قد لا تغريك الحلقات الأولى من مسلسل عقد إلحاق بالمتابعة، قد تملّ-ين، وتشعر-ين بالغبن، وقد تزعجك شدة انطوائية وقلق الشخصية التي تؤديها دانا مارديني، وقد يستفزّك أسلوب صديقتها (نانسي خوري) التوبيخي تجاهها، وتستغلظ-ين شخصية العاشق التي يؤديها مهيار خضور. ربما ستلمس-ين عشوائية في الحوارات والأحداث، وستشعر-ين بحاجة إلى تركيزٍ مضاعف لمنحه فرصة، ومعرفتك المسبقة أنه مسلسل من كتابة أقلام مبتدئة ضمن ورشة عمل كتابة إبداعية قد تجعل الحماس للمتابعة أفترَ بعد. ولكن، إن كان لديك وقت فراغ، في إجازة طويلة أو في فترة ضياع وغربة ملولة، أو دفعك قرارٌ متقصّد للمتابعة وإعطاء المسلسل فرصة أخرى، وتابعت حتى الحلقة الخامسة، قد تجد-ين أن هناك ما هو واعدٌ وملفتٌ خلف تعثُّرات الحلقات الأولى.
سترى-ين الموت يستعدُّ لضمّ قصي لحظة هروبه من بؤسٍ يلاحقه، وتخشى-ين أن تصرخ-ي له أن يتوقف، وتخشى-ين أن تصمت-ي، لديك ثلاثون ثانية لاتخاذ القرار، إما إنقاذه من الموت ورميه للبؤس، أو إنقاذه من البؤس ليحتضنه الموت، وأنت نفسك كنت قد شهِدت، في الحلقة السابقة تماماً، على هروبه من عنف الميتم إلى عنف الشارع. بهذا المشهد تبدأ الحلقة الخامسة، لتفتح في رأسك ملايين الأسئلة عن خياراتنا اليوم. أندعو لأحبائنا بالنجاة من البؤس أم الموت؟
ثم ستُغريك مشاهد سيرة حياة صديقته ريما، بطلة القصة، بإسقاطها على نفسك، على هويتك، على أحبائك وأصدقائك وعائلتك، وعلى سوريتك وسوريا والسوريين.
عقد إلحاق مسلسل سوري قصير، كُتبت حلقاته بشكل جماعي من قبل مجموعة من الشباب ضمن ورشة كتابة إبداعية ضمّت كلّاً من دعاء حرون، أحمد أبو شقير، هدى بيرقدار، بيسان شقير، ومحمد رجب، بينما أخرجه ورد حيدر، حفيد الروائي السوري حيدر حيدر، في تجربته الإخراجية الثالثة بعد مسلسل كنبة أورانج، ومسلسل بقعة ضوء 2020.
وعملٌ كهذا، من كتابة وإخراج أسماء جديدة، ورغم الأسماء الكبيرة المشاركة في تجسيد شخصياته، بقيَ عالقاً مدة عامين قبل أن تقرر منصة Viu محدودة الانتشار شراءَه، ليتسرّب إلى السوريين، كالعادة، عبر تطبيق تلغرام.
في بحثنا عن الـBest Friend
تُشكّل بداية الحلقة الخامسة مقدّمة لسلسلة من الصدمات التي ستمرّ بها شخصية ريما، فبعد أن تعايشت مع تخلي الأسرة التي تبنّتها عنها، ورضيت بوجود صديق مقرّب داعم ومحب بديلاً، تركها هذا الصديق، راغباً أو مُكرَهاً، وحيدة في الشارع الذي هربا إليه من دار الأيتام معاً.
الجوع والبرد اللّذان يفتكان بريما في الشارع يأخذانها إلى منقل شوي اللحم، دكان صغير يبيع سندويشات لحم مشوي في الشارع، طعام ودفء، حلم ريما الذي يتحقق، في حين مجدداً، يكون تَحقُّق الأحلام بهذه السلاسة والبساطة والمجانية ليس بالأمر المُحتمل.
ظهور سارة كان إنقاذاً لها من الذنب الذي كان ينهش روحها، من إنكارها الدائم أنها يوماً أكلت اللحمة، فاعترفت لسارة التي أصبحت رفيقة مأساتها، حاملة سرّها وشريكتها في «ذنبٍ» مُشابه. إلى أن تقرر بنفسها أن تقتل سارة بتجاهل وجودها، حين أصبحت عبئاً يهددها بماضيها، علاقة سامة تجترّها للبقاء مكانها، تبتزها بالإبلاغ عن دورها وذنبها وخطئها إن تركتها و«التحقت» بعائلة جديدة، فما كان لديها بديلٌ عن خيار قتلها.
تتعايش ريما مجدداً مع وجود الأسرة بانتقالها إلى منزل جديد، دافئ ومحب، مع أمٍّ حنونة لعبت دورها الفنانة سمر سامي (عصمت) وابنتها هبة التي لعبت دورها قمر خلف، والتي ستشكل بديلاً لريما عن سارة قبل أن تفقدها بسبب السفر، في وقت أصبحت فيه منسية من ماما عصمت، المريضة بالزهايمر، فكانت لمى (نانسي خوري) بديلاً جديداً؛ صديقة ريما منذ الجامعة والداعمة لها على مدار العشر سنوات الأخيرة من حياتها قبل تشخيصها بالفصام.
في مسيرة حياة ريما نرى البحث الدائم عن أولئك الداعمين-ات بلا مقابل، المحبين والمحبات اللطيفات، العابرين والعابرات في حياتنا بكلماتهم اللطيفة، تتعرّى هشاشتنا وحاجتنا الدائمة إلى من يقول لنا كلاماً لطيفاً، إلى من يُظهِرنا كطرف خيّر في كل صراع، ويلعن معنا الطرف الآخر الشرير الرابح دائماً، ولهذا يظهر قاسم وهادي وحتى البيك.
أداء دانا مارديني لشخصية ريما شديد الإتقان، يُولِّدُ لدى المشاهد شعوراً غير مفهوم بالضيق عند رؤية كل فعل وردة فعل تظهر على وجهها وحركات جسدها. التفاعل الحسي والشعوري مع شخصية نراها عبر الشاشة، وإن كان مزعجاً وغير مفهوم، أو ربما تماماً لأنه كذلك، يشكل دليلاً على نجاح دانا في تجسيد كل ما تحمله شخصية ريما من عُقَد وشربكات حياتية أُسقطت على سلوكها وتعابيرها.
يتجلّى هذا الإبداع في مشهد تعاملها مع الموت، مشهد يذكرنا بمهنة الندّابة، وهي مهنة خاصة بالنساء شديدات القدرة على البكاء، يحضرنَ العزاء بطلب من أهل الميت لمساعدة الناس على البكاء، حيث تنتقل مارديني من لحظة الاكتشاف، إلى التأكد ثم الإنكار وحتى الانهيار بتدرُّج مُتقَن، حقيقي، دون مبالغة درامية، بل بمبالغة المفجوع حقّاً.
الشرّ المبتذل، للسيناريو وشخصياته
الأشرار في المسلسل وقحون، كأنما يتباهون بشرهم، لا يوجد شر مبطن، كل شخصية شريرة في المسلسل واضحة بكلامها وتصرفاتها وتعابيرها. كأن سوريا خلت من الوسطية، نحن إما أشرار حدَّ الابتذال، أو ضحايا حدَّ المرض، حدَّ الذهان والفصام والزهايمر والاكتئاب.
فعصام، تاجر أفلام الواقع، الذي رفض طلب جاد بالتوقُّف عن تصوير الفيلم الوثائقي (الرحيل) بعد وفاة اثنين من المصورين غرقاً في البحر أثناء رحلة التصوير واللجوء، يرفض بوقاحة قد تبدو مصطنعة أو مفتعلة، حيث يقول: «هي العالم ما بترضى بأنصاف الحلول… الفيلم بدو يكمل… ما بدي نهاية سوداوية… بدك تكمل».
وسلمى المصري، والدة جاد، أيضاً نموذج مكرر للشر المرتبط بالطبقيّة والشعور بالاستحقاق، فهي، ببساطة، «ككل الأمهات»، ترفض أن يتزوج ابنها من مجهولة النسب، وتقسو على ريما بكلامٍ تعتبره هي منطقياً جداً: «مين أنتي؟ مين عيلتك؟ شو أصلك؟». لكن للشرّ في المسلسل ككل ملمحاً آخر، فالسيناريو السلس لقصة حياة ريما ومسار الشخصيات من حولها يشوبه التطرُّق لموضوع الهجرة غير الشرعية عبر البحر، فمأساة كهذه إما أن تكون حدثاً جللاً أو لا تكون، خاصة وأن المتورِّط الرئيسي في هذه المأساة هو جاد، العاشق المضحي، الذي سيقرر لاحقاً قراراً طوباوياً في التضحية والوفاء.
أن تتحدث عن آلافٍ ماتو غرقاً في البحر بحثاً عن فرصة لحياة أقل شرّاً بهذه الهامشية يصيب عملك في مقتل، فالمشاهد لا يفهم ماذا تفعل، هل تذكّرنا أن موتنا أصبح هامشياً؟ هل تدفعنا للتطبيع مع فكرة أن يصبح الموت على طريق الهرب للحياة روتيناً يومياً؟ خبراً عابراً في الموجز الصباحي تسمعه فقط لأنك أقل جَلَداً من أن تُطفئ الراديو في سيارتك لتشغّل قائمة الأغاني المفضلة الخاصة بك.
من المشاهد التي تصلح كمثال على هامشية هذا الخط في المسلسل، وتجاهل كثير من أنماط معاناة السوريين وتجهيل أسباب لجوئهم، مشهدٌ يصوِّر لحظة انتظار المُهرِّب في الغابات، يقتربُ فيه أحد المسافرين من امرأة كبيرة في السن ليطمئنَّ عليها ويسألها عن سبب قدومها في رحلة متعبة لامرأة في عمرها، وكأن أسباب رمي السوريين لأنفسهم في البحر غير واضحة، ليأتي جوابها بأفدح من السؤال: «صح في تعب، بس هنيك في 400 يورو آخر كل شهر! والله لنقبر الفقر». أي أن السوريين قد دفعوا بحياتهم وأبنائهم وباعوا أغلى ما يملكون مقابل 400 يورو في الشهر. وحتى الفقر الذي يوحي المشهد بأنه السبب الرئيسي لهروب السوريين يبدو مجهول الأسباب والمُسبِّبين، وكأنه غير مرتبط بالحرب التي عصفت بالبلاد.
يبدو أن كاتبة خط شخصية جاد أرادت أن تعطيه عمقاً منفصلاً عن ريما، واستسهلت الحديث عن هجرةٍ ربما، لحسن حظها، لا تعرف عنها أكثر مما تسمعه في وسائل الإعلام «الوطنية».
من الناحية الإخراجية، كان من الملفت رصد خيارات المخرج في تصوير مشاهد العنف الجنسي، فقد أثبت أن الأمر لا يحتاج لتصوير تفاصيل مؤذية لإبراز شراسة الفعل، زاوية تصوير المعتدي من الأسفل تُظهره كالغول، وزاوية تصوير الضحية من الأعلى تُظهر قلة حيلتها، ثم تصوير بائع البوشار في الخارج لحظة الاعتداء، كانت كافية لتجعلنا نشعر بكل ما شعرت به الضحية لحظة سماعها أغنية «طير وفرقع يا بوشار» بعد سنوات من الحادثة، في إشارة مباشرة وواضحة لعمق الأثر الاجتماعي والنفسي لحوادث كتلك.
ينتهي مسلسل عقد إلحاق نهاية مشبعة لقصة ريما، وطبعاً، دون التطرق لأي نهاية لخيط فيلم «الرحيل» الوثائقي وتبعات تصويره سوى وصول الناجي الوحيد من الشبان الثلاثة إلى ألمانيا.
نهاية حكاية ريما بالنسبة لمن حولها مختلفة عن نهايتها بالنسبة لها، فريما وحدها، تعرف الآن، أن لمى لن تفارقها. لا شريك حياتها والحب، ولا العائلة والأمان، أمورٌ ستُغنيها يوماً عن الصداقة، عن صديقة عمرها، عن البيست فريند، وإن كانت من صُنع خيالها.