يعيش 807 طفلاً ويافعاً (حتى سن 18) لديهم متلازمة داون في مناطق شمال غرب سوريا الخارجة عن سيطرة النظام السوري، حيث يواجهون ظروفاً غير مستقرة، وتنقصهم مختلف أشكال الرعاية المتخصصة التي يحتاجونها، ولا تقدّم سلطات الأمر الواقع أو منظمات المجتمع المدني لهم ولذويهم ما يساعد على تحسين حياتهم.
يؤدي الاضطراب الوراثي المعروف باسم «متلازمة داون» إلى انعكاسات سلبية على الحالة الفيزيائية والصحية لجسد الطفل، إضافةً إلى تأخّر التطور والنمو العقلي، مما يتطلّب رعايةً ومتابعةً من متخصّصين، بينما تنحصر مسؤولية رعاية هؤلاء الأطفال في الشمال الغربي، في معظم الحالات، بما يقدمه الأهل.
وتداركاً للآثار الجانبية لتلك الانعكاسات، يدأب ذوو الأطفال على مراقبة نموّ أطفالهم لدى الأطباء واختصاصيّي التغذية، وذلك لمتابعة الخواص الحيوية الضعيفة فيزيائياً، إلى جانب تزويدهم بمتمّمات غذائية ومنشطات ذهنية وأدوية تساعد على إبقاء الحالة الصحية للأطفال في وضع مستقر بدلاً من تدهورها، وذلك كله على نفقتهم الخاصة بحسب ما أفاد به طبيب الأطفال أحمد العلي.
فقدت غالبية العائلات، وخصوصاً المُهجّرة إلى شمال غرب سوريا، مصادرَ دخلها، وتواجه ظروفاً معيشية صعبة للغاية، ما يحدُّ من قدرتها على مواصلة تقديم الرعاية اللازمة للأطفال ممن لديهم متلازمة داون، مما يُعيق اندماجهم في المجتمع وقد يؤدي أحياناً إلى تعرّض بعضهم للإصابة بطيف التوحّد، وبذلك يدخلون مرحلةً أخرى من المعاناة تتمثّل في عزلتهم وربما ميل سلوكهم إلى العدوانية.
بلغ عدد الأطفال الذين لديهم متلازمة داون ممن هم دون سن 18 عاماً 807 طفلاً في عموم مناطق محافظة إدلب وغرب حلب الخارجة عن سيطرة النظام، بموجب الأرقام المتوافرة حتى أواخر العام 2023 الفائت، وذلك وفقاً لحديث أحمد البكور المنسق الإداري لمؤسسة شارك للإغاثة والتنمية الداعمة لمركز أطفال داون في إدلب.
وأوضح البكور أنّ طفلاً واحداً فقط من بين كل 16 طفلاً لديهم متلازمة داون يحصل على الرعاية اللازمة والمجانية في المراكز المتخصّصة، لافتاً إلى أنّ النسبة متدنية جداً قياساً بأعداد الأطفال المحتاجين لهذه الرعاية. وتتمثّل تلك الرعاية بتعليم الأطفال مهارات الحياة الأساسية وسلوكيات اللعب والترفيه والعلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى تقديم الدعم النفسي لهم.
ويضيف البكور: «تُولي المراكز المتخصصة بتقديم الرعاية لأطفال داون في الوقت الراهن أهميةً بالغة لتعليمهم النطق السليم، على اعتبار أنّ معظمهم يعانون من صعوباتٍ في هذا الجانب، وكثيراً ما يجدون صعوبةً في التعبير عن احتياجاتهم بسبب مشاكل النطق».
وعزا البكور تدنّي مستوى الخدمات المُقدّمة لأطفال متلازمة داون «كمّاً ونوعاً» إلى «محدودية الدعم من قبل الجهات المانحة وتعليق جهات طبية لعملها في مناطق شمال غرب سوريا خلال السنوات الماضية»، معتبراً وجود مساحات خاصة وآمنة لهؤلاء الأطفال أمراً ضرورياً للغاية.
ترعى السيدة آمنة (34 عاماً) طفلها الذي لديه متلازمة داون ويبلغ من العمر 10 سنوات، وهي تقيم في مخيمات حارم على الشريط الحدودي مع تركيا. تشكو آمنة خلال حديثها للجمهورية.نت من أنّها لم تعثر في المنطقة التي تقيم فيها على مركزٍ لرعاية أطفال متلازمة داون، مشيرةً إلى أن أقرب مركز لسكنها يقع في مدينة إدلب على بعد 40 كيلومتراً.
«لا أستطيع تأمين تكاليف الذهاب والإياب لشخصين إلى المركز بشكلٍ يومي» تقول آمنة، ولذلك هي ترعى ولدها بمفردها داخل الخيمة، وجلَّ ما تستطيع فعله هو تعليم نفسها كيفية التعامل معه بالشكل الأمثل، من خلال المواظبة على حضور حلقاتٍ تعليمية يقدّمها أطباء ومختصون على منصة يوتيوب، لتقوم بتطبيقها بعد ذلك، خصوصاً في ما يتعلق بتعليمه النطق والسلوكيات الاجتماعية.
تواجه آمنة، وهي المعيلة الوحيدة لطفلَيها اليتيمين بعد وفاة والدهما عام 2020، وضعاً معيشياً «صعباً للغاية» كما تصفه، لكونها لم تجد عملاً يتناسب مع وضع طفلها، وهي تعتمد على المساعدات الإنسانية. تقول: «باتت هذه المساعدات لا تسدّ الرمق، وهذا ما حدّ من قدرتي على شراء وسائل تعليمية وترفيهية لطفلي. قمتُ خلال الأسابيع الماضية بتعليمه الألوان وأسماءها باللغتين العربية والإنكليزية والعدّ الفردي والجمع والطرح من خلال بعض الألعاب متدنية السعر التي اشتريتها مؤخراً، وكذلك من خلال ألعاب أخرى قمت بصناعتها يدوياً من قصاصات الكرتون والألبسة القديمة».
من جهتها، أشارت ظلال العلي، اختصاصية تعليم وتصحيح النطق لدى الأطفال، إلى أنه من بين كل 11 طفلاً لديه متلازمة داون في إدلب يوجد طفل واحد يعاني من صعوباتٍ في النطق ومخارج الحروف. وعزت الأخصائية مشاكل النطق لدى الأطفال عموماً وأطفال داون على وجه الخصوص إلى «بقائهم خلف شاشات الأجهزة الذكية واللعب المنفرد بألعاب الموبايل لساعات طويلة، ما أدى إلى انقطاع تواصلهم مع العائلة والمحيط، وهما المرجع الأول والأهم لتنمية المهارات المكتسبة».
وحذّرت العلي من تنامي الاضطرابات السلوكية الناجمة عن غياب الرقابة الأسرية على محتوى الأجهزة المحمولة الذي يشاهده الأبناء، وخصوصاً مشاهد العنف والدماء في الفترة العمرية بين عامين و6 أعوام، والتي «يصعب أو يستحيل التخلص من آثارها مستقبلاً» بحسب تعبيرها.
ويشير الطبيب سعيد الحموي (اسم مستعار لأحد أطباء الصحة النفسية طلب عدم ذكر اسمه الصريح بسبب عمله في إحدى المنظمات) إلى أن الدراسات العلمية تقول إن «العاطفية المفرطة» هي إحدى التحديات التي تواجه أطفال متلازمة داون، شارحاً: «قد يُظهِر بعضهم استجاباتٍ عاطفية غير متّزنة نتيجة صعوبة تنظيم المشاعر، ومن المهم فَهمُ أن هذه العواطف جزءٌ طبيعيٌّ من تجربتهم، وأنه يمكن دعمهم من خلال تقديم بيئة محايدة وداعمة تساعدهم على تعلّم كيفية التعامل مع مشاعرهم بشكل صحيح».
وأضاف الحموي أنّ «فرط المشاعر لدى طفل لديه متلازمة داون قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية، خاصة في حال وجود أشقاء، وتتنوع تلك الاضطرابات بين فرط المشاعر وفرط النشاط وقلة التركيز وردود الفعل الحادة، وصولاً للإصابة بالاكتئاب وتقلّب المزاج وطيف التوحد».
بدأ أحمد (14 عاماً ولديه متلازمة داون) قبل نحو عام بإظهار سلوكٍ عدواني تجاه أشقائه الخمسة، إذ أصبح يتشاجر معهم بالأيدي ويرفض الاختلاط معهم في اللعب أو مشاهدة التلفاز، فظنّ والده بداية الأمر أنها مجرد ردود أفعال طبيعية تحصل بين الأطفال، وما إن أصبح الأمر يتكرر بشكل يومي حتى راجع أحد المراكز المتخصصة التي يشرف عليها فريق تطوعي في مدينة إدلب، فشخّص العاملون في المركز حالة أحمد على أنه لديه «طيف التوحّد».
وقال أبو أحمد للجمهورية.نت إن المختصين عملوا طيلة الأشهر الثلاثة الماضية على إعادة تأهيل ابنه وإدخاله في أنشطة جماعية مع أطفال يشاطرونه الإصابة بطيف التوحد، لافتاً إلى أن النشاطات الترفيهية التي يخضع لها أحمد «قد أعادت له حب اللعب وخفّفت من حدة ردود أفعاله، إلا أنّه يبقى منعزلاً في غالبية الأوقات التي يقضيها في المنزل»، معتبراً أنهم نجحوا جزئياً وبمساعدة المختصين على «إعادة أحمد لحياته الطبيعية».
يمكن تلخيص ما تواجهه 807 أسرة تضم طفلاً لديه متلازمة داون في نقطتين أساسيتين: الأولى والأكثر أهميةً تكمن في غياب الدعم الاستشاري والتثقيفي حول كيفية التعايش وتربية طفل لديه متلازمة داون كونه يتطلب أسلوب تعاملٍ خاص. ويزيد من حساسية هذه النقطة هو خوف وقلق الأهل الدائم من تعرّض أبنائهم للتنمر من قبل المجتمع، أو استغلالهم وتصويرهم ونشر صور ومقاطع مصورة لهم على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف جلب المشاهدات. أما النقطة الثانية، فهي غياب الدعم المادي، ليس للعائلات وحدها، وإنما للمختصين ومراكز الرعاية التي تفتقر للكثير من وسائل تنمية المهارات والمعدات اللازمة لتطوير المستوى التفاعلي والصحة الجسدية لأطفال متلازمة داون، وذلك بسبب قلة البرامج التي توليهم الأهمية من قبل منظمات المجتمع المدني، وتخلي سلطة الأمر الواقع في شمال غرب سوريا عن مسؤوليتها تجاههم وعدم دعمها لمراكز تقدّم لهم الدعم والرعاية.
لا تقف الأوضاع الصعبة لمن لديهم متلازمة داون عند الأطفال، فحتى البالغون وعائلاتهم يعيشون المشاكل ذاتها، بالإضافة إلى زيادة نسبة تعرّض من لديهم المتلازمة للتنمر مع التقدم في السن، خاصةً عند خروجهم إلى الشارع دون مرافقة ذويهم. كما أسهم سوء الأوضاع المعيشية وغياب فرص العمل في انخفاض دخل الأسر، ما انعكس سلباً على القدرة على تأمين الغذاء المناسب والرعاية الطبية والمستلزمات الأساسية اليومية، وهو ما تسعى منظمات المجتمع المدني لتداركه من خلال اعتبار وجود شخص لديه متلازمة داون من معايير الإدراج ضمن أولويات تقديم المساعدات الإنسانية.