إذا فصلنا بين حبنا للقصص الدينية وتاريخيّتها، بين فحوى الألواح وحقيقة نزولها على موسى، فسيُمكننا التفكير في التوراة ككتاب حكايات شعبية، شعبية بمعنى أن الشعب كله، بأجياله، قد ساهم في كتابتها، وكذلك بمعنى أن الشعب هو محورها، مجموعة أشخاص بوصفهم عِرقًا اسمه «بنو إسرائيل».
أول دعوة قومية ربما؟ أكثرها تبلورًا؟
على العموم، لم يكن لهذا الشعب أن يوجد، قصصيًا، وأن يقنعنا بوجوده، دون أن يعقد الله معه عهدًا، عهدًا نرى بذرته منذ الصفحات الأولى لسفر التكوين، مع النبي إبراهيم، عهدًا يُستثنى منه إسماعيل ويتجلى في الختان، جرحاً بالسكين في أغلى ما يملك الرجل.
بقوة هذا الجرح، بقوة الألم الناتج عن تَخيُّله، سنصدّق العهد: ألم كهذا لا يمكن أن يكون بلا معنى.
إذ حضر يعقوب الموت
تتفق الأديان الثلاثة عمومًا على حقيقة هذا العهد، فقط الإسلام والمسيحية، الطامحان لتجاوز بني إسرائيل إلى الناس كلها، يستدركان أنه لم يعد ساريًا؛ تقول المسيحية إنه جرى نسخه عبر «عهد جديد»، ويقول الإسلام إنه جرى فسخه على يد بني إسرائيل أنفسهم.
ولكن ليست حقيقة العهد هي موضوعنا هنا، وإنما قصته.
لماذا خصَّ الله به بني إسرائيل؟، لماذا حُرم منه إسماعيل؟، لماذا، والحال هذا، خُتنَ إسماعيل؟ تبدأ القصة التوراتية مشوشة قليلًا، بفراغات بلا تفسير، ولكن سرعان ما تأتي نهاية سفر «التكوين» لتعوّضنا بمشهد شديد الجمال والتأسيس معًا؛ يعقوب، إسرائيل، على فراش الموت، وحوله أبناؤه، وكل واحد يخصه الأب بنبوءة مختلفة، يوسف غصن شجرة مثمرة، رؤوبين أنت بِكري وقوتي، يهوذا إياكَ يحمدُ إخوتك، بذرة الشعب كله في غرفة واحدة، إثنا عشر رجلًا حزينًا، الأسباط أنفسهم، بنو إسرائيل في اجتماعهم حول أبيهم إسرائيل.
«أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت»، سيقدم القرآن، في سجاله مع بني إسرائيل، رؤيته للمشهد، «إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي، قالوا نعبد إلهك وإله آبائك، إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب».
هكذا، وبردِّ إسماعيل لقائمة الأسلاف، سيجد القرآن طريقًا آخر لتجاوز العهد القديم.
إني رأيت مذلة شعبي
مع يوسف ابن يعقوب، كما نعرف، تنتقل خلفية القصة إلى مصر؛ نرى الإسرائيليين، بعد أجيال، عبيدًا لدى المصريين، يئنون بحمل الأثقال، ربما سمعوا شيئًا ما عن ماض مجيد لهم، عن إله عاهد أجدادهم بشيء ما في الصحراء، ولكنهم كلما تَلفَّتوا حولهم لم يروا إلا السياط على ظهورهم.
وفي هذه الأثناء يولد موسى، كأبطال الملاحم، بقصة تخطف الأنظار من أولها، محفوفًا بخطر الموت ولا ينجيه منه سوى تدبير إلهي ينقله لقصر عدوه لينشأ هناك، يقتل شخصًا ثم يهرب، وفي رحلة هروبه، يظهر له الرب أخيرًا، ومن اللحظة الأولى يُذكّره بنفسه، أنا إله آبائك، إبراهيم وإسحق ويعقوب، حتى قبلَ النطق باسمه يهوه، يُعرّفه بنفسه كإلهٍ لأسلافه.
إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، يقولها ثم يطالبه بتحرير بني إسرائيل من أسر فرعون.
هنا تزداد قصته إثارة فوق إثارتها، تبدأ في الالتئام مع قصة آبائه، ويعيد المعنى القوميُ شبكَ الخيوط حولها.
لن تستطيع معي صبرًا
لماذا اختار الله موسى ليكون نبيًا؟ حيّرني هذا السؤال كثيرًا.
ألثغ أو قليل الفصاحة، عصبي ومندفع، يقتل أحدهم بالخطأ ويُحطّم ألواح الله بغضب، ثم يُقدّمه لنا القرآن، وفي لقائه بالخضر، كمثال على عدم الصبر.
صحيح أن قوته البدنية تُميّزه، «جبل» كما سمّاه نجيب محفوظ، ولكنها ميزة، كما أفهم، غير ذات صلة كبيرة بالنبوَّة.
إذا افترضنا أن التوراة كتابٌ كَتَبه الشعب ومِحورُهُ الشعب، فهل يمكننا تصنيفه كبطل قومي؟
بطل قومي يقتل مصريًا انتصارًا لبني إسرائيل، بطل تفوّقَ على المصريين، مثله مثل يوسف، فقط بعد أن عرفهم جيدًا وخبر قصورهم من الداخل، بطل استطاع تحرير شعبه من العبودية، بطل تَحرُّر وطني؟
أُرنّم للرب لأنه قد تعظّم
يمكننا أيضًا، وبشكل غير متعارض، افتراض أنها قصة عن الرب وشعبه أكثر من كونها عن شخص موسى؛ كأن الرب رأى أنه، كما استطاع أن ينجيه رضيعًا، فهو من سينجّي به شعبه، كأن الناجي رضيعًا هو من سيقود شعبه للنجاة، من ذاق الظلم هو المُخلّص منه، كأن موسى شخصٌ عَرَضيٌ وأراد الرب، بالفهم التوراتي، تجربة نفسه معه، كأن عناصر القوة في قصة موسى تتأتّي من قصته فعلًا، ما وقَع له، قَدَره الذي قَدّره الله له، أكثر مما تتأتّى من صفاته الشخصية.
منذ طفولتي وقصة موسى عمومًا أكثر قصص الأنبياء إبهارًا لي، يد تشعُّ بالضوء وعصا تتحول لثعبان. والأكثرُ إبهارًا قطعًا، ولعلّكم توافقونني، كان انشقاق البحر؛ انقلاب في الجيولوجيا والجغرافيا، خريطة العالم تتغيّر حرفيًا.
ويضاف إلى الإبهار الأهمية، لو افترضنا أن التوراة كتاب حكايات شعبية، فستكون هذه حكايته الأهم، حكاية شعب يتحرّر.
وقبل كل هذا العناية بالتشويق؛ من قبل «الخروج» نفسه، وعبر ضربات متصاعدة، من الدم والضفادع حتى موت البكور، نتجهّز للمطاردة الكبرى، مطاردة تَصفُها التوراة، على خلاف القرآن، تقنيًا: كيف سار الرب، على هيئة نار وسحاب، أمام بني إسرائيل، كيف نزع بَكَر مركبات فرعون فساقوها بتثاقل، كيف أمر الريح بالهبوب لينشقَّ البحر، كيف شكّلَ البحرُ سورًا على جانبي بني إسرائيل وهم يعبرونه.
«أُرنّم للرب لأنه قد تعظّم، الفرسُ وراكبه رماهما في البحر»، مطلع أغنية سيغنيها الشعب فور النجاة، خاتمة موسيقية للمشهد الملحمي الجبار.
وإذ نجّيناكم
للقومية، كما أفهم، وجهان، واحد تحرري وآخر قمعي، ويستمد الثاني شرعيته من الأول، نتغاضى عن طرد بني إسرائيل لشعوب كنعان، فقط لأننا نتذكر تَحرُّرهم من مصر.
على عكس حركات التَحرُّر الوطني الداعية لطرد الدخلاء، فسيقوم تَحرُّر بني إسرائيل على إدراك أنهم هم الدخلاء، هم من سيسعون بأنفسًهم لطرد أنفسهم؛ النجاة بأكثر معانيها براءة.
النجاة هدية الله لشعبه، وإذ نجّيناكم من آل فرعون، لن يني ذَكّرهم بها، في التوراة كما في القرآن، ثم في احتفال المسلمين بعاشوراء، يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم، يقول يهودي للنبي محمد.
على أجنحة النسور
يمكن لقصة قوية أن تُنشئ شعبًا، هكذا أفهمها.
في الشهر الثالث للنجاة، بعد أن هدأت القلوب وسكنت العواصف، سيُنادي الربُّ موسى من فوق الجبل ليُطْلعه، ويُطلعنا معه، على أول صيغة دقيقة للعهد اياه، ما لي وما لكم وما عليّ وما عليكم:
- أنتم رأيتم ما صنعتُ بالمصريين، وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئتُ بكم إليّ، فالآن، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي، تكونون لي خاصةً من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة.
الآن، بعد النجاة، بعد أن تغيّرت الخريطة وتحققت الملحمة، تنزل الألواح على موسى، الناموس أو الشريعة الموسوية، يندمج الشعب مع ربه في قوانين مُدوَّنة وتظهر اليهودية كدين.
أو هكذا، باختصار، أفهم اليهودية، قصة عن الشعب وربه أو عن الرب وشعبه، وكلي أمل ألا أكون قد شطحتُ بعيدًا.