في اللغة السياسية السورية الراهنة، يُستخدم مصطلح التعافي المبكر بوفرة مؤخراً، وذلك للدلالة على أشياء متعددة، غير محددة، تتوقّف بشكلٍ رئيسي على مَن يقول المصطلح وماذا يريد منه. هذا الغموض هو سر جاذبية المصطلح ومصدر قوته. إذ يمكن للنظام والمعارضة، وللجهات المانحة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، استخدامه للإشارة إلى أشياء مختلفة. إذ يتيح هذا المصطلح لمستخدميه حدوداً متحركة، يمكن إعادة موضعتها كل حين لوصف أعمالٍ تدخل ضمن الإطار الإنساني والمساعدات. ولأنَّ المصطلح تقنيٌّ ينتمي إلى لغة المانحين والمنظمات غير الحكومية، فهو لا يخدم كثيراً الحقول المعرفية، ولكنه أثبت فاعليةً كبيرةً في الحقل السياسي. في لحظاتٍ خاصة، قد يُصبح المصطلح، بحسب الغاية منه وطريقة استخدامه، سلاحاً خطيراً يُهدّد بعض الحقوق المسكوت عنها للشرائح الأكثر ضعفاً كاللاجئين والنازحين قسرياً، وحقوق هؤلاء في السكن، والأرض والملكية. المُقلقُ في الموضوع أن المسؤولية عن إساءة توظيف المصطلح قد تقع على جهة مانحة، وباستخدام محاججةٍ إنسانيةٍ بحتة. ويتيح ذلك فرصةً مهمةً لرصد كيفية استخدام الجهات المانحة للغةٍ تقنيةٍ مستقاةٍ من العمل الإنساني بغرض فرض توجهاتٍ ذات طابع سياسي. أي تحوُّلُ تلك الجهات المانحة إلى كيانات ترغب في تحقيق أهداف ذات طبيعة سياسية.
يُستخدم مفهوم التعافي المبكر لوصف مشاريع تموّلها جهات مانحة وتنفّذها منظمات حكومية وغير حكومية، غالباً مع شريكٍ حكومي، في مناطق منكوبة بالحروب أو بالكوارث الطبيعية، وذلك خلال مرحلة انتقالية تفصل بين الإغاثة والاستجابة الإنسانية من جهة، والتنمية وإعادة الإعمار من جهة أخرى. ويُفترَضُ أن يكون التعافي المبكر جسراً بين هاتين المرحلتين، لذا فهو يتضمّن توظيف آلياتٍ من كل منهما وتكييفها في برامج خاصة تهدف إلى تعزيز ومعالجة مروحةٍ من العناوين الرئيسية، التي تبدأ بسُبُل العيش وتنتهي بالتنمية المُستدامة، مروراً بالحوكمة والقدرة الذاتية على الصمود وإعادة بناء قدرات المجتمعات المحلية واستعادة بعض الخدمات الأساسية، فضلاً عن حل المشاكل طويلة الأمد التي قادت إلى الأزمة. وبالتالي، وبحسب اللغة المستخدمة في العمل المنظماتي، فالتعافي المبكر هو عملية متعددة الأبعاد، تنطلق من آخر خطوات الاستجابة الإنسانية لتصل إلى أولى خطوات التنمية المستدامة.
ومثل كثيرٍ من المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في لغة العمل المنظماتي، ليس للتعافي المبكر تعريفٌ فاصل، بل يعتمِدُ تعريفُه على الغاية من توظيفه والأهداف المطلوب تحقيقها من خلاله، أو المطلوب تجنّبها. في كل الحالات، التعافي المبكر هو مثال على المفاهيم مسحوبة السياسة التي يهدف تطبيقها إلى إتاحة إمكانية المراوغة بين بضعة أطراف رئيسية؛ الجهات المانحة، والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، والأنظمة السياسية أو قوى الأمر الواقع المُسيطرة على الأرض.
والمراوغة تعني هنا استخدام مصطلحٍ واحد له تعاريف متعددة لقول أشياء غير محددة، مع إتاحة إمكانية التنصّل منها بادعاء عدم الدقة أو سوء الفهم؛ شيء كالتحدث بلغة أجنبية خلال اجتماع بين أشخاص لا يتحدثون اللغة ذاتها، مع توفير ترجمة فورية غير دقيقة، يَسمعُ من خلالها كلُّ طرفٍ ما يريده. هذه اللغة الفريدة تتيح قول الأشياء ونقائضها دون الحرج النابع عن المسؤولية. ليست المشكلة لغوية فقط، بل إن مصطلح التعافي المبكر هو أحد نماذج ترجمة لغة التوصيات السياسية المحبّذة لدى صانعي السياسات، إلى لغة البرامج التنفيذية المحبّذة لدى المنظمات الحكومية وغير الحكومية.
لذا، يبدو التعافي المبكر أشبه بالحيز الواقع في مكانٍ ما، ولكن على التخوم. لا هو مرحلة، ولا عملية. لا هو إغاثة ولا تنمية. هو المنتصف، تماماً حيث يريده مَن يحتاجه. هو التسمية المتاحة لوصف أكثر من شيء في وقتٍ واحد؛ مفتاح لأكثر من باب. وليس هذا بنقد سلبي، بل محاولة لتطهير المصطلح من كل حمولاته الإيديولوجية التي يُسبغها عليه الفاعلون المعنيون به وفق مصالحهم. في هذا الحيز، تتحدث الأطراف الثلاثة؛ الجهات المانحة، والمنظمات، وقوى الأمر الواقع، لغةً مفهومةً قابلةً للتنفيذ العملي. وهنا لا يعود التعافي المبكر مجرد مرحلة انتقالية من النزاع إلى السلام، بل عبارة عن تدخل دولي إنساني محدود في منطقةٍ مأزومة، ومؤلف من مراحل تنفيذية تطبيقية. والملفِت هنا أن الأطراف الثلاثة المنخرطة في ترجمة وإعادة ترجمة مصطلح التعافي المبكر فيما بينها، تتملّص دوماً من أي شبهةٍ سياسيةٍ لعملها، وسط رغبةٍ كبيرة لوصفه بـ«مجرد عملية ذات طابع إنساني بحت».
لذا، يصح مع النظام السوري القول إن التعافي المبكر بدأ لحظة نهاية النزاع المسلح، كما يصح مع أطراف معارضة سورية القول إن التعافي المبكر يجب أن يستهدف السلام وبناء الدولة، أو أيضاً إن التعافي المبكر يجب أن يوجَّه لمساعدة الناس على الأرض بغض النظر عن القوى المسيطرة عليهم كما تذهب المنظمات، أو إن التعافي المبكر لا يجب أن يكون مسيساً كما تذهب الجهات المانحة. وبين هذه الأقطاب «الصحيحة»، هناك الكثير من اللحظات المسكوت عنها، كضرورة التوصُّل إلى حلٍّ سياسي، وإعادة الإعمار، والتنمية المستدامة، ونماذج الحوكمة. قبل ذلك كله، هناك المحاسبة والمساءلة الوطنية، وتحديد المسؤولية الجنائية للأفراد في جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، ومنع الإفلات من العقاب، وتعويض الضحايا وذويهم، وكشف مصير المفقودين.
في ظل فوضى هذا النوع من المصطلحات وتفسيراتها الرغبوية، نقع على تعريفات متنوعة للتعافي المبكر لمشتغلين سوريين في الميدان المعرفي. مثلاً، التعافي المبكر هو «كافـة الجهود الإنسانية والتنموية التي تبذلها الجهات المحلية والدولية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مختلف أنحاء البلاد، إضافة إلى الجهود المبذولة في تطوير فعالية المؤسسات المنخرطة في تحسين هذه الأوضاع». أو على أنه «مرحلة متأخرة من التدخل الإنساني، تبدأ مع انخفاض مستوى العمليات العسكرية الكبرى، تعتمد أكثر على المجتمعات وهياكل الحوكمة المحلية في إدارة العملية تخطيطاً وتمويلاً وتنفيذاً مع دور خارجي داعم، غايتها الأساسية دعم استقرار المجتمعات المحلية وقدرتها على التكيف، من خلال العمل على مشاريع متكاملة قطاعياً وجغرافياً، يتم قياسها وفق معايير الفعالية، والأثر، والمساءلة والمحاسبة». ما بين الاستجابة الإنسانية بوصفها عملاً يقوده المانحون الدوليون بالحد الأدنى من الرقابة مع وفرة إلى حدّ هدر الموارد، وإعادة الإعمار التي تقودها حكومةٌ تخطط بشكلٍ مركزي وتتفاوض مع المانحين الدوليين لإعادة بناء البنى التحتية عبر توظيفات كبيرة يقوم بها القطاع الخاص ضمن بيئةٍ سياسية وأمنية مستقرة، يأتي التعافي المبكر كضرورة وطنية مؤسِّسة لحلٍّ سياسي. في حين يذهب آخرون إلى أن تسمية التعافي المبكر لا تكون إلا خلال مرحلة الاستقرار، وهذه ليست الحالة السورية. إذ أن من أهداف التعافي المبكر بناء الدولة واستعادة قدرتها على الإدارة العامة والخدمة المدنية، وإنشاء آليات للرقابة والمساءلة والضوابط المالية، وإعادة بناء المؤسسات السياسية التمثيلية، وأيضاً تجنُّب الانتكاس إلى الصراع، والأهم بناء السلام. بينما يذهب طرفٌ آخر إلى أن التعافي المبكر كان يحدث طيلة السنوات الماضية على هامش الدعم الإنساني في جميع المناطق، على شكل مشاريع ذات طبيعة سياسية؛ كالحوكمة وحقوق النساء والتنمية السياسية، وسبل عيش ذات طبيعة اقتصادية تنموية، والتي لا يمكن أن تندرج تحت مُسمى الاستجابة الإنسانية، ولا إعادة إعمار.
عملياً، منذ نهاية الطور المسلح من النزاع في العام 2018، ربطت الجهات المانحة، وخاصةً المرتبطة بالدول الغربية، البحثَ في تمويل مشاريع إعادة الإعمار بحدوث انتقال سياسي في سوريا. لكنّ انتصار النظام عسكرياً بدعم الروس والإيرانيين عقّدَ من إمكانية التوصُّل إلى حل سياسي، وحدَّ من قدرة المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا في إحداث أي اختراق عملي في سلسلة مفاوضات جنيف المعقودة بين المعارضة والنظام. هذا الاستعصاء سرعان ما انعكس على الديناميات القائمة بين المانحين والمنظمات وقوى الأمر الواقع، بما فيها النظام. إذ انتهت مرحلة الاستجابة الإنسانية للكارثة ولم تظهر في الأفق أي علائم على إمكانية البدء في مشاريع إعادة الإعمار. لذا، تصاعد الحديث تدريجياً عن التعافي المبكر كبديلٍ عملياتي يتيحُ استمرار تمويل المشاريع الإنسانية على الأرض، طالما لم تصل إلى عتبة إعادة الإعمار. أي بات التعافي المبكر هو الحل العملياتي التقني لأزمة استعصاء سياسية.
ولكن، هذا الانتقال من مستوى الفعل السياسي إلى تعطيلاته الإجرائية، يقود إلى التساؤل فعلاً عن الخطوط الفاصلة بين إعادة الإعمار والتّعافي المبكر، والتي يمكن الخلوص إلى أن أبرزها: الدولة المعنية هي من تضع خطط إعادة الإعمار وتنفيذها، بينما تقوم الجهات المانحة والمنظمات بوضع خطط التعافي المبكر. أيضاً، التعافي المبكر هو شكلٌ من أشكال المساعدة الإنسانية التي لا تستلزم السَداد لاحقاً، في حين أن إعادة الإعمار يمكن أن تأتي على هيئة قروض. كما يمكن أيضاً، لتسهيل التمييز بينهما، القول إن مشاريع تأهيل البنية التحتية، وإعادة بناء وترميم الأبنية السكنية المتضررة، وبناء تجمعات سكنية جديدة، ترتبط مباشرةً بإعادة الإعمار، بينما مشاريع دعم الخدمات الصحية، ودعم الخدمات التعليمية، ودعم العمل الخاص وإيجاد فرص عمل، ودعم التماسك الاجتماعي، ترتبط بالتعافي المبكر.اليوم التالي، «أثر مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار على حقوق السكن والأرض والملكية في سوريا».
المشكلة أن كل تلك الحدود سائلة وغير محددة بدقة، ويمكن بسهولة تجاوزها دون الانتقال فعلياً من إعادة الإعمار إلى التعافي المبكر أو بالعكس. فعلياً، يمكن لكل الخطوط الفاصلة أن تذوب في لحظة التطبيق العملي الموجه سياسياً. مثلاً، في ما يبدو رضوخاً للمقاربة الروسية بتحويل التعافي المبكر إلى مدخلٍ للتطبيع مع النظام في دمشق، في تقرير منشور في تموز (يوليو) 2022، حثّ برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN-Habitat صانعي السياسات «على تجـاوز التقسيمات المعتادة بين الاستجابة الإنسانية والتعافي المبكر وإعادة الإعمار والتنمية على المدى الطويل، ودعم التعافي أينما يمكن تحقيقه». ويشير ذلك إلى أن وكالة الأمم المتحدة «لا تسعى فحسب لبناء جسر بين الإغاثة وإعادة الاعمار، بل تنوي إخفاء التمييز بينهما».
في مثالٍ آخر، في حزيران (يونيو) 2023، وجّه الأمين العام للأمم المتحدة فريقَ الأمم المتحدة في سوريا لإعداد برنامج للتعافي المبكر لمدة 5 سنوات، وبَحْث طرق تمويله. ويبدو أن منسق مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة المقيم في دمشق، قد طور بشكلٍ منفرد مسودة المذكرة المفاهيمية لإحداث صندوق للتعافي المبكر ERTF بالتنسيق مع السلطات في دمشق، ودون تنسيقٍ مع الجهات المانحة ولا المنظمات غير الحكومية العاملة في سوريا. المسودة قالت إن صندوقاً للتعافي المبكر هو مجرد آلية إضافية لتأمين التمويل على مدار خمس سنوات، وفق أولويات تساعد على بناء قدرة المجتمعات المحلية على التكيف، والصحة والتغذية، والتعليم، وخدمات ومرافق المياه والصرف الصحي، وسبل العيش، والكهرباء. وبحسب المسودة، فإن للصندوق لجنة توجيهية، ولجنة فنية، وأمانة مقرها بيروت. في حين يتولى المنسّق المقيم ومنسّق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في سوريا مسؤولية قيادة وتنسيق الإدارة العامة للصندوق، بالتشاور مع الجهات المانحة والمنظمات المشاركة. السقف المبدأيّ المقترح لتمويل الصندوق سيكون بقيمة 500 مليون دولار أميركي موزعة على خمس سنوات. وأثارت المسودة مخاوف المنظمات غير الحكومية العاملة خارج مناطق سيطرة النظام، وتداعى منتدى المنظمات غير الحكومية الدولية العاملة في سوريا SIRF، الممثل لـ65 منظمة تعمل في جميع أنحاء سوريا، لتقديم توصياته حول المسودة. وعبّر المنتدى عن قلقه العميق بشأن هيكل الحوكمة المقترح لصندوق التعافي المبكر، وأصرَّ على أن يكون دور رئيس لجنة توجيه الصندوق خارج دمشق، وأن يعمل على نهج شامل لكافة أنحاء سوريا، وذلك من أجل الحفاظ على حيادية وعدم تحيّز الصندوق، بما يضمن التوزيع الاستراتيجي للموارد عبر جميع مناطق الاستجابة، ويعزز الشمولية واتخاذ القرارات العادلة.وثيقة بلا تاريخ
ولأن ذلك الاشتباك السياسي حول تفسير المصطلح وحدود استقلاليته عن رغبات المتكلِّم باسمه يقول كثيراً من الأشياء الواضحة، ولكن غير المفهومة، يمكن لبضعة أمثلة عملية أن تُلقي الضوء على جوانب من هذه الفوضى. في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أطلقت محافظة دمشق مشروعاً باسم «التخطيط التشاركي للتعافي المبكر لمدينة دمشق القديمة»، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في سوريا. والعملية بحسب القائمين عليها «تشاركية»، تتكامل فيها جهود المحافظة مع المجتمع المحلي للوصول إلى خطة تعافٍ مبكر تتضمن: تعزيز قدرات لجان الأحياء واللجان التطوعية والأفراد، وتعزيز الحوار بين السلطات المحلية في المدينة القديمة وبين المجتمع المحلي، وتحفيز مشاركة المجتمع المحلي ودعم مبادرات مجتمعية، وتوسيع مشاركة الشباب والنساء في عملية صنع القرار على المستوى المحلي، وتعزيز المسؤولية المجتمعية لدى القطاع الخاص وإشراكِه في الحوار والعمل. تعاني المنطقة بالفعل من تدهور الخدمات، ومن تأخِّرٍ في ترميم وتأهيل الأبنية القديمة، مما يُعرّض سلامتها الإنشائية للخطر. إلا أنه من الملاحظات الأولية على مشروع التعافي المبكر في دمشق القديمة أن المنطقة لم تتعرّض لضرر مباشر ناتج عن الأعمال القتالية، والمشاكل فيها تقنية متعلقة بالحصص الإرثية العقارية غير المفروزة وغير المسجلة، وأيضاً من تضارب صلاحيات أكثر من جهة رسمية. وبالتالي، فالتساؤل عن المنطقة الأكثر حاجة لمشاريع التعافي المبكر هو جزءٌ من المعضلة التي ما زال النقاش حولها غير محسومٍ بين الخبراء. فهل تُعطى الأولوية في التعافي المبكر للمناطق غير المتأثّرة بمجريات النزاع المباشر، أو تلك المدمرة؟ وهذه المعضلة تنبع من الإمكانيات المتوفرة لإثبات الحقوق وتوثيقها. والمعضلة هنا، أنه في المناطق المدمّرة ليس سهلاً التثّبت من الحقوق، لأن أكثر من نصف العقارات في سوريا غير موثّقة في السجلات العقارية، في حين أن الأبنية القائمة في المناطق غير المتأثّرة بالحرب توفّر إثباتاتٍ مادية عن الحقوق العقارية. ولذا، قبل كل ذلك، من الضروري إيجاد آليات حقيقية للتحقق من المخاطر، لا تعتمد على الأدوات التقليدية المتعارف عليها كالقوانين والسجلات. فما هو موثّق في السجلات العقارية، وما تنص عليه القوانين في سوريا، هو شيء، وحقوق الناس وأرزاقها وتعبها وحكاياتها شيءٌ آخر.
في مثالٍ آخر، في العام 2019، وبتمويلٍ من صندوق الأمم المتحدة الإنمائي UNDP ودعمٍ من الأمانة السورية للتنمية ومجلس مدينة حلب، وتنفيذ منظمة ريسكات Rescate الإسبانية، أُجريت تجربةٌ في منطقة الراموسة في حلب، تضمّنت نقل أنقاضٍ وتكسيرها وفرزها لاستخراج مواد يمكن استخدامها في تصنيع الطوب الأسمنتي الخاص بالبناء. نجحت التجربة، وتحولت إلى مشروع لإنتاج 8 آلاف بلوكة من الطوب الأسمنتي، بحيث تكفّلت الجهات المانحة بتأمين الآليات والمعدات، على أن تعود ملكيتها لمجلس مدينة حلب بعد انتهاء المشروع. ويبدو أن التجربة الناجحة قد قادت إلى الشروع في تجربةٍ جديدة في دير الزور، برعاية منظمات دولية. القضية الأكثر أهمية في المشروع هي الأنقاض؛ ملكيتها وحقوق أصحابها بالتعويض عليهم، وهو ما لم يتحدث أحد عنه.
في مدينة الحجر الأسود بريف دمشق، تسعى السلطات السورية للحصول على تمويل من الجهات المانحة لمشاريع تضعها تحت خانة التعافي المبكر لإعادة تأهيل المدارس، وإعادة تأهيل شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، وإزالة الأنقاض. وربطتْ محافظة ريف دمشق بين السماح بعودة النازحين إلى المدينة وبين إعادة تأهيل البنى التحتية فيها، ما شكّل ضغطاً على المنظمات والجهات المانحة. وبالفعل تمكّن مجلس المدينة من توقيع اتفاقٍ مع منظمة إسعاف أولي الدولية لتمويل تأهيل مدرسة، في حين قامت منظمة اليونيسف بتجهيز مدرسة، كما قامت منظمة الصليب الأحمر الدولي بتنفيذ مشروعٍ لصيانة واستبدال خط الصرف الصحي. كذلك، تعهدت منظمة أدرا بتجهيز وتأهيل مدارس وتركيب منظومة طاقة شمسية لتشغيل بئرَي مياه، وترحيل الأنقاض من دون تحديد المواقع المتوقع إزالة الأنقاض منها، ولا طريقة الإزالة، ولا تحت أحكام أي قانون ستُنفذ. المشكلة في كل ذلك أن محافظة ريف دمشق، رغم كل شيء، ما زالت تُقيّد عودة النازحين إلى المدينة، وتشترط على الراغبين بالعودة إليها الحصول على موافقةٍ أمنية مُسبقة.
أيضاً، في حزيران (يونيو) 2022، بدأ مجلس مدينة حلب بتنفيذ خطة تعافٍ في عدد من أحياء مدينة حلب الشرقية، تحت إشراف أحد برامج الأمم المتحدة بالتعاون مع وزارة الإدارة المحلية والبيئة. وتتضمن الخطة تأهيل بعض الحدائق، وصيانة شبكات الصرف الصحي وماء الشرب المارّة فيها، واستبدال المقاعد التالفة، وتمديد شبكة إنارة تعتمد على الطاقة الشمسية. وتشمل الخطة أيضاً إعادةَ تأهيل الخدمات الأساسية وإصلاح شبكات الصرف الصحي ومياه الشرب، وإصلاح الطرق، وترحيل قسم من الأنقاض في منطقة قاضي عسكر، وفتح الطرق الرئيسية والفرعية وإزالة السواتر والكتل الأسمنتية. وعدا عن قضية الأنقاض وما تثيره من حساسيات، فإن منظماتٍ غير حكومية سورية ومنظمات مرتبطة بحزب البعث، وأيضاً مليشيا موالية لإيران، شاركت في تنفيذ تلك الخطة. إذ أن قِطّاعُ حلب الشرقية في فيلق المدافعين عن حلب، وهو أحد مكونات مليشيا حزب الله السوري التي شاركت في الهجمات العسكرية على المدينة أثناء سيطرة المعارضة عليها، ساهم الفيلق في تنفيذ الخطة عبر إشراك عناصره وآلياته ومعداته الهندسية في عمليات ترحيل الأنقاض والقمامة وفتح الطرق.
مؤخراً، بدأ الاشتباك السياسي يتخذ منحىً جديداً، مع ظهور صوتٍ جليّ ضمن الجهات المانحة يقول إن العملية السياسية فشلت، والنظام لن يفاوض على أيِّ تنازلٍ سياسي.زيدون الزعبي، عمر عبد العزيز الحلاج، «منطلقات أخلاقية للتعافي المبكر في سوريا». وبالتالي، أليس من الأجدى مساعدة السوريين عبر توسيع مفهوم التعافي المبكر إلى قطاعات إضافية، مثل إحياء الزراعة والخدمات الأساسية؟ بما في ذلك خدمات الطاقة المتجددة، ومياه الشرب، ومياه الصرف الصحي، وإدارة النفايات، وإحياء القطاع التجاري الصغير. هذا الصوت، الصادق أيّما صدق، في توجيه النظر إلى الضحايا ومحاولة خصّهم بحصةٍ في التمويلات المقدمة لمشاريع التعافي المبكر، يقوده حالياً معسكر الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، مدير المكتب الإقليمي للدول العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عبد الله الدردري، نائب رئيس مجلس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية 2005-2011. ومع افتراض حسن النية، فالمقاربة التي يقودها الدردري حالياً تحت راية الدفاع عن السوريين، تتضمن تسهيل إطلاق مشاريع إعادة إعمار محدودة بدعم منظمات دولية تحت اسم التعافي المبكر. هذه المشاريع، ستتيح سيولةً ماليةً من دون رقابة فعلية على صرفها، في بيئة يكثر فيها رجال الأعمال والشركات المدرجة أسماؤهم على لوائح العقوبات الدولية والمتهمين بالمشاركة أو بتسهيل ارتكاب جرائم بحق السوريين. كما أن أي تحقّقٍ من مخاطر تمويل هذه المشاريع يجب أن يتضمّن إشراك أطراف محايدة قادرة على تقدير ومراقبة حساسيات النزاع.
قد تبدو المقاربة للوهلة الأولى حلاً إجرائياً براغماتياً في ظل تعطُّل الحل السياسي. لكنها، من زاويةٍ أخرى، تتيح تمويل أعمال بنى تحتية محدودة من دون ربطها بأي تغيير سياسي. أي أنها تُعفي النظام من أي خطواتٍ على صعيد الحوكمة، كما تعفي الجهات المانحة من المسؤولية الأخلاقية عن تدهور أحوال السوريين وسط عجزها عن فرض الحل السياسي. ولكَم تُذكّر هذه المقاربة بالخطة الخمسية العاشرة التي صاغها الدردري كبرنامج تحرير اقتصادي تقوده شريحة رجال الأعمال السورية، والتي لم تتضمن أيَّ إصلاحٍ مؤسساتي أو أي مقاربةٍ سياسية. هذه هي الخطة التي تبنّاها المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث، تحت بدعةٍ باسم «اقتصاد السوق الاجتماعي»، والتي اعتُبرت أحد أسباب التفقير والتهميش التي لحقت بالسوريين وقادت إلى ثورة العام 2011.محمد جمال باروت، «العقد الأخير في تاريخ سوريا.. جدلية الجمود والإصلاح»، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012، ص21-51.
الحل غير السياسي نفسه لأزماتٍ ناتجة عن الاستعصاء السياسي، تُعاد تجربته اليوم تحت راية المبررات ذاتها؛ الحرص على حياة السوريين وتخفيف آلامهم. مبررات مُصيبة، أخلاقية، وواقعية، والمشكلة ليست فيها، بل بالحل المطروح للأزمات المسبّبة لها: الحل الوسطي مسحوب السياسة، تحت اسم التعافي المبكر أو اقتصاد السوق الاجتماعي.