نعمت حافظ البرزنجي (1943)، مفكرة سورية- أميركية. بحثت في أوضاع المسلمين والعرب في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت على درجة الدكتوراه عام 1988 من جامعة كورنيل. تخصصت في علم التربية الإسلامية. لها عدة مقالات وكتب، وأهمها: الهوية الذاتية للمرأة المسلمة والقرآن: قراءة جديدة (2004) وهوية المرأة وإعادة التفكير بالحديث (2016). 

أين كنتِ في آذار (مارس) 2011 يا نعمت، وإلى أين أودت بك دروب الثورة والحرب؟

باعتباري أعيش منذ فترة طويلة في أميركا، فأنا بعيدة عن الأحداث اليومية على الأرض. ولكني مطَّلعة على ما يُكتب في الصحف العربية. في يوم 18 آذار (مارس) 2011 كنتُ قد وصلتُ لتوي إلى دمشق. زوجي عالم في الزلازل، ولِكلانا مشروع علمي أو فكري. كنا نتواصل باستمرار مع سوريا الحبيبة في حدود اختصاصنا، ونحاول أن نقدم العلم الذي اكتسبناه في أميركا. تبادل العلم هامٌّ، وللمغتربين الذين يمكلون القدرات العلمية مسؤولية خاصة. يجب أن يبقوا على تواصل مع بلادهم للإفادة، لأنها قدمت لهم سابقًا قبل أن يخرجوا منها.

صادف أن كان وصولنا أثناء الأحداث في درعا. آلمنا أن نسمع كيف عومل الأطفال في ذلك الوقت، ولاحظنا أن الأغلبية لا يتحدثون عن الموضوع لأسباب مختلفة. سألنا عمّا يحدث، فأعطونا فكرة سريعة وغامضة. تواصلتُ بعد ذلك مع عائلتي وعائلة زوجي وبعض الأصدقاء، وأحسستُ أن بعض الشباب كانت لديهم طفحة أمل في تغيير بعض الأحكام، كانوا لا يطالبون بتغيير الحكم حينها. لن أدخل بالتفاصيل، لأن التاريخ معروف. صادف أيضًا أن استأجرنا شقة في شارع مزة العام، وكانت نافذتنا تُطل نهارًا على مسيرات مؤيدة للحكم القائم، وليلًا على مظاهرات لشباب ينادون بتغيير الوضع السياسي. 

بعد عودتي من زيارتي القصيرة إلى دمشق، تابعتُ الأخبار السورية عن كثب. وكنتُ أشعر بخيبة الأمل حين أقرأ عن بوادر العنف. كان أملي أن تبقى سلمية كما حصل في مصر وتونس. وأكثر ما آلمني هو تفسُّخ الترابط بين الناس، وبصورة خاصة بين المجموعات والأقليات، سواء كانت متدينة أو غير متدينة. كذلك تهجير الناس من بيوتهم، لأن هذا غير إنساني. ورغم ذلك ما زال لدي أمل أن سوريا ستتّجه نحو إيجاد حل سلمي، وتعود بطريقة ما إلى التوازن الاجتماعي الذي كانت عليه عبر القرون. 

خرجتِ من سوريا منذ زمن طويل، ما هي الظروف التي جعلتك تهاجرين حينها؟

سافرتُ كي ألتحق بزوجي معاوية الذي كان يُحضّر للدكتوراه في جامعة كولومبيا في نيويورك، وفي الوقت نفسه من أجل متابعة دراستي. كنت قد تخرّجتُ قبل عام من جامعة دمشق، قسم الفلسفة وعلم الاجتماع، حيث ركّزتُ أثناء دراستي على الفلسفة والأخلاق الإسلامية. أثناء تحضيري للسفر اندلعت حرب حزيران 67، وانقطعت العلاقات بين دمشق وأميركا، لذلك اضطررتُ إلى السفر عبر بيروت إلى الولايات المتحدة الأميركية. 

كنتِ مهتمة بالدراسات الإسلامية حتى قبل خروجك من سوريا؟

أجل، وقبل سنة من سفري كنتُ قد تعرّفتُ عبر زميلة في الكلية على مجموعة من الأخوات اللواتي يجتمعن مرة كل أسبوع أو أسبوعين كي يتدارسن القرآن، من بينهنّ ليلى سعيد، أخت جودت سعيد. وكان زوجي قبل سفره قد تعرَّف بطريقته على جودت سعيد، وتناقش معه حول كتابات مالك بن نبي. بقي تواصلنا مع ليلى وجودت حتى بعد سفرنا، وكنت أزور الحلقة حين أكون في دمشق، كما تعرّفتُ على الحلقة الأخرى التي كانت تدار في بيتهم في القنيطرة.

قدّمتِ بحث الدكتوراه حول أوضاع المسلمين في أميركا. ما الذي يميّز تجربة هؤلاء المسلمين عن غيرهم؟ وما هو السؤال الأساسي الذي واجهكِ أثناء بحثك؟ وإلى ماذا توصّلتِ؟

منذ الصغر كنتُ أتساءل لماذا هناك فرق بين ما نقرأه عن المبادئ الإسلامية في القرآن وما يمارسه المسلمون في بلادنا العربية الإسلامية. طبعًا بعد سفري إلى أميركا صاروا يسألونني من أين أنا. وبمجرد أن أذكر أني سورية، تبدأ الأسئلة عن المرأة المسلمة المظلومة، لأن لديهم صورة عنها عبر ما يحدث في السعودية. ثمة تركيز سياسي خاص على السعودية من قبل الحُكّام الأميركيين بسبب النفط وغير ذلك. كان جوابي دائمًا أن هذا ليس من الإسلام، وإنما جرّاء ترسبات تاريخية. 

كذلك كانت لدي نشاطات مختلفة مع منظمات عربية إسلامية محلية في أميركا، وأخرى عبر القارة الأميركية. ولدي مساهمات كثيرة تطوعية. حاولتُ تدريس الإسلام واللغة العربية لأطفال طلاب الدراسات العليا في جامعة كورنيل. أمضيتُ أول خمسة وعشرين عامًا من إقامتي في أميركا وأنا أتدارس وأقوم بهذه النشاطات بهدف رفع مستوى المسلمين وتثقيفهم حسب قدراتي. ألقيتُ محاضرات حول الفرق بين الإسلام والمسلمين ودور المرأة في الإسلام كما هو في القرآن، وليس كما يمارَس في الواقع اليومي المؤلم لبلادنا العربية والإسلامية. كان يؤلمني ذلك التناقض الذي لمسته بين ما يقوله رؤساء المنظمات المسلمة في أميركا وما يمارسونه، فضًلا عن اكتشافي أنهم لا يأخذون رأي المرأة بعين الاعتبار. 

لذلك حين فكرتُ أن أقدّم للدكتوراه، قررتُ أن أدرس تربية المسلمين والعرب في أميركا. أردتُ فهم كيف يربي المسلمون أبناءهم. انشغلت لمدة عامين بجمع البيانات عبر عقد الاجتماعات والمقابلات مع الآباء والأمهات والأبناء. النتيجة الأولى التي توصّلتُ إليها هي أن المسلمين يقدّمون العادات الاجتماعية التي تعلموها في بلادهم على أنها الإسلام، رغم أن لا علاقة لها بالقرآن. لم ينتبهوا أن المكان والزمان قد اختلف، مما جعل أولادهم ينفرون من تعاليمهم، لأنها تناقض ظروفهم، وبخاصة أنهم يذهبون إلى المدارس العامة التي لها طريقة مختلفة في التعليم. كان صعبًا على الأولاد أن يجمعوا بين الاثنين. والنتيجة الثانية التي توصلتُ إليها هي أن معظم النساء المسلمات شبه منعزلات، وبالتالي معلوماتهنّ عن الإسلام سطحية، وأكثرهنّ لا يتقنّ اللغة الإنكليزية، ولا يشاركن في المجتمع الأميركي. شجّعني هذا أن أتابع بحثي في وضع المرأة المسلمة، والبحث في القرآن انطلاقًا من مسلّمات مختلفة. 

كثير من المُصلِحات والمُصلِحين يعتبرون أن الأزمة التي يمر بها الإسلام سببها المسلمين أنفسهم. لعلّهم يحاولون بهذه الطريقة تبرئة الإسلام كدين. يبدو لي أن في هذا التبرير آثارًا للفكر الإيديولوجي. هل يمكن في رأيك تبرئة الإسلام تمامًا من الذكورية والأبوية وحتى الطبقية؟ 

قبل كل شيء يجب أن نحدد ماذا نقصد بالإسلام. هل نتحدّث عن الإسلام كنظرة عالمية لإحقاق العدل والإحسان والقسط؟ أم أننا نتحدث عنه كقانون كما هو في الفقه والتفاسير؟ أم نتحدث عن الإسلام كما يمارس في المجتمعات المسلمة؟ بعد أن نحدد هذه الأشياء، يمكننا أن ننتقل إلى النقطة الثانية، فنتذكّر أن الإسلام كمبدأ يعتمد أساسًا على القرآن كنص. وحين نتناول هذا النص للوصول إلى المفاهيم التي تتعلق بالعلاقات الإنسانية، وبصورة خاصة العلاقة بين الجنسين، نرى أن 95 بالمئة من النص القرآني يهتم بهذه العلاقات الإنسانية و5 بالمئة بالعقيدة والشعائر. يجب أن نحرص على تحديد المنهجية التي نتعامل بها مع النص. هل نفسّره ضمن إطار التفكير الحالي بموضوع النسوية؟ أم نفسّره بالطريقة التقليدية؟ في رأيي التفسير يجب أن يكون من ضمن القرآن ذاته، لأن القرآن هو الذي يفسّر ذاته بذاته. وبالتالي ننظر إلى القرآن بروح القرآن، وبصورة متكاملة وليست متجزئة. كذلك نركز على الغاية الأولى من القرآن، وهي الهداية إلى التعامل المتوازن مع النفس والمجتمع والعلاقة مع الإله، وبصورة خاصة بالنسبة للمتدينين. 

النقطة الثالثة تكمن في النظر إلى الآيات التي يعتبرها البعض حرجة بخصوص موضوع المرأة أو الجنس أو النوع الاجتماعي. نحتاج أن نفسر هذه الآيات ضمن الإطار العام لمفهوم الخلافة والعدل والقسط، ولا نركز عليها بمعزل عن بقية الآيات والسور والروح القرآنية. 

والنقطة الرابعة تكمن في مواجهة بعض التفسيرات الذكورية التي تناولت الآيات بمعزل عن الآيات الأخرى، وكأنها لا علاقة لها بالموضوع. هنا علينا أن نتأكد من أن المصدر والبرهان الذي نستخدمه لم يأت من خارج القرآن. وأضرب على سبيل المثال موضوع القوامة، والذي يُنظر إليه على أنه يعبر عن قوامة الرجل على المرأة بشكل مطلق، مع أن المفهوم القرآني لهذه القوامة يتعلق بموضوع الطلاق فقط. تنضوي القوامة تحت آيات الطلاق، وتؤكد على المسؤولية المضافة على الرجل، لأنه هو الذي يباشر بالطلاق. إذن الرجال ليسوا قوّامين على النساء بشكل جوهري ودائم، لا أخلاقيًا ولا فكريًا ولا فيزيولوجيًا.

النقطة الخامسة هي أن القرآن والإسلام لا يحتاجان إلى تبرئتنا.

لكن هناك من يتّهم الإسلام بأنه غير قابل للتجديد.

هذا سببه التفاسير التقليدية، أو لأننا نفسره ضمن إطار التفكير الحالي بالنسوية.

هل هذا خطأ؟ أقصد هل من الخطأ أن نُطبّق المعايير النسوية المساواتية على الإسلام؟

لا أقول إنه خطأ، وإنما النتيجة التي نصل إليها لا تكون متكاملة، وأحيانًا تكون سلبية.

وكيف نسدّ هذه الفجوة؟

كما قلت نرجع إلى القرآن الذي يفسر ذاته بذاته.

ولكن أليس هذا قطعًا مع المنهج التاريخي الذي يحاول أن يربط الأحداث الإسلامية بعصر ومكان محددين؟ هل يمكننا فهم الإسلام من دون هذه الإحداثيات؟ هل يمكن أن نستنبط المقاصد فقط من القرآن عبر فصله عن كل ما جاء حوله وقبله وبعده؟

نحن الآن في زمان ومكان يختلفان كليًا عن خمسة عشر قرنًا مضوا. لذلك يجب أن نفكر في فحوى المكان والزمان الذي نزل فيه القرآن وتم تفسيره. لا نعزل التاريخ كليًا، ولكن نفهمه ونتنوّر بالتفسيرات السابقة، وننظر بعدها إلى موضوع بحثنا في فحوى أو محور أو إطار المكان والزمان الحاليين أيضًا. هذه نقطة هامة. ولكن ينبغي ألا نخرج من الروح القرآنية بصورة كاملة. نأخذ طبعًا ببعض الوسائل والدلالات التي تساعدنا من الزمان والمكان الحاليين. علينا كأفراد أن نتفكر كما علّمنا القرآن: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم». يشجعنا القرآن على أن نفكر ونجتهد. طبعًا الاجتهاد ليس فقط بالمعنى الديني أو التقليدي الذي كان يُفهم في ذلك العصر أو العصور السابقة، وإنما الاجتهاد يكون في أي موضوع. وخاصة اجتهادنا في أن ننظر إلى الآيات التي تتناول الموضوع الذي نبحث فيه ضمن الإطار العام للقرآن، فلا ننظر إلى آيات منفصلة عن بعضها بعضًا، بل إلى جميع الآيات المتعلقة بموضوع بحثنا.

من الأهمية بمكان أن نركز على هذه الأمور، ونذكّر أنفسنا بأننا وُضِعنا على الأرض كخلفاء فيها، لنحمل الأمانة بإعادة التفكير بها وبكيفية تطبيقها تبعًا للقرآن وضمن الظروف التي نعيشها بشكل متكامل.

قلتِ «خلفاء» في الأرض، وأنا أعرف أن الخلافة من الكلمات أو المفاهيم التي درستها وتعمقتِ فيها. هل يمكن أن تشرحي ماذا تقصدين بالخلافة؟

الخلافة في القرآن هي أننا خُلِقنا لنكون خلفاء الله على الأرض. هذه هي الغاية من خلق الإنسان، وهذا ما نفهمه من القرآن بصورة عامة. ولكن للأسف تغير المفهوم عبر العصور، وبالأخص بعد وفاة الرسول (ص)، فأصبح الخليفة هو من يأخذ دوره في الإدارة السياسية والمحلية. أصبح المفهوم هو فقط الدور السياسي والقيادي، واختفى الدور العام المنوط بكل إنسان. الإنسان مسؤول بحمل الأمانة، وبأن يتعامل مع المفهوم القرآني للعلاقات الإنسانية، وبصورة خاصة العلاقة بين الجنسين.

إحدى المشاكل الرئيسة في فهم الخلافة على أنها قيادة سياسية أو إمامية تكمن في تركيز المفسّرين التقليديين على أن الخلافة هي فقط للرجل، مما يخلق مشاكل كبيرة بالنسبة لدور المرأة في الإسلام. غُيّبَت المرأة عن دورها في الاجتهاد، وغُيّبَت عن البحث في المشاكل المحلية والاجتماعية، لأنها اعتُبرت من مهام الرجل فقط.

هذا يتضمن القيادة أثناء الصلاة أيضًا. لذلك تُرفض إمامة المرأة بالجماعة وتُحصر بالرجل فقط، أو بالأحرى بالذكر. للأسف، يقولون إن الصبيان المراهقين يمكنهم قيادة الصلاة، ولكن المرأة لا يمكنها ذلك. يعتمدون على حديث يضع المرأة والدابة في المستوى نفسه، بما معناه إذا مرّت المرأة أو الدابة أمام الرجل أثناء الصلاة، فسوف تفسد صلاته. هذا الحديث مرفوض، أولًا لأنه يخالف القرآن، وثانيًا لأنه ينافي مفهوم الخلافة. وثالثًا لأن عائشة رضي الله عنها صححته حين تساءلت هل تضعون المرأة بمكانة الدابة؟ وتابعت بأن الرسول قد نهى عن ذلك حين قال لا تتبعوا أقوال الذين سبقوكم. ولدينا حديث آخر لها تروي فيه كيف كان الرسول يصلي وهي مستلقية أمامه. هذا يجعلنا نعيد النظر في دور المرأة، وبأنه لا مشكلة في إمامة المرأة من حيث المبدأ.     

 تعتبرين نفسكِ خليفة الله في الأرض، ماذا تفعلين لكي تعطي هذا الدور حقه، وبخاصة كامرأة؟

كفرد، مسؤوليتي الأساسية في أن أتعلم القرآن وأفهمه. يقول الكثيرون إن هناك نساء لا يقرأن ولا يكتبن، فكيف لهن أن يفهمن القرآن؟ نتناسى أن القرآن كان في الأصل مرويًا شفويًا. لدينا رواية عن أن فاطمة أخت عمر بن الخطاب تعلمت القرآن عن طريق السماع، وكانت تُرتّله في بيتها بالسر. وعندما سمعها مُرة ترتل القرآن، سألها ما هذا؟ ظنّ أنها تنشد شعرًا. قالت له إن هذا جزءاً من القرآن. طلب منها أن تتابع، وبعد سماعه بعضًا منه أعلن إسلامه. السماع له دور هام في التعلم. وقد لاحظت ذلك عند النساء اللواتي لا يتقنّ القراءة والكتابة في باكستان. ولكنهن يرتلنَ القرآن ويفهمنه سماعيًا، ويحاولن أن يتعاملن مع ما يفهمنه.

دَوري أن أتعلم وأعمل بالمفاهيم القرآنية الأساسية: الخلافة والعدل والإحسان والقسط، والمفاهيم الأخرى التي تأتي بعدها. هذه المفاهيم هي الرسالة الأساسية من القرآن. يحتاج الأمر إلى تقبُّل مبدأ حمل أمانة القرآن نفسيًا وضميريًا وفكريًا كي أكون خليفة على الأرض. إذا لم أقبله نفسيًا وضميريًا وفكريًا، فلن أتمكن من ممارسته بثقة وصدقية. 

كيف استطعتِ أن تتملكي مفهوم الخلافة كامرأة رغم كل العقبات التي توضع في وجه النساء من قبل علماء الدين وتفاسيرهم؟ لا أجد أن عدم القدرة على القراءة والكتابة هي العقبة الوحيدة، بل ذلك الإرث الديني الذي فيه كثير مما يمكن استخدامه ضدنا كنساء؟ 

نعم، ولكن هذه ليست مشكلة الإسلام فقط. يجب أن نتذكّر أن كل الأديان والملل مرّت بهذه المرحلة، سواء كانت اليهودية أو المسيحية. ومؤخرًا صار البعض يرى الشيء نفسه في البوذية والطاوية أيضًا. كل هذه الأديان تم تفسيرها من قبل الذكور، بينما عُزِلت النساء. على سبيل المثال، اليهودية لا تسمح للمرأة الحائض أن تدخل الكنيس اليهودي أو أن تلمس التوراة. وقد أخذ المسلمون هذه العادة عنهم أيضًا، وقالوا إنه لا يمكن للمرأة أن تفتح القرآن إذا كانت في دور الحيض. والحيض ليس نجسًا، الحيض شيء طبيعي في حياة المرأة. طبعًا يجب أن تحرص على ألا يكون هناك أثر الحيض على ثوبها أو يديها، وأن تكون مغتسلة ونظيفة قبل أن تلمس القرآن وتقرأه. هذا الفهم للحيض كان موجودًا قبل ظهور الإسلام، كانوا يظنون أن هذا الحدث الفيزيولوجي الطبيعي يجعل المرأة نجسة ويبعدها عن فهم الأمور الدينية. يجب أن نغيّر هذا الفهم السلبي من ناحية، ولكن من ناحية أخرى يجب أن أغيّر نفسي أولًا. علّمنا الرسول (ص) أنه إن لم نستطع تغيير الواقع عمليًا، فلنحاول أن نغيره بلساننا، وإن لم نستطع فبضمائرنا وقلوبنا. أنا أفعل ذلك، وأحاول أن أبدأ بنفسي.

طريقة فهمي أنني إنسانة لديها مسؤولية تجاه الله. لا أحد لديه سيطرة على طريقة تفكيري. ومن القواعد الأساسية في الإسلام أنه لا يوجد وسيط بين الفرد وخالقه، سواء كان الأب أو الأم أو الإمام أو الخليفة أو الحاكم. جميع هؤلاء ليست لديهم سيطرة أخلاقية على تفكيري. القوانين التي اعتمدها الفقه والتي تسمى مغالطةً بالشريعة، يجب أن ننظر إليها على أنها غير ملزمة للفرد. الشريعة هي في القرآن. ما يلزم هو ما نقرأه في النص القرآني فقط، هذا ما أؤمن به. أول شيء أبدأ بتغيير نفسي. قبلتُ بحمل الأمانة، لذلك يجب أن أتذكر أني لستُ مسؤولة أخلاقيًا أمام أحد آخر.

هذا يمنحكِ إحساسًا كبيرًا بالحرية؟

أجل!

ولكن إذا فهمنا الخلافة على أن نغيّر أنفسنا من خلال عدسة القرآن الأخلاقية فقط، ألا تفقد شيئًا من محتواها السياسي، بالمعنى الواسع للسياسة كمحاولة للتأثير في المحيط. أقصدُ هل يمكن أن تكون هذه هي بداية تراجع الدين إلى الحيز الخاص؟

عفوًا، هذا لا يعني تراجع الدين إلى الحيز الخاص. وإن كنتُ أبدأ بنفسي، فهذا لا يعني أني سأتوقف هناك. وإنما أبدأ بتغيير نفسي، حتى أتمكن من مساعدة الآخرين لتغيير أنفسهم. والحرية بالنسبة لي تعني التحلل من الضغط الاجتماعي، ولكنها ليست التحلل من العمل ضمن القوانين القائمة، حتى لو كان الوضع بالنسبة للنساء سيئًا. طبعًا، يحتاج التغيير إلى عدد كبير من الناس الذين يقبلون أن يغيروا أنفسهم، ويقبلون بحمل الأمانة قبل أن يباشروا العمل على التغيير.

في القرآن ليس هناك فاصل بين العبادات التي أساسها العقيدة والمعاملات الاجتماعية أو السياسية التي أساسها العدل والإحسان. المبدأ الأخلاقي في القرآن لا يتغير في كل الظروف، والدين لا يعني الشعائر فقط. الشعائر قد يمارسها الفرد بشكل خصوصي، ولكن التعامل مع الناس هو الأهم، لأن المعاملات تشكل القسم الأكبر من القرآن كما ذكرت آنفًا. نحن نستند على هذه التعاليم في تعاملنا مع الآخرين. كان المفكر الباكستاني فضل الرحمن يركز على التمييز بين المبادئ والأحكام، الأخيرة هي التي تتغير حسب المكان والزمان ولكن المبادئ تبقى ثابتة.

الحرية كما أفهمها، وكما قررها مبدأ الخلافة، هي المسؤولية تجاه الله فقط. ولكن ذلك لا يعني التحلل من القيم الإيجابية الموجودة في المجتمع، بل يجب أن تُقبل ويُعمل بها إذا كانت لا تخالف تعاليم القرآن. هذه نقطة هامة. لذلك قد يجد المجتمع تصرفي غريبًا في البداية، فلا يقبله، ولكن واجبي كحاملة للأمانة أن أفسّر وأقدم للآخرين المفهوم أو الإطار العام الذي أتعامل من خلاله، حتى نستطيع أن نتفاهم، وأساعدهم على العودة إلى القرآن. 

في كتاباتك ربطتِ مفهوم الخلافة بالهوية الذاتية للمرأة المسلمة، وقلتِ بما معناه إن المرأة بحاجة إلى تنمية هويتها كمسلمة من أجل الثقة بنفسها والخوض في المواضيع الدينية والعمل على التغيير. ولكننا نلاحظ غيابًا كبيرًا للمرأة في صياغة الفكر الإسلامي وتطويره. هل هذا يعني أن الظروف أدت إلى ضعف التماهي مع الإسلام لدى المرأة المسلمة؟ ولذلك نجد أنهنّ حين يطمحن إلى الحرية يخترن مسارًا خارج الدين حتى لو كنّ مؤمنات؟

ليس ضعفًا. ما أقصد بالهوية الذاتية للمرأة المسلمة هي أنه حين تقبل من الناحية الأخلاقية والفكرية والعملية بالخلافة وحمل الأمانة والعمل بالنصوص القرآنية كطريق للتعامل مع الآخرين، فيجب أن تحملها بصدق، وتنظر إلى الإسلام على أنه هويتها الأولى. طبعًا، كل إنسان يحمل هويات مختلفة، سواء كانت هوية الجنس أو العرق أو الهوية الاجتماعية أو المكانة العملية. جميعها هويات يحملها الإنسان، ولكن طالما أنها تشعر وتعي أن هويتها الأولى هي الإسلام، بمعنى أنها مسؤولة فقط تجاه الله، فبإمكانها أن تتابع عملها متحررة من الضغط الاجتماعي وتحاول بحسب قدراتها أن تغير العادات الاجتماعية السلبية.

أما بالنسبة للنقطة التي ذكرتِها حول أن بعض النساء ينفرنَ أو يتركنَ الإسلام، لأنهنّ يشعرنَ أنه يغبِنُ حقوقهن، فهنّ يخلطن بين التفاسير السابقة والإسلام بحد ذاته. وينبغي أن نميّز بين الإسلام الذي هو القرآن، وبين الإسلام المفسَّر سابقًا، سواء باستخدام الحديث أو الفقه أو أي وسائل أخرى. أرى أن على المرأة المسلمة أن تعود إلى القرآن. قد لا تكون مرتاحة إلى حمل الأمانة في بادئ الأمر، لأنها لم تفهمها جيدًا. ولكن إذا وصلت إلى مستوىً في الفهم للقرآن وتعاليمه، وركزت على هويتها الإسلامية الأولى، سوف تقتنع. وبالتالي ستجد أن التطبيقات الاجتماعية والسياسية ممكنة، وليست منعزلة عن الشعائر. بهذه الطريقة نحن لا نفصل الدين عن الحياة العامة. طبعًا أنا لا أتكلم عن طريقة الحكم. هذا موضوع يُناقش في سياق آخر، ولكني أركز على العلاقات الاجتماعية وعلى الوقوف أمام الحاكم الظالم. هذا واجب كل إنسان، سواء يؤمن بالقرآن أم لا .فكما ذكرتُ، المبدأ الأساسي للإسلام ليس فقط الخلافة، وإنما العدل والإحسان والقسط.

ولكن لماذا غابت المرأة المسلمة عن الحقل الفكري والاجتهاد في رأيكِ؟

غياب المرأة المسلمة عن حقل التفكير والاجتهاد له أسبابه التاريخية:

أولًا: لقد أُبعِدت المرأة المسلمة منذ العصور الأولى عن المشاركة في مناقشة أمور المجتمع أو الأمة الإسلامية بصورة عامة. على سبيل المثال، أُبعِدت عن صلاة الجمعة بحجة أن صلاة الجمعة فرض على الذكور فقط. وهكذا أبعِدت تمامًا عن تعلُّم الإسلام، ليس فقط الإسلام السطحي، ولكن كذلك المفاهيم الأساسية فيه. أُبعِدت عن المشاركة بمناقشة أمور المجتمع. وبالتالي، غدت قدراتها أقل، وباتت تشعر بالضعف، لأنها لا تملك أمثلة عن نساء أخريات شاركنِ فكريًا أو عمليًا في تفسير القرآن أو وضع قواعد التعامل داخل المجتمع إلا ما ندر منها. هذا هو السبب الرئيسي.

ثانيًا: التفاسير الذكورية للقرآن التي جعلت منها إنسانًا ليس مبدئيًا في الحياة المجتمعية والأسرية والعلاقات الجنسية، وجعلت دورها ثانويًا أو متكاملًا مع دور الرجل. ليس لها دورٌ أساسيٌ كفرد منفصل له الحرية والقدرة على حمل الأمانة. تفاسير القرآن الذكورية لها دور كبير في غياب المرأة وتغييبها. لذلك يتوجب تغييرها وتجاوزها. 

وهناك أسباب تاريخية أخرى، من بينها الأثر الكبير الذي تركه المستشرقون والمستعمرون على النظرة إلى المرأة المسلمة في القرنين أو الثلاثة الأخيرة. كانت معلوماتهم عنها قليلة، لأنها كانت محجوبة عن المجتمع الخارجي. لا يعرفون بدقة ماذا يدور في ما يسمى بالحريم، ومع ذلك يتنبؤون بهذه الأشياء ويكتبون عنها ويرسمونها وفق مخيلتهم. يبتكرون صورة سلبية جدًا عن المرأة ودورها في المجتمع. لا شك من أن هناك بعض الحقيقة في غياب المرأة ودورها السلبي، ولكن تلك الصورة التي تتواتر باستمرار قد ساعدت على تجهيل المرأة وجعلها تظن أنها لا تقدر أن تساعد نفسها.

كيف نحلّ هذا الغياب للمرأة المسلمة؟

أرى أن هناك ثلاثة حلول:

أولًا: تغيير المفترضات والمسلّمات التي نستعملها في تفسير القرآن. تبدأ المرأة المسلِمة بتعلُّم القرآن وتغيير نفسها، وبعدها تحاول تغيير الآخرين. تبدأ من القرآن ضمن مفترضات ومسلّمات تختلف عما استخدمه التقليديون والمستشرقون والمستعمِرون السابقون. يجب أن نخرج من هذا الحيز، ونبدأ بمسلّمات جديدة أقرب ما يمكن لمفهوم النص. ثم نحاول وضع إطار جديد للتفكير في القرآن والإسلام.

ثانيًا: تقبّل أن المرأة المسلمة بمقدورها أن تفكر، وبمقدورها أن تغيّر، وبمقدورها أن تضع أطرًا جديدة للتغيير. ونتقبل هذه الأطر! طبعًا لا نتقبلها عفويًا، وإنما بعد محاورة أو نقاش حول هذه المواضيع، وفتح الأبواب والنوافذ للمرأة لكي تدخل في حيز التفكير بالمجتمع. يجب ألا ننسى أن الدين جزء من الأمور الاجتماعية. كل المعاملات والعلاقات الاجتماعية، وبخاصة العلاقة بين الجنسين، لها قواعد في القرآن. ونحاول أن نتبعها قدر  الإمكان.

ثالثًا: تقبّل المجتمعات المسلمة للأفكار الجديدة التي تقدمها المفكرات في الإطار المتجدد الذي يختلف عن الأطر السابقة. ونحن كمفكرات نطلب من المجتمع الصبر، فيتقبل هذه الأفكار ويجعلها جزءًا من التراث أو من الفكر الإسلامي أو التعامل الإسلامي القائم. وهذه نقطة هامة، لأن التغيير لن يتم من دون تبني المسلَّمات والأفكار الجديدة. وبعدئذ نحاول أن نستعمل هذه الأفكار الجديدة في تغيير أسلوبنا في التربية أو التعامل بين الجنسين أو الأمور السياسية.

ذكرتِ منذ قليل صلاة الجمعة، ووجدتِ أن إقصاء المرأة عن صلاة الجمعة له أثر سلبي جدًا على مشاركة المرأة في الحياة السياسية. وأذكر أنكِ قلتِ لي مرة أن صلاة الجمعة واجب وليست فرضًا. ماذا تقصدين بذلك؟ ولماذا تولين هذه الأهمية الكبرى لصلاة الجمعة بالنسبة للنساء، فتؤكدين على أنها واجب على الرجال والنساء على حد سواء؟

لم آتِ بشيء من عندي. لدينا الآية التاسعة من سورة الجمعة: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله». لاحظي: «يا أيها الذين آمنوا»، أي أن النداء موجه للجميع، رجالًا ونساء. وحسب تعاليم القرآن وتفسير الرسول (ص) وسنته بصلاة الجمعة، فإنها واجب على كل إنسان عاقل، وليس فقط الذكور. ولكن التفاسير التقليدية جعلت من صلاة الجمعة فرضًا على الرجل أو الذكر، وأبعدوا النساء عن الصلاة لأسباب تافهة، كالخوف من أن يحصل فساد. نسَوا أن المبدأ الأساسي في التعامل بين الجنسين هو غضّ البصر لكلا الجنسين. أي أن على الرجل ألا ينظر طويلًا إلى أي امرأة سواء كانت في الشارع أو الجامع. صلاة الجمعة لا تعني فقط إقامة الصلاة، وإنما جمع الناس والأمة، وبصورة خاصة المجتمعات المحلية، لمناقشة أمورها العامة في المجتمع. ولكن حين غُيبت  المرأة عن صلاة الجمعة، أصبحت غريبة عما يدور في المجتمع. بالتالي أصبحت القرارات كلها بيد الذكور، وصارت معلوماتها ضئيلة وضعيفة ومحصورة بالشعائر أو بعض الشعوذات الاجتماعية التي ليس لها علاقة بالإسلام. وهكذا غُيبت وغابت المرأة عن إنتاج الفكر الإسلامي. ليس بإرادتها، ولكن لأنها مُنِعت من دخول حيز الجماعة. الجمعة تعني اجتماع الناس لمناقشة أمور الأمة.

 كيف تتخيلين صلاة الجمعة؟ هل يتكلم الرجال والنساء مع بعضهم بعضًا؟

نعم يتكلمون مع بعضهم بعضًا قبل الصلاة أو بعدها، لنرجع إلى التاريخ. المسلمون يعرفون أن النساء كنّ يذهبن إلى المسجد في زمن الرسول وزمن أبي بكر وبدايات حكم عمر بن الخطاب. كان هناك مسجد واحد، والنساء يصلين خلف الرجال. هذا لا يعني أن دورهنّ ثانوي، ولكنه نوع من الممارسة الأدبية، لأن بعض الحركات أثناء الصلاة تؤدي إلى تماس الأجساد. يعتقد الناس بالعموم أنه ينبغي الفصل بين الجنسين أثناء إقامة الشعائر الدينية. هذا ممكن أن يتغير بطبيعة الحال. يحصل اليوم في بعض الجوامع الأميركية والأوروبية أن تقف النساء في صفّ على اليمين، والرجال في صفّ على اليسار. ثمة حاجة ألا تختلط الصفوف فيما بينها. ربما يتغير ذلك في المستقبل، ولكن حاليًا ما زال الناس يشعرون بعدم الراحة حيال هذا الأمر لأسباب كثيرة، منها أن المرأة ذاتها بحاجة إلى مساحة للقيام بحركات الصلاة من دون أن تُعزل أو تُمنع من المسجد. عندما يبدأ التغيير، ويفهم الناس القرآن بكامله وبدقة، سيتغير هذا أيضًا. يريد البعض التغيير بشكل كامل وفوري. وهذا ما نريده أيضًا، ولكننا ننظر إلى الأولويات. الأولوية في حضور المرأة صلاة الجمعة والخطبة، وأن يكون لها دورٌ في النقاش. لأن المسلمين نسَوا أن الخطيب يتكلم، وبعد ذلك يحق لكل فرد أن يسأله عن بعض المفاهيم إذا شعر أنه لم يأت بفكرة إيجابية.

للأسف، اعتبارًا من نهاية زمن عمر راجت فكرة عزل المرأة عن صلاة الجمعة والخوض في أمور المجتمع. يتحجج البعض بأن النساء لا يمكنهنّ ترك أطفالهن في البيت، وبأنهن يحِضنَ. ولكن الحيض لا يمنعها من حضور صلاة الجمعة. يمكنها حضور الصلاة دون أن تقيمها، بل تجلس أثناء الصلاة وتستمع إلى الخطبة وتشارك بالنقاش. لقد ترك الرسول مثالًا عمليًا واضحًا بهذا الخصوص، ولا يمكن أن ننساه. لا مشكلة في كلام النساء والرجال مع بعضهم بعضًا طالما أن ذلك يتم ضمن تعاليم القرآن.

أذكر أنكِ حكيتِ لي مرة عن حادثة حصلت معكِ في الجامع الأموي في دمشق.

هذه الحادثة هي واحدة من عدة حوادث حصلت معي في الجامع الأموي. كنتُ مرة في زيارة عمل في دمشق، ورافقني زوجي الذي كان في زيارة عمل هو الآخر. وقد تعودنا أن نزور الجامع الأموي في كل مرة نذهب فيها إلى سوريا. وعندما أردنا أن ندخل من الباب، منعني حاجب الجامع، وطلب مني التوجه إلى زاوية خاصة بالنساء. كانت تلك الزاوية مظلمة وليس فيها ميكرفون لسماع الخطيب، وقد جلست فيها النساء، بينما أطفالهنّ يجرون حولهنّ ويتصايحون. رفضتُ الذهاب إلى ذلك المكان، وناقشتُ الحاجب أن الجامع مفتوح منذ خمسة عشر قرنًا لكل شخص، من دون تفرقة بين الجنسين. كانت هناك دائمًا دكة خشبية تجلس عليها النساء خلف الرجال بجانب الحائط المواجه للمحراب، ويصلين هناك أيضًا، دون أن يضطررن للانعزال في زاوية غير لائقة، أو غير إنسانية بالأحرى. الأمر الذي ساءني هو أنهم يغيرون تاريخًا هامًا جدًا. كل الجوامع الرئيسة في العالم الإسلامي مفتوحة للجميع. كنتُ عادة أدخل من دون عقبات على الباب. ذهبنا بعدها أنا وزوجي إلى مدير الجامع، ولكن لم يكن لديه ردّ سوى هزّ الرأس والقول إن الأمر جاء من وزارة الأوقاف. بعد الحديث، أصريت على أن أقف بجانب الدكة، وأصلي رغم أن الرجال رفضوا أن يزيحوا عنها.

بعد الصلاة، راح الخطيب يتحدث عن المرأة التي لا تحتشم أو لا تتحجب. وكنتُ قد توصّلت من خلال الدراسة إلى أن موضوع الحجاب مغالطة، وليس فرضًا في القرآن، وإنما الحشمة هي المطلوبة. المشكلة هي أنه أتى بحديث يُروى عن الرسول (ص)، وهو حديث غير صحيح يقول إن غير المحجبات سوف يعلّقن من أثدائهن في نار جهنم. هذا أمر غير مقبول. بعد الخطبة، تقدّمتُ من صفوف الرجال لأتكلم مع زوجي. فبادرني بالسؤال: ما رأيكِ؟ فقلتُ له إنه يجب أن نتكلم مع الخطيب. انتظرنا حتى ذهب معظم الناس ما عدا بعض الشباب. قال له زوجي إنه أساء للإسلام والمسلمين، وأضفتُ أنه أساء للمرأة المسلمة بصورة خاصة، وبأن الحديث الذي رواه غير صحيح، لأنه يتناقض مع القرآن. طلبنا أن يغيّر طريقته وأمثلته، لأنه يتحدث إلى ناس يأتون من جميع أنحاء العالم للصلاة في الجامع الأموي. وقد تفاجأ الخطيب والشباب من حوله أني شاركتُ أيضًا بالنقاش. ظلّ الخطيب يستمع ولم يرد. حصلت هذه الحادثة في نهاية التسعينيات أو بداية الألفين، وقد سبقتها حادثة مشابهة قبل عامين من ذلك التاريخ. 

تكلمتِ أولًا مع مدير الجامع حول الفصل المجالي بين النساء والرجال، وبعد الخطبة ذهبتِ إلى الخطيب وجادلتِه حول محتوى خطبته. كنتِ مشاغبة جدًا!

يُنظر إليَّ على أني مشاغبة، ولكني لا أريد المشاغبة. بل أحاول حمل الأمانة وتطبيق ما تعلمته من دراستي للقرآن، لأن هذه هي الطريقة التي يمكن أن نغيّر بها المفاهيم. طبعًا كانت زياراتي إلى دمشق مهمة بالنسبة لي، لأنها تشعرني بالتاريخ الأساسي والروحي والمكاني.

ماذا تقولين للمرأة المسلمة السورية اليوم انطلاقًا من الأوضاع التي تعيشها على اختلافها؟

ذكرتُ منذ قليل الحديث الشريف: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان». على المسلمة أن ترفع صوتها لمحاولة نقض الأفكار المتراكمة غير الصحيحة عن الإسلام. ولكن يجب أيضًا أن تكون على علم بدقائق الموضوع الذي تتكلم فيه، وإلا ستوقع نفسها بالمشاكل. تحتاج المرأة المسلمة إلى فرصة أن تتعلم وتتفهم القرآن بنفسها حتى ترفع صوتها. لا تتردي يا عزيزتي، هذا جزء من تعاليم الرسول (ص)! 

هل لديكِ أمل أن يخرج الإسلام من الأزمة التي يمر بها؟

لدي أمل، لكن الوضع الحالي في البلاد العربية الإسلامية صعب. ويؤلمني كثيرًا حين أرى الشباب الذين خرجوا من هذا العالم، وما زالوا مستمرين بالممارسات ذاتها. يحتاجون إلى مساعدة ليعيدوا النظر إلى هذه الأمور، ولا يشعروا بالضغط الاجتماعي أو السياسي أو العام. تهمني النساء بشكل خاص، لأنهنّ الأساس في تربية الأجيال، والأساس في إعادة النظر في الإسلام. الأمل موجود دائمًا، نحتاج إليه مهما كان الوضع صعبًا ومؤلمًا.