أتمنى لو كانت حياتي كتاباً تُتاح لي قراءته، لفهم كيفية تحرُّك الزمن، لفهم كيف ماتت الفكرة وكيف واصلت طريقها من جديد، لأُحصي كم حصاراً عشت حتى وصلتُ إلى هذه المدينة التي تخبرني أنها حصاري الكبير، تخبرني أنها نهايتي لكنها لا تكشف لي عن صورتها.

فيينا حصاري الأخير، حصار النجاة حيث يُزهر الماضي في تربة غريبة.

لكن متى بدأ حصاري الأول…؟

لم أُغادر سوريا طوال عشر سنوات من الحرب، بل شهدتُ تقلُّباتها وكيف بدأت تأخذ أشكالاً عدة، ولم يكن لدي أمل أو رغبة حقيقية في الخروج، بل كانت فكرة البقاء والتحمُّل تحت سطوة نظام بربري هي الخيار الوحيد المُتاح لمن هم مثلي، لذلك كل ما كان يشغلني هو إيجاد صيَغ للتحايل والهروب من مخالب السلطة، وتدريجياً وجدتُني قد استنفدت جميع الاحتمالات، وبدأت تراودني كوابيس بعضها كان متكرراً وبعضها كنتُ أنساه فور نهوضي من الفراش. في أيامي الأخيرة في دمشق كنتُ أرى نفسي عارياً في ساحة السبع بحرات، مُلصِقاً ظهري بأحد الجدران وهناك جنود يصوبون بنادقهم باتجاهي، لكني كنت أستيقظ فور إصدار الضابط المسؤول عنهم الأمرَ بإطلاق النار. عزوتُ هذه الكوابيس لضغوط الحياة وخوفي من استشفاف النظام القائم مقتي له، أو لأحاديثي الساخرة مع بعض الأصدقاء خلال تأملنا لواقعنا الراهن وكيف انحرفت حياتنا التي نبدو فيها كشيءٍ هامشيٍ جداً. لم أفكر في سرد كوابيسي لأحد، اعتقدتُ ضمنياً أن الغالبية يراودهم الكابوس ذاته، لكنهم يخشون مثلي أن يُشاركوه مع شخص آخر فيتحول إلى حقيقة.

دمشق طائر الأحلام البذيء

ترتبط لدي دمشق بكل ما هو قاسٍ، أو يبدو أن ربيع عمري ترافقَ مع خريفها. لم أعرف من مدن سوريا غيرها وغير مسقط رأسي القامشلي. جئتُ إليها أول مرة عندما كنت بين السادسة عشرة والسابعة عشرة من عمري على ما أذكر، كان هذا في العام 2011، أما قبل ذلك فقد كنتُ أمرّ بها مروراً عندما كانت عائلتي ترسلني للعمل في أحد مقالع الحجارة في متن لبنان، التي لم أعرف منها سوى وديانها وصخورها حيث كان عليَّ العمل في ترويض الجبال. أذكرُ أنني دخلت لبنان أول مرة عندما كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر. تعرَّضتُ يومها لضرب مبرح من قِبل عناصر الأمن العام اللبناني على الحدود لأنني دخلت بوثيقة إخراج قيد وليس هوية شخصية، حيث أنه لم يكن يحق لمن هم في مثل سني آنذاك الحصول على بطاقة شخصية في سوريا، كما كان ينبغي أن يكون معي أيضاً تصريح خطي من ولي الأمر ينص على أنه لا يمانع سفري إلى لبنان بمفردي؛ انتهي الأمر بأنهم أخذوا مني إيجار الحافلة التي كانت ستقلني إلى جبال أبو ميزان في القسم القاحل من لبنان حيث مقالع الحجارة وتركوني أدخل، ثم انتظرتُ أخي حتى المساء كي ينهي عمله ويأتي لأخذي من كراج البور. استنزفتني مقالعُ لبنان وأعمالها الشاقة منذ أن كنت في الصف السابع، وبترَ طفولتي جنونُ عائلتي، قسوتها وتَفكُّكها منذ وفاة والدي. أجبرني هذا الاستنزاف ذات يوم على الهروب من بيتنا في إحدى قرى القامشلي مع طلوع الفجر، والوصول إلى دمشق في اليوم التالي.

سرتُ في شوارع الشام كالممسوس، رغم أن وصولي رافقهُ صوت قذائف وإطلاق نار لم أسمع مثله من قبل. لم أفهم كيف أن الناس قد اعتادوا كل هذا الذعر بينما كنت أنا أبحث عن وجهة أركضُ إليها في كل مرة أسمع فيها صوت دويٍّ ما. لم أرَ من قبل حدائق ولا أبنية طابقية شاهقة، أنا ابن ريف الشمال الشرقي ذي المناخ الصحراوي، والذي كانت الأرض بالنسبة له عبارة عن تربة عارية، ساخنة وحُرّة لا تعرف التنظيم، سحرتني المدينة المرتبطة لدينا نحن أبناء القرى المهمشة بأنها عالم آخر رحب وواسع، يضمّ صنفاً آخر من البشر غير الذين نعرفهم، لكنها أرست داخلي نوعاً من الخوف الذي يلازمني إلى الآن.

قضيتُ أول ثلاثة أيام في الحدائق، نفدت نقودي كما خارت قواي، ما جعلني أبدأ برؤية لون دمشق الحقيقي وليس المُتخيَّل. لم أكن أعلم حينها أن لهذه المدينة أعرافاً قاسية ومختلفة عنا نحن أبناء الريف، فلبيوتها أبوابٌ لا تُفتَح في وجه أيٍّ كان. كانت الشوارع مكتظة، وفي كل خطوة قد تصادف جندياً يسألك: من أين أنت؟ وماذا تفعل هنا؟

تَملَّكني اليأس وبدأتُ أُدرك أن الناس هنا لا توزع الهدايا في الشوارع. ليلتي الرابعة قضيتها تحت جسر الرئيس في حديقة المنشية، صادفتُ هناك أبا زياد، رجلٌ في الستين من عمره تقريباً، ذو مظهر أرستقراطي ذَكَّرني بالرجال الدمشقيين الذين كنا نراهم في المسلسلات. اصطحبني أبو زياد معه إلى داريا، ووفَّرَ لي عملاً مع ورشة بناء في إحدى الفلل التي كان يُشرف على بنائها لإحدى الشخصيات المهمة في الدولة. بقيتُ هناك خمسة عشر يوماً، كنتُ أنام خلالها في مكان العمل وأستيقظُ في الصباح باكراً قبل قدوم أحد، وسط عتمة حالكة في الليل وخوف قد يوقظه صوت عواء كلب في الشارع. عانيتُ من قلة الغذاء، ومن حمل أشياء ثقيلة كنتُ أشعرُ أنها تفوق وزني، وهتافات ممزوجة بأصوات رصاص ودوي بين الحين والآخر، أصوات ما زال صداها بعد كل هذه السنوات يتردد في رأسي كحرب تأبى أن تهدأ.

الوقوف على نقطة ساخنة

مشكلتي لم تكن في الحروب، فأنا كنت مصاباً قبلها أصلاً، لكن المشكلة كانت في أن الحرب قد تكون موجودة في أي جهة قد أفكر في الهرب إليها، كما أبو زياد الذي لم يكن ملاذاً بل فخّاً آخر من أفخاخ الحياة… من أفخاخ دمشق، سأراه لآخر مرة يوم الجمعة، والذي صادف يومي الخامس عشر في العمل عنده؛ سيختفي أبو زياد بعدها وربما سيغادر العالم إلى غير رجعة. كنتُ أحاول دائماً التهرّب من تَذكُّره وتَذكُّر نفسي وقتها، ولم أُرِد الحديث يوماً عن كل ذلك الكم من الهشاشة والخيبة. بدا لي أبو زياد رجلاً حاداً، نزقاً واستغلالياً، لكنني لم أكن أملك رفاهية أن أكرهه أو أن أستاء منه، خفتُ أن أسأله عن كل ذلك الصراخ خارج أسوار هذه «القلعة»، وخفتُ أن يجيب لأنني بدأت أدرك تدريجياً أنني أقف على نقطة ساخنة في داريا وقتها، وأنها منطقة نزاع بين الثوار والنظام. ويبدو أنني تجاهلت هذا أيضاً بسبب خوفي، رغم أنني كنت أسمع أحياناً صوت هتافات تطالب بإسقاط النظام. بدا جميع العمال بمن فيهم أنا وكأننا خارج العالم، وكأنّ ما يحدث خارجاً لا يصل إلى مسامعنا بوضوح.

في ذلك اليوم، يوم الجمعة، جاء أبو زياد مبكراً رغم أنه يومٌ لا عمل فيه، أعطاني بعض النقود مما أثار استغرابي، وطلب مني مرافقته إلى صلاة الجمعة. على بعد أمتار مني كان هناك شيء مريع يحدث، عند منتصف الصلاة تقريباً اختلطَ صوت المؤذن والمصلين مع صوت هتافات في الخارج، وبعد قليل أضاف النظام موسيقاه التصويرية الخاصة بالمشهد بأصوات الرصاص. كان مشهد الناس في تلك اللحظة يشبه فوج نحل تم إسقاط خليته.

 لم أكن قد رأيت مسجداً بتلك الضخامة في حياتي، وبسبب هذا أضعتُ أبا زياد وسط تدافع أفواج الناس المذعورين، وبحثتُ لفترة عن مكان الباب للخروج. عند الباب استقبلني أبو زياد وكانت رصاصة قد اخترقت عنقه، لم يكن قد مات بعد، بل نظر إلي بعينين بدأ سوادهما يختفي تدريجياً ليحلّ محله بياضٌ شفّاف. وقفتُ متجمداً رغم الأصوات التي تحثني على الهروب، كنت مذهولاً أمام مشهد الروح وهي تغادر الجسد، لم أعد أسمع أي شيء للحظات ولم أعد أستطيع تحريك قدمي إلى درجة أنني لم أبتعد عن مسار الدم وهو يسير باتجاهي، دمٌ غزيرٌ ساخنٌ ولزجٌ يشق طُرُقاً عدة في اتجاهات مختلفة. بدا لي أن حركة الزمن قد توقّفت، وغابت عني تفاصيل المشهد العام باستثناء الجسد المسجّى أمامي. وَجدتُني بعد برهة وقد حملني جنديان ووضعاني في سيارة تراصّت فيها أجساد مختلفة الحجم فوق بعضها، لم أكن أستطيع رؤية من معي بعد، وما كان يصلني فقط هو صوت لُهاثهم وصراخ الأطفال ومحاولات إثبات العديد منهم أنهم لم يكونوا في المظاهرة. أظنُ أن هناك أحداً مات أو فقد وعيه نتيجة الاختناق، وأعتقد أنه كان إلى جواري تماماً، فقد مال بحمله كاملاً عليَّ، لكنني لم أجرؤ على لمسه أو الالتفات إليه.

أَودعونا في أحد الصفوف المدرسية على ما يبدو بعد أن حولوه إلى معتقل، إذ كانت بعض رسومات الأطفال ما زالت موجودة إضافة إلى كلمة تاريخ اليوم دون إضافات في أعلى السبورة. كان عددنا يفوق سعة المكان، وكنتُ أعاني مع بعض الصغار من الاختناق والسحق بين الأجساد نظراً لقصر قامتي وضآلة كتلتي الجسدية حينها. كان الشخص الذي يأتون لأخذه للتحقيق لا يعود كما خرج، غالباً ما يعود مغمىً عليه مع آثار تعذيب واضحة، إذ كنا نحاول التأكد في البداية أنه مازال حياً. البعض الآخر خرج معهم ولم يَعُد.

تساءلت وسط كل هذا الذعر: لماذا كان أغلب العائدين من التحقيق مبللين بالماء إلى هذا الحد؟ تخيّلت صورتي وأنا معلّق من قدمَي بينما رأسي للأسفل، وهم ينزلوني ويرفعوني بشكل متكرر في برميل ضخم مليء بالماء لأعترف بذنب لا أعرف ما هو، فكرتُ أنني لم أكن لأصمد، كنت سأموت خلال دقائق، كوني كنت أعاني أصلاً من مشاكل في التنفس. أظن أنني من المحظوظين الذين لم تتجاوز مدة تعليبهم سوى يومين، لقد تذكّرني إمام المسجد، ويبدو أنه شرح لهم أنني أعمل في الفيلا الفلانية التي تعود ملكيتها للشخص الفلاني.

ركضتُ بنعال مهترئة ومَعدة خاوية فور خروجي إلى موقف الكراجات لأعود إلى القامشلي. رفض السائق صعودي في البداية لأنني لا أملك نقوداً، وفي اللحظة الأخيرة قبل تَحرُّك الحافلة تذكرتُ النقود التي أعطاني إياها أبو زياد قبل يومين. من الجيد أنه لم يُسعفهم الوقت في تفتيشي. أعتقد أنني أعطيتها كلها للسائق وصعدت، ثم عدت إلى قريتي… إلى القامشلي، التي بدأت تسري في جسدها الانقسامات كالمرض بين قوات النظام والجيش الحر ووحدات حماية الشعب الكردية منذ تموز (يوليو) 2012، ثم ازداد الأمر دموية في نهاية 2012 وبداية 2013 بانضمام الإسلاميين الذين ظهروا بما يُعرف بجبهة النصرة في البداية، ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقاً. سأبقى هناك لفترة ممزقاً كما الأرض التي أقف عليها، وشاهداً على أشياء سأُحاول ما تبقى من عمري نسيانها. لكنني سأعود إلى دمشق بعد أربع سنوات للدراسة رغم معارضة أمي، وللهروب من تنظيم داعش الذي لم أستطع التجانس معه. لم أرَ دمشق سوى شكلاً من أشكال المنفى، وبعد عودتي لم يتغيّر المشهد لكنه انحرف إلى مسار مختلف؛ أنا من تغيرتُ وأصبحتُ أكثر هشاشة وأقل ثقة، كوّنت صداقات بصعوبة، وتدريجياً أصبح ما يربطني بدمشق هم من عرفتهم فيها، من وَفَّروا لي مساحة لأعرف نفسي أكثر.

كان الخوف يُغلّف الجميع، وبدا أن طيف العجز قد تسلَّلَ إلى أرواحهم، لكن كان لدى الجميع شجاعة غريبة في التحدث عن هذا الخوف، عن الأحلام بوصفها أحلاماً فقط، بوصفها مخدراً للعيش والاستمرارية في هذه البلاد التي تتحطم الآمال على صخرتها.

خلال سنواتي القاسية في دمشق غيّرتُ مسكني أكثر من مرة، بداية من السكن الجامعي وصولاً إلى الإقامة في أحد دور النشر لثلاثة سنوات، ثم سقيفة صغيرة في أحد أبنية الصالحية لا يتجاوز ارتفاعها 140 سم، إذ كان علي الانحناء أو ارتداء ثيابي وأنا جالسٌ أو مستلقٍ، ثم أخيراً تشاركتُ غرفة مع أحد الأصدقاء في أحد الأماكن العشوائية في المزة (خزان).

تشاركتُ هذه الأماكن جميعها مع أصدقاء جعلوا هذه المساحة الضيقة تتسع بشكل يفوق حجم الوطن.

أرى تلك الأيام الآن من فيينا وأحاول فهم آلية تحرُّك الزمن وكيف تناثرنا في أصقاع الأرض، نحن الأشخاص الذين كانت تتسع لنا سقيفة صغيرة في إحدى أحياء الشام القديمة رغم أن عددنا فاق سعتها، بينما ضاق بنا حضن الوطن، كنا نرسم سقف سمائنا ونرصّعها بالنجوم لأن سقف الوطن كان يوشك أن يُطبِق علينا.

مسافر دون وجهة

غادرت دمشق في 13 شباط (فبراير) 2021. أذكرُ هذا التاريخ جيداً، فقد تبادلت مع الأصدقاء الأحاديث والذكريات حتى الصباح، وبدأت أحاول تذكُّر أول لقاء مع كل واحد منهم. أذكرُ دموع صديقتي سلوى وهي تقول لي: «عندما تخرج من هنا، اكتب عن الحرية». لم أكن أريد الحديث عمّا هو قادم، لأن طريقي كان مجهولاً، كوني سأعود إلى القامشلي وأَتَّبِعُ طريق الخروج غير الشرعي من البلاد إلى مكان لا أعرف أين هو بالضبط. كنت مشروعاً لمسافر دون وجهة، المهم كان أن أغادر دمشق الآن لأن الخطر أصبح قريباً ولا مجال لتلافيه، فقد انتهت حلول وطرق البقاء في هذه المدينة القاسية والغريبة.

بعد كل هذه السنوات في دمشق باتت القامشلي غريبة عني أيضاً، المكان والعائلة، وما جعل الوقعَ أثقلَ أنني فقدتُ تواصلي معهم كل تلك المدة، ولم أتخيل أن مخالب الزمن غيرت ملامح المكان والأشخاص إلى هذا الحد، أو ربما كنتُ أنا من بات شخصاً مختلفاً ودخيلاً على هذا المكان، على تلك الأُسرة التي لم تعرفني يوماً حقَّ المعرفة. شعرتُ بأنني إنسان دون جذر، دون هوية، لكن هذا لم يجعل من فكرة الترحال أمراً سهلاً. يبدو أن أمي هي الشخص الوحيد الذي كان بانتظاري، ورغم هذا أدركَتْ هي أيضاً على ما يبدو أن لا مكان لي في تلك البلاد، كان مرعباً بالنسبة لي ما فعله الزمن بها في غيابي، وبقيتُ حتى وفاتها وأنا أحاول استيعاب شخصَ أمي الجديد الذي غيرته الحرب وكسره خذلان الوطن والأبناء.

لم يكن دخول تركيا في هذا الوقت تحديداً بعد سنوات الحرب وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين أمراً سهلاً، لكني دخلتُ في النهاية وبقيتُ أُصارع فيها للخروج والحياة ما يقارب العشرة أشهر، وتدريجياً بدأتُ أستسلم لليأس نتيجة الإخفاقات المتكررة في الخروج منها، ونتيجة ما كنا نتعرض له في كل مرة يتم الإمساك بنا فيها من قبل حرس الحدود التركي أو اليوناني، فيتقاذفوننا بين بعضهم ككرة مضرب في نهر إيفيروس ليوم كامل أو أكثر. كنتُ أشعرُ كما لو أنه لا مكان لنا في هذا العالم، أو كما لو أننا شغلنا بوجودنا في هذه الأرض حيزاً هو من حق أشخاص آخرين.

لم أكن أعلم إلى أين أنا ذاهب، إنما كنت أَتّبعُ خط سير القطيع بينما سارت أفكاري في طرق مختلفة تماماً، طرق لم يسلكها أحد من قبل ولم أستطع سابقاً تخيُّلها حتى. فكرتُ في احتمالات الموت والحياة كثيراً، وبدا لي أن بلاد الأمان المُفترَض التي أزحف باتجاهها ليست سوى فخ آخر من أفخاخ الخوف، ليست سوى معركة أخرى سأدخُلها دون سلاح ودون خصم واضح.

عندما وصلت النمسا كانت الدهشة قد ماتت. حاولت عبثاً النسيان، لقد دُوّنتُ الرحلة بكل تفاصيلها ومخاطرها في رأسي، إلى درجة أنني شعرت أنه ليس هناك مكان لشيء جديد في دماغي. حاولتُ عبثاً نسيان سامر الذي ألقى بنفسه من الطابق السابع في تركيا، حاولت نسيان ياسر الذي فقد الرؤية بعد أن عانى من حساسية مفرطة في عينيه في الغابة، فسلَّمَ نفسه إلى أقرب نقطة لحرس الحدود البلغاري بينما تابعنا نحن طريقنا، ساعدناه فقط في خلق سيناريو مُتخيَّلَ ليتجنّب ضربهم المبرح له، والذي قد يكلفه سلامة أجزاء من جسده. فكرتُ به كثيراً؛ كيف سيتفادى الضربة وهو لا يستطيع رؤيتها؟ حاولتُ نسيان صور بعض الأشخاص الذين ابتلعهم النهر أمامي بينما الكومندوس اليوناني يتفرّج. رأيت كيف يصبح النصر هو الخروج بخسارة أقل.

 كنت أتوقُ للاغتسال عند الوصول، فقد مرَّ أكثر من شهرين في الغابات دون أن يمسَّ جسدي الماء. عاهدتُ نفسي بأنني سأقضي أياماً تحت ماء الدوش الساخن، الذي كنتُ أتخيل أنني سأجعله يتسرب داخل جلدي، إلى درجة أن سؤالي الأول قبل أن يبدأوا التحقيق معي كان عن إمكانية الاستحمام. أعطوني بعد أيام بعض الثياب، ويا له من مظهر مضحك في تلك البيجامة التي ارتديتُها وكان مقاس خصرها ثمانية وأربعون، أما مقاسي الطبيعي فكان اثنان وثلاثون في أحسن أحوالي الجسدية. ربما ظنونا قادمين من بلاد العمالقة، إلا أن كل شيء كان بالنسبة للجميع حالة من الترف بعد فورة الأدرينالين في الأجساد للوصول، عبر رحلة استمرّت لدى البعض لأشهر والبعض الآخر سنة أو أكثر؛ الوجوه مبتسمة تغطيها نفحة بلهاء من نشوة الانتصار، وبقيَت هذه الوجوه لتضفي على الماضي ماديته الواقعية، إذ لولا وجودها لحسبت أن الماضي ما كان سوى وهم، وهذا ما كنت أصبو إليه، أن يفقد الماضي مُبرِّره لدي، أن أنسى لماذا مشيتُ هذا الدرب المؤلم شبراً شبراً، لكن أصواتهم كانت بمثابة محراث للذاكرة، وكأنني حملتُ ما أهرب منه معي. لقد بدا لي أصحاب تلك الوجوه أكثر الأشياء ثباتاً وعدم قابلية للتغيير في العالم، بلهجاتهم المحلية، بنُكاتهم، ونظرتهم المسبقة عن بلاد لم نعرف عنها سوى ما زرعته فينا السلطة السياسية في أوطاننا. كنتُ معهم ولم أكن معهم في الوقت نفسه؛ إنه شعور شبيه بأن تكون عالقاً بين السماء والأرض دون أن تستطيع الاستناد إلى شيء.

فيينا: تمرين صعب وطويل على الوحدة

أمضيتُ في ما يسمى الكامب سنة وشهراً تقريباً دون أي تماسّ مع المحيط الخارجي، كنت قيد الانتظار، إنساناً يعيش دون تصريح بشأن وضعه وما إذا كان يستحق العيش والبقاء على هذه الأرض أم لا. كنتُ أعيش حرية مؤجلة، ثم انتقلت إلى فيينا وها أنا أتجاوز فيها السنة أيضاً. تزامنَ هذا الانتقال مع وفاة والدتي، تركتني أمي بعدها كوصية، وكأنها أتمّت آخر مهامها في هذه الحياة.

بعد رحيلها ملأ الخواء كل شيء، فلم أعد أرى من هذه المدينة الأسطورية سوى ظل لكائن تم مسخه، اقتفيتُ آثار السابقين كي لا أتوه في كل هذا الظلام المرئي، إلا أن طرقهم كانت متعرجة ومختلفة، شيء ما كان يطلب مني أن أكون سعيداً في فيينا كسوري، يعيش خارج دائرة وطنه على الأقل، لقد صاغ العالم تعريفاً جديداً للسعادة لدينا، باتت معاني السعادة والإنجاز مرتبطة بقدرتك على التخلي، التخلي عن ماضيك، عن جذرك، عن بقعتك الجغرافية حيث عشت، حيث أكلت وشربت، ضحكت وتألمت، ركضت بحرية وتعثرت.

في أيامي الأولى كنت أعيش في فيينا في النهار، أما في الليل فكنت أسافر لأعيش في الوطن حيث أمي، حيث توجد شوارع تستطيع التعرف عليّ. تساءلت: ما هو أول ما يفكر به الإنسان السوري المشابه لظرفي في هذه المدن الأوروبية؟ أين محطة الإقلاع هنا وأين السطر الذي يجب أن أضع في نهايته نقطة وأبدأ من جديد؟

كنت أبتهج في البداية عندما أصادف لاجئاً هنا قد سبقني بسنوات، أتأمل ثباته الحالي وسلوكه، وأحاول خلق سيناريو في رأسي لبدايته، لكني دائماً ما شعرتُ أن الزيف يُغلّف الجميع. الجميع يدّعون انخراطهم في الحاضر وفي ثقافة الإنسان الأوروبي، والجميع يشدد على هذه النقطة وكأنه ينفي تهمة عنه بطريقة تجعله مداناً بها أكثر.

بحثتُ عنا، نحن الأشخاص الذين لم تقتصر خساراتنا على فقدان وطن أو مدينة، إنما خسرنا حياة بأكملها.

أخفقتُ في خلق صداقات في فيينا على ما يبدو. كنتُ أبحث دائماً عن حجة للتعرف على السوريين هنا، غالباً بحثت فيهم عن شيء مألوف، شيءٍ يشبهني ولا أتكلّفُ عناء تعريفه بنفسي، شيئاً أعرفه جيداً يوازن لي برودة هذا الأمان المربك في فيينا، إلّا أن الأمر كان ينتهي دائماً بعدد هائل من النصائح المبتذلة، ومن ألتقيه الآن لن أصادفه مرة أخرى.

في البداية ستتآمر عليك الذاكرة في المنفى، فتُصبح أكثر حساسية واستحضاراً لأدق تفاصيل الماضي، للأشياء التي لم تكن تثير انتباهك سابقاً، وستبدو كل الأشياء البعيدة تشبهك، ستتذكر لون جدران كل غرفة في منزل عائلتك، وبيت العنكبوت الذي نسجه في زاوية سقف المطبخ.

ستكون في حالة عدائية غير واعية لمفهومك الإنساني الجديد الذي تفرضه عليك أوروبا، وكوننا أبناء ثورة وحرب تبقى عيوننا مشدودة إلى الخلف، إلى وطن ينتظرنا رغم الشعور أن أمل اللقاء بات ضبابياً.

الأمر هنا مشابه لما قاله بريخت في أمل العودة لوطنه بعد نفيه: «لا تدق مسماراً في حائط… ألق سترتك على الكرسي».

يعيش الناس في فيينا في مجتمعات متوازية، متنافرة ومختلفة لكنها تتحرك في الدائرة ذاتها، والشروخ بين هذه الدوائر عميقة وغير مرئية. أعتقد أنني من القلة القليلة التي تتنقل بين هذه الأوساط المختلفة التي لا تشبهني ولا تشبه بعضها بعضاً، إذ لا يعرف العربي والأوروبي هنا سوى الخطوط العريضة للفوارق بينهما، بينما هناك شيء آخر يكمن في التفاصيل، ليس بيننا وبين الأوروبي فقط بل بيننا نحن اللاجئون أيضاً.

يخاف اللاجئون بعضهم وتتضخم الفوارق فيما بينهم، يصبحون هنا أكثر حذراً وخوفاً، أكثر عنفاً وقسوة. أذكر في أحد دروس اللغة أن شاباً نقل مقعده من جانبي فقط لأنه شعر أنني من خلفية دينية مختلفة عنه، بدا الأمر مزعجاً لكنه ليس غريباً، فقد اعتدتُ على حدوث أشياء كهذه فيما بعد، بل إنني بدأتُ أجد مبررات لها أحياناً، أولها أن الأشخاص هنا يقتاتون على الحنين؛ يصبح الفرد هنا متمسكاً بمعتقداته وإيديولوجيته أكثر ممّا كان عليه في الوطن الأم، لشعوره بأنه عنصر شاذ في خليط غريب، كائن مهدد دائماً حتى في ذروة أمانه، حتى أن حدوث أي أمر جميل يثير الشكوك والخوف، كما لو أنه شيء غير حقيقي.

يقول لك اللاجئ، أو أغلب اللاجئين، خطاباً واحداً بطرق متعددة، مفاده: «لا تمسّ ذكرياتنا ومعتقداتنا التي نقتات منها».

حدثني أحد الأشخاص بأنه منذ وصوله إلى هنا بات إنساناً صالحاً وأكثر التزاماً بالصلاة وقراءة القرآن، بينما كان في قريته لا يكمل حتى صوم رمضان في بعض الأوقات، ونادراً ما يفكر في وجود الله. يقول إنه على الإنسان هنا أن يكون أكثر حذراً وتمسُّكاً بقيمه وعقيدته وعرفه الاجتماعي الذي تربى عليه، لأن مغريات الانزلاق والضياع كثيرة، متاحة ومشروعة. بينما يشكو لي آخر أنه منذ قدومه إلى هذه البلاد قبل سنوات بات خوفه الأكبر أن يرزق بطفل مثلي الجنس نتيجة طبيعة الحياة هنا، وكانت محاولة مناقشة هذه الفكرة معه تفشل بمجرد التفكير في بدئها.

نحن أبناء بلاد جعلتنا نخاف حتى في لحظات أماننا. الخوف من كل هذا الأمان في المدينة يجعلك مُرتبكاً كونك لم تعتده إلى هذا الحد أو بهذا الكم، وتبقى خائفاً لأنك دخيل في النهاية. يخافُ السوري اختراق أي قانون أو بروتوكول دون أن ينتبه، ما قد يكلفه عاقبة ما في ظل ثورة العالم على كلمة لاجئ، يخاف لأن القوانين هلامية وغير واضحة، إلا أنه يصطدم بها مجرد خروجه من باب منزله، يخاف أن يقطع الشارع دون انتباه، أن يُخطئ في بند نصّت عليه اتفاقية اللجوء، أو أن يجلس في مكان غير مخصص له في الحافلة، فالحياة هنا سهلة وصارمة في آن، بسيطة ومعقدة بالقدر ذاته، كل شيء محدد بزمان ومكان يجعل اليوم يدور بشكل آلي.

قد تراودك ظنونٌ أن هناك شيئاً ملغوماً في كل هذا اللطف الذي يدّعيه الأوروبي المستضيف وهو يحاول ترويضك لقوانينه الجديدة، بل سيخضع الجميع لدورة مكثفة تسمى بالاندماج، وهذه الشهادة التي ستحصل عليها بعد اجتياز الاختبار ستكون الورقة الأهم التي يجب عليك أن تبرزها كلاجئ في أي دائرة حكومية وعند أي مشكلة تصادفك.

ستتغير لديك مفاهيم كثيرة عندما ترى شخصاً هنا يبكي لمرض حيوانه الأليف، بينما تتذكر أنك دفنت أحبتك دون أن تمنحهم وداعاً لائقاً. لقد غيرتني هذه المدينة كثيراً، أرست داخلي بروداً لم أختبره من قبل. قد تعطيك أوروبا ما تبحث عنه بينما يَسلبُ العيشُ فيها منكَ ما هربتَ من أجله، توفر لك الأمل وتنتزع منك الرغبة في استثماره، إذ كيف للبذور أن تنبت في تربة ليست مخصصة لها؟ لكن هذا لن يمنعك من الاستمرار، المهم ألّا تبحث عن حلول للماضي في بلاد الآخرين.

علَّمتني فيينا أن الوحدة تمرين صعب وطويل لكنه ممكن، معادلة تتناسب طرداً مع قدرتك على التخلي والاعتياد.

علمتني أن أنسلخَ مراراً عن جلدي وأن أُبدّله بشكل دوري تبعاً للظرف، ويبدو أنها أيضاً وفَّرت لي الأدوات اللازمة لذلك.

في البداية كنتُ أقتاتُ على ذكرياتي. لجأتُ إلى الماضي بحثاً عن مبررات لواقعي الراهن، في ظل حقيقة أساسية هي أن الذكريات تتّسم بالهشاشة وأنها مُتبخّرة وغير دقيقة، وأن تَصوُّرَ الإنسان عن نفسه ليس معرفةً إنما محضُ إحساس.

أَعتقدُ أن هذا ما تفعله الغالبية في البداية هنا لمحاربة البرود والخذلان والتشتت.

كل شيء في فيينا بات يصيغ تعريفاً لنفسه لدي، ويُغيره مراراً.

حدثني الكثيرون عن معاناتهم مع الكوابيس لفترة بعد وصولهم، وأنا كنتُ منهم. لقد اعتدتُ عليها لا سيما بعد وفاة والدتي. أذكر في طريق اللجوء ونحن نقطع الجبال والغابات باتجاه أوروبا، وبعد أن تَمكَّنَ التعب منا وخارت قوانا، أننا اخترنا نقطة تخييم لننام فيها بانتظار الليل ومتابعة مسيرنا، بمجرد أن لامس الجميع الأرض كانوا قد غطوا في نومٍ عميق، أما أنا فلم أستطع النوم في البداية رغم أنني بالكاد كنت أستطيع فتح عيني، وبعد عناء يبدو أنني غفوت لدقائق، حلمت خلالها بالموتى يسيرون ليلاً، بملامحهم التي ارتسمت عليها الصدمة، وفكّرتُ في نومي: هل يعني هذا أنني ميت أيضاً؟

هل قتلني حرس الحدود فعلاً، وهذه ليست سوى روحي تاهت بين الغابات؟ ثم استيقظت، كان الليل قد خيَّم وكان علينا المسير، لكن حتى بعد استيقاظي لم أكن متأكداً من أنني لم أكن أحلم.