صدرت في تموز (يوليو) الماضي رواية بعنوان دويتو في المَطهَر بتأليف مشترك من صلاح الدين دميرتاش وييت بنر، لاقت ترحيباً من الوسط الثقافي بعدد من النصوص الصحفية في وسائل الإعلام التركية.

أَعترفٌ بأنني لم أسمع، من قبل، بالكاتب الثاني، فغوغَلتُ على اسمه بسرعة، فوجدت أن له باعاً طويلاً في عالم القصة والرواية، في عدد الكتب الصادرة له على الأقل، فوعدت نفسي بقراءة شيء منها في وقت لاحق.

أما دميرتاش فهو أشهر من نار على علم بالنسبة إلى قراء العربية أيضاً. غير أنني أفترضُ أن هؤلاء يعرفون دميرتاش كسياسي كردي من تركيا، وزعيم حزب الشعوب الديمقراطي؛ ممثل الكرد في البرلمان التركي، ومرشح لرئاسة الجمهورية مرتين، في 2014 و2018، في مواجهة الرئيس رجب طيب أردوغان، والسجين السياسي منذ العام 2016. أما دميرتاش الأديب فمن المحتمل أنه غير معروف لقراء العربية إلا من كان منهم من كرد سوريا والعراق بسبب اهتمامهم الخاص. وعرفت من الغوغل أيضاً أن مجموعته القصصية الأولى سَحَر مترجمة إلى العربية، وحدها من بين خمسة كتب صدرت لدميرتاش قبل الرواية المشتركة الأخيرة المشار إليها.

صلاح الدين دميرتاش، ويكيميديا

الواقع أنني تأخرت في الكتابة عن دميرتاش على رغم اهتمامي بكل ما يتعلّق به من أخبار وما يصدرُ عنه من تصريحات ومقالات سياسية وكتب أدبية، باعتباره، وحزبه، لاعباً سياسياً مهماً في الحياة السياسية التركية، كما باعتباره سجيناً سياسياً، وأخيراً باعتباره كاتباً مُتقِناً لفن الكتابة القصصية والروائية. وكان خبر صدور الحكم عليه، في أيار (مايو) 2024، مناسبة لتلافي هذا التأخير، لكنني فضّلتُ تأخير الكتابة فترة إضافية أعيدُ فيها قراءة كتبه للمرة الثانية كي لا أعتمد في الكتابة عن جانبه الأدبي على ذاكرتي.

* * * * *

بعد نحو سبع سنوات ونصف من اعتقال دميرتاش، في إطار حملة شملت أيضاً الرئيسة المشتركة الثانية لحزب الشعوب الديمقراطي، فيغن يوكسكداغ، وعدداً من الكوادر القيادية في الحزب ونوابه في البرلمان، صدرت الأحكام أخيراً فيما يُسمّى بـ«قضية كوباني»، فكان نصيب دميرتاش من تلك الأحكام السجن 42 عاماً، فيما حصلت يوكسكداغ على عقوبة السجن لثلاثين عاماً. علماً بأنه ثمة عشرات الدعاوى الأخرى المرفوعة ضد دميرتاش في المحاكم، وصدر في إحداها حكم جديد بحقه هذا الشهر، بتهمة «إهانة رئيس الجمهورية» وحكم عليه فيها بسنتين ونصف.

ما هي قضية كوباني؟

بعد أقل من ثلاثة أشهر على إعلان أبو بكر البغدادي قيام «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وخلافته عليها في حزيران (يونيو) 2014، بدأ هذا التنظيم (داعش) هجوماً كبيراً على بلدة كوباني (عين العرب) المحاذية للحدود التركية. وكانت وحدات حماية الشعب، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني)، هي القوة المسلحة الوحيدة الموجودة في المدينة منذ صيف العام 2012 حين انسحب منها النظام، فكان عليها أن تدافع عنها، في حين هرب عشرات الألوف من المدنيين (تتراوح التقديرات بين 150 و400 ألف) منها ومن القرى المحيطة بها إلى الجانب التركي من الحدود، حيث بلدة ملاصقة هي سروج وسكانها من الكرد أيضاً.

استمرّت معركة كوباني نحو خمسة أشهر (أيلول/ يوليو 2014 – كانون الثاني/ يناير 2015) قُتل فيها مئات المدنيين والمقاتلين من الطرفين، وشارك «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة في المعركة بضربات جوية شبه يومية على مواقع مقاتلي داعش، كما شارك متطوعون كرد من تركيا، وفصائل من الجيش الحر، وقوات من البيشمركة جاءت من إقليم كردستان، بعدما سمحت لها السلطات التركية باستخدام ممرٍ موازٍ لخط الحدود داخل الأراضي التركية، وذلك بنتيجة ضغط أميركي مباشر على الرئيس أردوغان.

كان من غير المحتمل ألا يتأثّر كُرد تركيا بالخطر الذي يواجهه أبناء جلدتهم على الطرف الآخر من الحدود. وفي ذلك الوقت، كان حزب الشعوب الديمقراطي على اتصال يومي بالحكومة التركية في إطار «الحل السلمي» الذي أطلقه أردوغان منذ آذار (مارس) 2013، فبدأ يضغط عليها مطالباً بفتح الحدود أمام المتطوعين أو المساهمة العسكرية في دعم صمود كوباني. كان مقاتلو داعش الانتحاريون، في أوائل تشرين الأول (أكتوبر)، قد سيطروا على عشرات القرى القريبة من البلدة في طريقهم للسيطرة عليها، حين ألقى أردوغان كلمةً في تجمُّع جماهيري في مدينة غازي عنتاب، وجه فيها نداءً إلى واشنطن فقال «إن الضربات الجوية وحدها لن تكفي لحماية كوباني، بل لا بد من مشاركة برية. فكوباني ستسقط بين لحظة وأخرى». الجملة الأخيرة فسرها أنصار «الشعوب الديمقراطي» الكُرد على أنها تعبير عمّا يتمناه أردوغان، بالنظر إلى تعاطفه الضمني المفترض مع الإسلاميين في مواجهة الكرد، والذي ظهر من خلال مسلك السلطات التركية ميدانياً أثناء المعركة، وعناده في فتح الممر البري أمام قوات البيشمركة قبل أن يرضخ لضغوط الرئيس الأميركي أوباما.

اجتمعت الهيئة القيادية في حزب الشعوب في 8 تشرين الأول (أكتوبر) واتخذت قراراً بالتصعيد في الشارع الذي كان يغلي أصلاً، فوجهت نداءً إلى جماهير الحزب للقيام بمظاهرات احتجاجية للضغط على الحكومة. وهو ما حدث في يومي 8 و9 تشرين الأول، فتظاهر آلاف الكرد في عدد من المدن التركية بما في ذلك اسطنبول وأنقرة وإزمير، إضافة إلى مدن الجنوب الشرقي حيث الكثافة السكانية الكردية. وتخلّلت الاحتجاجات أعمالُ عنف بسبب الاستخدام المفرط للقوة من قبل الشرطة في تفريق المتظاهرين، إضافة إلى اشتباكات وقعت بين المتظاهرين ومظاهرات مضادة قام بها أنصار «خودا بار»، وهو تنظيم إسلامي كردي موالٍ للحكومة، وسليل «حزب الله» في التسعينيات. قُتل أكثر من خمسين شخصاً من المدنيين وجرح العشرات بمن فيهم من قوات الشرطة. فعقد صلاح الدين دميرتاش مؤتمراً صحفياً دعا فيه أنصار الحزب وجماهيره إلى الانسحاب من الشارع حقناً للدماء.

على رغم أن هذه التطورات قد أثّرت سلباً على مسار «الحل السلمي» لكنها لم توقفه أو تنهيه. وعلى رغم تطاير الاتهامات المتبادلة بين السلطة وحزب الشعوب في وسائل الإعلام بخصوص المسؤولية عن إراقة الدماء، لم تلجأ السلطة إلى سلاح الاعتقالات وعصا القضاء إلا بعد عامين، أي في خريف العام 2016، بعدما تغيرت اللوحة السياسية تغيرات كبيرة. ففي حزيران (يونيو) 2015 تمت انتخابات نيابية فاز فيها حزب الشعوب الديمقراطي بنحو 13 بالمئة من أصوات الناخبين، أهّلته للحصول على 80 مقعداً نيابياً، مقابل خسارة الحزب الحاكم للغالبية في مجلس النواب، ففَقد حقه في تشكيل الحكومة بمفرده، وذلك للمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002، فبات بحاجة إلى تشكيل ائتلاف حكومي مع حزب آخر. وإذ فشلت محاولات رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو في إقناع أي من أحزاب المعارضة بتشكيل حكومة ائتلافية، تقرر إجراء «انتخابات إعادة» في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، وفاز فيها الحزب الحاكم بغالبية مريحة أتاحت له مجدداً تشكيل الحكومة بمفرده.

 وكان مسار الحل السلمي قد انتهى، بصورة غير رسمية، منذ شباط (فبراير) 2015، بعدما اجتمع طرفا الحل المنشود في قصر دولمة بهجة وأصدرا خريطة طريق توافقية للمضي في العملية السياسية، لكن الرئيس أردوغان أعلن، في تصريحات صحفية، عدم موافقته على خريطة الطريق هذه.

وفي 15 تموز (يوليو) 2016 وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي اتُّهمت بالوقوف وراءها حركة فتح الله غولن، فأطلقت الحكومة موجة تصفيات واسعة شملت القوات المسلحة والشرطة والجهاز الإداري وكل من اشتُبه بأي علاقة له في الماضي مع الجماعة التي اعتُبرت إرهابية، وتم توقيف عشرات الآلاف من مختلف الدوائر المدنية، في إطار حالة طوارئ سمحت للحكومة بإصدار ما سُميَّ بـ«قرارات بمثابة قوانين». وسرعان ما تشكل تحالف بين الحزب الحاكم وحزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي، كان الهدف منه تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. ولا يخفى تأثير هذا التحالف على توجهات الحكومة تجاه السياسيين الكرد، فتم استغلال أجواء التصفيات التي تلت المحاولة الانقلابية للانقضاض على كل معارضي الحكم، وبخاصة الحزب الكردي. في هذا الإطار الزمني والسياسي تم إلقاء القبض على دميرتاش ووضعه في سجن أدرنة في أقصى غرب البلاد، ذي النموذج F (أي ذي حراسة مشددة وإجراءات عزل بين السجناء، والمخصص لمحكومي الإرهاب وقضايا أمن الدولة وما يماثلها). وكان الاتهام الرئيسي الموجه إليه، وإلى قادة حزب الشعوب الآخرين، هو مسؤوليتهم عن إراقة الدماء في المظاهرات الاحتجاجية في 8-9 تشرين الأول 2014، وعرفت في الرأي العام بقضية كوباني.

امرأة تحمل صور الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد صلاح الدين دميرتاش، المسجون منذ 2016 (ياسين آغول، غيتي إيمجز)

ظروف السجن

كان يمكن للسلطات القضائية أن تُحاكم دميرتاش طليقاً، كما تفعل في حالات مماثلة، إلى أن يصدر حكم بشأنه، لكنها اختارت اعتقاله على ذمة التحقيق سنوات طويلة قبل عقد أولى جلسات محاكمته، وذلك لأن النيابة العامة لم تستكمل مطالعتها إلا في أواخر العام 2022. أضف إلى ذلك أن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية قد أصدرت حكمها ببطلان مبررات اعتقاله ووجوب إطلاق سراحه فوراً، لكن القضاء التركي لم يمتثل رغم توقيع تركيا على الاتفاق الخاص بإنشاء تلك المحكمة، التي تُعتبر أحكامها أعلى من أحكام أي مرجعية قضائية محلية. وهذه الاعتبارات تتيح اعتبار دميرتاش معتقلاً سياسياً. أما دميرتاش نفسه فيعتبر نفسه «رهينة سياسية» كما عبّرَ عن ذلك في مناسبات كثيرة، بينها مطالعاته الدفاعية في جلسات المحكمة.

أصدر زنار كرافيل، في العام 2022، كتاباً توثيقياً عن قضية دميرتاش وظروف اعتقاله يُشكّل مرجعاً مهماً في موضوعه، يحتوي أهم التفاصيل حول تطورات هذه القضية والملابسات السياسية والقضائية المتصلة بها. أتاح لي هذا الكتاب «رؤية» المكان الذي يمضي فيه دميرتاش أيامه، وروتينه اليومي، وكيف يكتب، وكيف تتعامل معه إدارة السجن.

لم يمض وقت طويل على بداية احتجازه في سجن أدرنة حين بدأ دميرتاش بنشر مقالاته في صحف ومنابر إلكترونية، إضافة إلى تعليقاته المتواترة على منصة تويتر. ثم توالت أعماله الأدبية التي نُشرت تباعاً. الأمر الذي جعلني أظن أنه يملك وسائل اتصال كالتليفون والإنترنت وربما جهاز كمبيوتر. ثم اتضح لي خطأ هذا الظن حين قرأت كتاب كرافيل كرسي دميرتاش الأبيض المشار إليه أعلاه. فدميرتاش يستخدم في الكتابة القلم والورق، ثم يُرسل تلك المخطوطات في زياراته بعد إطلاع إدارة السجن على محتوى رسائله وأوراقه (تدور إحدى القصص التي سينشرها لاحقاً حول هذا الموضوع، وسنعود إليها لاحقاً). وتسمح له إدارة السجن بزيارة أسبوعية، واحدة منها كل شهر «مفتوحة»، أي في غرفة بلا فاصل يحجبه عن زواره. كذلك مسموح له باتصال هاتفي لمدة عشر دقائق كل أسبوع. يبدو أنه يملي تغريداته بواسطة التليفون، فينشرها له فريق عمله على حسابه على منصة تويتر. ويتحدث دميرتاش عن حادثة طريفة تتعلق بتغريداته، فيقول إن إدارة السجن قد شكّت في أنه يخبئ جهازاً خاصاً يتواصل من خلاله مع العالم الخارجي، فقاموا بتفتيش غرفته، وشكّ أحد الحراس بسخان الماء الذي يستخدمه في صنع القهوة والشاي، فسأله عن ذلك! منذ تلك الحادثة يمازح دميرتاش قرّاءه وزواره بالقول إنه سيستمر في الكتابة والنشر ما دام يملك سخان الماء!

الغرفة التي يمضي فيها دميرتاش سجنه مخصصة لشخصين، وسمحت له إدارة السجن باختيار شريكه في الغرفة، وكان هذا الشريك في السنوات الأولى عبد الله زيدان، النائب في مجلس النواب عن مدينته هكاري، قبل إطلاق سراحه حين انتهت فترة حكمه، وانتُخِب في 31 آذار (مارس) الماضي لرئاسة بلدية المدينة نفسها، وحاولت إحدى المحاكم حرمانه من فوزه بذرائع عجيبة، وتعيين مرشح الحزب الحاكم بدلاً منه، لكن المظاهرات الاحتجاجية التي ملأت شوارع المدينة ومدناً أخرى، وتضامن عدد من أحزاب المعارضة معه إضافة إلى حزبه، الشعوب الديمقراطي، جعل السلطة القضائية تتراجع عن ذلك. أما الآن فشريكه في الغرفة هو سلجوق مزرقلي، رئيس بلدية مشارك سابق لمدينة ديار بكر عن حزب الشعوب الديمقراطي. ولا يُسمَح لدميرتاش بالاختلاط مع أي سجناء آخرين في السجن باستثناء شريكه في الغرفة، بما في ذلك فترات التنفّس في الباحة وساعات الرياضة وزيارة مكتبة السجن وورشة الرسم. ففي كل هذه الأنشطة يكون دميرتاش وحده أو مع شريك غرفته فقط. وحين يمرُّ في الكوريدور في طريقه إلى المحكمة أو الزيارة أو المستوصف، تكون كل هذه الأماكن خالية من أي سجناء آخرين. فثمة حرص على عزلة كاملة مفروضة عليه من الإدارة. وما من داع لذكر أن اتصالاته التليفونية ومراسلاته وزياراته تخضع جميعاً للرقابة.

واظبت زوجته بشاك على زيارته كل أسبوع، قاطعةً مسافة 1600 كم لرؤيته لمدة عشر دقائق من وراء الشبك الحديدي في الزيارة الأسبوعية العادية، تتخلل ذلك زيارة «مدعومة» واحدة كل شهر تسمى بالـ«مفتوحة» لمدة ساعة بلا حاجز. ترافقها عادةً ابنتاهما اللتان كبرتا أثناء سنوات السجن. وأحياناً يرافقها زوار آخرون من أهله أو أهلها، فيتقاسمون وقت الزيارة. أما محاموه فيحصلون على زيارات خاصة بإذن من النيابة.

ثمة في هذه الشروط ما هو عام ينطبق على جميع نزلاء هذا السجن، لكن العزلة المفروضة على دميرتاش خاصة به، فهو وشريكه في الغرفة «يعيشان في سجن داخل السجن» بحسب تعبير سجين سابق في السجن نفسه، خرج قبل فترة وأدلى بتصريحات لأحد المنابر الإعلامية. ولا بد من مقارنة شروط سجن دميرتاش هذه بشروط سجين آخر «مدعوم» هو علاء الدين جقجي، الذي كان محتجزاً في سجن آخر في فترة متزامنة مع سجن دميرتاش. جقجي هذا هو أحد زعماء المافيا، مدان بجرائم كثيرة كالتهديد بالقتل واحتجاز الحرية والحض على القتل والابتزاز المالي وتجارة الممنوعات وتحصيل خُوّات تحت التهديد وغيرها. تربطه علاقة خاصة بزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي الذي زاره في سجنه، وضغط على أردوغان لاستصدار عفو خاص عنه. وأخيراً تمكن من الخروج من السجن بفضل ترتيب قضائي خاص بمواجهة وباء كورونا شمله مع آلاف آخرين (ولم يشمل هذا التدبير الصحي دميرتاش أو أياً من سجناء حزب الشعوب الديمقراطي). وحين خرج جقجي من السجن قام بزيارة بهجلي في بيته لتقديم الشكر. كانت فترة التنفس مفتوحة لجقجي 24 ساعة، ويأتيه الطعام من مطاعم خارج السجن، وزياراته مفتوحة يومياً وتتم في غرفته التي يَشغلُها وحده، لكنها لا تخلو من الزوار، وكان يقدم لبعضهم ولائم كبيرة في غرفته أو في باحة التنفس المفتوحة له. كل ذلك بإذن مكتوب من المحكمة.

القاص والروائي صلاح الدين دميرتاش

نشر دميرتاش عدداً من القصص القصيرة في منابر إعلامية وثقافية، ثم جمعها في كتاب حمل اسم سَحَر، بعدما أضاف إليها عدداً من القصص غير المنشورة. استقبال القصص المنفردة ثم المجموعة القصصية لم يخرج عن التوقعات، ذلك أن دميرتاش يتمتع بشعبية كبيرة بسبب موقعه السياسي، سواء في الأوساط الكردية أو أوساط تركية يسارية وديمقراطية وليبرالية، تتجاوز شعبية الحزب الذي كان يقوده، الأمر الذي ظهر حين ترشح لمنصب رئاسة الجمهورية في العام 2014 فنال قرابة 4 ملايين صوت، وفي انتخابات 2018 تجاوز 4 ملايين ومئتي ألف صوتاً. غير أن هذه الشعبية السياسية ليست مقياساً صالحاً لقياس جودة ما يكتب، بقدر ما تشكّل أفضلية تتيح له عدداً كبيراً من القراء. كذلك يمكن للانحياز السياسي أن يشوش على تقييم القراء لقيمة نتاجه الأدبي.

شخصياً فوجئت ببراعة دميرتاش الأدبية مع تفاوت في الجودة بين قصة وأخرى. فهو يملك لغة (تركية) سلسة ورشيقة، وأسلوباً جذاباً يمسك بتلابيب القارئ منذ الجملة الأولى، فلا يترك هذا الكتابَ إلا بعد الانتهاء منه. موضوعاته شديدة التنوع، شخصياته غالباً من قاع المجتمع، منظوره التحرري والإنساني يسيطر على أجواء أعماله، قضيته الكردية كامنة في خلفية المشهد إن لم تكن هي صلب العمل، مع بعض قصص ذات مضمون وجودي، إذا جاز التعبير، تقع أحداثها خارج الشروط التاريخية. أكثر ما يدهش في قصص وروايات دميرتاش تلك الخبرة الحياتية العميقة والمخيلة الواسعة التي تعكسها. يصف مشاعر عمال التنظيفات في مركز تجاري (مول)، فيرى القارئ للمرة الأولى مطاعم الوجبات السريعة في تلك المولات من زاوية نظر مختلفة عمّا اعتاد أن يرى منها حين يرتادها زبوناً. ويبرز المنظور النسوي لدى دميرتاش منذ القصة الأولى في مجموعته سحر. فبعد أن يخدعنا الكاتب بمونولوج سجين مع عصفورين عشّشا على جدار الباحة بين الأسلاك الشائكة، فنظن أنه سيتحدث عن تجربته، نفاجأ بنقلة غريبة إلى عالم العصافير التي تُبادِلُ السجينَ الكلام، لنعرف بعد ذلك أن القصة إنما تدور عن قوة الأنثى وتفاهة الذكر. أما الفتاة الصبية «نازو اللّفاية» في القصة التي تحمل هذا العنوان، فهي في طريقها إلى منزل اتّفقت مع أصحابه البرجوازيين على تنظيفه مرة في الأسبوع، تجد نفسها فجأةً في وسط مظاهرة احتجاجية تتدخل الشرطة لتفريقها فيلقى بها وراء القضبان، هي التي لا تملك أي فكرة عن السياسة أو الاحتجاج وتفشل في إقناع الشرطة ببراءتها. أما في قصة «داد» من المجموعة التي حملت اسمها عنواناً لها، فنجد أنفسنا فيما يشبه أفلام الأكشن: ثلاث نساء شكلنَ عصابة سرية هدفها الاقتصاص من مُغتصِبين أفلتوا من العقاب، وما أكثرهم.

الموضوع الأثير لدى أصحاب تجربة الاعتقال السياسي حين يتوجهون إلى الكتابة هو تجربتهم الخاصة التي يحافظ البعض منهم على إطارها الذاتي كمذكرات أو عمل روائي يتأسس على التجربة الشخصية، أو يسعى بعض آخر إلى استخلاص أفكار مجردة من تلك التجربة ويؤطرها بسياقها السياسي العام. أما دميرتاش فقد فضّلَ الخروج من السجن، ذهنياً، والانفتاح على العالم الواسع في الخارج وابتكار شخصيات وعوالم شديدة الغنى والتنوع. نشر دميرتاش إلى الآن ثلاث مجموعات قصصية وروايتين ورواية مشتركة مع كاتب تركي. في جميع قصصه ورواياته لا يحضر السجن إلا في تلك القصة المشار إليها عن العصافير، وهي من ثمرات الخيال أكثر من كونها تعكس تجربة معاشة. وثمة نص آخر لا يمكن اعتباره قصة بالمعنى المألوف، بل عبارة عن رسالة موجهة إلى «لجنة القراءة في إدارة السجن» التي تقوم بمراقبة مراسلات السجناء الواردة والصادرة لإجازتها أو حظرها. النص تهكمي وممتع يعبر فيه الكاتب عن تعاطفه مع أولئك «القرّاء» في مهمتهم الشاقة بسبب كثرة مراسلات دميرتاش إضافة إلى السجناء الآخرين. وثمة نص آخر من خارج مجموعاته القصصية، نشره في إحدى الصحف بعد بضعة أشهر على إيداعه السجن، يتضمن نصائح أو توجيهات تخص الحياة داخل السجن، يتّصف بالتهكم أيضاً.

التهكم سمة أساسية في جميع نصوص دميرتاش القصصية والشعرية، على رغم قسوة موضوعاتها وأحداثها المُتخيَّلة في أغلب تلك النصوص. وهي صفة شخصية في دميرتاش إذا نظرنا إلى حواراته الصحفية التي لا تخلو من ممازحات وطرائف.

على رغم «خروجه» الخيالي من السجن بواسطة الكتابة الأدبية، يمكن تلمُّس شرطه الوجداني كسجين يشتاق إلى أحبته وإلى الحرية بصورة عامة في كثير من نصوصه. ففي إحدى قصصه التي تقوم على فكرة العوالم أو الأكوان الموازية، نقرأ عن كاتب يستيقظ فيجد نفسه على شاطئ البحر وحيداً في كوخ خشبي، وملزماً بكتابة سيناريو عن يوم في حياة المرأة التي يحب، شرط أن ينتهي من الكتابة في ساعة محددة. ويتكرر هذا كل يوم في الساعة نفسها إلى أن يكتشف «إشارات» موجهة إليه من قبل تلك المرأة ليتمكن من الخروج من هذه الحلقة المفرغة. أما في روايته ليلان (وهي كلمة كردية تعني: السراب) فيبلغ الشطط في الخيال لدى الكاتب أن يحكي عن تكنولوجيا حديثة جداً (متخيلة) تتيح التواصل بين ذهنين أحدهما لرجل دخل حالة الغيبوبة بعد حادث سير، والآخر لزوجته التي تحاول «دخول» ذهن زوجها والتأثير فيه على أمل إنقاذ حياته من حالة الغيبوبة.

مدير دار نشر ديبنوت أمير علي تركمان، في صورة مع كتاب ليلان للسياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش. (آدم التان، غيتي إيمجز)

من الإجحاف تلخيصُ هذه الرواية البديعة بالأسطر السابقة، ولا بدَّ من قول بضعة أسطر أخرى عن بنيتها الغريبة. فهي تتألف من قسمين منفصلين يمكن قراءة كل منهما كعمل مستقل. شكلياً، الرابط الوحيد بينهما هو أن القسم الثاني عبارة عن رواية تكتبها إحدى الشخصيات الهامشية في القسم الأول ويقرأها بطل هذا القسم. بتقنية الرواية داخل الرواية. أما من حيث المضمون فثمة رابط عميق هو الحب الذي يتم تناوله بأسلوب ساخر في القسم الأول، ومأساوي في الرواية الأساسية أي القسم الثاني. والمفارقة البارزة بين القسمين هي أن شخصيات القسم الأول (التمهيدي) هي من ذلك النوع الأثير لدى دميرتاش: شخصيات هامشية في أوضاع هشّة، ثلاثة رفاق مدرسة يضطرون لترك دراستهم بسبب صعوبة الدراسة بلغة ليست لغتهم (الكردية)، إضافة إلى ضيق حال أهلهم، فيعملون في ورشة تصليح سيارات. أحدهم يقع في حب زميلة في المدرسة منذ المرحلة الابتدائية، لكنه لا يفاتحها بحبه أبداً، لكنها تعرف، والحارة كلها تعرف أن فلانة هي حبيبة فلان! ويُعطّل، بمساعدة رفيقيه، كل خطوبة محتملة لها، وهي مسرورة من هذا التعطيل. ومثل موسيقى خلفية لأحداث هذه القصة نقرأ مفارقات لغوية بين كلمات كردية وما يقابلها في التركية ولغات أخرى، في نوع من التوكيد على الجانب الثقافي اللغوي للمشكلة الكردية في تركيا، وما يسببه حرمان ملايين الكرد من ممارسة لغتهم الأم من مآسٍ. شخصياً استمتعتُ بقراءة هذا القسم التمهيدي أكثر من القسم الثاني (الرواية داخل الرواية)، رغم متانة السرد في الثاني ومفاجآته الصادمة وعنصر التشويق المستخدم ببراعة. ربما لأن الأسلوب المرح في القسم الأول أكثر إمتاعاً من غرائبية القسم الثاني وكآبة أحداثه.

في الصفحات المخصصة لشكر الأشخاص الذين قدموا مساهمات في إنجاز هذا الكتاب، يتحدث دميرتاش عن معاناته الشديدة أثناء الكتابة فيقول إنه تنكر لعمله هذا أكثر من مرة، معتبراً أنه عمل فاشل، وشعر أنه سيتوقف عن الكتابة نهائياً بسبب ما اعتبره فشلاً. زميل زنزانته عبد الله زيدان، الذي كان القارئ الأول لجميع أعماله إلى حين إخلاء سبيله، كان له رأي آخر. وبتشجيع منه عرض المخطوط على قُرّاء آخرين في الخارج من حلقته المقربة ومن خارجها، فتلقى التشجيع منهم أيضاً إلى أن اقتنع بنشرها.

في روايته الثانية أفسون، يشطح الخيال بالكاتب مرة أخرى إلى عوالم غريبة، فيبتكر شخصيات نكاد نلمسها ونراها تخوض تجارب مصطنعة في ظاهرها، لتتكشّف طبقات فوق طبقات من الوقائع، في نوع من محاسبة الماضي الذي يمسك بتلابيب الحاضر ويريد أن يهندس حياة الشخصيات الشابة وفق مخطط مسبق الصنع. الشخصيات الرئيسية تجوب أنحاء اسطنبول ومدن وشواطئ تركية، ومنتجعات يونانية، ومدينة بيروت. يتحدث دميرتاش في إحدى مقابلاته الصحفية عن أن زوجته وابنتاه شاركن في كتابة هذه الرواية، وذلك عن طريق البحث من أجله في شبكة الإنترنت عن معلومات تفصيلية تخصُّ المدن والأماكن التي يزورها بطلا الرواية، وهي أماكن لم تطأها قدما دميرتاش في حياته.

هنا أيضاً نلمس توق السجين دميرتاش إلى التحرك بحرية في مدن وبلدان، مع أن الرواية لا علاقة ظاهرة تربطها بتجربة السجن. فهو يتغلب على سماكة الجدران بواسطة الخيال، كما بمساعدة قيّمة من أسرته! هي إذن رواية كتبت بجهد جماعي تقريباً، وإن كانت مساهمة أسرته تبقى جانبية.

غير أن المفاجأة الأكبر جاءت حين أعلن عن نشر رواية دويتو في المَطهَر بتأليف مشترك بين دميرتاش والروائي التركي ييت بنر. اشتراكُ كاتبين في تأليف رواية واحدة ليس شيئاً جديداً في عالم الأدب، ولكن الجديد هو أن أحد الكاتبين سجين والآخر طليق، وليس بينهما سابق معرفة. لقد بدأ الأمر حين أرسل بنر رسالة تضامنية مع دميرتاش، وردَّ عليها الأخير على عادته في الرد على جميع المراسلات التي تصله، سواء كانت من أقارب وأصدقاء يعرفهم أو من أشخاص لم يسمع بهم من قبل. وهكذا بدأت سلسلة رسائل بين الكاتبين، تعرّفا من خلالها أحدهما على الآخر. لم يُفصِح أيٌّ من الكاتبين عمّن قَدَّمَ اقتراح كتابة عمل مشترك. لكن الكتابة بدأت، فيكتب هذا فصلاً يرسله إلى شريكه، ويكمل ذاك بفصل آخر، وهكذا إلى حين أن انتهيا من الكتابة، وقد اتفقا على الحفاظ على سرية المشروع إلى حين نشر الرواية، وهو ما حدث في شهر تموز الفائت.

تتحدث الرواية عن مصادفة جمعت شخصين في مكان واحد، أحدهما محامٍ مهتم بقضايا حقوق الإنسان، له ماض يساري وتجربة اعتقال وسجن، والثاني ضابط مخابرات متقاعد مارس التعذيب في فترة من فترات عمله، وكان المحامي أحد ضحاياه. موضوع سبق وعولج سينمائياً في فيلم رومان بولانسكي الموت والعذراء. ربما إضافة رواية دميرتاش وبنر تكمن في أن المحاسبة ليست أحادية الاتجاه من الضحية إلى الجلاد، بل هي في اتجاهين، كما داخل كل واحد منهما مع نفسه وماضيه وماضي ما يمثله. بحيث أن كلا الشخصيتين تخرجان من «المَطهَر» وقد تغيّرتا بدرجات متفاوتة. وتحمل كلمة الدويتو في العنوان أكثر من دلالة واحدة: الأولى هي هذه المواجهة بين الشخصيتين الرئيسيتين، والثانية بين مؤلفي الكتاب، وأحدهما كردي والآخر تركي، أما الثالثة فهي نوع من دلالة مشتقة تشير إلى كرد تركيا وأتراكها الذين يمكن أن يتعايشوا في دويتو موسيقي جميل بدلاً من حرب بلا نهاية. يمكن القول إن هذه هي «رسالة الرواية».

تلفت الرواية النظر بتماسُكها ووحدة الأسلوب فيها، فلا يمكن أن يتوقع القارئ أنها إنتاج مشترك لكاتبين لولا أن الأمر معلن، ويبدو أنهما قد بذلا جهداً كبيراً للوصول إلى هذه النتيجة. كما لا يمكن للقارئ أن يحزر أي فصل كتبه هذا وأي فصل كتبه ذاك، لكنه يشعر بأن النهاية ربما كتبت على عجل وتم ضغط الأحداث فيها في حيز ضيق. وكأن هناك شيئاً غير مكتمل أو مبتور.

كقارئ سوري لا يمكنني إلا أن أتوقف عند إحدى قصص مجموعته الأولى سَحَر، التي يلامس فيها الصراع الدائر في سوريا منذ العام 2011. تدور القصة حول أحد أصحاب المطاعم في مدينة أنطاكية المشهورة بمأكولاتها الطيبة. الرجل من أصل سوري، وراء دماثته مع الزبائن وبراعته في صنع الأطباق الشهية يخفي مأساة رهيبة. فقد خسر زوجته وأطفاله في تفجير انتحاري وقع في سوق خضار في مدينة حلب! القصة بارعة حقاً لكنها قائمة على خلفية مغلوطة تماماً بشأن الحدث السوري. يستغرب القارئ السوري هذا الجهل (أو التجاهل؟) لعشرات الوقائع من قصف طيران النظام الأسدي لأسواق الخضار والطوابير أمام المخابز في المناطق الخارجة عن سيطرته، ليُلصق هذا الاتهام بمجموعات جهادية قامت بعمليات انتحارية! يعكس هذا الجهل أو التجاهل المتعمَّد مدى قوة الأفكار المسبقة التي تشوّش الرؤية. فالسردية الشائعة في تركيا عن الصراع في سوريا تعتبره صراعاً بين منظمات جهادية عدمية والنظام، أو، من منظور كردي، بينها وبين كرد سوريا بالنظر إلى أن هجوم «داعش» على كوباني في 2014-2015 هو «الصراع في سوريا»!.  

ولد صلاح الدين دميرتاش في العام 1973 في ولاية ألازغ (العزيز). هو الثاني بين سبعة أبناء وبنات لأب عامل وأم متفرغة للعمل المنزلي. انتقلت الأسرة إلى ديار بكر حين كان صلاح الدين في الثانية من عمره، حيث عاش بقية حياته إلى حين اعتقاله. بعد إتمام دراسته الثانوية انتسب إلى كلية العلوم البحرية التي سيغادرها بعد تعرضه للاعتقال، برفقة أخيه الأكبر. أُطلق سراحه بعد التحقيق وتم الاحتفاظ بأخيه. واظب على مرافقة أبويه في زياراتهما إلى السجن لرؤية أخيه. وقرر العودة إلى الدراسة مختاراً هذه المرة كلية الحقوق في جامعة أنقرة، التي تخرَّجَ منها وأسَّسَ مكتباً للمحاماة وترأس فرع ديار بكر لجمعية حقوق الإنسان. في العام 2007 انتُخب نائباً في البرلمان عن حزب السلام والديمقراطية (الذي سيتحول إلى «الشعوب الديمقراطي» ثم «المساواة والديمقراطية للشعوب» على التوالي كلما تعرض الحزب للإغلاق)، وانتُخب رئيساً مشتركاً للحزب في العام 2010. وتم اعتقاله في خريف 2016 ضمن مجموعة من عشر نواب للحزب.

نشر ثلاث مجموعات قصصية هي: سَحَر (2017)، دوران (2019)، داد (2023)، وثلاث روايات هي: ليلان (2020)، أفسون (2021)، ودويتو في المَطهَر (2024). تمت ترجمة أعماله إلى عشرات اللغات، وحصل بعضها على عدد من الجوائز الأدبية، وفي العام 2018 منحته جمعية القلم PEN عضويتها الفخرية.

ولد ييت بنر في العام 1958 في بروكسل، وعاش سنوات شبابه بين أنقرة وباريس وبروكسل. رُفعت بحقه دعاوى قضائية وأوامر بإلقاء القبض عليه في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع في أيلول (سبتمبر) 1980، فأمضى عشر سنوات من حياته في المنفى بين باريس وبروكسل، فلم يكمل تعليمه الجامعي بعدما كان في سنته الأخيرة في كلية الطب حين اضطر للخروج. عاد إلى إسطنبول في العام 1990 حيث يعيش إلى اليوم. لديه عدد من الروايات والمجموعات القصصية المنشورة وترجمات عن اللغة الفرنسية.

لم يحصل بنر إلى اليوم على إذن بزيارة شريكه في رواية «الدويتو» وجهاً لوجه في السجن على رغم تقدمه بطلب الزيارة مرات عدة.        

* * * * *

فيما يلي ترجمة لإحدى قصص دميرتاش من مجموعة دوران:

شيف المحطة

محطات القطار العتيقة تفوح دائماً برائحة الحزن، حيث تتراكم حالات الفراق والوداع والانفصال والرحيل بلا عودة، لعشرات السنين. روائح العرق وقضبان السكة الحديد والزفت والدموع ظلت حبيسة جدران المحطة طوال عقود. تبدو الساعة الضخمة المتدلية من السقف العالي كما لو أنها تشير إلى الوقت نفسه بلا تغيير، هو وقت الحزن والفراق.

جالساً وحدي على مقعد خشبي ملاصق لواجهة المحطة الأمامية بحجارتها الصفراء، أنظر إلى اللوحة المعلقة في أعلى الجدار تحمل عبارة «محطة كورت آلان» بأحرف سوداء على خلفية بيضاء، سكة القطار تمتد أمامي. إنه أوائل فصل الخريف، الوقت تجاوز منتصف الليل بقليل. بضعة أوراق مصفرة تتقاذفها الريح بلا اتجاه محدد. لا أحد غيري على الرصيف. حقيبة سفري الخشبية الصغيرة تستند إلى جانب المقعد مائلة قليلاً. في إحدى يديّ سيكارة، ياقة معطفي مرفوعة، ويدي الأخرى مدسوسة في جيبه الجانبي. عيناي مملوءتان لكني لن أبكي. عرفت أنني سأضطر يوماً لوداع هذه المدينة الصغيرة وهذا الحب الكبير. مع ذلك ليس ثمة أي قلب يستطيع أن يهيء نفسه لألم الفراق. قلبي منقبض كقبضة يد مشدودة، أستنشق الهواء فيحترق صدري. أعرف أن في كل نفس أستنشقه امتزجت أنفاس محبوبتي بهواء المدينة، أريد أن أخزّن منه أكبر كمية ممكنة قبل رحيلي. آه يا وردتي! آه يا زهرة الرمان! أكان على هذا الحب أن ينتهي بهذه الطريقة؟

كانت نائمة حين خرجت من البيت. أتراها استيقظت الآن؟ أو لعلها حتى لم تنتبه إلى غيابي. ستتصل إذا انتبهت. هل ستتصل؟ وهل أرد على المكالمة إذا اتصلت؟ إذا رددتُ وتحدثنا هل سنستطيع أن نبدأ كل شيء من جديد؟ ماذا عن كل ما عشناه معاً، هل يمكن اعتباره وكأنه لم يكن؟ هل نستطيع إلغاء الماضي كله بشطبة قلم؟ آه يا حبي الجميل، ليت المستحيل ينقلب ممكناً. ليتنا نغمض عيوننا ونفتحها فنرى الحياة انقلبت عيداً. الكلام جميل، قد يمكننا تضميد جراح القلب، لكن الأثر يبقى. حتى هذا قد يرضيني لكن القلب ليس محطماً بل هو مخلوع. بعد قليل يا حبيبتي سأترك قلبي هنا في هذه المحطة الصغيرة الموحشة وأرحل. إذا بحثت عن أثرٍ لي ربما تجدينه هنا. يقال إن مخاوف الإنسان تتحول إلى حقائق، وها أنا أرحل بأبعد ما يكون عن الطريقة التي كنت أتمناها. لا أعرف إلى متى أستطيع أن أتحمل هذا العبء وهذا الألم. الموت هو أسهل الأمور، في حين أنني قد حكمت على نفسي بالحياة مدى العمر. نعم ليس هناك حب سعيد، الحب هو مأساة بشخصية واحدة. أما ذلك النوع الأخر فهو متعة الوصال، الهدوء والارتياح، إلقاء المرساة في مرفأ آمن. في حين أن العشق هو الغوص في بحر عاصف مضطرب والصعود فوق الموج والهبوط تحته. أنا اخترت العشق، لذلك سوف ارحل. سأهاجر مغادراً هذه المحطة العجوز بعد أن أعطيها شيئاً من حزني. أهٍ يا منوّر! أهٍ يا عشقي الوحيد! لن أقول لك وداعاً، أعرف أنك لن تكوني بخير، وأنا لست مبتهجاً بالرحيل. في رئتي رائحتك وأنفاسك، في أذني صوتك… أوه، هذا صوت منوّر:

–         يا قطب الدين… يا قطب الدين!

–         ها أنا قادم يا منوّر!

–         قد مضت ساعة كاملة على رحيل القطار، ما الذي تفعله هناك؟ تعال للنوم.

–         حسناً أنا قادم، قمت بجولة على المكان.

هذه زوجتي منوّر، نادتني من المبنى السكني الملاصق للمحطة. أنا؟ أنا شيف المحطة قطب الدين. هذه العجوز لا تتيح لي أن أهنأ حتى بشيء من الكآبة، أقسم أنها التهمت حياتي.

–         أنا قادم يا عقاباً من السماء. غبت دقيقتين فقط فارتفع صوتك.

–          لا ينفع معك عمل المعروف، انشغل بالي عليك فيما إذا فطست ام مازلت حياً.

–         اندفسي نامي كرمى لله يا منوّر، قلبي مخلوع سلفاً هذا المساء.

–         هد الله قامتك يا قطب الدين!

–         إن شاء الله يا منوّر، إن شاء الله!