قبل قيامِ ثوراتِ الربيع العربي بسنواتٍ وعقودٍ، رأى كثيرون أنّ المشكل الرئيس الذي تواجهه دول العالم العربي يتمثَّل في مسألة الانتقال إلى الديمقراطية. وكانت (معظم) التنظيرات لهذا الانتقال تبيِّن أنّه أشبه بالمعضلة التي تذكِّرنا بعنوانين لمسرحيتين لسارتر الأبواب المقفلة، ولا مخرج، بالإضافة إلى عنوان مسرحيةٍ أخرى له الأيدي القذرة. ولم يكن، وليس هناك، حتى الآن، نظرية واحدة مُقنِعة وواضحة المعالم للتحوّل الديمقراطي، بل هناك نظريات متعدّدةٌ تُبيّن كلّ منها أهمية عاملٍ أو أكثر (طبيعة النظام الاقتصادي والقوى الاقتصادية السياسية، مستوى التعليم والتنمية البشرية، انتشار الثقافة الديمقراطية أو رسوخها، درجة التدخل الخارجي وطبيعة هذا التدخل، قرارات النخب السياسية والعسكرية/الأمنية… إلخ)؛ لكن ليس بمقدور أيٍّ منها الزعم أنّها وضعت معادلةً تستطيع تفسير الانتقالات التي حصلت، أو توقُّع الانتقالات التي يمكن أن تحصل.

1- في الانتقال إلى الديمقراطية

من حيث المبدأ، يمكن تخيُّل أو تصوّر أربع طرائق أساسيةٍ للانتقال إلى الديمقراطية، في عالمنا العربي؛ فالانتقال إمّا أن يحصل نتيجة حراكٍ من الأعلى إلى الأدنى أو بالعكس؛ ففي الحالة الأولى يقوم الحاكم، طوعًا و/أو كرهًا واضطرارًا، بإصلاحاتٍ تفضي إلى التحقيق التدريجي لذلك الانتقال المنشود، وفي الحالة الثانية، يحصل تحرُّك جماهيريّ، مدنيٌّ سلميٌّ أو مسلَّح عنفيٌّ، يجبر هؤلاء الحكام على القيام بهذه الإصلاحات، أو يفضي إلى تغييرٍ ما في النظام السياسي يسمح بالقيام بتلك الإصلاحات. ويبدو واضحًا أنّ إمكانيات نجاح أيٍّ من تلك الخيارات ضعيفةٌ جدًّا. فعلى العكس من «أسطورة أو خرافة المستبد العادل»، من المستبعد أن يتنازل الحكّام، طوعًا، عن السلطات والامتيازات التي يمتلكونها، حيث ينفذون الإصلاحات المطلوبة والمساعِدة على إنجاح تحوّلٍ ديمقراطيٍّ سيجرّدهم، على الأرجح، من معظم هذه السلطات والامتيازات، ويطيح بهم، وقد يفتح الطريق أمام محاسبتهم. في المقابل لا تبدو إمكانيات نجاح الحراك من الأدنى إلى الأعلى أكثر قوّةً. فذلك الحراك يكون، إمّا سلميًّا، أو عنفيًّا، أو مزيجًا من الطرفين. فلا قدرة للحراك السلمي على الصمود في وجه القوة الهائلة للأنظمة الاستبدادية، وقدرتها على ممارسة العنف واستعدادها لتلك الممارسة عند شعورها بالخطر. في المقابل، ووفقًا لدروس التاريخ والتحليل النظري، من المستبعد جدًّا أن يفضي أيّ حراكٍ مسلَّحٍ عنيفٍ إلى قيام نظامٍ ديمقراطيٍّ؛ لأنّ العنف يسهم في التدمير أكثر من إسهامه في البناء، ويُفضي، على الأرجح، إلى انخراطٍ متزايدٍ للقوى والأطراف غير الديمقراطية، والتوّجه إلى حسمِ الصراع السياسي بوسائل غير سياسية أو غير ديمقراطيةٍ.

في ظلِّ هذه المعضلة أو حالة الاستعصاء، التي كانت موجودةً نظريًّا وعمليًّا، على حدٍّ سواء، حصلت ثورات الربيع العربي. وعلى الرغم من وجودِ اختلافاتٍ كبيرةٍ ومهمةٍ بين الحركات والحراكات المنتمية إلى ذلك «الربيع»، في البلاد العربية المختلفة، فثمّة قواسم مشتركةٌ، وترابطاتٌ وثيقةٌ ومهمةٌ، بين انتفاضات هذا الربيع أو ثوراته، إلى درجةٍ سمحت بالجمع بينها في إطار تسميةٍ واحدةٍ ورؤيةٍ نظريةٍ عامةٍ واحدةٍ. وعلى العكس من الرؤية الثقافوية التي كانت ترى أنّ الشعوب مسؤولة عن الاستبداد المُمارس عليها، وأنّه نتاجٌ طبيعيٌّ لثقافة تلك الشعوب عمومًا، والدينية منها خصوصًا، ولقبولها بذلك الاستبداد وعدم مقاومته أو حتى ممانعته إلخ، أظهرت ثورات الربيع العربي مدى أهمية دور النخبة (السياسية) عمومًا، والنخبة الحاكمة خصوصًا، في تحديد مصير هذه الثورات. ولعلّ المقارنة بين ثورات تونس ومصر وسوريا، ومواقف أو أفعال النخب (الحاكمة) فيها، تبيِّن الدور المهم لتلك المواقف والأفعال، في مثل هذه السياقات. فقد أسهم حصول انقسامٍ أو انشقاقٍ، في بداية الحراك الجماهيري، داخل بنية السلطة الحاكمة أو بين أفراد أو أطراف النخبة الحاكمة، في كلٍّ من تونس ومصر، في تجنّب حصول مواجهةٍ جبهيةٍ عنيفةٍ طويلة المدى بين المنتفضين أو الثائرين ومؤسسات السلطة أو الدولة. ومع تباين التفاعل المتبادل بين أفراد أو أطراف النخب السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية في البلدين، تباين مسار الأحداث في البلدين، حيث أسهم الشقاق السريع والمبكِّر، في مصر، داخل النخب أو الأطراف المعارضة، أو بينها وبين النخب الحاكمة أو المتحكّمة في مؤسسات البلد، والحضور القوي للمؤسسات العسكرية والأمنية، أو «الدولة العميقة» المصرية في المجال السياسي والاقتصادي، إلى توّقف كاملٍ لسيرورة الانتقال الديمقراطي في مصر. في المقابل، لم يكن لمؤسسات الجيش والأمن التونسية تاريخٌ في الحضور في المجال السياسي أو الاقتصادي التونسي، وكان هناك تعاونٌ أكبر بين النخب (السياسية) التونسية، على الرغم من أنّ الاختلافات السياسية أو الإيديولوجية بين تلك النخب ليست أقل من تلك التي كانت موجودةً بين النخب المصرية. ولهذا استمرت الفترة الناجحة للتحوّل إلى الديمقراطية في تونس لفترةٍ أكبر، لكن التناحر المتزايد بين النخب السياسية أفضى، لاحقًا، مع عوامل أخرى، كتدهور الأوضاع الاقتصادية على سبيل المثال، إلى حصول «الانقلاب الدستوري على الديمقراطية» الذي نفذه الرئيس التونسي قيس سعيِّد.

إذا نظرنا إلى سلوك النخبة (الحاكمة) في سوريا وتعاملها مع الحراك الجماهيري الثائر، نجد أنّه، من ناحيةٍ أولى، لم يحدث أيّ انقسامٍ حقيقيٍّ مؤثّرٍ بين أفراد أو أطراف النخبة الحاكمة، أو «الدولة العميقة» في سوريا، بل ظلّت تلك النخبة متماسكةً ومتحدّةً في مقاومتها وممانعتها لأيّ تنازلٍ أو تسويةٍ قائمةٍ على تلبيةٍ جزئيةٍ لبعضِ المطالبِ الأساسية للمنتفضين أو الثائرين. وحتى حين قيل إنّ بوادر ذلك الانشقاق قد لاحت لفترةٍ ما، من خلال ما سمّي ﺑ«خلية الأزمة»، فقد تمّ القضاء على تلك البوادر، وهذه الخلية، في مهدها، حتى قبل أن تتجسّد في أيّ فعلٍ مؤثّرٍ في هذا الخصوص. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، لم تُبدِ النخبة الحاكمة أي تردّدٍ في استعمال أقصى درجات العنف مع الثائرين عليها. ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، بدت النخب المعارضة عاجزةً عن المواكبة السياسية للحراك الثائر وتسلقت على أكتافه أكثر مما رفعته على أكتافها. ومن ناحيةٍ رابعةٍ، أتاح كلّ ما سبق تدخلًا خارجيًّا متزايدًا أدى إلى فقدان السوريين، سلطةً ومعارضةً، للقدرة على تقرير مصيرهم وأصبح تقديم النخب السورية للتنازلات للأطراف الخارجية أكثر سهولةً وحدوثًا من تقديمهم للتنازلات المتبادلة في ما بينهم.

كلّ ذلك وغيره، يبيِّن أنّ الدور الحاسم الذي قرّر مصير (بعض) ثورات الربيع العربي، لم يكن، غالبًا على الأقل، الثقافة السياسية السائدة لدى الشعب أو في المجتمع عمومًا، كما لم تكن تلك الثقافة شرطًا ضروريًّا أو كافيًا في عمليات الانتقال الديمقراطي السابقة. ولو أنّ تلك الثقافة كانت شرطًا ضروريًّا، كما يزعم الثقافويون، لوقعنا في دائرةٍ مفرغةٍ أو لاستحال تحقّق الانتقال إلى الديمقراطية. فالنظام الديمقراطي يُنتِج الثقافة السياسية الديمقراطية، وليس العكس، وكذلك حال النظام الاستبدادي الذي ينتج ثقافةً سياسيةً متناغمةً معه. ولم يكن بإمكان أي شعبٍ رازحٍ تحت حكمٍ استبداديٍّ أن ينجح في الانتقال إلى الديمقراطية. لقد كتبت عددًا من النصوصٍ في نقد الرؤية الثقافوية، وقد صدر معظمها في كتابٍ يحمل ذلك العنوانحسام الدين درويش، «في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية: نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية»، (بيروت/الشارقة: مؤمنون بلا حدود، 2023).. ويبدو مناسبًا، في السياق الحالي، أن أشير إلى ما أرى أنّها الحجة الأهم والحاسمة في امتحان أطروحة الثقافويين. فلنفترض صحة أطروحة الثقافويين أنّه لا يمكن أن نتحرّر من الاستبداد دون امتلاك ثقافة هذا التحرّر، وأنه لا يمكن لثورةٍ أن تنجح على المستوى السياسي قبل أن تنجز ما هو مطلوبٌ منها على المستوى الثقافي العميق، أو بأنّه لا معنى ولا جدوى من تغيير الكرسي (السياسي) من دون تغيير الرأس (الثقافي)، وفقًا لتعبير طرابيشي وأدونيس وغيرهما؟ ألسنا بحاجةٍ إلى أن تسهم الدولة بنظامها السياسي ودستورها وتشريعاتها ومؤسساتها التربوية والإعلامية والقانونية في هذا التغيير؟

لقد تمّ التعويل كثيرًا على دور الدولة العربية في تحديث المجتمع وقيادته إلى التحرّر والتقدم والتطور إلخ. لكن هذا التعويل لم يفضِ إلّا إلى مزيدٍ من الاستبداد والفساد والإفساد في أحيانٍ ليست قليلةً، ولم يكن له الفعالية المطلوبة، مما دفع نزيه الأيوبي إلى الحديث عن مفارقة «تضخيم الدولة العربية»، بمعنى التوّسع الكبير في دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع من ناحيةٍ، مع ضعف نفاذها في المجتمع وافتقارها إلى الهيمنة الإيديولوجية بالمعنى الغرامشياني، من ناحيةٍ أخرى. وباختصارٍ، أرى أنّه ينبغي أن نكون سياسويين، حتى إذا كنّا ثقافويين؛ أي ينبغي التشديد على أولوية تغيير الكرسي حتى إذا كنّا نرى أنّ التغيير الأهم هو تغيير الرأس. وإذا استخدمنا مصطلحي البنية التحتية و«البنية الفوقية»، فأنا أرى أنّ البنية التحتية تكمن في السياسة والاقتصاد بالدرجة الأولى، وليس في الثقافة أو الدين، من دون أن أنفي أو أنكر وجود تفاعلٍ جدليٍّ بين الطرفين.

مع أخذ ما سبق في الحسبان، يمكن القول إنّ الثورات العربية لم تتمكن عمومًا، حتى الآن، رغم كلّ الأثمان الباهظة، من أن تكون ثورات حريةٍ تطال كلّ مجالات الحياة، أو أن تتحوّل إلى مثل تلك الثورات؛ لأنّها لم تنجح في مهمتها التحرّرية. وبكلماتٍ أخرى لم تستطع الثورات العربية، غالبًا، إنجاز مهمتها التدميرية السلبية، لتفسح المجال للانتقال إلى المهمة البنائية الإيجابية. وبدا، في كثيرٍ من الأحيان، أنّها أخفقت في إقامة التوازن المناسب بين الجذرية الثورية والمرونة السياسية. فمن الصعب تصوّر نجاح ثورةٍ جذريةٍ ضد كلّ الأطراف السلبية، وكلّ الخطابات التقليدية السائدة (دينية وقومية واجتماعية وعائلية… إلخ). في المقابل، من الصعب تصوّر وجود ثورةٍ تتخلّى، تخلّياً كاملًا عن التوّجهات الجذرية، وتتبنى المرونة السياسية تبنيًّا كاملًا، بما يجعلها تتصالح وتتعاون مع قوى وأطرافٍ مضادةٍ لها، أو تحاول تجنّب مواجهتها والصراع معها على الأقل. ففي الحالة المصرية، على سبيل المثال، تخلّى الثائرون سريعًا عن ميدان ثورتهم، وجذريتها، بعد الإعلان عن تنحي مبارك، وهيمنت المرونة والمساومات السياسية الحزبية الضيّقة على ممارساتهم لدرجة أفقدتهم ثوريتهم وثورتهم تدريجيًّا. وفي سوريا، وجد بعض الثائرين أنفسهم، أحيانًا، في موقفٍ لا يسمح لهم بالثورة على كلّ الأطراف التي ينبغي الثورة عليها، النظام الأسدي، التنظيمات الإسلامية المتطرفة، كداعش والنصرة، و/أو الإثنية ذات الأجندة الخاصة كقسد، بالإضافة إلى قواتٍ أجنبيةٍ متعدّدةٍ هي أقرب لقوات الاحتلال ذات الأجندة الخاصة بها. ومع أنّ كثيرين، حينها وحتى الآن، ينتقدون الخيارات التي اتخذها هذا الطرف أو ذاك، حينها، يبدو أنّه كان يصعب وجود خيارٍ صحيحٍ، من الناحية النظرية المبدئية، ومن الناحية العملية الفعلية. و«في النهاية»، هيمن الاضطرار إلى المرونة السياسية والتخلّي عن المبدئية الجذرية الثورية إلى درجةٍ حوَّلت أطرافًا كثيرةً من كونها قوى الثورة إلى أن تصبح قوىً مضادةً للثورة، أو قوى الثورة المضادة.

هل يمكن لثورات التحرّر هذه أن تكون نقطة انطلاقٍ مستقبلًا لثورات حريةٍ بالمعنى العميق للكلمة؟ أعتقد أنّ المستقبل مفتوحٌ والممكنات المتعدّدة موجودةٌ. والأمر ليس مسألة قدرٍ يحصل للناس، خبط عشواءٍ، من يصب يحرِّره ومن يخطئ يبقيه غير متحرّرٍ، بل هو، أيضًا وخصوصًا، مصيرٌ يسهم الناس في تحديده، بالتفاعل مع الظروف القدرية المحيطة بهم.

2- في السلمية والانتقال إلى الديمقراطية

هل السلمية أفضل، دائماً وبالضرورة، من اللجوء إلى العنف؟ من أين تستمد السلمية أفضليتها تحديدًا؟ هل تلك الأفضلية مرتبطةٌ برؤيةٍ مبدئيةٍ معياريةٍ، أم برؤيةٍ مصلحية براغماتيةٍ، أم بالأمرين معًا؟ وما الموقف الذي ينبغي اتخاذه في حال وجود تعارضٍ بين ما هو مبدئيٌّ وما هو مصلحيُّ عمليٌّ، كأن يكون العنف ضرورةً للحفاظ على آمال تحقيق التغيير المنشود؟ وهل يمكن أن يكون خيار العنف أفضل من خيار السلمية في بعض السياقات؟

على الرغم من أنّه ليس ثمّة حتميات أو إمكانية للجزم في خصوصِ ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، أو ما يمكن أن يحدث في المستقبل، ثمّة «وقائع» وأبحاث معرفية وصفية أو تحليلية و«موضوعية»، وقيمٌ ومبادئ معيارية «ذاتية»، يمكن الاستناد إليها، أو الاستئناس بها على الأقل، في أحكامنا المعرفية وتفضيلاتنا المعيارية، في خصوص المسائل المطروحة. انطلاقًا من ذلك، أرى معقولية الحكم القائل إنّ مصير الحراك الشعبي الاحتجاجي ضدَّ نظامٍ ما، أو وجود مثل هذا الحراك، مرهونٌ بدرجةٍ أساسيةٍ وحاسمةٍ، على الأرجح، بمدى قدرة النظام على ممارسةِ القمعِ العنيف تجاه هذا الحراك، واستعداده أو جاهزيته للقيام بتلك الممارسة أو ذلك القمع، من دون أن يفضي ذلك إلى تصدّع ذلك النظام أو حصول انشقاقات مهمة أو انهيارات مؤثرةٍ فيه. ففي مثل هذه الحالة، من المستبعد، عمومًا، أن يفضي هذا الحراك إلى تحقيق أهدافه، إن لم يكن قادرًا على مواجهة عنف النظام بعنفٍ مضادٍّ؛ والأرجح، حينها، أن ينجح النظام بإخماد الحركة الاحتجاجية. هذا ما أظهرته، على سبيل المثال، الحركات الاحتجاجية في أرمينيا (2011-2014) وماليزيا (2007، 2011، مثلًا).

على هذا الأساس، يمكن القول إنّ استمرار الثورة السورية في المسار السلمي كان سيفضي على الأرجح، ليس إلى نجاح النظام في إخماد الثورة، فحسب، ولا فقط إلى بقائه راسخًا وقويًّا في السلطة، بل إلى ملاحقة النظام لكلّ المشاركين في الحراك السلمي وتأديبهم وتأديب الآخرين بهم. هذا ما كان الكثيرون من المشاركين والمشاركات في الحراك السلمي يخشون أو يتخوَّفون منه. وينبغي أن نتذكر هنا أنّنا نتحدث عن ملايين أو مئات الآلاف من المشاركات والمشاركين؛ كما ينبغي أن نتذكر ما حصل ويحصل في السجون والمعتقلات السورية من عمليات تعذيبٍ وحشيةٍ وقتلٍ جماعيةٍ، كشفت بعضها «صور قيصر». وانطلاقًا من معرفة تاريخ هذا النظام وبنيته، يصعب القول بعدم مشروعية هذه المخاوف، وبعدم معقولية التصرّف على أساسها. فإضافةً إلى أنّ العنف يولِّد (الرغبة في ممارسة) العنف، لم يكن هناك حدٌّ أدنى من الثقة بين معظم السوريين (الثائرين) والنظام، بالأحرى كان هناك ثقة بأنّه لا يمكن الوثوق بهذا النظام ولا يمكن الركون إلى إمكانية أن «يُصلِح أو يُصلَح، أو يسهم إيجابًا في أي إصلاحٍ»، أو يسمح بحصوله أصلًا. وقد عبّر كثيرون، وأنا منهم، عن مثل هذه الرؤية منذ بدايات الثورة السورية.

ولتعميقِ عملية الإزالة الجزئية، على الأقل، للسحر عن «السلمية»، في مثل هذه السياقات، ينبغي الإشارة إلى أنّ السلمية تخدم غالبًا على الأقل الطرف المعتدي الأقوى، ولهذا نجد، في سياقاتٍ كثيرةٍ، أنّ المعتدي أو المغتصب للحقوق يدعو إلى التهدئة والسلام وما شابه، في حين يطالب الطرف الآخر بالحق والعدل، ولا يتردّد في أحيانٍ كثيرةٍ بالتضحية بالسلام والسلمية، إذا وجد أنّهما يعنيان حرمانه من حقوقه أو منح المعتدي فرصةً لتعزيز قواه وهيمنته واغتصابه لتلك الحقوق. فإسرائيل، على سبيل المثال، رفضت معادلة «الأرض مقابل السلام»، وبدا غالبًا أنّ المعادلة التي تنشدها هي «السلام مقابل السلام». والحال ذاته نجده مع روسيا حاليًّا بعد اجتياحها لأوكرانيا، واحتلالها لعددٍ من مناطقها وضمها إلى روسيا رسميًّا. فروسيا تؤيّد الآن الهدنة والتهدئة والسلام والمفاوضات السلمية، ووقف كلّ أشكال العنف التي يمكن أن تهدّد مكاسبها من الأراضي التي احتلتها.

أعتقد، مع كثيرين، أنّ العامل الأهم، في هذا السياق، ليس مدى سلمية أو عدم سلمية الحركة الاحتجاجية، وإنّما مدى (عدم) توازن القوى، بين النظام والمعارضة الثائرة عليه، من جهةٍ، ومدى استعداد النظام السياسي لاستخدام فائض القوة الذي لديه في قمع الحركة الشعبية المعارضة له والثائرة عليه، من جهةٍ أخرى. ففي بعض الدول الأفريقية كانت التغييرات (الإصلاحية) التي أصابت بعض الأنظمة السياسية ناتجةً، بالدرجة الأولى، عن ضعفِ القوى الحاكمة وهشاشتها أكثر من كونها ناتجةً عن قوة المعارضة وتنظيمها وفاعليتها. في المقابل، لم تؤدِّ قوة المعارضة في دولٍ أخرى إلى تحقيق أيّ إصلاحٍ حقيقيٍّ، بسبب القوة الأكبر التي كان يمتلكها ويستخدمها النظام في ممانعته، أو مقاومته، لأيّ دعوةٍ إلى التغيير أو التغيُّر الإصلاحي. ولا تتناسب قوّة النظام الحاكم طردًا بالضرورة مع قوّة الدولة. بل يمكن أن يفضي تغوّل النظام الحاكم، وتوغله في الدولة، إلى تعزيز قوّة ذلك النظام، وإضعاف قوّة تلك الدولة، في الوقت نفسه. وهذا ما حصل في سوريا التي كانت دولةً (شبه) شمولية، أو كان يبدو أنّها تسعى إلى أن تكون كذلك على الأقل، حيث كان لها إيديولوجيا بعثية مع هيمنةٍ متزايدةٍ ومتفاوتةٍ لحزبٍ واحدٍ على السياسة والتربية والتعليم والاقتصاد إلخ. لكن الحضور الإيديولوجي تضاءل لاحقًا، وأصبحت قوّة النظام متركزةً ومتكثفةً في المجال الأمني العسكري، تحديدًا أو خصوصًا.

كما أنّ ضعف «الدولة العربية» لا يعني بالضرورة ضعف النظام السياسي الحاكم فيها. وتشير الإحصاءات والأرقام المتوّفرة إلى أنّ نسبة صرف الدول العربية على الأمور الأمنية من ناتجها المحلي الإجمالي هي الأعلى عالميًّا من دون منازعٍ تقريبًا. طبعًا هذه النسبة لا تصل إلى ما كانت الدعاية (شبه) الرسمية في سوريا تزعمه من أنّ الإنفاق الأمني والعسكري يستهلك 85% من الناتج المحلي الإجمالي، أو من الميزانية العامة للدولة. فهذه النسبة لا تتعدّى في حالة الدول العربية عمومًا 6.7% من المجمل المحلي الإجمالي. لكن لإدراك ضخامة هذه النسبة يمكن مقارنتها مع نسبة إنفاق دول حلف الناتو على الأمن، حيث كانت تلك النسبة حوالي 2.2%. يضاف إلى ذلك، أنّ ميزانيات المؤسسات العسكرية والأمنية ورواتب العاملين فيها، لا تتأثر بأي أزمة ماليةٍ أو اقتصاديةٍ في البلد، حيث تبقى تلك المؤسسات والرواتب مموّلةً في كلّ الظروف. ويمكن فهم ذلك بالتأكيد إذا أخذنا في الحسبان أنّه في تلك المؤسسات الأمنية والعسكرية تقع قوة النظام وتتجسّد أسباب صلابته. وتبدو القوّة العسكرية في عددٍ من البلاد العربية موجَّهةً ومهيأةً للاستخدام في الداخل ولحماية النظام من أعدائه الداخليين، وليس باتجاه الخارج ولحماية الدولة من الاعتداءات الخارجية. ومرّة أخرى، يبدو النظام في سوريا مثالًا نموذجيًّا لذلك، فإضافةً إلى التزامه العميق باتفاق الهدنة مع إسرائيل، وعدم إطلاقه ولو طلقة واحدة خلال عشرات السنين من جبهة الجولان السوري المحتل، اشتهر النظام ﺑ«احتفاظه بحق الرد»، في مواجهةِ الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، في حين أنّه لم يكن يتوانى عن استخدام كلّ أنواع الردّ الممكنة في مواجهةِ المعارضين عمومًا، والثائرين عليه خصوصًا.

ينبغي للإزالة الجزئية للسحر عن «السلمية» ألا تترافق مع إسباغٍ للسحر على العمل المعارض المسلّح. فالعمل المسلّح مدمِّرٌ، لدرجةٍ أو لأخرى، ويندر أن يفضي مباشرةً إلى قيام نظامٍ ديمقراطيٍّ. وينبغي هنا التشديد على مسألتين: الأولى أنّ الندرة المذكورة لا تعني الاستحالة، لا النظرية ولا العملية؛ والثانية أنّ ضعف احتمال قيام نظامٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ على المدى القريب أو حتى المتوسط، بعد حصول صراعٍ مسلَّحٍ لا ينفي إمكانية إسهام العمل المسلح، إسهامًا إيجابيًّا، في قيامٍ نظامٍ ديمقراطيٍّ، على المدى البعيد. وفي ما يلي، سأشرح، باختصارٍ واقتضابٍ، هاتين المسألتين.

فمن الناحية الأولى، ومن حيث المبدأ، ليس هناك تناقضٌ أو تنافرٌ نظريٌّ ضروريٌّ بين فكرة حصول صراعٍ مسلَّحٍ وإمكانية قيام نظامٍ ديمقراطيٍّ بعده. ومن حيث المبدأ أو الإمكان النظري، يزداد احتمال قيام مثل ذلك النظام، (حتى) بعد حصول هذا الصراع، بقدر وجود توازن قوى بين الأطراف المتصارعة، وبقدر ما يكون الوصول إلى توافق من مصالحها، وبقدر وعيها لتلك المصالح، وتوّفر الظروف المساعدة على اتباعها، وتصرّف تلك الأطراف على أساس الوعي المذكور. وحتى الواقع العملي يبيّن عدم وجود تناقضٍ جوهريٍ، أو تنافرٍ ضروريٍّ بين العمل المسلح وقيام نظامٍ ديمقراطيٍّ. وغالبًا ما تتخذ حالة كوستاريكا بعد ثورة/الحرب الأهلية عام 1948، لإبراز الإمكانية العملية لقيام نظامٍ ديمقراطيٍّ بعد صراعٍ داخليٍّ مسلحٍ.

ومن الناحية الثانية، إنّ ضعف احتمال أن تفضي المعارضة المسلحة، مباشرة أو في المدى القصير، إلى قيامِ نظامٍ ديمقراطيٍّ، لا ينفي إمكانية أن تسهم مثل تلك المعارضة، (إسهامًا غير مباشرٍ)، في قيام مثل ذلك النظام في المدى المتوسط أو البعيد، على الأقل. فيمكن للمعارضة المسلّحة أن تُنهكَ النظام القائم وتضعفه، وتجعله مضطرًا أو أكثر استعدادًا للتفاوض وتقديم التنازلات وقبول التسويات والحلول الوسط. ويمكن المحاججة أنّ هذا ما حصل في جنوب أفريقيا والفلبين، على سبيل المثال.

3- السلمية في الحالة السورية

في الحالة السورية، ثمّة منظوران أساسيان مختلفان ومتكاملان لتناول هذه المسألة. المنظور الأوّل هو منظور الوعي الذي رأى نافذةً نادرةً للخروج من الجحر الذي كان يعيش فيه مقموعًا. فحاول استثمار تلك الفرصة، لكنه اصطدم برفضٍ وتعنّتٍ كاملين وعنفٍ وقمعٍ شديدين من قبل النظام الحاكم، وتسارعت الأحداث، وبدا أنّ الخيارات تضيق أمام الناس، فالاستمرار باهظ الثمن، واحتمالات أن يجدي تبدو ضئيلةً أكثر فأكثر، لكن التراجع باهظ الثمن أيضًا، وإضافةً إلى الخوف من انتقامِ النظام، بدا للكثيرين ضرورة استمرار الحراك الثائر عليه، ليس بسبب امتلاك اعتقادٍ واثقٍ بالجدوى، بل انطلاقًا من الحرص على الحدّ الأدنى من القيمة والمعنى. المنظور الثاني هو منظور صيرورة الواقع المستقلة، إلى حدٍّ كبيرٍ، عن وعي السوريين (الثائرين) ورغباتهم وتوّجهاتهم وتفضيلاتهم. فقد تسارعت تلك الصيرورة وتكاثرت العوامل والأطراف (الأجنبية) الفاعلة والمؤثرة فيها، لدرجةٍ جعلت دور الوعي المشار إليه، في المنظور الأوّل، ثانويًّا وهامشيًّا وضعيف الفاعلية والتأثير المادي عمومًا. وينطبق ذلك، خصوصًا أو تحديدًا، على وعي «الأفراد العاديين»، وبدرجةٍ أقل على النخبة المتمثلة في الأطراف القيادية التي تتمتع بقدراتٍ تأثيريةٍ متفاوتةٍ.

يحيل المنظوران المذكوران على ثنائية البنية وفاعلية الذات، التي تحدّثت عنها آنفًا. ومن الضروري عدم تحويل تلك الثنائية إلى مثنويةٍ، من جهةٍ، وضبط العلاقة الجدلية بين طرفيها، وفقًا لمعطيات كلّ سياقٍ على حدةٍ، من جهة ثانية. وفي السياق السوري، ثمّة معطياتٌ كثيرةٌ تجعل العوامل البنيوية/المنظوماتية غير المتعلّقة بوعي الأفراد (السوريين)، أو رغباتهم، أو إراداتهم ذات التأثير الأكبر في معظم الأحيان. ومن هذه العوامل الموقع الجيواستراتيجي لسوريا، عمومًا، وخصوصية قربها من إسرائيل. فهذا العامل أثَّر كثيرًا في كمّ التدخلات الخارجية وكيفيتها وماهيتها، وازدادت قوّة هذا العامل تدريجيًّا، إلى أن أصبحت الأطراف الخارجية صاحبة القرار الحاسم، في هذا الخصوص. ومن المفارقات ذات الدلالة أنّ اجتماعات التسوية التي تجري، منذ ستة أعوامٍ تقريبًا، ضمن إطار «مسار أستانة لإيقاف إطلاق النار وإيجاد حل سياسي للصراع في سوريا»، كانت تقتصر على حضور ممثلين عن روسيا وتركيا وإيران، من دون حضور أيّ طرف سوري، غالبًا على الأقل. ويمكن القول إنّ الصراع في سوريا أصبح انعكاسًا ﻟ«الصراع على سوريا»، وهو الصراع الأساسي أو المهيمن غالبًا وفقًا لعنوان كتاب باتريك سيل.

التشديد على أهمية العامل البنيوي لا يعني أنّ ما حصل كان أمرًا حتميًّا، وأنّه ما كان يمكن للعوامل الفردية أو الطارئة أو العرضية أن تلعب دورًا مؤثرًا في تغيير مجرى الأحداث والمسار الذي اتخذته والنتائج التي أفضت إليها حتى الآن. فلنتخيّل، على سبيل المثال، مجرى الأحداث لو أنّ بشار الأسد اتخذ موقفًا أكثر إيجابيةً، أو أقل سلبيةً، من بدايات الحراك الشعبي، بعيدًا عن استخدام فزاعة الطائفية، والتخويف بالخراب والحرب الأهلية، واستخدام القوى الأمنية والعسكرية، من دون تقديم أيّ تنازلاتٍ مهمةٍ، أو القيام بإصلاحاتٍ ذات قيمةٍ عمليةٍ مؤثرةٍ، في إطار التوّجه نحو التحوّل إلى الديمقراطية. ويمكننا تخيُّل تعرّض بشار الأسد لعملية اغتيالٍ ناجحةٍ. لكن ينبغي أن نتذكر أنّ انشقاق رئيس مجلس الوزراء (رياض حجاب) بدا معدوم التأثير تقريبًا، ولم يكن أكثر تأثيرًا من انشقاق الكثير من الموظفين العسكريين أو حتى المدنيين. و«عطب الذات» أو تأثيرها (السلبي) لا يتعلّق ببشار الأسد، أو أخيه ماهر، أو بأفرادٍ من النظام الأمني السوري الحاكم، بل يتعلّق أيضًا (كما بيَّن برهان غليون في كتابه الذي يحمل هذا الاسم) بمعظم أفراد النخبة المعارضة التي مثَّلت السوريين الثائرين، برضاهم، أو رغمًا عنهم، أو بغضّ النظر عن آرائهم في هذا الخصوص.

من حيث المبدأ، السلمية ليست بحاجةٍ إلى الدفاع عنها مبدئيًّا؛ فهي إحدى أهم سمات السياسة والعمل في المجال السياسي. وأنا هنا أتحدّث عن مفهومٍ حنة أرنت للسياسة بوصفها ابتعادًا عن الحرب وممارسة العنف. وكما هو واضحٌ، يختلف هذا المفهوم عن مفهوم كلٍّ من كلاوزفيتز الذي يرى أنّ «الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى»، ومفهوم فوكو الذي يرى أنّ «السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى». فالسياسة، بهذا المعنى، مطلوبةٌ وضروريةٌ، لتجنّب العنف والحرب بين المختلفين، وللوصول إلى تسوياتٍ عن طريق المفاوضات وآليات العمل السياسي السلمي. ويصعب تسويغ اللجوء إلى العنف، ورفض السياسة/السلمية، طالما أنّ تلك الأخيرة ممكنةٌ وتحقِّق الحدّ الأدنى الممكن من الجدوى، على الأقل. فالسياسة هي الخيار الأوّل والمفضَّل بالتأكيد. لكنها قد تكون، أحيانًا، مجرّد خيارٍ بين خيارات أخرى ينبغي أخذها في الحسبان، وتبنّي أحدها، وفقًا لقراءةٍ ما للمُمكنات والمعطيات، في كلّ سياقٍ على حدةٍ. وليس من السياسة رفض خيارٍ ما أو الاقتصار على خيارٍ ما، من حيث المبدأ. ففي هذا خروجٌ عن السياسة، بوصفها سعي لتحقيق أفضل الخيارات الممكنة، ودخولٌ في رؤيةٍ إيديولوجيةٍ أحاديةٍ ولا تاريخيةٍ، في الوقت نفسه. فهي أحاديةٌ؛ لأنّها تقوم على مثنويةٍ إقصائيةٍ يقصي كلّ طرفٍ فيها (السياسة/السلمية من جهةٍ والعنف أو التسلح من جهةٍ أخرى) الطرف الآخر، مع تراتبٍ قيميٍّ تحتل السياسة/السلمية قمته، ويرزح العنف أو التسلّح في قاعه أو أسفله، مكانيًّا ومكانةً. وهي لا-تاريخيةٌ؛ لأنها ذات مواقف مبدئيةٍ جامدةٍ لا تأخذ في الحسبان السياقات التاريخية المختلفة وخصوصية كلّ سياق منها. وعلى هذا الأساس، قد يكون الاستعداد للجوء للعنف، أو القدرة على المجابهة العنيفة مع الخصم، عاملًا من عوامل تحقيق السلم، وليس توّجهًا مضادًّا له بالضرورة.

السياسة، بوصفها عملًا من أجل مصلحةٍ (عامةٍ)، في المجال العام، بالوسائل السلمية، تسوِّغ نفسها بنفسها، ولا تحتاج، من حيث المبدأ، إلى دفاعٍ عنها. لكن تظهر الحاجة إلى الدفاع عنها، في سياقٍ يبدو فيه أنّ السياسة غير ممكنةٍ، لرفض أحد الأطراف، أو بعضها، أو كلّها، الاحتكام لآلياتٍ سلميةٍ تسمح بتسوياتٍ منصفةٍ تتحقّق فيها الحدود الدنيا، على الأقل، من مصالح الأطراف المعنية. السؤال الأساسي هنا هو: ما العمل، عندما يرفض أحد الأطراف العمل السياسي السلمي و/أو يمنع الأطراف الأخرى من ممارسة السياسة، بوصفها عملًا سلميًّا؟

يمكننا الإجابة عن مثل هذا السؤال بطريقةٍ وصفيةٍ تشير إلى التجارب التاريخية التي حصل فيها مثل ذلك الرفض والمنع المذكورين، أو بطريقةٍ معياريةٍ تأخذ في الحسبان التجارب التاريخية المذكورة وتحاول على أساس ذلك؛ أي على أساس الدروس أو العبر أو القواعد العامة التي يمكن استخلاصها من قراءة تلك التجارب، ومن أخذ خصوصية كلّ منها في الوقت نفسه، تحاول تقديم توجيهاتٍ معياريةٍ عامةٍ عمّا ينبغي فعله، في هذا السياق التاريخي أو ذاك.

من الناحية الوصفية، لم تنجح التحرّكات السلمية في تحقيق أهدافها في حالاتٍ كثيرةٍ، كما أنّ العنف كان مرافقًا لكثيرٍ من الثورات «الناجحة» التي كانت جزءًا من سيرورة تغيير نظام الحكم (الثورة البلشفية) وقيام نظامٍ ديمقراطيٍّ، لدرجةٍ أو لأخرى، (الثورة الفرنسية، والانتقال إلى الديمقراطية في بريطانيا أيضًا). وحتى عندما لم تنجح الثورات المسلّحة في تحقيق أهدافها، أسهمت معظم هذه الثورات في تراكمٍ أفضى في عددٍ من الحالات (في جنوب أفريقيا مثلًا) إلى تحقيق التحوّل الديمقراطي السلمي «في نهاية المطاف». هذه كلّها أمورٌ لا خلاف عليها، من حيث المبدأ. الخلاف أو الاختلاف يظهر، بالدرجة الأولى، في الانتقال من الوصف والتحليل، إلى التقييم والحديث عمّا يجب فعله، في هذا السياق التاريخي أو ذاك.

لن أتحدث هنا عن السمات العامة للسياق التاريخي الذي انطلقت فيه الثورة السورية في عام 2011، لكنّني سأكتفي بالإشارة إلى بعضٍ من تلك السمات. الاختلال في موازين القوى بين الطرف الثائر والطرف الحاكم كان كبيرًا جدًّا، وفي مواجهةٍ مسلحةٍ سابقةٍ لم يتورع النظام الحاكم عن ارتكاب مجزرةٍ مروعةٍ للقضاء على الحراك المسلح ﻟ«الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين». وخلّفت تلك المواجهة آثارًا عميقةً ومديدةً في المجتمع السوري وفي علاقة النظام والدولة به. فمنذ تلك المجزرة، تحديدًا، ظهرت/ازدادت الندوب والتوّترات الجماعاتية بين الجماعات الطائفية أو الدينية في سوريا، وازداد شيوع الاعتقادات بمسؤولية هذه الجماعة أو تلك عن تلك المجزرة أو ذلك النظام، وهناك من اعتقد أنّ الطرف الآخر يعتبره مسؤولًا عن تلك المجزرة وذلك النظام… إلخ. كما ازدادت الاختلالات والتوّترات المناطقية لأسبابٍ كثيرةٍ، إضافةً إلى التوّترات الإثنية الكردية خصوصًا، للأسباب المعروفة. وبعد المجزرة المذكورة ازدادت القبضة الأمنية قوةً، وهيمن الخوف والرعب على السوريين، أفرادًا وجماعاتٍ، وانعدمت كلّ أشكال مقاومة المجتمع تقريبًا أمام الدولة/النظام. وانتظر السوريون أربعة عقودٍ قبل أن تستطيع الأجيال اللاحقة تفجير ثورةٍ جديدةٍ أكثر قوّةً.

ما ينبغي التشديد عليه، في هذا السياق، أنّه، على العكس من الرأي القائل بأنه كان هناك إجماعٌ بين (الأغلبية الساحقة والمسحوقة) من السوريين الثائرين على النظام بوجوب الالتزام بالسلمية في الثورة على النظام، وبدا ذلك بوضوحٍ ليس في تصريحات النخبة السياسية من مثقفين وناشطين والمنتمين إلى الأطراف السياسية المختلفة فحسب، بل حتى في الشعارات التي كانت يرفعها المتظاهرون. وأذكر أنّني شعرت ببعض الضيق خلال مشاركتي في إحدى المظاهرات، في الأسابيع الأولى من الثورة؛ لأنّ التشديد على شعار السلمية وتكراره كان أكبر حتى من التشديد على شعار الحرية. وفي خصوصِ خطاب النخبة، لم يتم الاقتصار على تبني اللاءات الثلاثة (لا للتسلح، لا للطائفية، ولا للتدخل العسكري الدولي) التي شكلت ما يسميه ياسين الحاج صالح «ضمير الثورة»«المعارض السوري ’المتواري‘ ياسين الحاج صالح لـ النهار: المجلس الوطني نال اعتراف الداخل»، جريدة النهار، الثلاثاء 11 تشرين الأول (أكتوبر)، 2011.، بل امتدّ إلى شرح سلبيات عسكرة الثورة إلى درجة الحديث عن أنّ العسكرة تعني نهاية الثورة، لأنّها تتضمن انتقال الفاعلية من الفئات المدنية إلى الفئات الأهلية، مع أرجحية أن تتخذ المواجهات طابعًا طائفيًّا وإثنيًّا متزايدًا، كما تتضمّن العسكرة تحوّل المواجهة إلى ما يشبه (الحرب الأهلية)، حيث يكون الطرفان مدانيْن، ويفقد الطرف المحكوم أو الثائر تفوّقه الأخلاقي والسياسي على النظام الحاكم، وتصبح المواجهة في الملعب المفضَّل للنظام: السلاح والعنف والتدمير.

السؤال الأساسي هنا هو: كيف حصل هذا التحوُّل إلى العسكرة والتسلّح والعنف على الرغم من الرفض المبدئي أو الأوّلي لهذا التحوّل والتحذير منه والدعوة إلى تجنبه؟

في نقدِه للنخب السلمية في الثورة السورية، يُشير راتب شعبو، محقًّا، إلى أنّ منطق السلمية كان يمثِّل «نقطة جامعة تقريباً للنخب السورية المنحازة للثورة»، لكنه ينقد هذه النخب أو يأخذ عليها أنها «لم تكن مبدئيةً في موقفها من سلمية الثورة».راتب شعبو، «نقد النخب السلمية في الثورة السورية»، الحوار المتمدن، 27.01.2021.

أعتقد أنّه ينبغي تفكيك الخطاب الممّجد للمبدئية، الذي يجعل من خطاب السلمية يشبه الخطاب اللاهوتي، ويجعل السلمية أشبه بعقيدةٍ دينيةٍ يكفر من يتخلّى عنها. المبدئية، بالمعنى الوصفي والإيجابي للكلمة، تعني اتخاذ موقفٍ أوليٍّ من مسألةٍ ما، لكن تبنّي هذا الموقف، المبدئي أو من حيث المبدأ، هو مرحلةٌ أولى. هو بدايةٌ فقط. ويمكن، ويجب، أحيانًا، تغيير هذا الموقف المبدئي لاحقًا، وفقًا لتغيّر الظروف والمعطيات. والإنسان لا يكون لديه عادةً مبدأ واحدٌ أحدٌ لا شريك له، وإنّما يكون لديه مبادئ عديدة، قد يفضي الالتزام بأحدها إلى عدم الالتزام بمبدأ أو أكثر من المبادئ الأخرى. فقد نكون ضد الحرب، من حيث المبدأ، لكن نقرّ، من ناحيةٍ أخرى، من حيث المبدأ أيضًا، بوجودِ حروبٍ عادلةٍ، ونميّز بينها وبين الحرب غير العادلة، كما فعل مايكل والزر، على سبيل المثال، في كتابه الحروب العادلة وغير العادلة: محاجةٌ اخلاقية وتوضيحاتٌ من التاريخMichael Walzer, Just and Unjust Wars: A Moral Argument with Historical Illustrations (New York: Basic Books, 1977).. وقد نكون مع السلمية، من حيث المبدأ، لكننا نكون أيضًا، ومن حيث المبدأ، مع حق الناس في الدفاع عن الذات، بكلّ الوسائل الممكنة، خصوصًا حين تتعرّض لاعتداءات كثيرة، تطالها، جسديًّا ومعنويًّا، وتصيب أفراد أسرها والأطفال والكبار في السن والمستضعفين… إلخ. وفي مقالٍ كتبته عام 2011 تحت عنوان المبادئ وأصحابها: رؤية نقدية وانتقادية، أشرت إلى أنه «إذا كان الثبات على المبادئ هو أمر محمود عمومًا أو حتى دائمًا، فإن جمود المبادئ وإصرار صاحبها عليها رغم عدم ملاءمتها، من حيث الراهنية أو الأولوية أو الواقعية … إلخ، يمثل مشكلةً حقيقيةً قد تمسّ ليس الشخص ومحيطه القريب فحسب، بل قد تمس أيضًا، مسًّا مباشرًا أو غير مباشرٍ، شريحةً أو مصلحةً عامةً تتعلّق بحياة عدد كبير من الناس».حسام الدين درويش، «المبادئ وأصحابها: رؤية نقدية وانتقادية»، الحوار المتمدن، 12.11.2011.

تحوُّل خطاب السلمية المبدئية إلى ما يشبه العقيدة الدينية التي ينبغي الالتزام بها، بغضّ النظر عن كلّ المعطيات والأوضاع المتغيّرة، هو ما ينبغي نقده أو انتقاده. ولم يحصل التحوّل المذكور من الرفض الكلّي للتسلّح والعسكرة إلى قبولهما، أو حتى تفهمهما أو تقبلهما، عند النخب السلمية؛ لأنّ «معاداة النظام تفوقت لديها على المبدأ، ومشاعر الرفض تغلبت على الفهم والتحليل»، بالضرورة، كما يظن راتب شعبو، بل حصل ذلك أيضًا وخصوصًا، نتيجةً لأخذ الواقع المتغيّر في الحسبان وفهمه وتحليله، ولأنّ معاداة النظام للشعب كانت أقوى من القدرة على حصر المواجهة بالطرائق السلمية.

لم يكن هناك شك في أنّ النظام سيستخدم العنف الشديد في مواجهة المتظاهرين، لكن لم يكن مؤكدًا أن يصل ذلك إلى استخدامه للأسلحة الثقيلة وللكيماوي، وأن يقتصر ردّ فعل «المجتمع الدولي» على مصادرة أحد أسلحة الجريمة، وإعطاء الضوء الأخضر، ضمنًا أو صراحةً، لاستخدام كلّ الأسلحة الفتاكة الأخرى في تدمير «البيئة الحاضنة للثورة»، بشرًا وحجرًا. اللجوء إلى العنف لم يكن أمرًا إيجابيًّا، لكن لم يكن هناك أيّ خيارٍ إيجابيٍّ. فحتى إذا افترضنا أنّ السلمية كانت خيارًا ممكنًا، فإنّ ذلك الخيار كان سلبيًّا أيضًا. وليس ممكنًا المفاضلة بين الخيارين، والقول إنّ خيار السلمية كان ممكنًا وأفضل بالضرورة. وما حصل بعد عسكرة الحراك لم يكن أمرًا محتومًا، بل كان هناك ممكنات وحالات طارئة contingencies كثيرة، يصعب بل يستحيل معرفتها مسبقًا.

4- في التسلح ومآلاته (الممكنة والفعلية)

محاولة أخذ الدروس والعبر أمرٌ ضروريٌّ بلا شك، لكن الأسوأ قد يتمثّل، لا في عدم أخذ تلك الدروس والعبر، بل في أخذ دروسٍ خاطئةٍ أو غير صحيحةٍ. ومن وجهة نظري، ليس صحيحًا أنّ الثورة السورية قد بيّنت أنّ السلمية ممكنةٌ دائمًا، أو أنّها أفضل من التسلّح دائمًا، أو أنّ مسألة سلمية الثورة أو عدم سلميتها مرهونةٌ، بالدرجة الأولى، بوعي الثائرين ونخبهم، وليس بالظروف الموضوعية. ومن الدروس المأخوذة التي أرى ضرورة نقدها ونقد أخذها، تحويل الرؤية السلمية إلى عقيدةٍ ينبغي اتباعها في كلّ زمانٍ ومكانٍ. في المقابل، أعتقد أنّه ينبغي تجنّب إخضاع المعرفة، في مثل هذه السياقات خصوصًا، إلى ثلاثة أنواعٍ من المنظورات: منظور ديني لاهوتي، منظور تاريخي حتمي، ومنظور أخلاقي معياري. فالمنظور الأوّل يحوّل الفكرة إلى عقيدةٍ ينبغي الإيمان بها وعدم مخالفتها، مهما كان الثمن، حتى حين يبدو أنّ ثمن تلك المخالفة قد يكون أكبر من ثمن مخالفتها، أو مع أنّ مخالفتها أمرٌ لا يمكن تجنّبه في أحيانٍ كثيرةٍ. والمنظور الثاني، يرى الحاضر نتيجةً حتميةً للماضي، انطلاقًا من رؤيةٍ سببيةٍ أحاديةٍ وميكانيكيةٍ، مع أنّ ذلك الماضي كان يتضمّن ممكناتٍ متعدّدةً ومساراتٍ متنوعةً، تمّ ترجيح أحدها لعوامل طارئةٍ وليست ضروريةً دائمًا. أمّا المنظور الثالث، فيُحاكم الواقع انطلاقًا من رؤيةٍ معياريةٍ أخلاقيةٍ أو أخلاقويةٍ، تتحدّث عمّا يجب أن يكون من دون أن تأخذ في الحسبان ما هو كائنٌ. فيجري التركيز على إدانة هذه الظاهرة أو تلك، بدلًا من فهم مسوّغات وجودها أو ضرورات ذلك الوجود.

(كان) ينبغي للنقاشات حول التسلّح أن تأخذ في الحسبان حتميته في ذلك السياق، من ناحيةٍ أولى، وأن تركز، من ناحيةٍ ثانيةٍ، على ضبطِ ذلك التسلّح، بدلًا من الدخول في «نقاشات بيزنطية» لا فائدة منها، (حينها)، حول سلبياته وإيجابياته، أو اتخاذ موقفٍ مبدئيٍّ حياله، يتبناه أو يرفضه بطريقةٍ ما. وفي هذا الإطار، كان بالإمكان أفضل بكثيرٍ مما كان. فنظريًّا أو من حيث المبدأ، كان بإمكانِ المؤسسات التي مثلت المعارضة الثائرة على النظام أن تلعب دورًا مهمًّا في ضبط عملية التسليح واستخدام السلاح، لو أنّها كانت أكثر وعيًا وأكثر كفاءةً وأكثر تحمّلًا للمسؤولية، وأقل شرذمة وضيق أفقٍ وانشغالًا بالصغائر. لكن ينبغي التشديد هنا، مع راتب شعبو، أنّ «التطوّر العسكري للثورة جرى بعيداً عن إرادة النخب السلمية، أقصى ما يمكن أن تكون هذه النخب قد شاركت فيه هو التساهل مع بعض السلاح لحماية المتظاهرين، والدفاع عن النفس في وجه الشبيحة وأجهزة القمع، لكنها لم تشارك في تقرير المسار العسكري الفعلي، بوصفه طريقاً إلى إسقاط النظام»راتب شعبو، «نقد النخب السلمية في الثورة السورية»، الحوار المتمدن، 27.01.2021.. وأتفق مع جلبير الأشقر في قوله: «لقد ارتكبت المعارضة السورية الرسمية أخطاء فادحة في إدارتها للصراع، لكنّ تشجيع حمل السلاح لم يكن بينها، والحال أن ’المجلس الوطني السوري‘ ظلّ يحذّر من العسكرة لأشهر عدّة قبل أن تُقنعه الظروف، وبعد فوات الأوان، أنّه كان كمن يواجه نهراً يفيض فيناشد المياه عبثاً أن تتوقّف عن الفيضان بدل السعي الحثيث وراء إنشاء السدود وشقّ القنوات كي يتمّ تحويل الفيض إلى طاقة يمكن ضبطها والاستفادة منها»جلبير الأشقر، «في الجدال حول عسكرة الثورة السورية»، جريدة القدس العربي، 18 أيلول (سبتمبر)، 2018.. لكنّني أرى في المقابل، أنّ تلك المعارضة تتحمّل قسطًا من المسؤولية؛ لأنّها لم تعمل على تنظيم استخدام السلاح، أو لم تنجح في مسعاها حين عملت على ذلك. ويمكن القول مع برهان غليون، إنّ تلك المعارضة شجعت على فوضى استخدام السلاح، «سواء بالتسامح مع انتشاره من غير ضابطٍ، كما فعلت أحزاب المجلس الوطني، أو من خلال إنكار شرعيته وإشاحة النظر عنه واحتقار أصحابه»برهان غليون، «عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل». سورية 2011-2012، (إسطنبول، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط2، 2020)، ص258.، كما فعلت أطرافٌ أو أطيافٌ أخرى من المعارضة.

من ناحيةٍ أخرى، كان بإمكان الدول التي قدّمت السلاح للسوريين أن توّظف ذلك التقديم بطريقة أفضل للسوريين وثورتهم من جهةٍ، ولمصالح بعض تلك الدول من جهةٍ أخرى، لكن ذلك لم يحصل، واستأثر السلفيون (و) الجهاديون بمعظمِ الدعم، بطريقةٍ أفضت إلى جعل معظمهم جزءًا من الثورة المضادة أو عبئًا على الثورة أكثر من كونهم ممثلين لها أو عونًا لها.

النظام لا يتحمّل وحده مسؤولية تحوّل الثورة إلى حرب أهليةٍ وتحوّل سوريا إلى دولة محطمة، ومدمرة، ومفتتة، ومستباحة، وفاشلة، وتحوّل ملايين من السوريين إلى ضحايا ونازحين ولاجئين أو يعيشون في ظروفٍ بالغة السوء. كلّ السوريين مسؤولون لدرجةٍ أو لأخرى، وخصوصًا النخبة السياسية ومؤسّساتها من مجلس وطني وائتلاف وهيئة تنسيق إلخ. و«المجتمع الدولي» والمحيط الإقليمي مسؤولان أيضًا. لكن يبقى النظام هو المسؤول الأكبر بالتأكيد. والمشكلة الأساسية لا تكمن في أنّ الثورة كانت سلميةً أو غير سلميةٍ، ففي الحالتين أخفقت الثورة في إسقاط النظام، رغم أنّها جعلته يترنّح وأصبح على وشك السقوط مرارًا. المشكلة الأساسية، في هذا الخصوص، كانت تتمثل في عدم ضبطه وسوء توظيفه. وأتفق في ذلك مع برهان غليون، في قوله: «لم يكن لجوء الناشطين والشعب إلى السلاح هو المشكلة، بالعكس كان يمكن للسلاح أن يشكل ذراعًا قويةً في يد الثورة الشعبية، سواء نجحت في تسيير التظاهرات، أو دخلت للعمل السياسي تحت الأرض، ونظمت الشعب والمجتمع ضد عصابات الشبيحة ومناورات أجهزة النظام. ما كان يشكل مشكلةً ليس السلاح وإنما فلتان السلاح». ويمكن إضافة ما هو مفترض بداهةً هنا، أنّ المشكلة الأساسية الأكثر جذرية وأساسية، في هذا السياق، تتمثّل في وجود النظام نفسه واستمراره، وفي النتائج الكارثية لذلك الوجود والاستمرار، وفي أنّه لا توجد وصفةٌ جاهزة واضحة لإمكانية التخلّص منه، وإفساح المجال لقيام سوريا مغايرة ﻟ«سوريا الأسد». 

الثورة كانت نتيجة لانسداد آفاق التغيير (السياسي) وممكناته، أكثر من كونها نتيجة الاعتقاد بوجود تلك الممكنات. والحركة الثورية السلمية في سوريا توقفت أو ماتت حيثما وحينما تمّ الاقتصار عليها. هل كان يمكن لها أن تبقى سلميةً فقط؟ لا أعتقد ذلك. والأمر لا يتعلّق بوعي النخبة السورية الثائرة، لا بالدرجة الأولى ولا حتى بالعاشرة. وحتى في حال تخيّلنا أنّ الثورة قد اقتصرت على السلمية، فمن الواضح أنّ النظام لم يتوّرع، ولم يكن ليتوّرع عن قمعها، والقضاء عليها بكلّ الوسائل الممكنة، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بالحراك الثوري في المدن (الكبرى). وينبغي التذكير أنّه حتى عندما كانت الثورة سلمية، كان ضحايا قمع النظام للمظاهرات السلمية، أيام الجمع، يبلغ العشرات. لذا، فإنّ الاقتصار على السلمية كان يعني القضاء على الفعل الثوري ذاته. ومن المستبعد جدًّا أن تفضي المراكمة عليه إلى حصول تغييراتٍ مستقبليةٍ إيجابيةٍ، أو زيادة ممكنات حصول تلك التغييرات مستقبلًا. فالأوضاع السياسية والاقتصادية، وممكنات التغيير الديمقراطي في سوريا، كانت تتدهور وتتراجع أكثر فأكثر، منذ وصول النظام البعثي/الأسدي إلى السلطة. فالثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كانت أسوأ من فترة السبعينيات. وقد كان هناك بصيص أمل في بداية العقد الأول من العقد الحالي، مع موت حافظ الأسد، وقيام ربيع دمشق الذي يمكن عدُّه خير سلفٍ للثورة السورية وللربيع العربي عمومًا، لكن سرعان ما خبت وخُيِّبت الآمال مع «عودة الابن الضال» إلى سكة القمع الكامل وإثباته أنّه «ابن أبيه»، واستمرارٌ له، وأنّ بنية النظام الاستبدادية ستبقى على حالها، مهما تغيّر من على رأسها، وأنّ التغيير الطوعي فيها لن يكون إلا نحو الأسوأ.

الثورة خلقت آمالًا بإمكانية حصول التغيير أكثر مما انبنت على وجود تلك الآمال أو على الاعتقاد بالوجود المسبق لتلك الممكنات. لكن النظام أعلن بوضوحٍ، ومن خلال القول والفعل، أنّه لن يخطو أيّ خطوةٍ تجاه أيّ إصلاح سياسيٍّ (حقيقيٍّ). ولم يظهر مطلقًا أيّ مؤشرٍ على عكس ذلك، لا قبل قيام الثورة ولا بعد ذلك. ولا يتعلّق الأمر بأقوال النظام وأفعاله، بل يمكن القول إنّ طبيعة النظام أو بنيته العصبوية الأمنية تجعله بالفعل عصيًّا على أي إصلاحٍ. ولهذا يبدو أنّ الرهان على قيامه بالإصلاح الطوعي رهان فاشلٌ. (كان) الأمل أن يضطر النظام، بفعل ضغوطٍ داخليةٍ وربما خارجيةٍ ما، إلى القيام بإصلاحاتٍ ما تفضي إلى سقوطه أو تغييره، على المدى الطويل. لكن ذلك لم يحصل، وأمام معضلةِ استعصاء إصلاح هذا النظام، يبقى الأمل في المجهول أكثر من المعلوم، أي في انكسارِ النظام من داخله أو بفعلٍ خارجيٍّ. وفي ما عدا ذلك، لا تبدو المراهنة على التراكم والنفس الطويل أو الزمن مقنعة، بل هي ناتجة، عمومًا، عن العجز وانعدام الآمال وممكنات التغيير أكثر من كونها متأسّسة عليها أو مؤسّسةً لها.

وبتكثيفٍ شديدٍ أقول: كان يمكن للتسلّح أن يفضي إلى إسقاط النظام، وكان يمكن للاستمرار في السلمية أن يفضي إلى ما هو مماثل للوضع الحالي، أو أسوأ منه، وأتخيّل هنا وضع كوريا الشمالية مثلًا. الثورة على النظام كانت وسيلة ضغطٍ لإجبار النظام على تقديم تنازلاتٍ ما والقيام بإصلاحاتٍ ما، لكن النظام لم يستجب لذلك الضغط، لا حين كانت الثورة سلميةً، ولا حين اتخذت شكل الكفاح المسلح، وبدا أنّ النظام مستعدٌّ للقيام بتنازلاتٍ كثيرةٍ تجاه القوى الخارجية، لكنه غير مستعدٍ، على الإطلاق، لأيّ تنازلٍ تجاه الثائرين عليه أو حتى معارضيه، ولا حتى للاعتراف بوجودهم بوصفهم طرفًا سياسيًّا له مشروعية الوجود. وعلى من يعتقد بإمكانية إصلاح هذا النظام أو قبوله بإصلاح نفسه أن يقدّم أيّ قرينة من سلوك النظام، في أقواله وأفعاله، أو في بنيته وطبيعته، تدعم اعتقاده، ومن دون تقديم تلك القرينة، غير الموجودة من وجهة نظري، أرى أنّ ذلك الاعتقاد أقرب إلى الوهم بالمعنى الفرويدي؛ أي إنّه رغبةٌ تتخذ صيغة المعرفة، وأقرب إلى الخطأ، بالمعنى الديكارتي؛ أي إنّه نزوعٌ للإرادة يتجاوز المعطيات الموجودة لدى العقل والإدراك.

إنّ قدرة النظام على الانتصار في المواجهة المسلحة كبيرة بلا شك، لكن قدرته على الانتصار في المواجهة السلمية أكبر، لعدم وجود حدود لاستخدامه للعنف، يمكن أن يلتزم بها في تلك المواجهة، فهو مستعدٌّ للذهاب إلى ما وراء حدود المعقول وحتى الخيال، في وحشيته. ومن حيث المبدأ، السلمية أفضل بالتأكيد من اللجوء إلى العنف، لكن ذلك لا يعني أنّ السلمية أفضل دائمًا، والتخلّي عن السلمية قد يكون نتيجةً لسوء الوضع أكثر من كونه سببًا (أساسيًّا) لهذا السوء، وقد يكون الوضع سيئًا لدرجة عدم وجود خيارٍ جيّدٍ أو أفضل، أو عدم وجود خيارٍ أصلًا. وقد كان وما زال هذا هو وضع السوريين في «سوريا الأسد»، قبل قيام الثورة، وبعدها، وحتى الآن.

5- في (العامل الثقافي بوصفه أحد) عوامل نجاح الانتقال إلى الديمقراطية

هناك مجموعة من العوامل الحاسمة، لهذا التحول، لكن ذلك لا يعني تكافؤ القوة السببية أو القدرة التأثيرية لتلك العوامل. فتأثير موقف النخبة الحاكمة أكبر من تأثير موقف النخبة غير الحاكمة، وتأثير موقف المؤسسة العسكرية والأمنية أكبر من تأثير المؤسسات التعليمية والتربوية أو الثقافة الشعبية لدى عموم الشعب. فمن ناحيةٍ أولى، لم يحصل أن انتصر حراكٌ شعبيٌّ ثوريٌّ سلميٌّ في مواجهة جيشٍ قويٍّ قامعٍ لذلك الحراك، ومستعدٍّ لاستخدام (كلّ) قوته في سبيل إخماده. ففي مثل تلك الحالات، ينبغي للمعرفة الاستناد، بالدرجة الأولى، إلى علاقات القوّة في الواقع، وليس إلى علاقات أو درجات الوعي والثقافة.

لدراسة القوّة التفسيرية التي يمكن أن نعزوها إلى الثقافة السياسية أو إلى موقف المؤسسات الأمنية/العسكرية، في الحالة السورية، أرى إمكانية استخدام «النسبة السببية الفريدة (أو الفردية)» التي نظَّر لها ومارسها ماكس فيبر وريمون آرون. ويمكن لهذه الأداة المنهجية أن تساعد على تحديد أهمية سبب ما، ومدى تأثيره في إحداث أو حصول نتيجةٍ ما. وتتألف النسبة السببيَّة الفريدة من ثلاث مراحل. نتخيَّل، في المرحلة الأولى، أنَّ حدثًا ما لم يحصل، أو أنّ ظاهرةً ما غير موجودةٍ. ثم نحاول، في المرحلة الثانية، تحديد النتائج المحتملة التي يمكن أن تنجم عن الغياب المتخيَّل لهذا الحدث أو هذه الظاهرة في مسار الأحداث. وفي المرحلة الثالثة والأخيرة، نقارن النتائج المحتملة لهذا الغياب مع النتائج الفعليَّة التي تحقَّقت واقعيَّاً، في ظلّ حصول هذا الحدث أو وجود تلك الظاهرة. وتسمح لنا هذه المقارنة بمعرفة الأهمِّيَّة أو الدلالة السببيَّة التي يمكن أن ننسبها أو نسندها إلى هذا الحدث أو تلك الظاهرة. فلنتخيَّل حالتين. في الحالة الأولى، يتمتع كلّ أفراد الشعب بالحدِّ الأدنى، على الأقل، من الثقافة المدنية الديمقراطية، ويثور عددٌ كبيرٌ منهم ضد نظام استبداديٍّ أو سلطويٍّ كالنظام الأسدي في سوريا، وتقف المؤسسات الأمنية والعسكرية مع النظام المذكور وضد الشعب الثائر. في مثل هذه الحالة، يبدو مرجحًا فشل الحراك في تحقيق التغيير الذي ينشده. في الحالة الثانية، فلنتخيَّل أن (أغلب) أفراد الشعب الساعين إلى تغيير النظام الاستبدادي القائم ليس لديهم الحد الأدنى من الثقافة المدنية الديمقراطية، في حين أنّ النخب المعارضة (والحاكمة) لديها ذلك الحدّ الأدنى. فلنتخيَّل أنّ المؤسسات الأمنية والعسكرية وقفت مع هذا الحراك، أو لم تقف موقفًا سلبيًّا منه أو قامعًا له، ألا يبدو مرجحًا حينذاك أن ينجح الثائرون في مساعيهم، بما يمكِّن النخب المعارضة من القيام بالخطوات الأولى في عملية التحوُّل الديمقراطي؟ إجابتي هي الإيجاب، رغم أنّ السؤال لا يبدو باحثًا عن إجابةٍ؛ لأنه يبدو أقرب إلى الصيغة الخطابية منه إلى الصيغة الاستفهامية.

يمكنني الزعم بأنّ الاتجاه السائد في دراسات مسألة الانتقال إلى الديمقراطية لا يَعدُّ الثقافة عاملًا حاسمًا أو أساسيًّا في الانتقال المذكور. وفي دراسةٍ مهمةٍ، انتقدت الباحثة إيڤا بيلين خمسة تفسيرات رائجة لفشل التحوّل الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وللاستثنائية المزعومة لهذه المنطقة، في هذا الخصوص: ضعف المجتمع المدني وبالتالي عدم فعالية مناصرته للديمقراطية؛ والسيطرة الكبيرة للدولة على الاقتصاد؛ وفقر (معظم) الناس، وانتشار الأمية أو عدم الحصول على التعليم، ووجود قدر كبيرٍ من التفاوت أو عدم المساواة بين الناس؛ البُعْدُ الجغرافي لدول المنطقة عن مراكز التحول الديمقراطي؛ والثقافة عمومًا، والإسلام خصوصًا. ورأت بيلين أنّ أيًّا من هذه التفسيرات، أو كلّها مجتمعةً، لا تستطيع أن تكون مقنعةً أو متينة الأسس المعرفية. ما يهم هنا هو تشديدها على أنّ العامل الحاسم ذا القدرة التفسيرية الأكبر يكمن، خصوصًا أو تحديدًا، في مقدار قوّة مؤسسات الدولة والنظام القائم ومقاومتها لأيّ عملية تغييرٍ أو إصلاحٍ أو انتقالٍ ديمقراطيٍّ، واستعدادها لقمع القوى الشعبية الساعية إلى ذلك التغيير وقدرتها على ممارسة ذلك القمعEva Bellin, «The Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Exceptionalism in “Comparative Perspective,” Comparative Politics, vol. 36, no. 2 (January 2004), pp. 139-141.. 

الاختلاف الأساسي بين الباحثين في دراسات الانتقال الديمقراطي، في خصوص مسألة الثقافة السياسية، لا يكمن، بالدرجة الأولى، في مدى أهمية أو ضرورة توّفر الثقافة السياسية «المناسبة» لدى عموم أفراد الشعب أو لدى المعارضين للنظام السلطوي والثائرين عليه، على الأقل، وإنّما في مدى ضرورة توّفر تلك الثقافة لدى النخبة السياسية تحديدًا. وفي حين أنّ (بعض) أهم باحثي الانتقال إلى الديمقراطية، كآدم شيفورسكيAdam Przeworski, «Democracy as a Contingent Outcome of Conflicts» in: Jon Elster and Rune Slagstad (eds.), Constitutionalism and Democracy (Cambridge: Cambridge University Press,1988), pp. 59-80.ودانكوارت روستوRobert A. Dahl, A Preface to Democratic Theory (Chicago: University of Chicago Press, (2006), p. 151.، لا يعتقدون بوجود مثل هذه الضرورة، يشدِّد عزمي بشارة، في كتابه المهم الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، من جهةٍ أولى، على ضرورة تحلّي النخب الفاعلة بحدٍّ أدنى، على الأقل، من الثقافة السياسية الديمقراطية، ومن جهةٍ ثانيةٍ، على عدم ضرورة تحلّي الجمهور الواسع بتلك الثقافة لتحقيق الانتقال إلى الديمقراطية، من دون نفي أفضلية تحلّي ذلك الجمهور بتلك الثقافة، ومن جهةٍ ثالثةٍ، على عدم إمكانية اكتساب ذلك الجمهور الثقافة السياسية الديمقراطية في ظلّ حكم سلطويٍّ أو استبداديٍّعزمي بشارة، «الانتقال الديمقراطي وتطبيقاته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة»، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2020)، ص556.. وفي خصوص النقطة الأخيرة يمكن الإشارة إلى المغالطة الدائرية التي تحدث عنها بارينجتون مور، في كتابه الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطيةبارينجتون مور، «الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث»، ترجمة أحمد محمود، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008).، والتي تمثِّل إحدى أهم أسس نقد الرؤية الثقافوية في هذا الخصوص. وتتمثل هذه المغالطة في القول إنّ الثقافة (السياسية) السائدة تنتج النظام السياسي الذي يُنتج بدوره الثقافة (السياسية) التي تنتجه أو تسمح باستمرار إنتاجه.

ثمّة تصوّر رومانسيٌّ عن الديمقراطية والنضال من أجلها وسيرورة الانتقال إليها. ومرةً أخرى، أرى ضرورة الإزالة الجزئية لتلك السمة الرومانسية أو لذلك السحر المرتبط، في أذهان كثيرين، بتلك المواضيع. وثمة من يرى أنّ قيام الديمقراطية يتعلّق بالنضال الحقوقي بالدرجة الأولى، أي بنضال أشخاصٍ مؤمنين بمبادئ الديمقراطية وقيمها وأخلاقياتها وساعين، على هذا الأساس، تحديدًا أو خصوصًا، إلى قيام نظامٍ ديمقراطيٍّ. والسحر الملازم لهذه الرؤية ذو صلة وثيقة بالسحر المرتبط بالسلمية والنضال السلمي ضد النظام السلطوي. وفي بداية انتفاضات الربيع العربي، عزَّزت ثورة يناير في مصر 2011 حضور هذه الرؤية الرومانسية والسمة السحرية، بقدر ما جسّدتهما في أيام اعتصام ميدان التحرير خصوصًا. خلافًا لتلك الرؤية، أرى أنّ سيرورات الانتقال إلى الديمقراطية جاءت عمومًا نتيجةً لنضالات مصلحيةٍ، أي نضالات أطرافٍ ترى أنّ مصلحتها تقتضي النضال من أجل الديمقراطية، أو السعي إلى تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية. ويمكن تخيّل عدّة سيناريوهات لهذا الانتقال، من بينها تقديم الأطراف المتصارعة تنازلاتٍ متبادلة، بحيث تقرّ ببعض حقوق الآخرين، مقابل إقرار الآخرين ببعض حقوقها، ويتم الاتفاق على آليةٍ ديمقراطيةٍ سلميةٍ لحل النزاعات فيما بينها. والوصول إلى المرحلة الأولى من مثل هذه، والتنازلات المتبادلة والتسويات، لا يقتضي أكثر من توازنٍ ما للقوى بين الأطراف المختلفة، ووجود مصلحة لتلك الأطراف بالوصول إلى تلك التسويات، وامتلاك النخبة الفاعلة وعيًا بتلك المصلحة والتصرّف على أساسه. لكن المضي في عملية الانتقال إلى الديمقراطية وترسيخها يقتضي تبني رؤى ومصالح أكثر شمولية؛ أي رؤية للمصلحة العامة أو الصالح العام الذي يشمل جميع الكيان السياسي وجميع الأطراف المنتمية إليه. كما يقتضي ذلك نشر الثقافة الديمقراطية وتبنيها من أكبر عددٍ ممكنٍ من أفراد الجمهور العام.

انطلاقًا مما سبق، أتفق مع شيفورسكي وروستو في أنّ عملية الانتقال إلى الديمقراطية لا تقتضي بالضرورة، في مراحلها الأولى على الأقل، وجود ثقافةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ لدى الناس، بمن فيهم الأشخاص المنتمين إلى النخبة السياسية الفاعلة. في المقابل، أتفق مع بشارة في أنّ ذلك الانتقال لن يستطيع المضي بعيدًا أو الصمود لفترةٍ طويلةٍ إن لم يتأسّس، في مرحلةٍ ما، على ميثاقٍ ديمقراطيٍّ ما تتفق أو تجمع عليه النخب الفاعلة الممثلة لجميع الأطراف السياسية المهمة التي تعدّه معبّرًا عن مصالحها وتطلّعاتها في حدودها الدنيا على الأقل.

وتُبيّن معظم حالات الانتقال إلى الديمقراطي مدى ثانوية عامل الثقافة السياسية التي يمتلكها عموم الناس مقارنةً بمواقف النخبة عمومًا وموقف النخبة العسكرية والأمنية الحاكمة ومدى استعداد تلك النخب للتوافق، مع غياب الاختلاف على وحدة الكيان السياسي المعني. وتبيّن الدراسات والاستبيانات أو استطلاعات الرأي المتاحة عدم وجود فوارق كبيرة في الثقافة السياسية السائدة، خلال العقدين الأخيرين، في كلٍّ من سوريا ومصر وتونس. وعلى الرغم من ذلك، لم يحصل أي انتقالٍ ديمقراطيٍّ في سوريا، وحصل انتقالٌ سريعٌ أو قصيرٌ في مصر قبل أن تشن النخبة العسكرية والأمنية بالتعاون مع بعض النخب السياسية والدينية والثقافية هجمةً مرتدّةً قصمت ظهر الديمقراطية الوليدة. وإلى وقتٍ قريبٍ نسبيًّا، كانت تونس تمثِّل ما يراه كثيرون التجربة (الاستثنائية) الأفضل أو الأقل سوءًا بين تجارب الربيع العربي عمومًا؛ فقد استمرت فيها عملية التحوّل إلى الديمقراطية لعقدٍ من الزمن تقريبًا، لكن تناحر النخب السياسية وتدهور الأوضاع الاقتصادية واللجوء إلى الشعبوية الإقصائية أوقف عملية التحوّل التي تشهد حاليًا حالةً من التدهور ليس واضحًا آفاقها المستقبلية. في كلّ هذه الحالات، لا يبدو أنّ الثقافة السياسية عرقلت عملية الانتقال إلى الديمقراطية أو كانت العامل الحاسم في حصولها أو في حصول انتكاس لها.

من الواضح إشكالية الاستناد إلى انتفاضات أو ثورات الربيع العربي، في هذا الخصوص؛ لأنّ نتائج الأحداث التاريخية المؤسِّسة لها أو المرتبطة بها لمّا تتبلّور أو تنتهي كليًّا بعد. وعلى هذا الأساس، قد يكون من المناسب أكثر الإشارة إلى تجارب أخرى يحيل عليها باحثو دراسات الانتقال إلى الديمقراطية للإشارة، إلى أنّ ذلك الانتقال يحصل غالبًا نتيجةً لقرارات براغماتيةٍ أو مرتبطة بالمصلحة العملية من النخب، على الرغم من عدم (وضوح) تبني معظم أفراد الجمهور العام للقيم الديمقراطية. ومن أهم الأمثلة النموذجية في هذا الخصوص، حالات الانتقال إلى الديمقراطية في أميركا اللاتينية من ناحيةٍ، وفي اليابان وألمانيا وإيطاليا، بعد الحرب العالمية الثانية، من ناحيةٍ أخرى. قد تكون حالات اليابان وألمانيا وإيطاليا أقلّ إقناعًا، لكونها حصلت في ظلّ احتلالٍ أجنبيٍّ، ولأنّ الفترة السلطوية كانت مسبوقةً بفترةٍ ديمقراطيةٍ أيضًا. ومع ذلك، ولأنّه ليس هناك خلافٌ (كبيرٌ) على أنّ الثقافة السياسية التي كانت سائدةً لدى عموم أفراد الشعب، في البلدان المذكورة، لم تكن ذات توّجهٍ ديمقراطيٍّ عمومًا، يمكن ويتم الاستناد إلى هذه الحالات لإظهار إمكانية حصول انتقالٍ إلى الديمقراطية من دون شيوع الثقافة المدنية الديمقراطية بين المواطنين. ويبقى مثال حالات انتقال بلدان أميركا اللاتينية إلى الديمقراطية خلال ما سمّي بالموجة الثالثة من موجات الانتقال الديمقراطي (1974-1992/ 1995)، ففي بداية هذه الموجة كان معظم سكان أميركا اللاتينية يعيشون في ظلّ حكم أنظمةٍ عسكريةٍ سلطويةٍ، ومع انتهاء تلك الموجة لم يكن هناك حكم عسكريٌّ واحدٌ في تلك البلدان، وكان نظام الحكم في معظمها ديمقراطيًّا أو في طريق التحوّل الديمقراطي. والجدير بالذكر، في السياق الحالي، أنّ الأغلبية الساحقة من حالات التحوّل الديمقراطي التي حصلت في الموجة الثالثة (عددها الإجمالي 25 حالةً) حصلت، كما يشير صموئيل هنتنغتون في كتابه الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرينصموئيل هنتنغتون، «الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين»، ترجمة عبد الوهاب علوب، (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993)، ص380.، نتيجةً لقبول أو رضوخ النخب الحاكمة واتفاقها مع النخب المعارضة على حلّ الخلافات بالمفاوضات والانتخابات والتسويات بعيدًا عن العنف.

لو أنّ النخبة الحاكمة في سوريا تصرّفت بالطريقة التي تصرّفت بها معظم قيادات دول أميركا اللاتينية التي حصلت فيها الموجة الثالثة من التحوّل الديمقراطي، ولو حصل توافقٌ بينها وبين النخب السياسية المعارضة، لما كانت الثقافة السياسية في سوريا لتشكّل عائقًا يحول دون حصول ذلك الانتقال الديمقراطي المنشود. وينبغي للثقافويين مقاومة إغراء تفسير ممانعة النخبة السياسية في سوريا (أو غيرها من الدول العربية) ومقاومتها لمطالب الإصلاح والتغيير والانتقال إلى الديمقراطية بعامل الثقافة السياسية. فهذه العوامل بنيويةٌ من ناحيةٍ، وتتعلّق ببنية المؤسسات الحاكمة وتاريخيتها عمومًا من جهةٍ، وبعوامل طارئةٍ غير ضروريةٍ ترتبط بالأفراد والأوضاع المحيطة العامة والطارئة إلخ، من جهةٍ أخرى. ولعلّ المقارنة بين المؤسّسات العسكرية في كلٍّ من سوريا ومصر وتونس وليبيا تبيّن أهمية العوامل المؤسساتية البنيوية والتاريخية، والفردية والعرضية أو الطارئة، في الوقت نفسه.

لم يحصل انتقالٌ ديمقراطيٌّ في سوريا، ليس بسبب الثقافة السياسية للشعب، ولا بسببِ خنوعه وعدم استعداده للمخاطرة وتقديم التضحيات، أو تقبّله للاستبداد، أو حتى قبوله له، وإنّما، بالدرجة الأولى، بسبب تعنّت النظام وممانعته ومقاومته الشديدة لأيّ توجهٍ ديمقراطيٍّ. وكان يمكن لهذا النظام أن يجد شركاءً له من المعارضة، لو أنّه فكر في تبني ذلك التوجّه. لكنه لم يفعل، ولم يكن في نيّته أن يفعل مهما حصل، وربّما يمكن المحاججة بأنّه، لأسبابٍ بنيويةٍ وتاريخيةٍ وفرديةٍ، لم يكن قادرًا على فعل ذلك. ولعله من المفيد التذكير أنّ تطلعات أو «أحلام» عددٍ أظنه كبيرًا من السوريين، وأنا من بينهم، كانت في الأسابيع الأولى من الثورة السورية تقتصر على حلم الوصول بالأوضاع السياسية والأمنية في سوريا إلى وضع مصر قبل ثورة يناير: هامشٌ (ضئيلٌ) من الحريات السياسية والصحفية والاحتجاجية والتعبيرية عمومًا. لكن سقف المطالب ارتفع إلى أقصى مدى ممكنٍ لاحقًا، لأسبابٍ كثيرةٍ منها ردّ الفعل الأمني، لا السياسي، العنيف من قبل النظام، وإصراره على عدم تقديم أيّ تنازلات أو التوّصل إلى أيّ تسوياتٍ أو القيام بأيّ إصلاحاتٍ، واكتفائه بدل ذلك بالتهديدات «الأسد أو لا أحد/ أو نخرب البلد»، و/أو بتحويل النقاش إلى المسألة الطائفية والوطنية الزائفة وتخوين كلّ المعارضين أو المحتجين أو المتظاهرين. العوامل السببية الأخرى المتعلّقة بالتدخل الخارجي (السلبي) ومسؤولية النخب المعارضة، وظهور التنظيمات الجهادية والطائفية المتطرفة… إلخ، مهمةٌ، لكنها نتاج موقف النظام، جزئيًّا على الأقل، وهي أقل أهميةً تأثيريةً أو سببيةً منه، في المرحلة الأولى، على الأقل (2011-2013) من مراحل الثورة السورية. التنظيمات الجهادية ليست نتاجًا (طبيعيًّا أو تلقائيًّا) للثقافة السياسية أو الدينية أو المجتمعية عمومًا بقدر ما هي نتاج النظام السياسي والممارسات والأوضاع السياسية والاقتصادية. والحال ذاته يُقال في خصوص التوّجهات الطائفية عمومًا، فهي ليست نتاجًا للطائفة، بل نتاجٌ للسياسة (والاقتصاد)، والطائفة أو الطوائف نتاجٌ لها، بالمعنى السياسي، على الأقل.

لم يكن التحوّل الديمقراطي المنشود يتطلّب إيمان النخبة الحاكمة في النظام السلطوي القائم بالديمقراطية أو امتلاكها لثقافة ديمقراطية مدنية، ولم يكن ممكنًا أو مرجحًا، على الأقل، امتلاك عموم أفراد الشعب لتلك الثقافة بعد خمسة عقودٍ من الحياة في ظلّ الاستبداد. ما كان مطلوبًا وممكنًا، من الناحية النظرية أو المبدئية على الأقل، هو أن يقبل النظام تخفيف قبضته الأمنية وإفساح المجال، تدريجيًّا، لكن فعليًّا، للحرّيات الأساسية، على المستوى السياسي، واتخاذ إجراءات تصحيحية لصالح العدالة الاجتماعية، على الصعيد الاقتصادي، والحدّ من الفساد السياسي الاقتصادي البنيوي في هذا الخصوص. من حيث المبدأ، كان يمكن للنظام ذاته أن يكون قائد عملية إصلاحه، بما يساعد على طيٍّ جزئيٍّ على الأقل لصفحة الماضي، والبدء بالخطوات الأولى، أو ما قبل الأولى، في عملية التحوّل إلى الديمقراطية في الحاضر، وفتح آفاقٍ إيجابيةٍ لنجاح تلك العملية وتوسيعها وتعميقها في المستقبل.

ممانعة النظام ومقاومته لأيّ عملية إصلاحٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ فعليٍّ بيَّن مجدَّدًا، أو أكّد ما هو مؤكَّدٌ مسبقًا، أنّ لا خلاص مع وجود النظام، وأنّ لا خلاص إلا بالخلاص من النظام. وانطلاقًا من هذه القناعة ومن ازدياد عنف النظام وتزايد ضحاياه، ومن (عدم) التدخل الدولي ونوعيته، ومن سوء أداء النخب السياسية للمعارضة عمومًا، وهي نخبٌ تبنت غالبًا توّجهًا شعبويًّا و/أو نخبويًّا، أو جمعت بين التوّجهين في مزيجٍ هجينٍ متنافرٍ. كلُّ ذلك أفضى إلى إغلاق أيّ بابٍ ممكنٍ لأيّ عملية إصلاحٍ أو تغييرٍ إيجابيٍّ في النظام الأمني والسياسي والاقتصادي القائم، وفتح كلّ الأبواب أمام كلّ أنواع التطرف الدينية والطائفية والإثنية والتدخلات الإقليمية والدولية.

6- في عوامل إخفاق الثورة السورية

هناك ثلاثة عوامل أو أطرافًا مختلفة كان دور كلّ منها حاسمًا في إخفاق الثورة السورية في تحقيق الحدِّ الأدنى من تطلّعات المؤيدين لها أو المستبشرين بها، وهي: العامل الأوّل هو موقف النظام وبنيته الأمنية والعصبوية، والتأثير المدمِّر لسياساته خلال العقود الأربعة الأخيرة في المجتمع السوري عمومًا. العامل الثاني، هو العامل الخارجي المتمثّل في دور الدول الأخرى، الإقليمية (تركيا وإيران وإسرائيل خصوصًا) والعربية (الدول الخليجية ومصر ولبنان والأردن والعراق خصوصًا) والدولية (أميركا وروسيا والدول الأوروبية الغربية خصوصًا). العامل الثالث هو سلوك النخب السورية الممثلة للمعارضة الشعبية الثائرة، بتنظيماتها ومؤسّساتها وأحزابها وشخصياتها، ومجلسها وائتلافها.

إذا وضعنا العاملين الأول والثالث جانبًا، يمكن القول إنّ العامل الخارجي كان له دور سلبيٌّ كبيرٌ، وحاسمٌ، في مآلات الثورة. ولتوضيح ماهية هذا الدور، ينبغي التركيز على ثلاث نقاطٍ رئيسةٍ على الأقل.

أولًا، وقبل الحديث عن سلبية الدور الخارجي، ينبغي التشديد على أنّه من دون هذا الدور ومن دون بعض إيجابياته، ما كان للثورة السورية أن تستمر، أكثر من بضعة أشهر أو سنة أو سنتين على الأكثر؛ ولاستفردَ النظام بالسوريين الثائرين عليه ولقمعهم بكلّ عنفٍ ضروريٍّ أو ممكنٍ، ولكرّر، على الأرجح، ما فعله في مجزرة حماه عام 1982، أكثر من مرّة، إن وجد ذلك ممكنًا وضروريًّا أو مناسبًا. الدور الخارجي سمح للسوريين من الثائرين أو الناس العاديين بالنزوح والهرب من بطش النظام، كما سمح لهم بتلقي الدعم الاقتصادي والسياسي والإعلامي، ولاحقًا الدعم ببعض الأسلحة.

ثانيًا، الدور الخارجي السلبي أتى من قبل حلفاء النظام أو داعميه، حيث كان يمكن للنظام أن يسقط، في أكثر من سياقٍ، لولا الدعم القوي الذي تلقاه من إيران وميليشياتها ومن روسيا وطائراتها. والدعم الخارجي للنظام أسهم في مقاومته وممانعته لأيّ تغيير، أو تقديم أيّ تنازلات، أو الدخول في أيّ مفوضاتٍ سياسية، كما أسهم في تحصين النظام من المساءلة السياسية في مجلس الأمن، ومن المساءلة القانونية في المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى أنّ الدعم الإيراني، بميليشياته وإيديولوجيته أسهم في عملية تطييف الصراع.

ثالثًا، سلبية الدور الخارجي جاءت أيضًا من قبل الدول التي كان يفترض أنّها «أصدقاء المعارضة وداعميها»، وربّما أكثر. فقد أسهمت هذه القوى في فوضى السلاح وتفتّت القوى المسلحة وتشرذمها وتطييفها ونشوب صراعاتٍ عنيفةٍ فيما بينها. ومع تعاظم الدور الخارجي أصبحت القوى السياسية والعسكرية المعارضة ممثلة للقوى الخارجية لدى السوريين أكثر من كونها ممثلة لهؤلاء السوريين لدى القوى الخارجية.

بالتأكيد، لمكانةِ إسرائيل لدى الدول الغربية دور في مواقف تلك الدول، لكنّني لا أعتقد أنّه كان هناك بالفعل توّجهٌ مناهضٌ للديمقراطية في العالم العربي في بداية فترة الربيع العربي. وربّما تتذكر خطابات أوباما والإدارة الأمريكية حينها. وينبغي أن نتذكر أنّ الانسحاب الجزئي، لكن المهم، لأميركا من منطقة الشرق الأوسط، والتحوّل الاستراتيجي المهم في أولويات أمريكا من منطقة الشرق الأوسط (وحتى أوروبا الغربية) نحو منطقة المحيط الهادي والصين وما حولها، قد جعلها أقلّ اكتراثًا بالتخطيط التفصيلي لمستقبل بلد مثل سوريا أو بالتنفيذ الصارم لمثل هكذا تخطيط، في حال وجوده. وأعتقد أنّ سلبيات الدور الأميركي والغربي عمومًا يتجسّد في ما لم يفعلوه، وفي ما بدا واضحًا أنّهم لن يفعلوه، وفي ما منعوا غيرهم من أن يفعلوه، أكثر من تجسّده في ما فعلوه فعلًا. أمّا الدول الإقليمية، فقد كان دورها السلبي حاضرًا في ما فعلته أكثر من حضورها في ما لم تفعله. وقد تعاظمت سلبية دور الدول الإقليمية لأسبابٍ متعدّدةٍ، منها عدم وجود جهة دولية أو سورية محلية تقوم بالتنسيق فيما بينها، حيث تجعلها متكاملة لا متناحرة، كما كان حالها غالبًا، أو في سياقاتٍ حاسمةٍ. ولم يكن هناك كيان سياسي سوري معارض مؤهل للتفاعل الإيجابي مع الدعم الخارجي، والإسهام في زيادة إيجابياته والتقليل من سلبياته، بل إنّ الكيانات السورية المعارضة التي كانت موجودة، أسهمت في (زيادة) سلبية الدور الخارجي للدول الإقليمية، كما أسهمت تلك الدول في (زيادة) سلبية دور الكيانات المذكورة.

بعيدًا عن الدخول في التفاصيل، مع الإقرارِ بأهميتها الكبيرة وربّما الحاسمة، في خصوص الدور السلبي لهذه الدولة أو تلك، يمكن القول إنّه ما كان بإمكان الدور الخارجي أن يكون بهذه (الدرجة من) السلبية، لولا السلبية الكبيرة للدور الداخلي لنخبة النظام والمعارضة على حدٍّ سواء، والعكس صحيح أيضًا. فقد كان بإمكان الدور السلبي للنخبة السورية الحاكمة والمعارضة أن يكون أقل سلبيةً، لو كان الدور الخارجي السلبي أقلّ سلبيةً مما كان عليه. لكن النقطة الأساسية أو الأولية المنطقية لهذا الجدل تبدأ عند نخبة النظام، خصوصًا أو تحديدًا.