لم تكد قضية الصفح تُثار في تفكيرنا المعاصر، رغم أنها جديرة بالعناية بالنظر إلى وفرة ما في مجالنا السوري (والعربي) من مظالم وتعديات وجرائم، ترتكبها جهات عامة، الدولة أو منظمات سياسية أو دينية مُنازِعة لها. بقدر ما إن هذه أوضاعُ جريمة وشرّ، فإنها أوضاعُ صفحٍ كذلك، لأن سؤال الصفح لا يُثار إلا في مواجهة الجرائم والشرور الكبيرة. نجد بعضاً من أهم هذه الأوضاع في الثورة السورية وعواقبها من مجازر وحروب متعددة وضروب فريدة من المعاناة، معظمها مستمر إلى اليوم. تعرض هذه المقالة أفكاراً عن الدلالة المُحتملة للصفح في السياق السوري، وتشرطُ إمكانيته بعملية تأسيسية كبيرة.
وضعية الصفح ومفارقته
لا يثُار سؤال الصفح بخصوص أي إساءة؛ هناك إساءات عارضة يُغْضي المرءُ عنها مع كونها إساءات، فلا يصفح لأنه لم يكد يستاء. يمر الأمر تحت عتبة الصفح إن جاز التعبير. بالمقابل، هناك إساءات بالغة لا يكاد يمكنُ الصفح عنها، هي بالذات التي تطرح سؤال الصفح. يبدو الأمر مفارقة. فحيث الصفح ميسورٌ فإنه غير مطروح، وحيث الصفح غير ممكن يكون مطلوباً. إننا نصفح في النهاية عمّا لا يمكن الصفح عنه، أي لأن الصفح مستحيل على ما يرى جاك دريدا. وارد في مقالة روبرتو فوسولو: «Difficult Forgiveness? Engaging Paul Ricoeur on Public Forgiveness within the Context of Social Change in South Africa». هذا ما يجعل الصفح مُعضلة وقيمة. معضلة لأننا نحتاج إلى طاقة وقوة نفس لا يَسهُلُ استجماعهما كي نصفح بِرضا ودون شعور بالغبن؛ وقيمة لأنه إذا استطعنا استجماعَ طاقاتنا النفسية كي نصفح بإخلاص فإننا نُسطِّرُ مثالاً يُحتذى. القيمُ تَصنعُها الأقاصي، هي كلها أقاصٍ في واقع الأمر، مُثُلٌ عُلْيا، وليست متوسطات حسابية أو معدلات إحصائية. ولذلك القيم كلها صعبة، والصفحُ من أشدها صعوبة.
سؤال الصفح يُثار بالضبط بخصوص وضعيةِ ما لا يمكن الصفح عنه، أو ما لا يُغتفَر. أي كذلك وضعية الظلم الشديد، القهر الموصول، وضعية الجريمة والحقد والعداوة وطلب الثأر. وهذه هي الوضعية التي نَخبرُها في سورية بصورة حادة طوال نحو ثلاثة عشر عاماً، وبمقادير أدنى حِدّة طوال عقود الحكم الأسدي الخمسة ونيف. نتكلم على وضعية في الأصل للقول إن الأمر لا يتعلق بجريمة أو جرائم عارضة، بل بشرط مُترسّخ، مستمر، وقد مسَّ بحياة وحرية وكرامة ملايين السوريين، وبصور مختلفة جميعهم. سؤال الصفح يُثار بخصوص ضحايا المجازر بين 1979 و1982، من مجزرة المدفعية في حلب إلى مجزرة حماة الكبرى؛ يُثار بخصوص ألوف المعتقلين السياسيين الذين تَعرّضوا للتعذيب وأُهدرت سنوات طوال من أعمارهم؛ ومنها بخاصة سجن تدمر الذي كان معسكر تعذيب وإذلال، عمل بطاقة قصوى طوال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
مع ذلك لم يُطرَق سؤال الصفح، بحدود ما نعلم، طوال ثلاثة عقود سبقت الثورة السورية، وفصلت بين مسلسل المذابح ذاك ومسلسل المذابح والتعذيب والإذلال الجديد الذي أعقبها.
على أن وضعية الصفح كانت تطل برأسها بشكل مقلوب في صورة«العفو العام» الذي كان يُصدره حافظ الأسد بمرسوم بين وقت وآخر، استفاد منه لمرة واحدة، أواخر عام 1991، معتقلون سياسيون، نحو 2800 من إسلاميين ويساريين وغيرهم. أقول بشكل مقلوب لأن مانح العفو هو من أقام دولة التعذيب والتمييز، أي من أسَّسَ وضعية الجريمة وأغلقها دون نقاش حول الصفح (وحول العدل) عبر انتحال سلطة العفو. لا يقتصر الأمر على أن الدولة في سورية لا تُطابق العدل حتى يكون رأسُها مانحاً للعفو، بل كانت هي المؤذي العام الأساسي، ورأسُها هو كبير الجناة بالأحرى. ومن هذا المنطلق، كان «العفو» استمراراً للجريمة وتعبيراً عن تمام تَحوُّلها إلى نظام، وليس بحال انقطاعاً عن ممارستها، ولا هو انعطاف سياسي قانوني أخلاقي نحو أوضاع أقل ظلماً.
وهو ما لن ينتظر تَفجُّر الثورة عام 2011 ليظهر، بل كان مُحقَّقاً طوال الوقت عبر جنْي النظام مكاسب سحقه للمجتمع في عقد الثمانينيات، وبنائه على هذا السحق، من تغييب للمنظمات السياسية المؤثرة والنقاش العام، فضلاً عن المِلْكيات المُصادَرة والأوضاع القانونية لأُسَر من اعتُقلوا سنوات طوال وقتلوا، ولم تُعرَف عوائلهم مصيرهم، إلى اليوم في حالات كثيرة. التوريث وبناء السلالة، أي خصخصة الدولة، هو المكسب الأسدي الأكبر من سحق المجتمع.
ثم إن وضعية الصفح ظهرت بصورة دالّة في موسم «ربيع دمشق» القصير. لا يذكر كثير من السوريين أن فكرة المصالحة الوطنية طُرِحَت في سورية عام 2001 أكثر من مرة. طرحها بصورة خاصة الراحل رياض الترك في محاضرة ألقاها في منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي في 5 آب (أغسطس) 2001، تحدثت عن ضرورة تَجاوُز صفحة الثمانينات المؤلمة، و«ردِّ المظالم إلى أهلها»، و«البحث عن الحقيقة والعدالة»، والحوار و«التمرين على الحوار من قبل جميع المهتمين بالشأن العام»، و«الاستقرار على مبدأ المصالحة الوطنية»، و«الاعتراف المتبادل بالجميع من قبل الجميع»، وتتويج ذلك بـ«صياغة برنامج التغيير الوطني الديمقراطي». ليس فقط لم يأتِ أي تفاعل إيجابي مع الفكرة، بل اعتُقلَ الرجل السبعيني الذي كان في سجن حافظ الأسد بين 1980 و1998 بعد أسابيع قليلة من محاضرته، واعتُقلَ في الأيام نفسها آخرون، وكانت تلك نهاية «ربيع دمشق» عملياً.
أما المصالحة الوطنية التي طرحها النظام بعد الثورة، حتى أنه أسَّسَ لها وزارة بهذا الاسم، فهي مثل مراسيم العفو، استمرار للجريمة ونظامها. ولعل ترجمتها الفعلية هي «المصالحات» التي تجري مع بلدات وأحياء بعد حصارها وقصفها وتجويعها وتهجير بعض أهلها. هذه المصالحات هي مُعادِلٌ لـ«المساومات» التي كانت تجري مع المعتقلين الأفراد: إما أن «تتعاون» مع المخابرات أو تبقى في السجن، أو حتى تُحالَ إلى معسكر تعذيب مثل تدمر. يجمع المساومات والمصالحات أنها إذعان مفروض بالقوة على طرف أضعف.
ومثل «العفو»، تدل «المصالحات» على وضعية صفح؛ لكن بصورة مقلوبة لأنها لا تطرح السؤال عن المُرتكِب الأساسي، بل هي عملياً تضع الثائرين على النظام اليوم، مثل معارضيه بالأمس، في موقع الجُناة المعتدين.
والخلاصة أن لدينا بالفعل وضعية صفح، وضعية تُثير سؤالَ الصفح لأنها تُثير في الوقت نفسه سؤال الانتقام، ومعهما سؤال العدالة، لكن هذه الوضعية ممنوعة من التعبير العام والعلني عن نفسها.
عمَّ نصفح؟ وعمَّن؟
عن جريمة أم عن مجرم؟
نصفح عن مُسيء أو مجرم، وليس عن إساءة أو جريمة. نفصل بين الفعل والفاعل، فندينُ الفعل ولا ننفي عنه الصفة الجرمية، ولا نصفحُ عنه، لكننا قد نصفحُ عن الفاعل. ننطلق من أن الفعل لا ينبع من الفاعل بصورة ضرورية، أنه فعل عارض من حيث المبدأ، أن الفاعل يمكن أن يفعل بصورة أخرى غير إجرامية، بل حتى طيبة. وبخاصة أن يعتذر، ويُغيّرَ موقعه ليصير ممّن يدينون ويقاومون الأفعال الإجرامية التي شاركَ في مثلها من قبل. الاعتذار ليس تقييداً للصفح، ليس شرطاً خارجياً على الصفح، بل هو بالضبط ما يُعينُ على الفصل بين الفعل والفاعل، فيُساعد على مسامحة الفاعل مع بقاء الفعل مُداناً ومُستوجِباً لعقاب عادل. وأهم من ذلك، الاعتذار تعبير عن حرية الفاعلين، عن أن الشر ليس فعل أشرار حتماً، بل هو «شر مبتذل»، أوثق صلة ببنى اجتماعية وسياسية وإدارية، لا تمتنع على الإصلاح والتشكُّل بصورة أخرى. وهذا هو مؤدى فكرة حنة آرنت عن «ابتذال الشر» أو اعتياديّته، مثلما صاغتها في كتابها آيخمان في القدس، المبني على مُتابعتها الشخصية لمحاكمة المسؤول النازي عام 1961. آرنت نفسها تقول في مكان آخر إنه ليس بين شؤون البشر ما لا يمكن أن يجري بصورة أخرى، وهو ما يُقوِّضُ افتراض جوهرية الشر (افتراض أن لا شر بلا أشرار)، وبالتالي امتناع الصفح.
حين يرتكب شخصٌ جريمة فإنه يصبح مجرماً، وعندما يفلت من العقاب تصبح الجريمة مكتملة، لكنه لا يصير مجرماً جوهرياً إلا بقدر ما يُعاود الارتكاب. لا تستنفد جريمة مرتكبة لمرة واحدة تعريف الشخص إلى حدِّ أن يصير مجرماً جوهرياً، لكن تكرار الجريمة يُقرِّبها من أن تصير جوهره. ومن هنا أهمية الاعتذار، فهو يعني وقفَ المُعاودة، أو قطع السلسلة الجرمية. يصير ما لا يُغتفَر، أو ما لا يَقبلُ الصفح، عَكوساً بالاعتذار، وبالتالي قابلاً للصفح. وعبر ذلك يعطي الاعتذار بداية جديدة لطرفي عملية الصفح: المعتدي الذي يقرّ بجريمته واستعداده لتغيير مَسلكه فكأنما هو إنسان آخر الآن، والصافحُ الذي يطيب خاطره بالاعتذار والإقرار بما تعرَّضَ له من ظلم، فيضربُ صفحاً عمّا وقع له.
ويتصل بابتذال الشر وإمكانية الصفح أن الجرائم يرتكبها أفراد أو مجموعات بدلالة مواقعهم في هياكل سياسية أو عسكرية أو إيديولوجية أو اجتماعية، وليس بدلالة أُسَرهم أو عشائرهم أو أديانهم أو طوائفهم. فليس ابن المجرم مجرماً حتماً، ولا عائلته… وفي هذا ما يقطع مع منطق الإبادة القائم بالمقابل على جوهرية الشر، أن الشر يأتي من أشرار، وأن هؤلاء أشرارُ تكوينٍ وأصل، وليسوا أشرارَ موقعٍ ودور.
هل يُصفَح عن بشار الأسد إذا اعتذر؟ هذا سؤال يُثيره مبدأ أننا نصفح عن شخص لا عن جريمة، وأن الاعتذار يقطع السلسلة الجرمية. تبدو الإجابة مرهونة قبل كل شيء بمتى يأتي الاعتذار: الآن في صحوة ضمير محتملة بينما بشار في السلطة؟ أم إذا سقط نظامه ولم يعد قادراً على ارتكاب مزيد من الجرائم؟ لا قيمة للاعتذار في الحالة الأخيرة، يجري (إن جرى) بضمير سيء. للاعتذار قيمة إن قام به من لا يزال قادراً على الإيذاء.
إلى ذلك، بشار الأسد كفردٍ مُنحَلٌّ كلياً في نظامه، وهذا نظام جريمة مُعاوِد، تكررت الجريمة حتى صارت طبيعته، تنبع منه بالضرورة. الاعتذار الذي يفصل الأفعال الإجرامية عن الفاعل، فتُدانُ الأولى ويُصفَح عن الثاني، بما يجعل الصفحَ المستحيلَ ممكناً، أقربُ إلى استحالة مضاعفة بخصوص أمثاله.
الصفح والعملية التأسيسية
ولأن الصفح مستحيل، فإنه لا يصير ممكناً إلا كأحد أوجه عملية تأسيسية كبرى، عملية تضطلع تعريفاً بوضع الاستحالة والبدء، أو الخلق الجديد. وهو ما يكتسب وجاهة إضافية ممّا يبدو من حاجة سورية إلى تأسيس جديد يَطالُ كيانَها، وليس إلى مجرد سياسة جديدة أو حتى نظام سياسي جديد.
لكن ماذا تعني عملية تأسيسية؟ تعني تأسيساً جديداً للكيان والدولة: دستور ومؤسسات وهيكلة جديدة ومُغايرة للسلطة، إنتاجاً وتوزيعاً وممارسة، وربما تعريفاً جديداً للشعب. لكنها كي تكون تأسيسية ومغايرة، فلا بد أن تشمل إجراءات عدالة تطالُ كبار المجرمين، بما يسبغ عليها صفة القطيعة. فلا تأسيسَ جديداً دون القطيعة مع نظام قديم، ما يعني أنه لا يمكن الكلام على عملية تأسيسية لا ينال فيها القتلة جزاءاً وفاقاً على ما جنت أيديهم.
وباندراجه ضمن تأسيس جديد يتعارضُ الصفح مع شيئين لا مع شيء واحد: مع دوام الحال، وهو المُرجَّح اليوم واقعياً، ثم مع ما يسميه بول ريكور «الصفح الرخيص»، مأخوذ من: «Forgiveness: A Ricoeurian Perspective» لـ«Jaco Dreyer». من نوع «عفا الله عمّا مضى». الصفح الرخيص من هذا النوع، ولعل ما يعادله جرى في لبنان بعد انتهاء الحرب اللبنانية باتفاق الطائف عام 1989، لا يحقق التعافي النفسي والأخلاقي العام المأمول، ويهدر فرصة لنظر المجتمع، ملايين الناس، في أحوالهم وأنفسهم، والقيام بأفعال الحِداد المطلوبة التي تُتيح تركَ الأزمة وراءنا. فإذا كُنّا نصفح من أجل بداية جديدة، أي من أجل أن نَطوي صفحة ماضية ويكون لنا مستقبل، فإن مشكلة الصفح الرخيص تتمثل بالضبط في أنه لا يوفر بداية جديدة، ويجعل زمن السلم استمراراً لزمن الحرب بوسائل أخرى، فلا يسمح بقدوم المستقبل، مثلما يبدو حالُ لبنان اليوم.
ومن أوجه الصفح الرخيص المُحتمَلة في سورية ما يمكن تسميته التصافح، نصفح كلنا عن بعضنا لكثرة المرتكبين بيننا وتجنباً للقلاقل. وهو ما لا يقف عند تقرير أن المرتكبين كلهم سواء فلا فارقَ بينهم إن من جهة الموقع أو من جهة مقادير الإجرام، بل يتعدّاه إلى محو الفارق بين المرتكبين وغير المرتكبين، أي تضييع مبدأ المسؤولية. شعار التصافُح الضمني هو: كلنا مجرمون، فلنطوِ الصفحة، وعفى الله عمّا مضى! لكن هذا إهانة للضحايا وللحقيقة معاً، وحِرمانٌ من بداية مختلفة.
ما يحول دون اقتراح حتى مثل هذا الطرح السيء، التصافُح، إلى اليوم هو انتصار النظام، لكن إذا تخيلنا محاصرة النظام واحتمال سقوطه، فالأرجحُ أن يُطرَح نموذج التصافح أو ما سماه تقرير مركز كارتر عام 2014 «رأب الصدع». سوريا: خيارات لانتقال سياسي، مركز كارتر، 2014. التقرير يبقى أهم ما ما صدر في شأن سورية، من حيث أنه يفكر في كل القضايا الإشكالية التي يتضمنها انتقالٌ سياسيٌ جدي. وفي هذا ما يثير سؤالاً سياسياً وقانونياً عمّا إذا لم يكن تحول الانتفاضات والتمردات الاجتماعية في مجالنا إلى حروب أهلية طائفية، حيث «تُؤمن كل جماعة بأن عليها الفوز، أو أنها ستتدمر»، التقرير السابق نفسه. هو ما يفسد الصفح ويُحوِّله إلى تصافُح أو مُصافحة، وما يحول كذلك دون العدالة ذاتها. إذ يبدو أن احتمالات هذا الصفح الرخيص تكبرُ مع تطييف الصراعات، وذلك عبر تسييس ونَسبنة الجرائم، وتبرير بعضها ببعض.
من يصفح؟
هل الضحايا وحدهم من يحق لهم الصفح؟ من شأن الإجابة بنعم أن تعني أن من لا يمكنهم الصفح لأنهم رحلوا هو وحدهم أصحاب الحق في الصفح. هنا نحن حيال مفارقة مثل مفارقة الشاهد التي تكلم عليها جيورجيو أغامبن في بقايا أوشفيتز: من شهدوا كل شيء لا يستطيعون أن يشهدوا لأنهم رحلوا، ومن يستطيعون أن يشهدوا هم من لم يشهدوا كل شيء. الفصل الأخير من الكتاب في مُجمله تنويعٌ على هذه القضية: «Giorgio Agamben: Remnants of Auschwitz, The Witness and the Archive. Translated by Daniel Heller- Roazen, Zoon Books, New York, 2002».
لكن حصر الصفح بالضحايا يُهمل الاستمرار المعنوي للأفراد والجماعات وقابليتهما للتمثيل. الواقع أنه يُهمل فكرة المجتمع ذاتها الذي هو في النهاية إطار الصفح، والذي يَستمدُّ الصفحُ تسويغَه من استمراره.
فإذا عُدنا إلى فكرة الصفح عن بشار الأسد، التي قد تُطرَح كثمن مقبول لاستمرار مجتمعنا، فربما يكون اندثار مجتمع يَصفحُ عن بشار الأسد، مُضحّياً بذلك بالعدالة وحق الملايين، أوجبَ من استمراره. ذلك أننا نجازف في مثل هذه الحالة بأن نخسر العدالة والتعافي دون أن نكسب استمرار المجتمع. ثمن الاستمرار هو قطيعة مكتملة مع الماضي، وهو ما يتعذّر أن يتحقق دون طيّ صفحة الشخص المذكور ونظامه. التاريخ لا يتضمن أمثلة لانقلاب نظامِ شرٍّ مُعاوِد على نفسه، وتعاونه مع ضحاياه لقلب ميراثه، أي لقطيعة وبداية جديدة مشتركة.
لماذا نصفح؟
أمِن أجل أنفسنا؟ من أجل أن نشعر شعوراً طيباً؟ هذا أناني. وهو يتعارض مع ما ينطوي عليه الصفح من سخاء وسماحة.
أمِن أجل من ارتكبوا جرائم؟ قلَّما يستحقون.
نصفح لا لكي نُحبّ من صفحنا عنهم، بل كي لا ننشغل بأمرهم. يُساعدنا اعتذارهم على ذلك، لكن ذلك لا يجعلهم أثيرين عندنا أو قريبين منا.
نصفح من أجل المجتمع، من أجل إمكان المجتمع، من أجل حياة لا تُسمِّمها الضغينة والحقد. أي كيلا يصادر الماضي السيء مستقبلاً واعداً. عكسُ ما جرى في الماضي غير ممكن، لكن الصفح يُتيح لنا ترك الماضي يمضي، على ما قالت حنة آرنت في الشرط البشري. Hannah Arendt: The Human Condition, University of Chicago Press, 2018, p 236-243. نصفح من أجل أن نستطيع أن نعيش حياة عادية، لا تُفسِدها الكراهية والغضب وما تقودان إليه من مسالك إجرامية، كما لا نوضع فيها تحت ضغط تَوقُّع أن نكون أبطالاً، نبلاء، كرماء. نحن تحت هذا الضغط البطولي طوال سنوات وعقود، وآن أوان التخلص منه.
العملية التأسيسية تستمد معناها مما يعقبها من حياة عادية، رغم أنها هي ذاتها ليست عادية بحال. بل هي مستحيلة مثل الثورة، ومثل الصفح، إنها هي ذاتها ثورة أو ترجمة للثورة إلى حياة ونظام جديدين.
ثم أننا نصفح كي نستطيع أن نعطي وعوداً، والوعد هو ما يتيح لنا التغلّب على امتناع التنبؤ بالمستقبل، بحسب آرنت نفسها. المرجع السابق نفسه، ص 243-247. بالصفح نترك الماضي يمضي، وبالوعد نُسهِّلُ للآتي القدوم. دون صفح يحررنا من الماضي، لن تكون وعودنا وعوداً «من القلب»، نعطيها بإخلاص ونفي بها، فنصنعُ مستقبلاً مُشترَكاً مع من نِعدُهم.
ما هي نتيجة الصفح؟
بداية جديدة مثلما سبقَ القول. البداية الجديدة ليست صفحة بيضاء مثلما يقول فلاديمير يانكليفتش في كتابه عن الصفح. Vladimir Jankelevitch, Forgiveness. Translated by Andrew Kelly, P xxi. الصفحة البيضاء هي الحال المفترضة لذهننا عند الولادة بحسب جون لوك، ويُستخدم التعبيرُ للكناية عن وضع بِدئي مفتوحِ الاحتمالات، أما البداية الجديدة فلا تطوي ما سبق من الذاكرة، بالعكس ترتكز عليه وتُؤسِّس لانعطافٍ كبير، فهي بهذا المعنى قطيعة واستمرار في آن. والمقصود بالذاكرة ليس عملية التذكُّر الفردية أو الجمعية التي يتمسك بها الضحايا، بل الذاكرة الموضوعية إذا جاز التعبير، أي العمليات الاجتماعية والسياسية والقانونية والتعليمية والرمزية التي تشكل بمجموعها علامات على الانعطاف وتحققاً له، بما فيها عمليات إحياء الذكرى، وما يتصل به من يوم أو أيام تذكارية. الانعطاف هو نتاج العملية التأسيسية بأبعادها السياسية والحقوقية المذكورة فوق، وهذه الأبعاد الرمزية.
الصفح والعدل، والانتقام
هل الصفح ممكنٌ دون عدل؟ وهل يُغني الصفح عن العدل، مُجازاة المجرمين وإنصافُ الضحايا؟ إذا كان الصفح مُمتنِعاً ما لم يكن جزءاً من عملية تأسيسية، وكان العدل بُعداً حتمياً من هذه العملية لإتمام القطيعة، فإن الصفح ممتنعٌ دون عدل. الواقع أن ما يدعو إلى الصفح هو ذاته ما يدعو إلى العدل؛ أوضاعُ الجريمة والظلم، وهو ذاته كذلك ما يدعو إلى الانتقام. وما يجعل الصفح ممكناً، أي فكرة أن الشرَّ ليس جوهرياً، هو نفسه ما يشرطُ العدالة. فبما أنه لم يكن محتماً أن يرتكب المرتكبون ما ارتكبوا، أي بما أنهم أحرار، فإنهم مسؤولون عمّا فعلوا، ويجب أن يُعاقَبوا على ما جنت أيديهم. لو كان شرُّهم جوهرياً، كجوهرية السمّ عند العقرب، لوجبت إبادةُ الجناة كما تباد حشرات سامة. وهذا بالمناسبة نهجُ «الحرب ضد الإرهاب»، الذي ينطلق فكرياً من أن الإرهاب شرٌّ جوهري، ينبع من كيان الإرهابيين بالذات، بيد أن ذلك انحطاطٌ للعدالة نحو الانتقام. وهو يُعطي فكرة عن الطابع القَبَلي أو «الحضاري» للغرب المعاصر، محارب الإرهاب الأول، وبالتأكيد ينفي الصفة العالمية (يونيفرسال) عنه.
من شأن طرح الأمور بهذه الصورة أن يُحوِّلَ التفكيرَ في العلاقة بين الصفح والعدل باتجاه أكثر تركيباً. العدل يقطع الطريق على الانتقام، يشفي القلوب من الغلّ الذي يُمرِضها باستمرار إفلات الجناة من العقاب، أو استمرار أوضاع الجريمة والإذلال المُقوِّضة للمجتمع والعالم. هناك تعافٍ وتعافٍ؛ هناك تعافٍ مريض، «شفاءٌ للصدور» يتحقق في الانتقام، وهناك تعافٍ مُعافى، يتحقق في العدل. الأول مُنحدِرٌ وغير اجتماعي ومشدودٌ إلى الماضي، وهو للأسف الأعلى صوتاً في أوساطنا، والثاني كريم وجامع، يُؤسِّس قواعد عامة مستقبلية لمعاقبة الجرائم، ويستحق أن يُعتنى به.
إلى ذلك فإن أكثر الفاعلين في أوضاع الجريمة، مثل الحكم الأسدي في سورية طوال أكثر من نصف قرن، مُعاوِدون، لم يحدث أن انزلقوا إلى ارتكاب جريمة، بل هم أقربُ إلى قطبِ من صارت الجريمة تعريفاً لهم مثلما تَقدَّم. هذا يعني أن العقاب ليس فقط موجهاً نحو الماضي، جزاءً على ما ارتُكِبَ في السابق، بل هو كذلك قطعٌ لاستعدادٍ مُترسّخٍ لارتكاب الجرائم، استعداد هو ذاته ما يجعل الصفح ممتنعاً. أي أن العقاب مُوجَّه نحو المستقبل كذلك.
العدل على هذا النحو يُغني عن الانتقام، فهل يُغني الصفح عن العدل ذاته؟ ليس حيال مديري البنى الإجرامية، التي تقوم بوصفها بنى إجرام على المعاودة، وبالتالي على التطبُّع بالجريمة. لكن ربما حيال مراتب أدنى من العملاء والمتواطئين والمأمورين.
وهل يُغني العدل عن الصفح؟ يمكن للصفح أن يكون مُكمِّلاً للعدل، قائماً على إقرار واقعي باستحالة معاقبة جميع المجرمين وتحقيق العدل الكامل. الصفح هو بمثابة إقرار المجتمع بواقعيته ونقصه، ولكن كذلك بالحاجة إلى بداية جديدة. من شأن عفو عام، يعقبُ محاسبة كبار المجرمين، وعزل شريحة مهمة من المُنتفعين والمُسيِّرين، أن يكون إتماماً للبداية الجديدة المأمولة من العملية التأسيسية.
ويتصل بثلاثية الانتقام والعدالة والصفح أبعادُ الزمن الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل. الانتقام يشدنا إلى الماضي، يحبسنا فيه؛ فيما تُوطّننا العدالة في الحاضر كأصحاب حقوق بين أصحاب حقوق؛ أما الصفح فيفتح لنا أبواب المستقبل، كأناس مُتحرّرين من أثقال الماضي يعيشون الحاضر خَليي البال، ويستطيعون إعطاء وعود. وللثلاثية معادلات مكانية كذلك. فالانتقام سجن، والعدالة بيت، والصفح عيد أو كرنفال في الشارع. وهي تتوافق بعد ذلك مع أُطُر اجتماعية مختلفة. الانتقام يُحيل إلى العشيرة والطائفة والقومية، ويُحيل العدلُ إلى الدولة والمجتمع والمواطنة، فيما قد يُحيل الصفح إلى طوبى ما بعد الدولة وما بعد العدالة.
الأمثلة التي بين يدينا، مثل ألمانيا بعد النازية وجنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري ورواندا بعد الجينوسايد عام 1994، تُعطي الانطباع بصعوبة بالغة في ترتيب العلاقات بين العدالة والصفح. يبدو قطع طريق الانتقام ناجحاً في المثالين الرواندي والجنوب أفريقي، لكن قليلاً من العدل تَحقَّق، وقليلاً من الصفح كذلك. وحتى هذا القليل تَحقَّقَ في إطار عمليات تأسيس غيرت النظام السياسي في البلدين، وعملت على تغيير الكيان والشعب ونظام توزيع الموارد بنجاح محدود. وأقرب شيء في تاريخنا الأقدم للرابطة بين الصفح والتأسيس عفوُ النبي محمد عن المكيين بعد الفتح. هذا الصفح، إطلاقُ المكيين المهزومين، جاء بدوره في إطار فعل تأسيسي كبير.
ضد الاستثناء
هذه المسائل المتصلة بالصفح والعدل والانتقام من أصعب ما يمكن التفكير فيها، وبخاصة من جهتنا حيث لا يكاد يوجد تراكمٌ في وصف الحالات أو سجلات من النقاش بشأنها. هل يجب أن نكون طرفاً في النقاش في هذه الشؤون الصعبة؟ بالتأكيد. نحن جزءٌ من العالم وكلُّ ما في العالم يَعنينا ولنا فيه نصيب. ليس لنا خصوصية جوهرية تَحولُ دون الاهتمام بهذه الشؤون، ولسنا استثناء عالمياً. والاستثناء في كل حال ليس نتاج تحليل أو خلاصة فكرية لدراسة أوضاعنا، بل هو قرار سلطة سياسية أو دينية تَضعُنا بمعزل عن العالم لأن هذا يناسبها في فرض أحوال بلا قواعد، هي بالضبط ما آلت إلى أوضاعِ الجريمة، أوضاع العدل والصفح والانتقام، الدافعة إلى هذه المناقشة.
يبقى أن هذه المناقشة تبدو طوباوية، منفصلة عن أوضاع سورية اليوم. إنها كذلك، ولا أوهام لدينا في هذا الشأن. لكن لأن أوضاعنا كذلك، لأنها الدستوبيا مُجسَّدة، فإن في نفض اليد من التفكير الطوباوي (اليوتوبي) ما يُغذّي أزمة الخيال السياسي التي نشكو منها مثل الجميع. من شأن التفكير في قضايا الصفح والعدالة أن يكون عملاً على أنفسنا، أي من أجل تَغيُّرنا نحن وتَكوِّننا كفاعلين أخلاقيين أحرار. هذا أساسي، وهو غير مرهون بالظروف المناسبة. تَغيُّرُنا أثمنُ حين تكون الظروف غير مناسبة. الأفعال الأخلاقية تجري دوماً في ظروف غير مثالية، أي غير أخلاقية هي ذاتها، فإذا كانت الظروف مثالية أو أخلاقية، تلاشى وجوب أن نكون نحن فاعلين أخلاقيين.
أخيراً، من نحن؟
أحالت هذه المناقشة إلى نحن ضمنية. من هذه النحن؟ إنها السوريون المعنيون بالصفح. من هم؟ من تعرضت حياتهم لضروب مختلفة من التحطيم، لكنهم لا يريدون انتقاماً طائفياً، ولا تَصافُحاً طائفياً كذلك. وربما يعلمون أن أي مقدار من العدالة في «بلدنا الرهيب» لا يُغني عن مقاديرَ طيبة من الصفح. إنهم سوريو الإرادة الطيبة.
هذه تبدو تعبيرات أخلاقية مُرسَلة. الواقع أنها تعابير أدائية أو إيعازية، تتكلم على شيء من باب تشجيعه على الوجود. نتكلم على دائرة حدّية يتعرف بها الواحد منّا بما يتجاوزه، بأقصاه لا بمتوسطه، دائرة تتعامل معنا كأُناسٍ ذوي ضمير. العملية التأسيسية يقوم بها تأسيسيون، وهي تُعطي بداية جديدة. والبداية ضربٌ من طفولة، ومن بداياتنا الشخصية نعرفُ كيف تكون البدايات، ففيها نتعثّرُ ونقع، نمرض ونحتاج لرعاية، وقد لا ننجو. النحن المُخاطَبة بهذه المناقشة هي أهل هذا الوليد الجديد، أمه وأبوه وإخوته، يعملون على أن يحيى ويشبَّ مُعافىً، رغم كل التَعثُّرات المحتملة، بل الأكيدة.