تكرّرت تصريحات وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في اجتماعات عربية عن الحاجة لتمويل تدخلات تعافٍ مبكر في سوريا، وأن من شأن هذه التدخلات أن تساهم في «استقرار المنطقة وعودة اللاجئين». على التوازي، صرّح الممثل المقيم للأمم المتحدة في سوريا، آدم عبد المولى، في عدة مقابلات صحفية عن خطة لتأسيس صندوق للتعافي المبكر يسعى للحصول على التمويل من الدول العربية. ويصف عبد المولى الصندوق بأنه سيكون «آلية آمنة للمانحين الراغبين بالتمويل والقَلقين من العقوبات». 

سوريا أم سوريات؟

أتحدّثُ مع أصدقاء يقطنون في مناطق متعددة تحت سيطرة النظام ويحدثونني عن أوضاعهم. الحال في هذه المناطق لا يَخفى على أحد، فثمة طَبقتان منفصلتان تعيشان في عالمين مختلفين. وقد لفتني توصيفٌ رائع لهذا الحال قدّمه الكاتب يعرب العيسى، يتحدّث فيه عن بلدين اثنين مختلفين، سوريا و«سيريا» (Syria). الصورة العامة المتداولة هي انقسام سوريا إلى أربع سوريات حسب مناطق السيطرة العسكرية، ولكن منشور يعرب العيسى يتحدث عن انقسام البلاد داخل كل منطقة من هذه المناطق، فهو يشير إلى مدينتين داخل دمشق، تفصل بينهما حدود غير مرئية، وسوية المعيشة فيهما مختلفة، كما طموحات السكان مختلفة، والمفردات التي يستعملونها كذلك مختلفة. الحال مشابه في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ففي حين يُفتَتحُ سوقٌ فخم لتجارة الذهب ومولات ضخمة في إدلب، تزداد معاناة سكان المخيمات والكثير من البلدات في الشمال السوري. لقد كان هذا التباين حاضراً قبل 2011 في الكثير من أنحاء سوريا، ولكن ظواهره باتت شديدة الفجاجة مع سيطرة تجار الحروب على الاقتصاد(ات).

تزداد هذه الفروقات وضوحاً حين تزور المناطقَ التي استعاد النظام السيطرة عليها بعد أن خرجت عن سيطرته لعدة سنوات، مثل الغوطة أو حلب الشرقيّتين أو غيرها من المناطق، فبالإضافة لتضرر البنية التحتية، ستجد أن النظام لم يُعِد الكثير من الخدمات. يتواتر أن أسمع من الأصدقاء في مناطق النظام من ميسوري الحال أنهم جَمَعوا مبالغ لترميم مدرسة، أو لإعادة تشغيل فرن، أو لتأهيل قسم في أحد المشافي، أو لتسيير باص للطلاب ليتمكنوا من الوصول إلى المراكز الامتحانية، وغيرها من أمور خدمية يُفترض أن تكون على عاتق الدولة.

المساعدات، الثواب والعقاب 

ليست الدولة عاجزة فحسب، بل إنها تتصرف بطريقة كيدية وأمنية. هذه عقلية يحملها رأس النظام ويوزّعها على كل فرد في منظومته، فحين يطالب سكان هذه المناطق من خلال وجهائهم بخدمات أساسية من الحكومة، يلاقون إجابة من نوع «أنتو خربتوها، أنتو روحو صلحوها»، في حين تحصل مناطق أخرى على إجابات وحجج مختلفة مثل تأثير العقوبات والإرهاب والاحتلال.

الأسد، الذي زار مدينتي دوما عام 2021 بعد أن استعاد السيطرة عليها بثلاث سنوات لينتخب نفسه في تمثيلية الانتخابات الرئاسية، جاءها بهذه العقلية، متحدياً ومنتصراً بجريمة الكيماوي التي ارتكبها بنفسه في المدينة عام 2018، قبل زيارته بسنواتٍ ثلاث. وبمناسبة تلك الزيارة، أجرت إحدى المحطات مقابلة مع أحد الحامدين بنعمة وجود الأسد، والرجل أكّد وقتها أنه سينتخب الأسد بالطبع قائلاً: «يلي بتعرفه أحسن من يلي بتتعرف عليه، أنا باقي المرشحين ما بعرف خيرهم من شرهم»، وأطال في مديح الأسد إلى أن سألته المذيعة «شو بتطلب من الحكومة؟»، ليجيب الرجل بأربع طلبات: الفرن، المشفى، البريد، الكهرباء. أربع خدمات أساسية لم تُشغّل في المدينة بعد ثلاث سنوات من استعادتها. أول ما رُمّم في المدينة ووُضِع قيد التشغيل كان شعبة التجنيد، إذ سُعي لسوق شباب الغوطة للقتال في معركة الأسد في إدلب عام 2019. واليوم، معظم ما نراه من ترميمات وخدمات هو نتاج جهود المجتمع الأهلي. الدولة غير قادرة ربما، ولكنها أساساً لا تتصرف كدولة، بل كعصابة سيطرت على منطقة بعد غزوة من غزواتها.

سيظلُّ الأسد يعاقب المناطق التي خرجت عن سيطرته في وقتٍ ما، لن ينسى، وسيكون هدفه البعيد دائماً عقاب هذه المناطق. عقليته في التعامل مع جيرانه الإقليميين لن تكون إلا بهذه الطريقة أيضاً، التطبيع معهم سيكون ضمن طريقة التفكير نفسها، وسينتظر اللحظة المناسبة لكيده.

النداءات اليوم لتمويل برنامج تعافٍ مبكر تستهدف الدول العربية. النظام، ومن أمامه الأمم المتحدة، يعلمان جيداً أن المانحين الغربيين التقليديين ليسوا بهذا الوارد حالياً لأسباب عديدة، مثل التضخم الاقتصادي والانشغال بأزمات أخرى، عدا أن المانحين الغربيين الكبار، الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، يعرفون كيف يوظفون المساعدات كأداة سياسية، ولا يبدو أن هؤلاء مهتمون الآن بما هو أكثر من الحفاظ على الوضع الراهن، أي البلد معتمداً على المساعدات. مَن يمكن أن يفاوض على تقديم مساعدات مقابل مصالح إقليمية هي الدول العربية.

فرص التمويل قليلة والتعقيدات النابعة من الوضع السياسي لسوريا والمنطقة كلها كبيرة، ولكن هناك تعقيدات أخرى تتعلق بواقع العمل على الأرض وسلوك النظام. نجد تركيزاً في العديد من التقارير الصادرة عن المساعدات وطريقة توزيعها على نهب التمويل من قبل النظام والمقربين منه، وعلى فساد هيئات الأمم المتحدة المعنية، لكن المانحين كلهم يعرفون البيئة الفاسدة التي يضعون تمويلهم فيها، ويعرفون جيداً مَن هي الشركات التي تعمل بشكل واسع في مناطق النظام. المانحون متصالحون مع فكرة نهب جزء من مساعداتهم من قبل النظام، فـ«لمباتهم الحمراء» تعمل فقط عندما يحدث نهبٌ للمساعدات من جهات مصنّفة ضمن قائمة الإرهاب.

إذاً، لا يشكّل نهب المساعدات تخوّفاً رئيسياً لدى المانحين، إلا أن الموضوع يفوق نهب المساعدات إلى استخدامها كثواب وعقاب، وتوظيفها عسكرياً وليس سياسياً فقط. على سبيل المثال: ماذا حدث بتمويل ترميم المرافق الصحية بعد الفترة التي استعاد فيها النظام السيطرة على عدة مناطق في ريف دمشق عام 2018، حين خصّصت منظمة الصحة العالمية ومانحون دوليون آخرون مبالغَ لترميم المرافق الصحية في الغوطة الشرقية؟ التمويلات الكبيرة ذهبت لمشافي حماة وحمص. لم تذهب هذه التمويلات لأهل المدينتين، فلهما تاريخهما في النضال ضد الأسد، ومعظم ما يحصل في المدينتين من ترميمات تأتي من المجتمع الأهلي أيضاً: عام 2019 ذهبت التمويلات، المخصصة نظرياً للغوطة الشرقية، لتجهيز مشافي حمص وحماة كنقاط طبية للخطوط الخلفية لمعركة إدلب، وليس لتخديم سكان حمص وحماة. جزء من التمويل ذهب أيضاً لبناء نقطة لفرز مصابي حزب الله وتحضير نقل جرحاه على الحدود اللبنانية.

آراء متعددة حول التعافي المبكر

ثمة آراء متعددة حول التعافي المبكر ضمن المجتمع الإنساني العامل على الاستجابة في سوريا، تتراوح بين من يدفع بعجلة التعافي المبكر، والمتخوّف من هيمنة النظام، وصولاً إلى المتمترس وراء عبارة «لا تعافي مبكر قبل الحل السياسي». بطبيعة الحال، من السهل رفض التعافي المبكر من خارج البلاد، كما من السهل أن تدفع بعجلة التعافي المبكر دون التخوّف من المخاطر إذا كنت تعيش في «سيريا» وليس في أيٍّ من السوريات «السوريّة». لننظر بعين من يعاني شظف العيش، فاحتياجاته ومستقبله يجب أن تكون هي البوصلة. 

التعافي المبكر جزءٌ من الاستجابة الإنسانية، لا يعمل على علاج الأسباب كما لا ينتظر هذا العلاج ولا يحاول التخلُّص من كل النتائج، وإنما يسعى للتمسك بوظائف المريض الحيوية والحفاظ على عمل أعضائه، كبده، رئتيه، كليتيه…، كي لا يموت نتيجة توقف هذه الوظائف وكي يكون قادراً على التعافي والشفاء عند تقديم العلاج. يأتي العلاج مع الحل السياسي والعدالة، بينما يحاول التعافي المبكر أن يحافظ على تنفّس المريض قبل استئصال السرطان. لا أعتقد أن كل الآراء التي تنادي بـ«لا تعافٍ مبكر قبل الحل السياسي» تنظر للموضوع من هذا المنطلق. وعلى المقلب الآخر، أجد أن كل الآراء التي ترى التعافي المبكر خدمات وبنى تحتية فحسب تنظر بدورها إلى المسألة بشكل مجتزأ.

تخلط معظم الآراء بين الرأي في التعافي المبكر كنهج ومفهوم، وبين الرأي في المقاربة التي تطرحها الأمم المتحدة للتعافي المبكر في سوريا، والتي تحاول البحث عن الممكن المقبول لدى المانحين مما يتماشى مع طلبات حكومة النظام السوري.

يكمن جوهر المشكلة في البنية التي أوجدها النظام للسيطرة على الاستجابة الإنسانية، والتي توظف المساعدات لصالحه، وليس في التعافي المبكر كنهج ولا في توقيته. لأي تمويل يستخدم هذه البُنية السلطوية آثار جانبية تكمن في زيادة الهوة بين السوريتين اللتين تحدث عنهما يعرب العيسى، وأيضاً بين السوريات الأربعة الموجودة على خارطة السيطرة العسكرية، فأي تمويلات لتعافٍ مبكر لسوريا سيديرها أشخاص يقيمون في «سيريا»، وسيوجهونها حسب مصالحهم وليس حسب احتياجات سوريا.

طورت الأمم المتحدة استراتيجيتها للتعافي المبكر على مدار الأشهر الماضية خلال عام 2024. النسخة الأولى كانت تبدو، وضوحاً، موضوعة لـ«سيريا» فقط. اعترضت المنظمات الإنسانية وتم تطوير النسخة قليلاً لتضمين مناطق السيطرة المتعددة، ليُذكر بشكل واضح في النسخة الأخيرة من الاستراتيجية بأنها ستعتمد هندسة الاستجابة الإنسانية التي تشمل كل سوريا باستخدام مقاربات محلية لا مركزية، مع رؤية وطنية. هذا الكلام نظرياً مقبول، ولكنه بحاجة للتفكير بنوع التدخلات التي ستقدمها هذه الاستراتيجية، والتي يجب ألاً تقتصر على ترميم بعض البنى التحتية. فالتعافي المبكر، حسب التعريف، يعمل على استعادة الحوكمة وسيادة القانون والتماسك المجتمعي بشكل متقاطع مع التعليم والصحة والمياه وباقي الخدمات. 

لو فكرنا بالتعليم كمثال، ماذا يعني التعافي المبكر في التعليم؟ بناء المدارس فحسب؟ بالتأكيد لا. يمكن أن ترمَّم بعض المدارس، ولكن الحاجة الأساسية هي الحفاظ على نظام تعليمي يُعنى بالكوادر والمناهج وحوكمة القطاع التعليمي ليحافظ عليه من الانهيار. ولننظر إلى المنهاج التعليمي، فالتعليم ليس معرفة فقط، فأي منهاج تعليمي له جانبان: أولٌ ظاهر وهو المعرفة، وآخر بين السطور وهو القيم. هل يمكن التفاهم على قيم واحدة تُزرع في الأطفال السوريين في كل المناطق؟ في سوريا و«سيريا»؟ وفي المناطق الحاضنة للنظام إن تبقى أيٌّ منها، وفي المناطق التي استعاد سيطرته عليها، وفي «شمال شرق» و«شمال غرب» سوريا؟ في السويداء ودرعا؟. دعنا من القيم المشتركة، هل يمكن، كحد أدنى، وضع منهاج لا يفرض سرديات متضاربة تُنشئ جيلاً جديداً يعادي بعضه بعضاً في كلٍّ من هذه المناطق؟.

الكوادر التدريسية تشكل بدورها تحدياً آخر، إذ أنها تنزح باستمرار، جغرافياً أو نحو مهن أخرى. التعافي المبكر يفترض أن يُحافَظ على هؤلاء، لا أن يُقتصر على بناء المدارس. المدارس كبنى تحتية مهمة، ولكن إعادة بنائها هو الجزء الأقل تعقيداً.

أربع حكومات ومجتمعات متعددة

هناك ثلاث نقاط هامة يجب التركيز عليها عند الحديث عن التعافي المبكر بمفهومه العام، أولاً التعافي المبكر هو جزء من الاستجابة الإنسانية لا ينتظر حلاً سياسياً، بل يبدأ من اليوم الأول للاستجابة الإنسانية الطارئة. ثانياً يتقدم التعافي المبكر مع خفض العمليات العسكرية، ويتراجع مع التصعيد العسكري، وثالثاً يعمل التعافي المبكر مع المجتمعات والحكومات وليس مع المنظمات الإنسانية حصراً، إذ يُفترض أنه يهدف للحفاظ على مؤسسات الدولة وحوكمتها. عن أي دولة وعن أي حكومة نتحدث في سوريا؟ لا بد للاستجابة الإنسانية، ومن ضمنها التعافي المبكر، ولأسباب عملياتية، من أن تتعامل مع حكومات المناطق المختلفة في سوريا، ولهذه المسألة تعقيداتها، عداك عن الحاجة للتفكير إن كان ذلك يعني تعافي كل منطقة لوحدها، أم أننا ما زلنا نتحدث عن سوريا واحدة؟. وهذا ما سيعيدنا لربط التعافي المبكر بالحل السياسي في الوقت الذي تتفاقم فيه الاحتياجات.

صحيحٌ أن هناك خفضاً قائماً للتصعيد، ومسار تطبيع متسارع أخذ يمتد خارج الدول العربية، لكن هذا المسار هشٌّ للغاية، إذ أنه شديد الارتباط بالمنطقة وما يجري فيها، ويتعلق بسياسات قوى إقليمية ودولية، وبسياسات مكافحة تجارة وتهريب المخدرات من سوريا، بدلاً من أن يكون معتمداً على انتقال سياسي وعدالة انتقالية تؤسس لاستقرار مستدام.

السكان والمجتمعات في كل مناطق سوريا، وخاصة في المناطق التي استعادها الأسد، في أمسّ الحاجة إلى تمويل يُحسّن نوعية الخدمات قليلاً، ويخفف من اعتمادهم على المساعدات التي غالباً ما لا يصلهم منها إلا النذر اليسير، ولذلك من الضروري إيجاد حلول لتحسين الواقع المعيشي. السوريون متعبون، بحاجة لمشفى يقدم خدمات أفضل، ولبضع ساعات من الكهرباء يومياً، ولمدارس مقبولة لأولادهم، ولمياهٍ نظيفة. لا يمكن أن ينتظر السوريون حلاً سياسياً لا يلوح في الأفق، وليس له جدولٌ زمنيٌ ولو على الورق. هذا صحيح، ولكن يجب أن لا يُكرَّس العمل وفق هذا المعطى في منطقة سورية دون أخرى، ولا لصالح أيّ من القوى المسيطرة، وعلى رأسها النظام.

هناك حلول ممكنة تأتي من العمل على المجتمع ومع المجتمع. المجتمع هو قلب المريض المصاب بسرطان اسمه الأسد، وتصحب هذا السرطان آفات أخرى كثيرة تضرب بكل وظائف البلد الحيوية، وسيحتاج العمل مع المجتمع لتمكينه وإحراز تعافيه وتماسكه للكثير من الدراسة والتخطيط والتشاور مع السوريين والسوريات في كل المناطق، كي لا يُحدِث التعافي المبكر مفعولاً عكسياً ويزيد من انقسام سوريا وتجزئتها.

لا يمكن أن نتحدث عن تعافٍ مبكر دون أن نفكر بالحفاظ على الموارد البشرية في هذا المجتمع، بتمكينها وتطويرها. لا يمكن أن نتحدث عن تعافٍ مبكر دون أن نفكر بتماسك كل من المجتمعات المختلفة ضمن كل واحدة من السوريات الأربعة، والتماسك بين المجتمعات في هذه السوريات. يجب على الأمم المتحدة البحث عن طُرقٍ تستطيعُ من خلالها تجاوز هذه الحكومات والعمل مباشرة مع المجتمعات المحلية.

بنية الاستجابة الإنسانية في سوريا إما تعتمد على المنظمات بشكل مفرط كما في شمال غربي سوريا، فالمنظمات تقدم كل الخدمات من صحة وتعليم وتأهيل طرقات ومياه وغيرها، مع غياب لدور مؤسسات الحكم المحلي كالمجالس المحلية في تقديم الخدمات، وضعف هياكل الحوكمة القطاعية كمديريات الصحة والتعليم التي تأخذ دوراً أضعف بشكل كبير من المنظمات الإنسانية في هذه المناطق؛ أو تعتمد على نظام مركزي أمني يتحكم بكل شيء كما في مناطق النظام، وهذا يتنافى مع إجراء عملية تعافي مبكر ويخلِقُ نماذج وبنى مختلفة في كل منطقة من مناطق السيطرة.

وقد تبنّى المانحون الدوليون عام 2016 مبدأ التمكين أو التوطين المحلي للمساعدات، أو ما يعرف بـLocalization of aid (ما زال التعريب للمصطلح حائراً بين عدة مفردات). هذا المبدأ، وخلال الاستجابة الإنسانية الطارئة، قد يعني العمل مع منظمات محلية كشريك أساسي، ولكن عندما نتحدث عن التعافي المبكر فيكون العمل على البنى المؤسساتية والحوكمية، بالتأكيد بالتوازي مع تمكين المجتمعات المحلية لتكون قادرة على الاعتماد على نفسها، أو على الأقل أن تصبح أقل اعتمادية على نظام المساعدات، سواء المتشظي إلى مئات المنظمات في شمال سوريا، أو المركزي الأمني في دمشق.  

قضية التعافي المبكر معقدة للغاية، ولكن المقاربة التي يطرحها مكتب الأمم المتحدة في دمشق يجب أن تجد تسمية أخرى لنفسها غير التعافي المبكر، فهي تعاكس بُعدين أساسيين في مفهوم التعافي المبكر حسب ما تعرّفه الأمم المتحدة نفسها، وهما التماسك المجتمعي كأحد أهم الجوانب التي يعمل التعافي المبكر على استعادتها؛ والملكية الوطنية للعملية والتدخلات، بحيث تقودها أيادٍ سورية، كمبدأ جوهري للتعافي المبكر. المقاربة المطروحة حالياً هي برنامج لتثبيت الوضع المجمد أصلاً وتجنُّب انهيار خدمات حكومة النظام بشكل كامل. بناء رأي حول ذلك صعب ومعقد، فمن يرغب بانهيار الخدمات للسكان في أي جزء من سوريا؟ ولكن، في الوقت نفسه، إذا كانت كل هذه القوى الإقليمية والدولية تقسّم سوريا لسوريات متعددة، أو على الأقل تقبل التقسيم كأمر واقع، أو تسعى لحل يعيد السيطرة للأسد، فهل نقبل أن تكون بصماتنا على إحدى تلك الأدوات؟ 

الأمم المتحدة تحاول العمل على الممكن وليس على المطلوب. الحاجة ماسة لتحسين الخدمات في سوريا وترميم البنى التحتية وتخفيف أعباء المعيشة على السكان وتقليص اعتمادهم على المساعدات، لكن من المهم للغاية أن لا يوظَّف ذلك كأداة بيد النظام السوري ليزيد من انقسام البلاد، ويعمق الهوة بين سوريا و«سيريا».