريا الديمقراطية، أو الأطراف الفاعلة الدوليّة كالمسؤولين الأميركيين عن ملف شمال وشرق سوريا.
لم تكن كلُّ المبادرات مُعلَنة، فبعضها طُرح على وسائل التواصل الاجتماعي وتم تداوله على نطاق واسع، فيما فضَّلَ القائمون على «المبادرة المدنية/خارطة طريق للحوار في دير الزور» الحفاظ على مرونة مبادرتهم للتكيُّف مع التغييرات المُتسارعة على المستويين العسكري والسياسي، مع السعي المتواصل لأن تكون المبادرة مَحلَّ تَوافُق، واقتصروا على طرحها للنقاش على مستوى المنظمات المدنية والإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية وعدد من قادة العشائر. ولم تَطرح «المبادرة المدنية/خارطة طريق للحوار في دير الزور» مطالب مباشرة، بل سعت بالشراكة مع الأطراف الفاعلة المحلية إلى إيجاد منهجية حوار متعددة الأطراف وشفّافة تضمُّ منظمات المجتمع المدني والعشائر والإدارة الذاتية.
ساهم الموقف الثالث هذا في تركيز الإدارة الذاتية على المطالب المحلية التي تضمنتها المبادرات، حتى أن المطالب انعكست في مخرجات مؤتمر تعزيز الأمن والاستقرار الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا (2023)، «بجملة من المخرجات.. الإدارة المدنية لدير الزور تعقدُ مؤتمر تعزيز الأمن والاستقرار بدير الزور»، تاريخ الاطلاع 19 حزيران 2024. الذي عقدته الإدارة الذاتية في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2023. كما أن جهود المبادرات تجاه القوى الفاعلة المحليّة، وما حظيت به مطالبهم من توافق محلي، حشد مواقف مسؤولين عن الملف السوري في عدد من البعثات الدبلوماسية الأجنبية حول ضرورة اللجوء إلى حوار ذي مصداقية لحل الأزمة في دير الزور. والأهم، أن تلك المبادرات ساعدت في الحد من انتشار الخطابات العنصرية خاصة في محافظتي دير الزور والحسكة.
أبرزت المبادرات المدنية، ودعوات العديد من الوجهاء المجتمعيين التي تلاقت معها، تطورات مهمة على مستوى الوعي السياسي والاجتماعي في دير الزور، ويمكن تلخيص تلك التطورات في: أولاً، الرفض القاطع للعودة إلى الحرب كدرس مُستفاد من سنوات الحرب السابقة وتداعياتها؛ وثانياً، في ضرورة توضيح حدود دور زعماء العشائر من جهة، وتوضيح حدود العلاقة بينهم وبين الإدارة الذاتية من جهة أخرى، حيث أظهر تضخّم دور زعماء العشائر في السنوات السابقة تأثيراً سلبياً على عمل أجسام الحوكمة المنهكة أساساً؛ ثالثاً، الإدراك، من خلال تجربة الحرب المأساوية، بأن المشاركة المحليّة المُنظَّمة والمستمرة هي ضرورة منطقيّة لكل حل مستقبلي للتوتر/الأزمة.
لم يَخلُ طرحُ المبادرات من تحديات ذاتية أهمها المنافسة بين القائمين على بعض تلك المبادرات، وتَشابُه المطالب الواردة في المبادرات، والذي طرح سؤالاً مهماً حول سبب تعدد مبادرات تشتمل على المضمون نفسه إلى حد كبير، إلّا أن هذا تم تجاوزه من خلال نقاشات مُعمَّقة بين القائمين على المبادرات.
قرارات الإدارة الذاتية بإعادة الهيكلة
أطلقت الإدارة الذاتية حوارات مكثفة فور عودة الهدوء إلى مناطق دير الزور، قادها مسؤولون مدنيون وعسكريون وحضرها قادة عشائر وممثلون عن منظمات مدنية وشخصيات مؤثرة وسياسيون، ناقشت أسباب التوتر وسُبُلَ الحل. اتّسمت الحوارات، وفق عديد الشخصيات المشاركة، بالصراحة، وحمّلَ عددٌ من المشاركين المسؤولية عن أوضاع المحافظة لسوء أداء مؤسسات الإدارة الذاتية في دير الزور، مطالبين بالإيفاء بوعود إعادة الهيكلة والإصلاح التي قطعتها الإدارة على نفسها منذ سنوات.
نتجَ عن تلك الحوارات عقد الإدارة الذاتية مؤتمر «تعزيز الأمن والاستقرار في دير الزور» بتاريخ 22 تشرين الأول 2023، الذي حضره مسؤولون عن الإدارة الذاتية وشخصيات مجتمعية، وانتهى بعشرات التعهّدات التي عكست معظم نتائج الحوارات التي سبقت المؤتمر.
خلال الأشهر التي تلت المؤتمر، صدرت قرارات تعيين وإقالة عديدة طالت المجلس المدني لدير الزور ولجان تابعة له كالصحة والزراعة، وأُعيد تشكيل المجلس التشريعي في المحافظة الذي كان غائباً خلال السنوات السابقة. سعت التعيينات الجديدة إلى إشغال المناصب الرئيسية في مؤسسات الإدارة الذاتية بأشخاص مشهود لهم بالسمعة الحسنة والكفاءة، إلّا أنها اعتمدت الآليات السابقة نفسها في التعيين، والمبنيّة على استشارات مُركَّزة مع قادة العشائر وتشكيلٍ أَساسُهُ تقسيم المناصب على العشائر.
يمكن وضع مجموعة ملاحظات على حوارات السلطة ونتائجها:
– المسؤولون في الإدارة الذاتية أصرّوا على قيادة الحوار، وهو ما أظهر الإدارة كخصم وحكم في الوقت نفسه.
– اعتمدت الإدارة الذاتية، في عملية إعادة الهيكلة التي نتجت عن الحوار، الطريقة ذاتها في التعيين، وفضَّلَت الحفاظ على مبدأ المُحاصَصة العشائرية، لا بل عززته لكسب المزيد من ودّ العشائر بعد التمرد الذي أحدث توتراً كبيراً في المنطقة. تزيد هذه الطريقة في التعيين، خاصة في مثل الظروف التي تمر بها دير الزور، من تعميق الانقسام العشائري وتزيد من انخراط قوات سوريا الديمقراطية في هذا الانقسام.
– لم تُقدِّم السلطة أي ضمانات عملية للمسؤولين المُعيَّنين بالتمتع بصلاحيات كاملة لإحداث الإصلاح المنشود، كما أن الإدارة الذاتية لم تحسم مسألة إعادة هيكلة القوى الأمنية والعسكرية.
– رغم قرارات إعادة الهيكلة، دعت الإدارة الذاتية لإجراء انتخابات بلدية، ولم تُبيّن أسباب هذه الدعوة وسبب اقتصارها على البلديات فقط، ولم توضح سبب عدم إقرار مبدأ الانتخاب لاختيار قيادة المجلسين المدني والتشريعي. ومع ذلك أجلّت الإدارة الذاتية موعد الانتخابات لمرتين، المرة الثانية من دون تحديد تاريخ. وأشارت الدراسة الميدانية «مشاركة المواطن في الإدارة المحلية»، والتي سبقت الإشارة إليها، إلى أن «الظروف الحالية غير مؤاتية لإجراء انتخابات تتوافر فيها شروط النزاهة. من المهم عدم إجراء انتخابات في الوقت الحالي لأنها لن تؤدي إلى تحقيق تغيير في الشكل أو الأداء».
المَخارج
بعد مرور عام على التوتر في دير الزور، فإن جهود المنظمات المدنية والإدارة الذاتية تشير إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى هي صوابيّة الموقف الرافض للعنف والإصرار على حوار متعدد الأطراف، وصحّة توصيفها بأن جذر المشكلة قديم ويكمنُ في إهمال وتقصير إداري وأمني، والنتيجة الثانية هي وجود انقسام، سواء في الإدارة الذاتية نفسها أو حتى بين المسؤولين عن إدارة ملف الجزيرة السورية في بعض البعثات الدبلوماسية الأجنبية، إلى تيارين أحدهما يرغب بالمضي قدماً في الاستجابة للمطالب بشكل سريع وبدون مماطلة، والثاني لا يمانع في إحداث تغيير على أن لا يمسّ سلطات وصلاحيات القوى السياسية والأمنية والمجتمعية المُتنفِّذة.
تُشكل سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وأجسام الحوكمة المُشكَّلة في «شمال وشرق سوريا»، وهامشُ الحرية الأفضل نسبيّاً إذا ما قورن بقوى السيطرة السابقة، فرصةً لتحسين عمل المؤسسات الخدمية وبالتالي تحسين حياة السكان اليومية، وهذا يتطلب، وقبل كل شيء، بناء الثقة بينها وبين المجتمعات المحلية، الأمر الذي يبدأ بإقرار عملي لمبدأ مشاركة ممثلي السكان المحليين، سواء في إدارة المجالس المدنية على مستوى المحافظات، أو في تمثيل المنطقة سياساً. وهنا فإن على الإدارة الذاتية إنجاز مراجعة شاملة لنهجها في إدارة وتقديم الخدمات في مناطق سيطرتها من جهة، ولعلاقتها مع القوى السياسية والمدنية على المستوى الوطني من جهة أُخرى.
يمكن الانطلاق من إقرار مفهوم مرن للإدارة الذاتية، بوسعه تقديم الخدمات بدون تمييز وتحت رقابة مؤسسات نزيهة، وقادر على الحفاظ على استمراريته في ظل التعقيدات الإقليمية والدولية والتغيُّرات في المواقف السياسية تجاه سورية. ينبغي أن يُبنى مفهوم الإدارة الذاتية على تمكين المواطنين من إدارة مناطقهم واختيار ممثليهم في مؤسساتها، ونزع كل جمود عن طريقة الإدارة المتبعة وعن خطابها السياسي، وبهذا المفهوم يمكن أن تكون الإدارة الذاتية هي المظّلة التي سيكون من مصلحة سكان المنطقة الحفاظ عليها.
إن الهجمات المسلّحة التي شهدتها دير الزور في الأيام القلية الأخيرة تُعيد التأكيد على أن مقاربة شاملة لإدارة مناطق الجزيرة السورية وتمثيلها سياسيّاً هي الطريق الوحيد لاستمرار حمايتها وتحويلها إلى أحد منافذ الأمل القليلة المتبقية في البلاد، وهي التي تُمكِّنها من تقديم نفسها كورقة لا يمكن تجاوزها في أي حلٍّ سياسي مهما كانت العوائق السياسية الإقليمية والدولية.