منذ تكثيف السلطات اللبنانية لعمليات ترحيل اللاجئين السوريين قسراً من لبنان إلى سوريا، تمكّنت روسيا من تغذية نظام تجنيدها في سوريا باللاجئين المُرحّلين والمطلوبين للخدمة العسكرية أو الاحتياطية، وهو ما تؤكده شهادات عديدة ستُعرض بعضها هنا. وتفيد المعلومات المتوافرة أن ضباطاً سوريين في جيش النظام ينظمون عمليات التعاقد والتجنيد عن طريق قاعدة حميميم العسكرية الروسية جنوب شرق مدينة اللاذقية، لينتهي الحال بكثير من المُجنَّدين على جبهات القتال في أوكرانيا.
ترحيل ثم تجنيد ثم أرقام هواتف روسية
كان الجيش اللبناني قد بدأ بتنفيذ حملات مداهمة وترحيل بحقّ اللاجئين السوريين في لبنان منذ مطلع نيسان (أبريل) 2023، وفي إحدى المداهمات على مخيمات اللاجئين السوريين في بلدة عرسال اللبنانية، في يوم 23 أيار (مايو)، تم اعتقال خالد (27 عاماً). ورغم محاولات عائلته لتجنب ترحيله إلى سوريا كونه مطلوباً للخدمة العسكرية، إلا أن ترحيله تمّ فعلاً في آب (أغسطس) 2023، ليُسلّم لجيش النظام السوري ويُفرز إلى الفرقة الثالثة-مدرعات، المتمركزة بالقرب من مدينة القطيفة في ريف دمشق.
بقيت العائلة في لبنان، وفي أول اتصال أجراه مع والده وصفَ خالد الجحيم الذي يعيشه في سوريا، وكيف أن ظروفه الاقتصادية صعبة جداً وأنه غير قادر على الاستمرار، ليخبره في اتصالات لاحقة عن عروض يتلقاها للتجنيد في روسيا عن طريق الفرقة 25 مهام خاصة. يشملُ العرض الحصولَ على الجنسية الروسية وعلى بدل مالي يصل إلى 2500 دولار في الشهر وعتاد كامل. وعلى الرغم من هذه المغريات إلا أن خالد أخبرَ والده أنه يريد الذهاب إلى روسيا ليس من أجل هذه «المكاسب»، بل لعلّه يتمكن من اللجوء إلى أوروبا من هناك.
بعد ما يقارب الشهرين من ترحيل خالد إلى سوريا، في الأسبوع الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، تفاجأت عائلته باتصال من رقم روسي، وإذ به ابنهم وهو يخبرهم أنه في لوغانسك، أي في المناطق التي تحتلها روسيا من أوكرانيا، مُتحفّظاً للغاية في كمية المعلومات التي يشاركها مع عائلته.
يقول أبو خالد: «لقد كنت رافضاً لفكرة التجنيد مع الجانب الروسي، وقد تفاجأت بالمدة قصيرة جداً التي استغرقها خالد للوصول إلى روسيا»، خدم خالد ضمن الفرقة الثالثة في جيش النظام السوري نحو شهرين فقط، ليتم تجنيده سريعاً في الجيش الروسي.
لا تملك عائلة خالد أي حرية بالتواصل معه، هو فقط من يتصل. قد يغيب أحياناً، وأثناء الاتصالات دائماً ما يكون حذراً في كلماته، يحاول اختصار الحديث لشعوره المستمر بالمراقبة، موضحاً لهم أن كل ما يقوم به هو تدريبات فقط، مؤكداً خيبة أمله كون المبلغ الذي حصل عليه هو 700 دولار. وقد أكَّدَ خالد لعائلته أن فرقته العسكرية هي للشباب السوريين فقط، وأنه يُمنَع عليهم الاختلاط بالجنود الروس، وأنه متفاجئٌ من عدد الشباب السوريين هناك، مؤكداً بكلمات مقتضبة عن بحثه المستمر عن وسيلة للوصول إلى أوروبا.
رغم معاناة أبو خالد مع الشلل الكامل، وضرورة وجود أبنائه حوله، إلا أنه قام بتهريب ابنة الثاني إلى الشمال السوري، ليبقى هو وابنته الصغيرة في خيمته، منتظراً اتصالاً جديداً من أبنائه، خائفاً دائماً من المداهمات والترحيل.
ليس هناك أرقام دقيقة لأعداد اللاجئين السوريين المُرحَّلين نتيجة حملات الترحيل المكثفة التي قامت بها السلطات اللبنانية منذ ربيع العام الماضي إلا أن التقديرات تُشير إلى شمولها للآلاف، من بينهم وائل (35 عاماً)، والذي تم اعتقاله في 24 نيسان 2023 أثناء مداهمة مكان عمله في منطقة بعلبك، ليتم ترحيله إلى سوريا بعد شهرين من اعتقاله. كان الاتصال الأول بين وائل وعائلته في بداية حزيران (يونيو)، أبلغهم فيه أنه متواجد في اللواء 18 شمال دمشق في مدينة يبرود، وأنه سوف يخضع لدورة تدريبية لمدة 3 أشهر.
مع انتهاء الدورة التدريبية أخبرَ وائل عائلته عن استعداده للسفر إلى روسيا، بعد إبلاغه هو وجميع زملائه في الدورة التدريبية بالتجنيد للقتال مع روسيا. يقول أبو وائل: «والدته انهارت عند سماعها للخبر. كنا جميعاً في حالة صدمة، كل ما قاله في الاتصال أنه تم تجنيده هو وجميع من كانوا ضمن الدورة التدريبية، البالغ عددهم 150 شخصاً تقريباً. لم يتحدث عن عقود وإغراءات مادية، ولكن كل ما قاله أن المجندين معه هم شبان سوريين مُرحّلون من لبنان وآخرون رافضون للخدمة الاحتياطية تم اعتقالهم على الحواجز أو أثناء مداهمات أمنية على منازلهم في سوريا».
تجد العائلات السورية المتواجدة في لبنان صعوبة في التواصل مع أبنائها المجندين في روسيا، فليسوا هم من يتخذون قرار الاتصال، بل يُفرَض عليهم الانتظار لفترات قد تمتد لأشهر بانتظار اتصالات مع ذويهم. أول اتصال أجراه وائل مع عائلته كان بعد شهرين من وصوله إلى روسيا، ومنذ اتصاله الأول استخدم هو ووالده كلمات مُبهمة للتواصل بسبب إحساسهم الدائم أنهم تحت المراقبة.
يقول أبو وائل: «يغيب وائل لأشهر أحياناً، وفي كل مرة يتصل من رقم روسي جديد، في حين لا نعرف أين هو في روسيا وكأنَّ هناك تحذيرات بعدم الكلام، لذلك أحاول أحياناً استخدام كلمات كرموز، كأن أخبره أن يترك ’الجامعة‘ ويعود».
تخوض ريما زوجة وائل اليوم رحلة صعبة أيضاً لإنقاذ زوجها من التجنيد، إما من خلال محاولة تأمين المال له للوصول إلى أوروبا، أو البحث عن واسطة في سوريا قد تُعيده من روسيا؛ تقول ريما للجمهورية.نت: «نوه لي زوجي على ضرورة تأمين واسطة له للعودة من روسيا، وفي حال عدم توفر الواسطة أن أبدأ بالاستدانة وجمع مبلغ 4 آلاف دولار للوصول إلى أوروبا، خاصة أنه لا يشعر بالأمان هناك، وما يتقاضاه من بدل لا يتجاوز 200 دولار».
ما يزيد من مخاوف وائل وعائلته هو عدم توقيع وائل على أي عقود أثناء تجنيده في روسيا، ما جعل تفاصيل تواجده هناك غير معروفة، لتبدأ ريما بالتواصل منذ أيار (مايو) 2024 مع ضابط في الفرقة الرابعة حصلت على رقمه عن طريق إحدى صديقاتها بعد أن عرضت عليها مشكلة زوجها، لتخوض عائلة ريما اتصالاتها مع الضابط الذي طلب مبلغ ألف دولار لإعادته من روسيا إلى سوريا، ذلك بينما تعمل ريما من المنزل في صناعة قبّعات الصوف، فمنذ ترحيل زوجها من لبنان وهي تحاول إعالة أطفالها الثلاثة الذين باتوا بلا معيل.
سماسرة التجنيد للعالقين
لا تشمل عمليات تنظيم عقود التجنيد إلى روسيا اللاجئين المُرحَّلين فقط، بل تمتدُّ سمسرة ضباط جيش النظام السوري إلى اللاجئين المُهدَّدين بالترحيل من لبنان أيضاً. في تسجيل لاتصال مع أحد عناصر المخابرات الجوية في سوريا، أجراه أحد شهودنا في هذا المقال واستمعنا إليه، يشرح العنصر آلية التجنيد والأعداد المطلوبة من كل ضابط، كما يشرح المغريات التي يستخدمونها لتجنيد المُرحَّلين ليبدو من التسجيل أنه أحد المسؤولين عن تنظيم عمليات التجنيد ضمن فرقته، ويُظهِرُ الاتصالُ قدرته على تنظيم عمليات التجنيد عبر إبرام عقد فور وصول المُرحَّلين إلى سوريا، وذلك عبر التواصل المباشر معه، مُقدِّماً العرض الأنسب الذي يضمن «التجنيد الأقل خطورة بالإضافة للقطعة العسكرية المُخدَّمة بالشكل الأفضل».
امتدَّ التسجيل لخمس دقائق، أكد الضابط خلالها إرساله مئات المجندين قبل الآن، مؤكداً أنه مُلزَم الآن بتجنيد مئة مقاتل لإرسالهم إلى روسيا، في حين أن كل ما يملكه حتى الآن هو ستون عقداً للتجنيد فقط، وأنه مستعد دائماً لتقديم ضمانات للاجئين السوريين المهددين بالترحيل إلى سوريا وتقديم عروض مناسبة لهم. تمتد العقود لعام حسب زعم العنصر، مع الحرية الكاملة بالعودة إلى سوريا أو الاستمرار، ومن ضمن سياق المغريات التي حاولَ تقديمها في الاتصال: «الخدمة هناك (سوبر ديلوكس)، لباس عسكري كامل، والمهمات فقط حراسة منشآت نفطية، لمدة ثلاث ساعات فقط في اليوم، الكهرباء هناك 24 ساعات كما يوجد مدافئ وسخانات المياه، والأكل كثير جداً».
يُنهي الضابط اتصاله بعد تأكيده أنه قائد مجموعة هناك، وأنه مستعد لضم كل من يريد التجنُّد في روسيا إلى قطعته العسكرية، وأن عملية إبرام العقود تتم بقرارات من القيادة العليا في الجيش، وأنه كلما ازدادت أعداد الذين يستطيع تجنيدهم كلما كان في وضع أفضل، مُنوِّهاً في الختام أنه بانتظار توقيع القرار الجديد من قبل القيادة لبدء عمليات إنهاء العقود ونقل المجندين إلى روسيا.
الفرقة 25-مهام خاصة هي مكّوك التجنيد لروسيا
تعتمد القوات الروسية المتواجدة على الأراضي السورية على الفرقة 25 مهام خاصة في حربها الدائرة ضد أوكرانيا، حيث شاركت الفرقة في عمليات التدريب والتجنيد والقتال. ضمن وثيقة مسرَّبة في الشهر الأول من العام 2023، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان «صرف رواتب لعناصر ينفذون مهاماً خارج القطر من مخصصات الجيش والقوات المسلحة». تستخدم الفرقة 25، المدعومة بشكل مباشر من روسيا، سطوتها السياسية والعسكرية لتجنيد المزيد من المقاتلين وتعميق العلاقات مع القوات الروسية، وتستغل الظروف السياسية والاقتصادية لأغلب المُجنَّدين، من بينهم اللاجئون السوريون المُرحَّلون من لبنان.
مع بداية العام 2024 بدأت الفرقة 25 مجدداً مناورات عسكرية مشتركة مع الجيش الروسي في مناطق مختلفة من سوريا. المناورات العسكرية الأولى لهذا العام كانت قرب مطار كويرس في ريف حلب الشرقي في الشهر الثالث من عام 2024، وشملت الإنزال المظلي والتسديد المدفعي الصاروخي. وفي الشهر السادس من العام نفسه خاضت الفرقة المناورات الأضخم مع الجيش الروسي، وجاء على لسان رئيس المركز الروسي للمصالحة، اللواء يوري بوبوف، أنَّ «المناورات تهدف إلى التدريب على عمليات الدفاع عن وحدة أراضي البلاد (الأراضي السورية) من التهديدات الداخلية والخارجية»، وذلك بحسب وكالة تاس الروسية. لم يُعلن النظام السوري عن أيٍّ من المناورات المشتركة التي أعلن عنها الجيش الروسي، والتي وصل بعضها، بحسب موقع صوت العاصمة، إلى جنوبي البلاد.
توازت المناورات العسكرية المشتركة بين الفرقة 25 مهام خاصة والقوات الروسية مع انتشار تسجيل صوتي نشره موقع الراصد لمقاتل سوري تم تجنيده في روسيا. تحدَّثَ المقاتل على الخديعة التي تعرّض لها في عقود التجنيد، وسط ظروف إنسانية صعبة يعيشها مع زملائه وخسائر فادحة ومأساوية، تحديداً في مقاطعة كورسك مع تقدم الجيش الأوكراني. وجه المقاتل كلامه لأبناء محافظة السويداء، المحافظة التي رفع فيها أهالي المقاتلين العالقين في الحرب الروسية الأوكرانية كتاباً إلى وزارة الدفاع الروسية عبر السفارة الروسية في دمشق، للمطالبة بفسخ عقود أبنائهم بسبب الخداع الذي تعرضوا له نتيجة المهام الموكلة إليهم.
تزداد مخاوف أهالي المقاتلين السوريين المرسلين إلى روسيا بعد الإعلان عن وفاة مقاتل سوري مجنّد مع الجيش الروسي في الحرب مع أوكرانيا. وفيما تتوالى التقارير عن نشاط روسيا في تجنيد وتدريب مقاتلين سوريين تحت غطاء تواجدها العسكري وعلاقتها مع الجيش السوري، نرى الآن أن هذا النشاط يمتد باتجاه لاجئين يتم ترحيلهم من لبنان بفعل موجات متوالية من التحريض السياسي والإعلامي العنصري، ووفق آلياتٍ تتوافق كل الجهات الحقوقية على انتقاد افتقادها لأدنى متطلبات ضمان سلامة ومصير المرحّلين، ما لا يمنع أن تحظى بتفهّم صامت غالباً وصريح أحياناً من أوساط واسعة من الاتحاد الأوروبي، الخصم اللدود لروسيا في حربها على أوكرانيا.