عن وقت طويل وزمن لا يمضي
11 عاماً. الوقت يمرّ، بل يركض ركضاً. يولد أطفال، ويشبّ من كانوا أطفالاً، ويشيب الشباب، ويبدأ الشيّاب بالرحيل عن دنيانا. تحدُث مئات، بل آلاف الأشياء، في الحيوات الشخصية وفي الساحات العامة في عقدٍ وعام… بعضها صغيرٌ بلا معنى وبعضها الآخر مهول بحجم زلزال. الوقت يمرّ، بل يركض ركضاً.
لكن الزمن لا يمضي.
ما حصل في الغوطة قبل 11 عاماً لم يصبح ماضياً. بل هو اليوم. المجزرة بنيويّة، شديدة الحضور في اختبائها خلف سنواتٍ هي وقتٌ، بل وقتٌ طويل، ولكنه وقتٌ لم يصنع زمناً. تُنسى سوريا ويُنسى مصابها هنا وهناك، حتى ضمن التعدادات الكسولة للأمثلة على كوارث معاصِرة، لكن أهل المجزرة غير قادرين على النسيان، لأنهم محرومون أساساً من التذكّر: لا تتذكر ما هو «الآن وهنا»، بل تحتاج لمسافة من الحدث لتتذكره، لزمنٍ ما. بإمكاننا القول إن الوقت هو زمن بلا مسافة.
وحده وقتٌ مجبولٌ بإحقاق الحق، ولو جزءٌ من الحق فحسب؛ وبرَدِّ المظالم، ولو بعض المظالم فقط؛ وبالتعويض المادي والمعنوي ولو جزئياً لا غير؛ وبـ«جبر الخواطر» ولو قليلٌ من كسرها لا أكثر، يمكن أن يصير زمناً: زمناً يُتاح للناس فيه أن يواسوا أنفسهم وبعضهم البعض، وأن يحزنوا ويحدّوا ليطووا بعدها بعض أحزانهم ويقرروا أن يمضوا في زمنهم. امتلاك الناس لزمنهم يعني سيادتهم على الإحساس بأن العمر حِقب ومراحل وليس مجرّد وقتٍ في مؤقتٍ خانق. وحدهم أناسٌ سيّادٌ على زمنهم قادرون على التذكّر والنسيان، والتجاوز وإعادة التكوّن. بل هم قادرون حتى على الصفح إن حصل ما يتيح أشكالاً منه.
استهدفت مجزرة الغوطة الكيماوية حياة مئات البشر، لكنها، بوصفها المركزية في المقتلة السورية الكبرى وصانعة السياسة من حولها، استهدفت قتل زمننا. خليطُ الصلف والازدراء والإنكار والتباهي بعد عودة احتلال مكان المجزرة هو امتدادٌ سياسي للغاز والبرميل والصاروخ الباليستي. بشار الأسد مصوّتاً لنفسه، في دوما بالذات، بعد إعادة احتلالها إثر مجزرة كيماوية أخرى هو تجسيد لنفسه، لـ«الأبد»، للوقت اللانهائي الفارغ من الزمن تمام الفراغ.
عن قيمة حياة البشر
في دفاعها عن عصرنا الحالي «رغم كل شيء»، تحاجِج أطروحات فلسفية ليبرالية أن التقدّم الذي نعيشه اليوم لم يكن فقط مادياً وتقنياً، بل شهدنا أيضاً تقدّماً أخلاقياً يتمثل بشكل أساسي في رفع قيمة حياة البشر أعلى من أي زمنٍ آخر من أزمنة البشرية. يورد الكاتبان الإسبانيان خاببير غوما وبيدرو فايين مثالاً على ذلك في كتاب مشترك صدر مؤخراً: حتى ما قبل قرنين ونيف كانت الإعدامات العلنية ميدان تسلية واحتفال ولهو في أوروبا، بما في ذلك للأطفال؛ في حين تنفّذُ أحكام الإعدام اليوم دون حضور، وتلك الجهات القليلة التي ما زالت تنفّذ إعدامات علنية، بما في ذلك داعش نفسها، إنما تفعل ذلك للترهيب وبثّ الرعب، ما يعني أن للموت رهبة، رمزية على الأقل، لم يمتلكها قبلاً. لا يعني هذا الكلام أن الحياة الإنسانية متساوية في قيمتها لدى الجميع، لكن بات هناك «نفور» من الموت، و«تفادٍ شديد» لمشهديته، يُدارى بالتجاهل وبإغماض العين، أو تغيير قناة التلفزيون، أو بالاعتماد على خوارزميات وسائل التواصل التي تحجب «المشاهد المؤذية» تلقائياً وتحظر الحسابات التي تنشرها.
يتمنى المرء لو أنه قادر على الموافقة على هذه المحاججة، ففيها وجاهة ما. لكن غزّة اليوم نموذج مذهل عن إمكانية وضع هذا التقدّم في الثلاجة في لحظة واحدة. ترتكب إسرائيل حرب إبادة ضد فلسطينيي قطاع غزّة حصدت حياة ما لا يقل عن 40000 حسب الإحصائيات (القاصرة بشدة، حتماً) وجزء وازن وقوي و«متقدم» من العالم، على رأسه مراكز السلطة والقرار في كل من الولايات المتحدة وألمانيا تحديداً، لا يتجاهل أو يشيح ببصره، بل إنه متحمّسٌ للمجزرة بكل قوة وعزم. إنه ينظر بعينيه، بل ينظر بكلّ حواسّه.
لكن عدا عزم ودعم قوى سياسية عالمية على إزهاق أرواحنا وأرواح أهلنا، الولايات المتحدة وألمانيا وغيرها في فلسطين؛ وروسيا وإيران وشريكاتهما وأدواتهما في حالتنا السورية، ثمة تصالح بليد ومعمّم مع أن موت أهل منطقتنا-عالمنا اعتيادي، فغالباً لا مفرّ منه، وفي كثير من الأحيان هو ضرورة (لـ«الدفاع عن إسرائيل»، لـ«مكافحة الإرهاب»، لـ«مقاومة الإمبريالية والاستكبار»…). يتّفق قتلتُنا وحُماتهم وداعموهم أحياناً ويتخاصمون، لكنهم لم يتفقوا مرةً على حُرمة حياة البشر عندنا، ولا يوماً اختلفوا بسبب انتهاكها. تلت المجزرة الكيماوية في الغوطة قبل 11 عاماً توافقات وترتيبات روسية- أميركية (بتشجيع وإلهام إسرائيليين، كما علمنا لاحقاً) لم تكن عديمة الأخلاق في تفاصيلها السياسية فحسب، بل كانت مذهلة في تَخلّيها، الدبلوماسي حتى، عن أي احترام لفظي لحُرمة الحياة البشرية التي أُزهقت بسخاء في ليلة واحدة، ليلة من ضمن أيامٍ وليالٍ وسنوات من الموت السوري المعمّم.
ثمة ما هو تراجيدي في مشاهدة سوريين وفلسطينيين يتبادلون العنف اللفظي ويبخسون دماء بعضهم البعض على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متكرر، ولا أتحدث هنا عن الاختلافات في المواقف، حتى الجذرية والحادّة منها؛ بل عن تبخيس قيمة الدم أو نسبَنة المصاب. ليست هذه الصِدامات كلّ المشهد، ولا حتى وازنة عددياً بين الشعبين، لكنها عالية الصوت ومؤسفة في إسفافها في كثير من الأحيان. ثمة الكثير من التفاصيل في أوضاعنا المعقّدة ترفع احتمالات التخاصم والافتراق، بين سوريين وفلسطينيين، وبين سوريين وسوريين وفلسطينيين وفلسطينيين بالطبع، هذا عادي وطبيعي، بل وضروري. لكن ثمة سياسوية ضيقة، تدّعي أنها «واقعية» و«عملية» تعتقد أنها قادرة على النجاة وحدها دون غيرها في هذه المنطقة-العالم: أن هناك سوريا، أي سوريا، محتملة دون فرض قيمة لحياة الفلسطيني والفلسطينية؛ أو أن ثمة فلسطين، أي فلسطين، ممكنة بجوار تسييل أبدي لحيوات السوريين. تعتقد هذه المقاربات أنها «متحررة من الأوهام الإيديولوجية أو الأخلاقوية» لكن لا شيء فيها متحرّر ولا حُر ولا تحرّري. وليس هناك ولا سابقة واحدة في التاريخ على أن مثيلاتها من التذاكيات السياسوية في أي مكانٍ من العالم قد حازت شيئاً عدا الخيبة.
الاتفاق على أولوية رفع قيمة حياتنا، سوريين وفلسطينيين، وعراقيين وسودانيين ويمنيين، وعرب وكُرد.. هو الشرط الأساس الذي يجعل لأي اختلافات أو خصومات بعدها أدنى وجاهة. غير ذلك، فإن وهماً بإمكانية قيمة لحياة الذات دون سواها، عداك عن أن يكون ذلك على حساب سواها، لا يستدعي إلا الأسى.
حياة لا قيمة لها هي وقت بيولوجي فحسب، ونحن بحاجة للزمن لكي نمارس السياسة ونتخاصم فيها…
عن أهالي بحاجة لأهل
تتصدّر مجموعات الضحايا السوريين وعائلاتهم المشهد الناشطي السوري منذ سنوات عديدة، فالتجمعات والمؤسسات المعنية بضحايا الاعتقال والتغييب ومختلف المجازر، من بينها الكيماوي، حاضرة بقوّة في نشاطات المناصرة والتحشيد وبثّ المعلومات عن سوريا وعن معاناة السوريين في مختلف أرجاء الشتات. ينظمون الوقفات والاعتصامات، ويحضرون في المحاكمات التي تُعقد هنا وهناك بخصوص سوريا، ويتحدّثون أمام المؤتمرات واللقاءات حيث يُدعَون، ويتواصلون مع جمعيات ضحايا من سياقات أخرى من العالم. وفي أوروبا تحديداً يكاد لا يوجد غيرهم حاضر في الساحة العامة للحديث عن سوريا.
هذا النمط من الناشطية العامة، أي الحضور بصفة «ضحية»، جديد عالمياً، إذ لم يكن حاضراً قبل نهاية السبعينيات. تنطلق غالب الدراسات عن «الضحية» كفاعل سياسي من النموذج الأميركي-اللاتيني، خصوصاً عائلات ضحايا التغييب في الأرجنتين وتشيلي والأوروغواي وغيرها. وثمة نقاش مفاهيمي ونظري مهم في أميركا اللاتينية حول الحضور في المجال العام كـ«ضحية»، وعلاقة ذلك بتحولات كبرى في مفهوم المواطنة ومفهوم المجال العام في نصف القرن الأخير.
«الضحية» ناشط-ة في المجال العام انطلاقاً من مصابه-ا أو الذاتي. نقطة. طرق فهم المجال العام والمَصَاب والذات متنوّعة قدّ تنوّع البشر. لا أحد لديه «خبرة» في أن يكون ضحية، ولا بإمكان أحدٍ أو جهة أن تُعلّم إنساناً كيف يكون «ضحية» بشكل سليم.
من الشائع أن يختلف ضحايا وذوو ضحايا في نشاطهم العام وفي علاقاتهم البينية، وأن تصل خلافاتهم حدّ القطيعة والانشقاق والخصومة. حصل ذلك في كلّ السياقات التي برزت فيها تجمعات الضحايا وذويهم كفاعل عام. تُطرح على هذا الفاعل العام خيارات واحتمالات ومفترقات طرق في العمل العام، ويختلف الناس في تفضيلاتهم. وكلما كان السياق التي تعمل فيه هذه التجمعات معقداً كلما كانت احتمالات الخِلاف والشقاق أكبر. يعلم متابعو نشاط جمعيات الضحايا وذويهم السوريّة أن خلافات كبيرة تحصل بينها وضمن كل واحدةٍ منها، بعض هذه الخلافات شخصي، وبعضها سياسي، وبعضها الثالث تنظيمي. لا يمكن ألا تحصل هذه الخِلافات، لأنها تجمُّعات عمل عام تضم أناساً شديدي الاختلاف فيما بينهم ويجمعهم مصاب مشترك، ولأن هذه التجمعات تتعرّض لأسئلة ومفترقات طرق وخيارات سياسية وعامة، كان يجب ألا تكون هي، أو هي وحدها، مَن يوضع في مسؤولية الإجابة عنها. نتحدث، مثلاً، عن الدخول في تحالفات أو شراكات، أو الموافقة على التعاون مع آليات دولية أو أممية معقّدة ولها تبعات سياسية وعملياتية كبيرة.
ليس خبراً سارّاً لأي قضية سياسية أن يتصدّر المرافعة عنها ضحايا مباشرون وأهاليهم بصفتهم هذه، فهذا يعني انحساراً عنها لم يترك وراءه إلا من تعنيه هذه القضية بدمه ولحمه، حرفياً. وجود الضحايا وعائلاتهم وحدهم على صدارة مشهد المرافعة عن سوريا كما هو الحال الآن يشكّل ضغطاً غير نزيه ولا عادلٍ عليهم، ويضعنا جميعاً أمام استحقاقٍ إضافي يجبرنا على المزيد من التفكير الخلاّق وتمارين الخيال عن كيفية الحضور والتنظيم والعمل من أجل سوريا، في البلد وفي العالم.
أن يكون لأهلنا أهل، ولوقتنا زمن، ولحياتنا قيمة. ليس قليلاً، ولا مستحيلاً.