طوال سنوات من الفقد، فضلاً عن التقصير العام، يلازمني شعور بالتقصير تجاه أحباب مقرَّبين غابوا أو غُيّبوا عنا. لكني لم أشعر بتقصير في أي شيء كما أشعر تجاه الأستاذ عبد الأكرم السقا. وأعرف أن كثيراً من طلابه وطالباته مثلي.

يصلنا ما يُكتب عن أستاذنا كلّ حين، ويُطلب منا أن نكتب عنه وعن «تجربة شباب داريا» التي وُجِدت بفضله، ولكننا نستثقل المهمة، ونستصغر أي جهد لا يفي الأستاذ حقّه. بعضنا -مثلي- يُرحّل الأمر لأن يكتب كتاباً عن الأستاذ أو عن التجربة، ولكن الكتاب تأخّر… والوقت ينفلت منّا، والفقد يتفاقم ويفتك بنا وبذواكرنا.

* * * * *

يضيقُ المقال في تعداد مآثر الأستاذ وإنجازاته وأثره العميق في طلابه وفي من حوله، فما قام به الرجل وحده تلزمه مؤسسات عدة. الجميع أصبح يعرف معهد القرآن الكريم في جامع أنس بن مالك، والجامع نفسه، وأول ثانوية شرعية للبنات في سوريا، ودار السقّا للطباعة والنشر، ومؤلفات كثيرة منها كتب ومقالات وشروحات وتحقيقات لكتب من التراث. تأتي أهمية هذه الأعمال، التي وُجدت بين أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، من سياقها؛ فالبيئة تعزف عن العلم والتعليم، وخاصّة تعليم البنات. معظم أهالي داريا كانوا يعملون في الزراعة أو النجارة وقتها، ويتواترُ بينهم التعبير عن الامتعاض من كون معلّمات المدارس غالباً ما يأتين من مدن وبلدات أخرى… بل لنقل بصراحة أكثر: من طوائف أخرى. أول ثانوية شرعية للبنات في سوريا، ودار السقّا للطباعة والنشر.

أُسِّست الجمعية الخيرية في داريا في بيئة سياسية غير مواتية أيضاً عقب انقلاب «الحركة التصحيحية»، الذي تعامل مع العمل الأهلي كتهديد. ورغم اعتقالات طالت أعضاء فاعلين فيها أثناء «أحداث الثمانينات» نجَت الجمعية كمؤسسة، وباسمها نفسه «الجمعية الخيرية الإسلاميّة في داريا»، بل إن ضيق المساحة المتاحة للعمل الأهلي أوصلت القائمين على الجمعية لمناورات توسيع نشاطها أفقياً وعمودياً؛ أقصد في المساحة والنوع، فصارت الجمعية «الدارانية» تغطي مناطق أخرى من حزام دمشق، كالقدم وصحنايا والمعضمية وقدسيا، لتدعم مئاتٍ من المحتاجين وعشرات من «الأسر المستورة»، بحسب تسمية أدبيات الجمعية. كما تمّ تأسيس المجمع الخيري، التابع للجمعية، لكي لا يقتصر النشاط على «الشحادة المؤسسية» كما كان يصفها ساخراً صديق الأستاذ وشريكه في تأسيس الجمعية عبد الرحيم شربجي (أبو مصعب)، الذي ارتقى بقصف النظام على المدينة في 2012. المجمع الخيري مشروع تنموي ضمّ ورشاً مهنيّة للنساء، ومساكن شبابية مخفّضة الأجرة، وأوقافاً يعود ريعها للجمعية. لقد كان الأستاذ أحد الفاعلين الرئيسيين في تأسيس ومأسسة كل ذلك، بل إنه شارك المهندسين بتصميم بعض الأبنية وتقسيمها.

سيتّفق محبّو الأستاذ وخصومُه على أن الرجل ناشط مثابر، سخيّ ومبدع، وخطيب مفوّه، وكاتب ومحقّق خبير في مجاله.

في المآثر، نتكلم عمّا يتجاوز الكرم المعروف إلى التفاني في البذل دون انتظار مقابل. تجد مكتبته التي أسسها لتشغل جزءاً واسعاً من بيته تستقبل طلاب العلم، وبابها حرفياً مفتوحٌ على الدوام، حيث كان الرواد يدخلون ويخرجون دون استئذان، وكأنها مكان عام، يحمل حميمية البيت ودفئه، وأيضاً طعامه وضيافته وكل ما تعدّه الحاجة أم كمال زوجة الأستاذ، المجاهدة الحقيقية التي غادرت دنيانا في خريف 2020 صابرة محتسبة، ومع كل بلاءاتها، مهجّرة قسراً في أقصى شمال سوريا. 

* * * * *

قيل إن من يتعلم من أساتذته أو مِن عالمين قبله مثل الذي يقف على كتف العملاق، لكن في حالة الأستاذ عبد الأكرم، تجد العملاق يساعدك بنفسه كي ترتقي كتفه لترى ما لا يراه ثم يناقشك به. تتفق معه بشيء فيستبشر، وتختلف معه بأشياء فيرضى ويتقبّل. وهو لن يدّخر جهداً أثناء رحلة الارتقاء هذه لدعمك لو تعثّرت، ويتحلّى بالصبر ولا يضجر إذا آذيته. 

يتميز الأستاذ بقيمةٍ مضافة في أسلوبه؛ يشبهها الفرق بين أن تتعلم السباحة من الكتاب، وأن تأخذ الكتاب معك إلى المسبح، وتجتهد في تأهيل السباحين للخوض في البحر… أيّ بحر. 

* * * * *

بُنيَ المعهد في جامع أنس بن مالك من الصفر؛ غطاه بكل ما يلزم من ماله وجاهه لينطلق، ثم ثابر على البذل ليستمرّ. ولكم أن تتخيلوا كم يلزم لمشروع تعليمي يخدم أكثر من 1500 طالباً وطالبة من موارد تشغيلية ، وفوق ذلك كم يلزمه لأن يكون عملاً نوعياً. 

أَولى الأستاذ اهتماماً خاصّاً بالشباب، وكانوا رهانه الدائم. تعامل مع طلابه من الشباب أو حتى من الأطفال على أنهم أشخاص مستقلون غير ناقصين، لكل منهم شخصيته وتفكيره، كان يحاورهم بطريقة سقراطية تحفّز على التفكير والتفكّر، وتعتمد طرح الأسئلة أكثر من تعليب الإجابات، وتسعى لبناء الأبجدية للتفكير بدلاً من تحفيظ المتون، ولتعليم الطرائق والقواعد وعدم الخوف من كسرها… إن لزم!

ميّز الأستاذ التزاماً أصيلاً بقضايا النساء؛ ففضلاً عن تقديم نظرية داعمة لمكانة المرأة وأدوارها، ستجد التطبيق العملي للنظرية، كما في معظم أفكاره وطروحاته. قد يكون الطرح الشجاع والمؤصّل لقضايا المرأة هو أكثر ما استثار المناوئين والحاسدين للرجل، فتواطأت عليه شرور «الجبت والطاغوت» (المشيخة الآبائية والمخابرات) لتكبح انتشار طرحه المؤصّل المتحرر.

لمّا لمس عبد الأكرم السقّا سقف الخطابة عُزل عنها، ثم مُنع درسه العام، ثم مُنع من الكلام في أي جمع، ثم لمّا بلغ المعهد الذي أنشأه السقف أيضاً، رضيَ بتركه زاهداً بمشروع العمر، ومدركاً أنّ المسموحات في بلدنا تولد مسقوفة برضى من سمح بها.

أذكره جيداً وهو يحتضننا، نحن القائمين على المعهد، واحداً واحداً، متصنعاً التماسك، بينما يغادر معنا مشروع عمره الذي ربّاه كطفل، يرعاه ويصرف عليه، ويمنع عن نفسه وأهله ليعطي المشروع المدللّ، راضياً ومحتسباً، يمسح دمع هذا ويواسي الآخر، يجول نظره بيننا، ثم يمشي باتجاهي ليرأب انهياري… يربّت على كتفي: «عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً».

تحضرني روحانية الأستاذ كلما أقرأ أو أسمع سورة ق، وأذكر كم كان يحبّها ويحبّ مدارستها. ولا زال صوته في مسمعي يتلو أواخر سورة الحشر وهو يؤمّنا في الصلاة، خاشعاً كأنه يطير، ثم القفلة المميزة قبل الركوع، لما ينتقل من مقامٍ ما إلى الصبا بشجن خاصّ به؛ فيمطّ المدّ العارض للسكون أكثر من القدر الذي يقوله الكتاب بما شاء له وجده من أزمنة. 

رغم علمه وخبرته، لم يتعامل مع طلابه كأستاذ أو «شيخ» لهم، وإنما اختار أن يكون معهم، في صفهم وواحداً منهم، يتعلّم ويفكّر معهم، يستوعب نزقهم ويشاركهم تساؤلاته وهواجسه.

* * * * *

في بداية حكم بشار الأسد حاول الأستاذ عبثاً أن يقنع المخابرات بأن مشكلته ليست مع الرئيس أو بالدعاء له، فهو يدعو بالصلاح والخير لكل الناس ولولاة الأمر أحياناً. وإنما المشكلة أن يكون ذلك إجبارياً. ولمّا فشلت ضغوطاتهم أعطوه مهلة أخيرة ليعود إلى بيته ويفكّر في الأمر، ويأتيهم في اليوم التالي مذعناً بأن عليه أن يذكر الرئيس حافظ الأسد بالاسم ويذكر بشار الأسد بالاسم على منبره وفي دعائه، وإلا سيكون التغييّب إلى أجل غير معلوم بانتظاره. 

جمعنا ليلتها، وشاورنا، ثم ذهب غداة اليوم التالي برجليه إليهم. قال له الضابط وهو ينزل به إلى قبو فرع المنطقة: «بلا ما تروّح حالك… أنت شخص فهمان… شو بيصير إذا دعيت للسيد الرئيس يعني؟». ليردّ عليه وبالحرف: «قال رب السجن أحبّ إلي مما يدعونني إليه». 

سيقال إن شهادتي بـ«شيخي» مجروحة، وكذلك ما يقوله أو يكتبه زملائي وزميلاتي عن الأستاذ. لا أنكر انحيازي الشخصي، لكن عندي بهذا الصدد إحالة سبق وأجبت بها على سؤال لصديق عزيز من الكتّاب السوريين: «ما سرّ داريا؟ لماذا جاءت داريا، دون غيرها، بكل هؤلاء الناشطين؟». أُمهّد للجواب لافتاً لضرورة النظر إلى سياق أي تجربة وشروطها قبل تقييمها، ولذلك فمن غير العادل أن تُقيّم تجربة سابقة ما بمسطرة اليوم أو بمسطرة المستقبل المنشود. ينطبق هذا على التجربة نفسها، وعلى ما كان ضدّها في سياقها.

أما الجواب على سؤال الصديق الكاتب عن داريّا فقد كان عبد الأكرم السقّا، فهو من وضع داريّا على الخريطة. أنت لا تعرف أحداً منها لم يمرّ على مجالس الأستاذ. عدّد صديقي حينها أسماء كثيرة من ناشطي المدينة، وكلهم خرجوا بشكل أو بآخر من تحت معطف الأستاذ عبد الأكرم، وحتى إن كثيراً من الناشطين تقوّوا بدلالة الأستاذ وطلابه، فعندما يقوى محيطك تقوى بطبيعة الحال.

* * * * *

سلامٌ عليك يا أستاذنا في العالمين… سيبقى طلابك وطالباتك ممتنين معترفين بفضلك وحقّك علينا، وسنعلّمه لبناتنا ولأولادنا ولمن سيكون بعدنا.