تفضَّلَ الصديق عبد الله أمين الحلاق بالردّ على مقالتي «من، وماذا، بقي للسوريين فعلاً؟!» المنشورة في الجمهورية 22 تموز (يوليو) 2024، عبر مقالة «في نقد سوريا العظيمة والمقدسات التي أنجبتها» المنشورة في الجمهورية أيضاً بتاريخ 31 تموز 2024، تناولَ فيها مجموعة من القضايا، التي تتجاوز في رأيي مُجرّد الردّ على مقالتي. ما يعنيني هنا ليس الدفاع عن مقالتي أعلاه، التي هي في كل الأحوال واضحة في كامل تفاصيلها ورهاناتها ومن السطر الأول فيها، بقدر ما أرغب فعلياً في مواصلة النقاش، مع الصديق عبد الله ومع أي شخص راغب في المشاركة في هذا الجدل، من النقطة التي شَكَّلت في رأيي نقطة ارتكاز ردّ عبد الله أمين الحلاق، وهي تلك التي تتعلق بـ «الحامل الاجتماعي» لما دعوتُ ودعا غيري إليه من عمل جماعي يمثل السوريين، أينما كانوا، ويجمعهم في إطار سياسي واضح الملامح ومُعلَن ويحققُ ولو حدّاً أدنى من الإجماع عليه. الحامل الاجتماعي هذا هم السوريين أنفسهم، بصفتهم شعباً.
الاستبداد بصفته مُكوِّناً لشعب ما
إن أخذنا بالتعريف العام لأي شعب من شعوب العالم، حيث الشعب هو مجموعة من الأفراد تجمعهم هوية مشتركة تتشكل بناءً على عناصر متعددة، مثل اللغة أو الثقافة أو التاريخ المشترك أو الدين أو الأصل العرقي، يعيشون في منطقة جغرافية معينة أو ينتشرون في مناطق متعددة، ويرتبطون بشكل من أشكال التنظيم السياسي أو الاجتماعي، ولهم تطلعات أو مصالح مشتركة؛ فإننا يمكن أن نستنتج بأن السوريين، وبناء على العموميات أعلاه، شعبٌ واحد، أقله حتى عشية انطلاق ثورة السوريين ضد الاستبداد الأسدي. بل ويمكننا القول بأن التعريف أعلاه نسي العامل الأكثر حسماً في جعل «السوريين» شعباً واحداً، طيلة معظم سنوات حياة الدولة السورية الحديثة، وهو الاستبداد نفسه.
لقد كان هذا الاستبداد هو اللُّحمة التي جمعت السوريين، رافعاً مرتبة «الانتماء الوطني العام» إلى قداسة، لم يحترمها أحد وبالذات سَدَنةُ معبدِ تلك «الوطنية» قبل الجميع. نعم، سوريا قبل حقبة الاستبداد الأسدي كانت دولة حديثة الولادة، و«مجتمعات» أقدم بكثير من تلك الدولة، إلا أن المؤشرات كانت تقول بقبول عام من قبل مختلف تلك المكونات، المجتمعات، لهذه «الدولة القُطرية»، حسب الرطانة البعثية السائدة طيلة سنوات الحقبة الأسدية السوداء. هذا القبول، الأولي، لم يَدُم وقتاً كافياً للحديث عن إجماع ملموس يمكن أن يُقاس كما تُقاس إجماعات البشر عادة. هي بضع سنوات فقط بُعيدَ تأسيس «الدولة السورية»، حيث لم تلبث أن بدأت الدبابة الأولى بإطلاق نارها، بُعيدَ نكبة فلسطين مباشرة، مُعلِنة بدء عصر الاستبداد المُسلّح، الذي لم يلبث بدوره أن وصل ذروته مع استيلاء مُكوِّن واحد، من مكونات هذا «الشعب»، على كامل مقاليد السلطة والقوة في كل تلك البلاد، التي أحرقها بمن فيها فيما بعد.
من دولة قريش إلى دولة الأسد
وحتى لا يكون الاتهام مُقتصِراً على هذا «المكوِّن» وحده، فإنني أزعم أن النتيجة كانت ستكون واحدة فيما لو قُدِّرَ لـ «مُكوّن» آخر أن يصل إلى مفاتيح السلطة ويحتكرها لنفسه. المشكلة في جوهرها كانت أصلاً في طبيعة تكوين الدولة نفسها، عبر تاريخنا كله، وليس فقط عبر التاريخ، القصير جداً، للدولة السورية حديثة الولادة. الدولة في منطقتنا كانت دائماً دولة هويات، وليست دولة عقد اجتماعي. بما يعنيه الأمر من ارتكاز السلطة نفسها على وجود «الفئة الغالبة» التي تتحكم بكامل مقدرات السلطة، من دولة قريش إلى دولة الأسد.
طبعا هنا يمكن الحديث بإسهاب عن الاستثمار الأسدي في تكريس الانتماء المادون دولتي، الطائفي والعشائري والجِهَوي والعرقي، لتكريس سلطته فوق الجميع، ولكن في نهاية المطاف، لم يأتِ الأسديون بشيء جديد على «الثقافة السياسية» السائدة في منطقتنا. هم وجدوا بنية جاهزة استثمروا فيها، بأدوات حديثة من بقايا مرحلة الانتداب، فأخذت دولتهم شكلَ دولة حديثة ومضمونَ دولة قديمة مغروسة جذورها في عمق تاريخنا، حيث الاستبداد كان العامل الحاسم في إبقاء سوريا واحدة، وبصفتها «سوريا الأسد» قبل أي شيء آخر.
وبالتالي يمكننا القول، بالاستناد إلى «تاريخ» التجربة السورية المشتركة، إنَّ تَحوُّلَ القبول الأولي إلى قبول أكثر عُمقاً وتجذّراً لـ«الدولة السورية» من جهة «المجتمعات» الخاضعة لسلطتها، هذا التحول ما أتيح له الحدوث لافتقاره إلى دافعه الأساسي: الاقتناع بأن هذه الدولة موجودة لحماية مصلحة شعبها كله، وليس لمصلحة فئة محددة منه، كائنة ما كانت.
المصلحة، التي كانت المحور الأساسي الذي بَنيتُ عليه مقالتي آنفة الذكر، وعندما تكون هي المُرتكَزَ الذي يُبنى عليه اجتماعٌ بشريٌ ما، فهذا في جوهره يُعتبر اعترافاً بحق الفرد، بصفته جزءاً من هذا الاجتماع، في أن يتّخذَ قراراته بناء على تلك المصلحة، أي بصفته نداً مُقرِّراً بناء على ما يراه هو من مصلحة له، وليس تابعاً أو خاضعاً لأي رابطة مفروضة عليه بحكم انتمائه إلى جماعة ما، رابطة دم أو عقيدة. كنتُ قد فصّلتُ في النقاط المذكورة أعلاه في مقالة منفصلة عن «مجتمعات العقد ومجتمعات الهوية» والفوارق بينهما.
بالنسبة إلى موضوعنا الحالي، وبالحديث عن جماعات، أو مجتمعات، سورية، فإن ما يصحّ على الفرد، يصحّ أيضاً على الجماعات المنضوية في تحالفات أو «عقد اجتماعي» يربطها بجماعات أخرى (هذا بمعزل عن الحريات الممنوحة للأفراد المنضوين تحت لواء تلك الجماعات أو المجتمعات، فهذا موضوع آخر ناقشته بالتفصيل في مقالات أخرى، ومن ضمنها المقالة المتعلقة بمجتمعات العقد ومجتمعات الهوية).
وبالتالي، فنحن نتحدث هنا عمّا يُفترض أن يكون جماعات متساوية فيما بينها، ويحقُّ لها جميعها، بحيازتها على تلك «الندّية» التي تجعلها مُساوية لأية جماعة أخرى، بأن تُقرّر دورها في أي «عقد» مطروح، سواء بالمشاركة فيه، وتعديله بما يخدم ما تراه مصلحتها، أو عدم المشاركة فيه كونه لا يحقق أياً مما تراه مصالح لها. وبالتالي، فإن البحث عن معنى لكلمة «شعب سوري» لا يمكن أن يكتمل دون الإشارة إلى نوع الرابط المفترض أو الممكن التحقق في المستقبل القريب، بعد أن انهار ذلك القديم القائم أصلاً على قائمة واحدة: الطغيان. إنها المصلحة مرة أخرى، وكما تراها، الأطراف، الجماعات والأفراد، المُنضمّون بكامل إرادتهم الحرة إلى العقد الجامع بينهم.
أين تكمن مصلحة الأطراف، الخارجة للتو من «وهم» أنها تنتمي إلى شعب واحد: الشعب السوري؟ أي، وبتعبير آخر قريب مما ذكره عبد الله: كيف يمكن لهذه الجماعات، أن تكون «حاملاً اجتماعياً» لمفهوم جديد ورؤية مختلفة تماماً عمّا اعتدناه، عن هذا الشعب، وبالاستناد إلى مفهوم المصلحة أعلاه؟
ما الذي يجمعنا، في لحظتنا هذه؟!
سوريا القديمة، سورية الأسد في معظم مراحلها، انتهت. وهذا، للحق، خبر سار جداً لجميع ضحاياها من السوريين، وبقية جيرانهم العرب. الآن، وبالنسبة للجماعات الخارجة من تلك «الحفرة»، ما هو المستقبل؟! هل يمكنهم الاستمرار كـ«شعب» سوري، أم أنهم يريدون العيش منفصلين بصفتهم شعوباً تؤسسها تلك «المجتمعات» المُكوِّنة لسوريا القديمة تلك؟! الحق أن أحداً لا يستطيع افتراض وجود إجابة واضحة عند كل الأطراف، بحيث ينوب عنهم جميعاً طارحاً تلك الإجابة، سلباً أو إيجاباً، بصفتها هي مطلبهم جميعاً. حتى الافتراض بأنهم قد يسعون إلى أن يُعيدوا تأسيس سوريتهم على أسس جديدة، فهو يُطرح بصفته احتمالاً، وهذا فقط لتوضيح المفهوم أعلاه: المصلحة. حيث لا يمكن أن نبني أي افتراض جديد، لأية صيغة ممكنة لأي عمل جماعي، أو حتى فردي بحت، دون المرور بتحديد واضح لتلك المصلحة: كيف، ومتى، وأين، والأهم مع من؟
النظر إلى الوضع الحالي للسوريين، كجماعات متفرقة، يقول بوضوح إنه لا يحقق أية مصلحة لأي «جماعة» من تلك الجماعات. وباستثناء المُموِّلين والمُقرِّرين الإقليميين، فإن السوريين، بمختلف جماعاتهم، هم الضحايا المباشرون، والأكثر بؤساً، لهكذا وضعية. يمكن استثناء المحظوظين منهم، الذين وصلوا إلى «برّ الأمان» الغربي. غير هذا، فإنهم جميعاً، سواء داخلَ المُزَق التي صارتها سوريا، أو لاجئين في أي بلد «شقيق» ابتلاهم الله بالفرار إليه، فإن وضعهم يتنافس في احتلال حضيض البؤس.
إذن القضية ليست في افتراض مسبق، أو وهم، أو «حكاية مُؤسِّسة» ما، تتحدث عن وجودٍ ما لشعبٍ ما اسمه الشعب السوري، وهو جاهز للبدء في مشروع نمو وتطور، أو أي مشروع مبشر آخر لمجرد بدء الدعوة إليه على طريقة الحشود الجاهزة للانطلاق إلى المعركة، بل إن القضية ببساطة في واقع مأساوي تقاسمته فئة، أو فئات متعددة، من الناس، كانوا فيما مضى نزلاء سجن شديد التوحش وخاضع لحراسة صارمة، انهار فوق رؤوسهم جميعاً، وصار حتمياً عليهم أن يجدوا أية فرصة للخروج من هذا الكابوس. إذن يصبح من المنطقي، والحال هذا، أن نبدأ بالسؤال عن كيفية الخروج من هذا البؤس، وما إذا كان المشروع بأكمله ممكناً بشكل جماعي، أو كل جماعة بجماعتها حسب المبدأ السوري الشهير «كل مين على دينه، الله يعينه».
يصح هنا القول بأن هَمَّ، وليس وهمَ، الخروج من هذه الوضعية، جماعيٌ عند مختلف الفئات المذكورة أعلاه، بسبب حالة البؤس التي يعيشون بها، باستثناء أصحابِ «النِعَم» ممّن يعيشون في الغرب. أولئك، مع الانتباه إلى أن جزءاً مهماً منهم شارك في الثورة السورية وقدم تضحيات كبيرة بدوره، ما كان من الممكن لهم أن يُستقبَلوا في «برّ الأمان» الذي لجؤوا إليه لولا تضحيات عموم السوريين ومنهم تلك الغالبية الكبرى، أي الذين بقوا في البلاد وأصبحوا بدورهم ضحايا بسبب تلك الثورة بالذات، التي قدَّم كثيرون منهم كل شيء لها، وخسروا بالمقابل كل شيء. وهذه بحد ذاتها مفارقة، تجعل أولئك «المُنعمين»، سواء شاركوا في الثورة وضحوا بالكثير من أجلها أو لم يشاركوا، أمام تساؤل مشروع جداً عن دورهم في مساعدة أولئك الذين علقوا في الجحيم أعلاه (لولا ثورة السوريين ما كان من الممكن لسوري واحد أن يجد فرصة لجوء سهلة في أي بلد أوروبي، هذه حقيقة، عدم الاعتراف بها يضعنا أمام مشكل أخلاقي قبل أي شيء آخر).
والذين وصلوا تمكنوا من الدخول في برامج إدماج، يستحيل ألّا تكون ناجحة، ليس بإرادة السوريين وحدهم، بل بقرار من الدول المستقبلة التي أخذت على عاتقها مسؤولية إيوائهم. من المهم هنا الإشارة إلى أن حكومات تلك الدول، لا يمكنها أن تبرر موقفها أمام ناخبيها، بالإنفاق على الوافدين الجدد من الضرائب التي تُقتطع من دخول أولئك الناخبين، دون أن يكون هناك نجاح ملموس في عملية إدماجهم وإدخالهم في سوق العمل ورفده بدماء جديدة تحقق له نمواً إضافياً، وبنِسَبٍ واضحة جداً ومقنعة. لولا هذا، ما استقبلَنا أحدٌ في بلاده ولا أعطانا أية فرصة، سواء بقينا نتحايل على قوانين اللجوء لنعيش عالة على دافعي الضرائب أو سعينا بكل ما أوتينا لنجد لأنفسنا فرصة للعمل والاندماج، وبالتالي للحياة المستقرة في تلك البلاد.
شركاء في البؤس!
بالعودة إلى خصوصية الوضعية السورية، فإنه من المهم أن ندرك بأن تضحيات عموم السوريين كانت سبباً رئيسياً لنعم عاشها جزء آخر، وفَّرتها ظروف البلاد المستقبلة، وهذه ليست «معجزة» سورية (قلتُ هذا وأكدت عليه في مقالتي المذكورة أعلاه). هذه الحالة خلقت فئة جديدة من السوريين، المُؤهلين والمتمتعين بظروف أفضل بكثير من بقية أقرانهم، بما فيها الظروف المتعلقة بحرية التعبير، كجزء من الحريات الشخصية المقدسة في البلاد التي لجؤوا إليها.
هذا الإدراك ضروري جداً لنعرف بالضبط ما هو نوع «الرابط» بين مختلف فئات الضحايا الخارجين لِتوِّهم من القبر الأسدي. وهو رابط، كونهم ضحايا للتوحّش نفسه، لا يكفي للقول بأن هناك شيئاً يجمعهم أبدَ الدهر، ولكنه كافٍ لتشكيل أرضية يمكن الاستناد إليها خلال محاولة الإجابة على سؤال: كيفية الخروج من هذا الوضع الكارثي للجميع، ومن هو القادر على أن يلعب الدور الأهم في جعل عملية الخروج هذه مُيسّرة قدر الإمكان.
إذا، وبالعودة إلى وصف السوريين في مقدمة هذه المقالة بصفتهم «شعباً»، أجد أن هذه الصفة محققة، وللجميع، في أي مكان وجد فيه السوريون، حتى لحظتنا هذه، حتى ولو كانت هذه الصفة تقتصر حتى الآن على تقاسم غالبيتهم الكاسحة بؤساً لا يُطاق، تسبب به نظام واحد. وبالتالي فإن «الحامل الاجتماعي»، لأي مشروع مستقبلي يخص أولئك السوريين هو السوريون أنفسهم، من أية فئة كانوا، وأينما وجدوا، بؤساء أو مُنعمين، وبوجود حافزٍ للخروج من هذا البؤس المُعمَّم على غالبيتهم، وهو تحقيق مصلحة مشتركة لجميع فئات هذا الشعب، أو جماعاته، أو مجتمعاته، أو مكوناته، أو حتى شعوبه… سَمِّها ما شئت. الجميع هنا لهم مصلحة، ليس فقط بالخروج من هذا البؤس، بل وتأسيس حالة جديدة أَدعى لنمو وازدهار ليسا مُستحيلين، بالنظر إلى ما بين أيدينا جميعاً، وهذا ما أسهبَتْ المقالة السابقة في شرحه.
إعادة اكتشاف الشعب السوري!
وإن أخذنا بمقولة عبد الله في ردّه على مقالتي، والتي وصفَ الثورة السورية فيها بأنها محاولة لتكوين شعب سوري أكثر منها ثورة شعب ناجز ومُتشكِّل، وهي المقولة التي أَتّفقُ تماماً فيها معه فيها، فإنني هنا أكرر ما ذكرته آنفا في المقالة أعلاه: سوريا التي نتحدث عنها، السوريون بالأحرى، هم الآن، وسوريا معهم، وبعد ثورتهم تلك، شعبٌ وبلدٌ تحت الاختبار. هل ينجحون بالخروج من ثورتهم هذه بتعريف جديد لأنفسهم وللروابط بينهم، أي بهوية جديدة تجمعهم إلى بعضهم بعضاً كائناً ما كان شكلها، وبالتالي القول بأن ثورتهم أنجزت هدفها الأسمى؟ أم أن هناك من يرى بأن «الحكاية» المُستنِدة إلى مشروعية تلك الثورة أدَّت ما عليها ولا أمل بأكثر ممّا وصلنا إليه، وبالتالي علينا البحث عن «حكايات مؤسِّسة» أخرى؟
بعض تلك «الحكايات» البديلة قد يكون منغلقاً عنصرياً وشديد الكُره للآخر، وهذا ما سيصبح الحال عليه في الداخل السوري إن بقي الأمر مقتصراً على «الحكايات التأسيسية» للمجتمعات، أو لمكونات سوريا قبل نشوء دولتها الحديثة، بصفتها طريقة الخلاص الوحيدة. هذا ما نراه في كل الأحوال في علاقة «سوريا السنّية» مع «سوريا الكردية»، بل حتى في العلاقة التناحرية بين مختلف الفصائل المسيطرة على «سوريا السنّية». والأمر في طريقه إلى أن يصبح كذلك، في كل الداخل السوري، بسبب اليأس والقنوط الذي لا بدّ أن يسيطر على الجميع بسبب كل هذا البؤس.
وهناك خيار آخر مُتاح لسوريي الغرب، حيث يوجد نوع آخر من تلك «الحكايات»، وهي الناجحة والمُزدهِرة والتي تطرح إمكانيةً ما للالتحاق بها، خصوصاً بعد تَجنُّس أعداد كبيرة منهم، بحيث يمكنهم أن يتبنوا شيئاً جاهزاً ولا داعي للتعب في تأسيس «حكاية» جديدة بأنفسهم، أي الانتماء إلى شعوب أخرى أكثر نجاحاً وتقدماً وازدهاراً ممّا هي عليه «سوريا»، سواء كانت «سوريا» مُتوهَّمة العظمة، أم «سوريا» التي ترزح تحت بؤس الفاقة المتقع، والتشرد والموت المحيط بكل من لم يحالفه الحظ وقفز إلى بر الأمان في الوقت المناسب.
طبعاً هذا ليس افتراض خيارين لترجيح واحد منهما على حساب الآخر. الخياران المطروحان أمامنا، كسوريين تحت الاختبار أو قيدَ التلاشي، هما هكذا فعلاً؛ إما أن نُقدّمَ تعريفاً جديداً، مستنداً إلى مفهوم واضح لسوريتنا، وبصفتنا، كسوريين، الحاملَ الاجتماعي لهذا المشروع، أو أن يبحث كلٌّ منا عن مشروع آخر ينتمي إليه، إلا من ارتضى لنفسه أن يعيش كذئب منفرد، وهذا بدوره خيارٌ متاح، وله أيضاً أثمانه الباهظة على صاحب الخيار وعلى محيطه في آن.
السؤال ما زال مطروحاً، وإجابته ليست رهناً بإرادات من سُلبت إراداتهم وحيواتهم، ومع ذلك ما زالوا يتظاهرون حتى يومنا هذا في السويداء وإدلب، طلباً لمساعدة لم تأتهم حتى اللحظة لا من سماء ولا من أرض؛ الإجابة رهنٌ بإرادة من يُفترض أنه امتلك كامل زمام أموره بيده، من قدرات طُوِّرت وحرية تعبير اكتُسِبَت في آن. هؤلاء معروفون جميعاً، وهم بالتحديد السوريون في الغرب، وهم الذين عليهم أن يجدوا الإجابة، لأنفسهم ولأولادهم، قبل أي أحد آخر.