في محطة الاستراحة على جانبِ الطريق السريع، ندرك ما يعنيه كون المرء «إنسانَ الحداثة المتأخّرة». إذ أين، إن لم يكن في مثل هذا المكان العابر، يمكنُ للفرد المُتسارع أن يتأمّل ذاته – ولو كان ذلك لمدة تدخين سيجارة لا أكثر؟

حصرية الوصول

أول ما يُلفت انتباه المراقب، ذي النزعة الفلسفيّة، عند زيارته لمحطة استراحة على الطريق السّريع، هو كونها مكاناً استثنائيَّ الحصرية. ليس على شاكلة النوادي الإنجليزيّة، إذ لا توجد هنا قيود دخول تتعلّق بالجنس أو العمر أو العرق أو الانتماء الديني أو التوجه الجنسي، ولا يحتاج المرء إلى بطاقة عضوية أو جواز سفر أو أيّ أوراق ثبوتيّة. مع ذلك، فإن هذا المكان يستبعد بعض الفئات بالمعنى الحرفي – إذ لا يمكن الوصول إليه إلا عبر الطريق السريع، مما يعني أنّه متاحٌ فقط لأولئك الذين يسافرون في مركبة ذات سرعة تزيد عن 60 كيلومتراً في الساعة. وبالتالي لا مكان للجرارات هنا، ولا لسائقي الدراجات النارية الصغيرة والدراجات الهوائية، ولا للفرسان والمتزلجين، ولا حتّى للمشاة، إلا إذا نزلوا من مركبة شخصية أو شاحنة.

بعبارة أخرى، يصل معظمُ زوّار محطة الاستراحة الطرقيّة بمركبات قادرة على تحقيق سرعات فائقة، وعادة ما ينوون العودة إلى مركباتهم في أسرع وقت ممكن. هذا يعني أن التواجد في محطة الاستراحة مجرد حالة مؤقتة، لحظة من التباطؤ الاضطراري؛ فترة تفرضها على المسافر «عوائق الطبيعة» (بحسب كارل ماركس) كالحاجة للتبول، الجوع والعطش أو احتياجات المُحرّكِ المُماثلة، والتي يريدُ المُسافرُ تجاوزها سريعاً. إنّ محطة الاستراحة الطرقيّة، بحكم تعريفها، مكان لا يرغب المسافر في البقاء فيه. تتفاعلُ المحطّة بأكملها مع هذا الاضطراب الأساسيّ المتمثّل في الرغبة الملحّة في العودة لمجتمع التسارعِ: تعبئة الوقود بسرعة، والتبول بسرعة، وشراء القهوة للذهابِ بسرعة، ثم الانطلاق بسرعة. الجميع، في اتجاه واحد، بسرعة.

ومن الخصائص المكانية المميّزة لمحطة الاستراحة هي عدم قدرة المسافرين العاديين الوصول إليها إلا عبر مسار الانسحاب من الطريق السريع، ولا يمكنهم مغادرتها إلا عبر مسار الاندماج في نهاية المحطة. رغم أن العديد من محطات الاستراحة ترتبطُ بوصلةٍ خلفيّة بما تسّمى شبكة الطرق الثانوية، فإن استخدام هذه المداخل والمخارج مقتصر على مركبات الشرطة، وخدمات الطوارئ، وموظفي المحطة فقط. كما أن غابة العلامات الإرشاديّة الملعونة في محطاتِ الاستراحة تعكس نمطاً أحادياً: حيث تهيمن إشارات «ممنوع الدخول» بشريطها الأبيض على خلفية حمراء، إضافة للأسهمِ البيضاء المنحنية بزاوية 90 درجة على خلفية زرقاء بحرية، الناظمة لاتجاه السيرِ، والتي تقود المسافر بلا هوادة نحو المخرج، عائدة به إلى الطريق.

اللامركزيّة القصوى

الطريق السريع، يكتب الفيلسوف أوتو فريدريش بولنوف، «فضاءٌ لامركزي»، إذ يشير دوماً إلى هدف يتجاوز موقع التواجد الحالي: «لا يحتوي هذا الفضاء على نقاط مركزيّة، بل يجذب الإنسان بشكل لا يقاوم نحو البعيد اللامتناهي». ينطبق ذلك أيضاً على محطة الاستراحة الطرقية: فهي نوع من الفقاعة على حافة الطريق السريع، انتفاخٌ يخضع لمنظومة فلسفة المكان الخاصّة بالطريق. ورغم أنها تبدو ثابتة في طبيعتها، إلا أنها تتسم بلامركزية قصوى. «السَحبُ نحو الأمام» الذي يشعر به المسافر بقوة على الطريق لا يفارقه حتى في أثناء الاستراحة.

وبالتزامن مع هذا السحب نحو الأمام، يحدث تقليصٌ ملحوظٌ للمكان: فكلّ ما يقع خارج الحواجز المرورية، على يمين ويسار الطريق السّريع، يغدو مكاناً غير قابل للعبور أو الخبرةِ، إنما يكتسب خاصية تصويرية فريدة. مثل لوحة يمكن مشاهدتها، ولكن لا يمكن أبداً تجربتها بأبعادٍ ثلاثة: فتظلُّ الطبيعة المحيطة بالنسبة للمسافر على الطريق السريع «ضمن فضاء غير قابل للولوج، مجسّدةً عدم القدرةِ الفعليّةِ على الوصول» وبذا مساهمةً في «الوعي بالواقع»، حسب بولنوف.

ينطبق هذا الاستنتاج أيضاً على محطات الاستراحة الطرقية؛ فبالرغم من أن هذه المحطات، بطبيعتها، أوسع من الطريق السريع، غير أنها أيضاً هياكل ممدودة طولياً بشكل بادٍ – وهي، عمليّاً، مقطوعة عن البيئة المحيطة بها بواسطة الأسوار، التحوطات، ونتيجة غياب الاتصال بشبكة الطرق الأخرى. بكلمات أخرى: ليس فقط أثناء القيادة، بل أيضاً خلال الاستراحة، يتلاشى ويختفي كل ما هو خارج شبكة الطرق السريعة؛ فمن يتوقّف في محطة استراحة يحتفظُ دائماً بوجهته في الاعتبار. في هذا الصدد، يشبه المنظور الضيّق لزائرِ محطة الاستراحة منظور الفرد الحديث: نحن أيضاً في رحلتنا الحياتية غالباً ما نكون غير صبورين، ومركّزين على هدف خارج أفقنا ومكان تواجدنا الحالي. الهدف هو الهدف – الطريق هو العائق.

الاستقلالية

يؤدي هذا الإدراك المكاني المتّجه للأمام إلى تجربة محددة للزمن. باستخدام تعبير عالم الأدب الروسي ميخائيل باختين: محطة الاستراحة هي كرنوتوبوس «زمكان» – مكان تتداخل فيه الخصائص المكانية والزمانية، كما يوحي مصطلحا «كرونوس» (الزمن) و«توبوس» (المكان) في اليونانية: «تظهر خصائص الزمن في المكان، ويُعطى المكان معناه وأبعاده بواسطة الزمن». يساهم الزمكان في توليد إحساس معين بالزمن وسرد الزمن. الطريق السريع، الذي يبدو أنه يمتد بشكل مستقيم إلى آفاق لا نهاية لها، يشير بوضوح إلى المستقبل: يتحرك السائق عليه كما لو كان على خط زمني خطي، في حالة حركة مستمرة. إنه ليس موجوداً بالكامل في الحاضر، بل يُبقي الهدف المنشود دائماً نصب عينيه – والذي يتحقق بالضرورة، من الناحية الزمنية، في المستقبل. «إلى الأمام دائماً، ولا رجوع إلى الوراء». أو كما تنص الفقرة 18، البند 7 من قانون المرور: «يُمنع الالتفاف والرجوع إلى الخلف».

يعزز هذا السعي المستقيم نحو المستقبل حقيقة أن الطرق السريعة الألمانية خالية من التقاطعات بشكل عام. هذه الحرية من التقاطعات ممكنة فقط لأن الطرق السريعة لا تربط بين البلدات بشكل مباشر، بل تمر، بشكل أو بآخر، على مسافة بعيدة منها. يمكن القول: في الأصل كانت العلاقة بين التجمّعات السكنية والطرق دياليكتيكيّة. فالبلدات كانت متصلة بواسطة الطرق – وفي الوقت نفسه، جلبت الطرق فرصاً أفضل للنقل والتجارة، مما أدى إلى مزيد من التوطين.

يخلقُ الطريق السريع الحديث فجوة مع هذه العلاقة التكافلية التقليدية، فقد يمرُّ الطريق السريع بالقرب من المدن القائمة بالفعل، لكنه نادراً ما يدخلها – وإذا فعل، فإنه يظلُّ معزولاً عن التجمعات المحيطة به بواسطة الجدران العازلة للصوت، والجسور، والأنفاق وغيرها من التدابير الإنشائية. بذا يبقى الطريق كياناً معماريّاً غريباً. كما تؤدي هذه الاستقلالية إلى عزل المسافرين على الطريق السريع عن البنية التحتية للأماكن التي يمرون بها إلى حد كبير. محطات الاستراحة تملأ هذه الفجوة، ولكنها تبقى بدورها مستقلة ذاتيّة النظام. لن تنشأ حول محطة الاستراحة تجمّعات سكنية كما كان يحدث في الماضي حول الحانات في تقاطعات الطرق التجارية القديمة – إنما، وفي أفضل الأحوال، ينشأ تجمّع صغير مؤقت ومتغير؛ مدينة قصيرة الأجل مكونة من شاحنات متوقفة، حافلات تخييم، سيارات شخصية، حيث يأخذ المسافرون استراحة ضرورية قبل أن يتحركوا مجدداً ويتفكك هذا التجمّعُ المؤقت.

التقلُّص الأنطولوجي

في الواقع، لا تُمثّلُ محطة الاستراحةِ الطُرُقيّة سوى منظومة مرجعيّة مؤقتة توفّر الإطار والخلفيّة لتواجدٍ مُتزامنٍ لأناسٍ غرباء عن بعضهم بعضاً، حيث يصعبُ أن تنشأ بينهم صداقات أو أن يُنتَج عن تواجدهم مجتمعات. وانطلاقاً من هذا الإدراك، يمارسُ روّادُ هذه المحطّاتِ سلوكيّاتٍ خاصّةٍ، ربّما يكتمونها في أماكن أخرى بدافع الخجل. فتراهم يمطّون أجسادهم ويتثاءبون دونما حرج كما لو كانوا أمام مرآة الحمام في منازلهم، يحكون بطونهم، يدلكون عضلات أردافهم المشدودة، ويمارسون تمارين لتنشيط الدورة الدموية جهاراً، ويتبولون في العشبِ خلف الطاولات على مرأىً من الجميع، دون خوفٍ، كما يبدو، من الوصم الاجتماعي أو حتى من الغرامة.

لعلّ هذه السلوكيّات الخارجة عن الأعراف الاجتماعية المعهودة لا تُعزى فحسب إلى سيولة الإقامة في المكانِ، إنما أيضاً إلى حقيقة أن الخاصيّة المكانيّة لمحطة الاستراحة تتأرجح بين المجالين العام والخاص. عندما يخرج المسافر من سيارته، يكون بقدم في مركبته الخاصة، التي تُعتبر قانونياً مكاناً مُحصّناً كما المسكن، ويكون بالقدم الأخرى داخل المجالِ العام؛ أي أن جسده ينتمي إلى هذين المجالين في آنٍ واحدٍ، ويتعيّن عليه أن يُناورَ باستمرار لتحديد أيّ من هذين المجالين يهيمنُ على سلوكه. لقد أطلق الفيلسوف ميشيل فوكو مصطلح «الهيتروتوبيا» على مثل هذه الأمكنة متعددة الدلالات: فمحطات الاستراحة هي، بهذا المعنى، «فضاءات أخرى» أو «فضاءات مضادة». فالقواعد المعتادة للعيش المشترك معلّقةٌ، لذلك من الممكنِ هنا، سواء أسفَر ذلك عن نتائج إيجابية أم سلبية، تجربة واستكشاف سلوكيات قد تكون محظورة في أماكن أخرى. ففي الأماكن الهيتروتوبية بوسعِ المرء أن يترك لنفسه العنان – حتى وإن كانت هذه الأماكن متاحة فقط بالسيارات.

وفي هذا السياق، يُثارُ تساؤل أساسي عما إذا كانت محطات الاستراحة الطرقية أماكن كاملة القيمة بالفعل، أم أنّها مجرد مراحل منحسرة منها، أي ما يُعرف بـ«اللا-أماكن» أو non-lieux. يستخدم الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه هذا المصطلح للإشارة إلى الفضاءات الانتقالية مثل المطارات، محطات القطارات، محطات الوقود أو محطات الاستراحة. هذا النّوع من «اللا-مكان»، يُعرَّفُ، كما يوحي اسمه، بطابعه السلبيّ بشكل أساسي. تفتقرُ «اللا-أماكن»، وفقاً لأوجيه، إلى ثلاث خصائص رئيسية: أولاً، لا تربطُها أيّ علاقة بالطبيعة المحيطة بها؛ ثانياً، ليس لديها تاريخ، أي أنّها لا تحتوي على آثار أو رواسب مستوطنات أو مبانٍ سابقة ولا تتصل عادةً بالتقاليد الإقليمية، إنما تبقى جسماً غريباً من الناحية المعمارية-التاريخيّة ضمن بيئتها. ثالثاً وأخيراً، لا تحملُ «اللا-أماكن» هُويّةً خاصّةً، وهي، بالتالي، قابلة للاستبدال إلى حد كبير: إذ ما من فرق يُذكَر إذا جلست في دورة المياه في محطة الاستراحة «Ellund West» بالقرب من الحدود الدنماركية أو في محطة الاستراحة «Gersthofen» في أقصى جنوب الجمهورية؛ فدورات مياه شركة «Sanifair» تبدو متشابهة في كل مكان، بل إن إمكانية التعرُّف على تصميمها الموحّد يُعدُّ جوهر علامتها التجارية. ومن يلجأ إليها لا يرغب سوى في شيء واحد: ألا يُفاجأ.

غير أن هذا الأمر لن يكون مثار قلقٍ إذا لم تكن كل هذه الخصائص، بحسب مارك أوجيه، ذات أثرٍ على الزائر طيّبِ النيّة: إذ «يُحرِّرُ فضاءُ اللا-مكان من يدخله من هويّاته وتحديداته المُعتادة؛ فهو يغدو مجرّد ما يفعله ويعيشه كمسافر أو زبون أو سائق». وهكذا، يجعلُ «اللا-مكان» زائريه باهتين، أحاديي البعد، مما يحوّلهم إلى مجهولين قابلين للتبديل، ويقلّصهم إلى وظيفة واحدة داخل محيطهم؛ إنّه يُحيلهم كياناتٍ على شاكلة محطات الاستراحة الطرقيّة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أكثر من نصف مليار زائر يخضعون لهذا التقليصِ الأنطولوجيّ كل عام، فيتعيّن علينا القول: إن تحويلنا لكيانات على شاكلة محطات الاستراحة الطرقية جار على قدم وساق. مع كل توقف على الطريق السريع، وكل عملية تعبئة للوقود، وكل استراحة لقضاء الحاجّة، نزدادُ شبهاً بهذه المنشآت. لذا، إن أردنا معرفة من سنكون، وما سنكون، وكيف سنكون في المستقبل القريب، لا مناص من دراسة محطات الاستراحة الطرقية.