افتتحت صحيفة اللوموند أحد إصدارات الأيام الماضية بمقالة للتنديد بمعاداة السامية، إثرَ قيام مهاجر جزائري بقذف كنيس يهودي بعبوات كوكتيل متفجّر، وبهدف معاودة التنبيه إلى تَضاعُف معدل جرائم معاداة السامية، التي وصلت إلى 887 جريمة في 2024 مقابل 304 لعام 2023. تأتي هذه الافتتاحية لتُعبّر عن حال سائر أطياف الميديا الفرنسية، التي لم تتوقف منذ عملية السابع من تشرين عن دق ناقوس الخطر في مواجهة معاداة السامية. 

جاءت العملية الفلسطينية لتخلِط الكثير من الأوراق. محاولةُ اختزالها كعملية مقاومة لا تستقيم مع بعض تفاصيلها، كمقتلة الريف بارتي، بل وتجعل مُساءلة هذه العملية من زاوية معاداة السامية أمراً مشروعاً، وهو ما فعله الكثير من الغربيين، وبشكل أقرب إلى مكارثية تُريد تحويل معاداة السامية إلى أداة لإقصاء كل صوت يحاول انتقاد الصهيونية ومشروع الإبادة الدائر في غزة. غربيون تحرريون بدَوا أيضاً شديدي الارتباك أمام سؤالِ غزة ووطأةِ الاتهام الذي قد يطالهم بمعاداة السامية، وهو ما يثير كثيراً من القرف بالنسبة للمطلّع على تاريخ القضية الفلسطينية، وكثيراً من الحيرة بالنسبة للمطلّع على نضالاتهم في سبيل كثير من القضايا المشابهة.

كسوري مقيم في الغرب ومهتم بالتفكير في سؤال التحرّر واتّساق القول، في حضرة الغرب أو العالم العربي، أحاول تجاوز مشاعر القرف والحيرة، والتفكيرَ في سؤال معاداة السامية عبر العودة إلى تاريخ هذه المقولة، ومُساءلة مشروعية مركزيتها في الخطاب السياسي الغربي التحرري، وموقعها الواجب في أي فكر تحرُّري.

الخطيئة الأصلية لأوروبا المسيحية؟

كحال جميع الأسئلة المعقدة، يتطلّب سؤال مُعاداة السامية إعادة تجذير السؤال في تاريخه. تاريخُ معاداة السامية طويل، قرن ونصف إن بدأنا مع ولادة المقولة في نهايات القرن التاسع عشر، وأكثر من ألفي عام إن اعتبرناه امتداداً حداثياً لكراهية اليهود، وهو الاعتبار الواجب لكل من يريد مقاربة السؤال بجدّية. 

تبدأ الحكاية مع مجزرة الإسكندريةيستعرض وثائقي تاريخ معاداة السامية من إنتاج قناة أرتي الفرنسية الألمانية الحكومية، المُؤلَّف من أربع حلقات، موضوعه ببيداغوجيا عالية، وهو نواة ما نرتكز عليه في الاستعراض التاريخي الذي نفتتح به هذا المقال.الجدير بالذكر أن الحلقة الرابعة، التي تُقارب معاداة السامية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تبدو شديدة الإشكالية بسبب محاولتها المساواة بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية.، حيث كان المصريون القدماء أول من اضطهد اليهود في بواكير القرن الأول الميلادي، ولكن هذه البداية لا يمكن أن تغطي، بأي حالٍ من الأحوال، على الخُلاصة التي توصَّلَ إليها المؤرخ الفرنسي اليهودي جول إسحاق، فتقليدُ اضطهاد اليهود هو «تقليد مسيحي أوروبي» بامتياز. ولدَ هذا التقليد عبر ارتباطه البنيوي بسيرة المسيح كما ترويها الأناجيل، حيث قام يهوذا بخيانة المسيح ليكون سبباً في آلامه. انتصار المسيحية وهيمنتها على الإمبراطورية الرومانية ساهم في تعميق اضطهاد اليهود، وهو ما يشهد عليه كتاب القديس أوغسطينوس «مدينة الله»، في القرن الثالث الميلادي، الذي وإن رفض تطهير أراضي المسيحيين من اليهود، فإنه لم يبرر ذلك إلا باعتبار أن الإبقاء على حياتهم، كمستحاثّات حيّة، سيضمنُ ألا ينسى المسيحيون أعداءهم.

خصَّ الإسلامُ اليهود، كما المسيحيين، بوضع الذمية، يحصلون على حمايته مقابل جزيةً يدفعونها. لم يحظوا إذن بـ«المواطنة»، بل وشهدوا كثيراً من صنوف الوصم والتمييز، ولكن شرطهم الذمّي منحهم بعضاً من الاسترخاء في مجتمعات كان حقُّ الحياة فيها واحداً من «حقوقهم الطبيعية»، وهو ما سمح لمجتمعاتهم باقتناص لحظات من الازدهار، وفقاً لبعض أهم دارسي الشرط اليهودي في المجتمعات المسلمةوهي خلاصة يقدمها على سبيل المثال المؤرخ الإسرائيلي الأميركي، من أصل ألماني، شيلومو دوف جويتن في كتابه الموسوعي عن أحوال المجتمعات اليهودية في العالم الإسلامي، بناءاً على دراسته لوثائق يهودية اكتُشفت في أواسط القرن التاسع عشر ومعروفة بجنيزا القاهرة.، وهو ما جعل أحدهم «كبير وزراء» غرناطة الأندلسية. 

ولكن الاضطهاد الأكبر الذي واجهه اليهود كان في أوروبا، ففي مطلع الألفية الثانية كان اليهود أول ضحايا الحملات الصليبية، تلك الحروب التي كانت القابلةَ التي كرّست الهوية الأوروبية المسيحيةإن كان المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف يؤكد أن لمقولة أوروبا معاني عديدة، جغرافية وثقافية وسياسية، فإنه يؤكد أن استخدام هذه المقولة للحديث عن شعب أو جماعة يعود إلى لحظة معركة بواتييه، المعروفة بمعركة بلاط الشهداء في القرن الثامن.، بل وهوية يُميزها عداؤها للآخر القريب، اليهودي، والبعيد المسلم. الطاعون الأسود، الذي قضى في منتصف القرن الرابع عشر على أكثر من نصف سكان أوروبا، كان مناسبةً أخرى لاضطهاد اليهود بعد سريان شائعات تتهمهم بتلويث المياه ونشر الوباء، وهو ما تَحوَّلَ إلى مجازر مهولة تسببت في خلو أوروبا الغربية من اليهود تقريباً، وفي نزوح من نجا إلى أوروبا الوسطى والشرقية.

كان لسقوط الأندلس تأثيرٌ مشابه على يهود إسبانيا، فبعد أن قَبِلوا شرط المسيحيين في اعتناق ديانتهم، لينعموا بالمساواة مع مضطهديهم السابقين وتزدهر أحوالهم، قام مغتاظون من تَغيُّر أحوالهم بتأليب العامة على هؤلاء المسيحيين الجدد عبر التأكيد على «نجاسة الدم اليهودي»، ليأخذ عداء اليهودية، بوصفها تقليداً ذا دوافع دينية، أول تحولاته الإثنية، ولتشهد الإنسانية واحدة من أولى الاستخدامات الحديثة لمقولة العرق. وهو الخطاب الذي سرعان ما تَحوَّلَ إلى مُلاحقة حكومية وهَبّات شعبية تسببت بتشرّد يهود إسبانيا، السفارديم، ليتفرّقوا في بعض حواضر العالم الإسلامي وفي بعض الحواضر الأوروبية، وبخاصة في إيطاليا والبرتغال وهولندا.

طيلة العصور الوسطى، لم تتوقف، محاولات وَصمِ اليهود وإذلالهم وتشويه سمعتهم، عبر اختراع خرافات الجرائم الطقسية كشرب دم الأطفال، وإصدار المراسيم التي تجبرهم على ارتداء ملابس معينة أو ممارسة مهن محددة أو السكن في أحياء محددة، وهو ما ساهم في تكريس الصور النمطية وفي ولادة الغيتو وعوالمه.

«القرن اليهودي»؟

انتصار الثورة الفرنسية، عام 1789، جاء ليُعرِّفَ يهودَ فرنسا على طعم «المواطنة» للمرة الأولى في تاريخهم. ورغم قلة عددهم، إلا أن المواطنة التي حازوا عليها لم تكن إلا البداية، فالمخيال الجمهوري الذي انتشر في كافة أنحاء القارة الأوروبية، حيث يسكن الأشكيناز الذين شكلوا وقتها قرابة 80 بالمئة من يهود العالم، قلبَ أحوالهم، ليعرفوا حقبّةً من الازدهار المذهل. 

يذكر المؤرخ الماركسي إيريك هوبزباوم، على سبيل المثال، أن عدد يهود فيينا قد نما من أربعة آلاف في منتصف القرن التاسع عشر إلى 175 ألفاً في عشية الحرب العالمية الأولىالإحالة إلى إيريك هوبزباوم في المقالة ترتبط بكتابه «أزمنة متصدعة» الصادر عن مركز الدوحة، وبخاصة فصل التنوير والإنجاز: تحرير الموهبة اليهودية منذ عام 1800، ص133 وفصل اليهود وألمانيا، ص159.. كما يؤكد على أن النمو الديموغرافي لليهود الأوروبيين قد ترافقَ مع انفجار طاقاتهم الإبداعية، فعددُ اليهود العاملين في مجالات الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وفقاً للموسوعة اليهودية، ممّن ولدوا قبل 1800 لم يتجاوز الـ3، وهو الرقم الذي قفز إلى 30 لمن وُلدوا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وإلى 162 لمن ولدوا في النصف الثاني من القرن. بالمختصر، تحولت التغيُّرات التي عرفها اليهود في هذا القرن إلى أكبر مجازاته، على ما يذهب إليه المؤرخ الروسي يوري سليزكين في كتابه الشهير «القرن اليهودي»، والذي يؤكد أن «العصر الحديث هو عصر اليهود… والحداثة التي تعني التحوَّلَ إلى إنسان، مُتنقّل، مُتعلّم، ومُتحرّر مهنياً… تعني بكلمات أخرى، تَحوُّلنا جميعاً إلى يهود». 

ترافقَ ازدهار أحوال المجتمعات اليهودية في أعقاب الثورة الفرنسيةعرف يهود روسيا في ظل الثورة الروسية مساراً شبيهاً، حيث كانت هجرة يهود أرياف الإمبراطورية الروسية نحو موسكو واحدة من أكبر موجات الهجرة التي عرفها اليهود في تاريخهم وفقاً لكتاب «قرن يهودي»، والتي تضاهي بحجمها موجة هجرة يهود أوروبا إلى الولايات المتحدة. عرف اليهود أيضاً مساراً مأساوياً أيضاً بعد انعطاف الستالينية نحو خطاب قومي مُعادٍ للسامية.، في عموم أوروبا والعالم الجرماني بخاصة، والذي يسميه المفكر الإيطالي إنزو ترافيرسويُعدّ البروفيسور الإيطالي إنزو ترافيرسو واحداً من أبرز دارسي تاريخ الأفكار، وقد خصص عدداً بارزاً من كتبه لدراسة تاريخ اليهود والفاشية والحرب العالمية الثانية والهولوكوست. «نهاية الحداثة اليهودية» هو أحد أبرز مساهماته في دراسة تاريخ يهود أوروبا، وهو أحد المراجع التي نستند عليها في هذه المراجعة. بـ«الحداثة اليهودية»، مع مسار توحيد ألمانيا والحروب البسماركية، ومع تَسارُع وتيرة التصنيع في عموم أوروبا وصعود البؤس العُمّالي والصحافة الجماهيرية وازدياد الطلب على الخطاب القومي. ساهم كل ذلك في تحويل معاداة السامية إلى أداة اليمين، وبعض أطياف اليسار، الأكثر نجاعة في تعزيز حضور الخطاب القومي، فهي ما يزودهم بالعدو الذي يدعون مجتمعاتهم للتطهُّر من رجسه، وهو كبش الفداء الواجب التضحية به في سبيل ذلك. انتماءُ اليهود إلى قوميتين، قومية إثنية وقومية حديثة، وما يعنيه ذلك من عجز بنيوي عن التماهي مع الخطاب القومي الظافر، والتحرُّرُ الذي تمتعوا بنعمه في القرن التاسع عشر، ساهما في دفع الكثير من مثقفيهم للانضمام إلى طليعة الخطاب الأممي الذي ساهمت الاشتراكية والحركات العمالية في ولادته. ورغم أن معاداة السامية قد ولدت، كمصطلح، في مناخات التوحيد الألماني، إلا أنها لم تتحول إلى سؤال مجتمعي حقيقي إلا في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر، مع ولادة صحيفة اليمين المتطرف «الصوت الحر» ومناورات صاحبها إدوارد درومونت، والذي قام بتسريب خبر إدانة ضابط فرنسي يهودي، الضابط دريفوس، بتهمة الخيانة العظمى، والاستثمار في الحدث، واستخدام تقنيات الصحافة الجماهيرية الجديدة كفن الكاريكاتور، من أجل تحويله إلى القضية الأولى للرأي العام الفرنسي. 

كان لقضية دريفوس أصداء متعددة ومتباينة، فرغم اشتعال فرنسا بالقضية وصعود موجة كراهية لا سابق لها، لم يُقتَل أي يهودي، وهو ما أثار إعجاب الكثير من يهود روسيا القيصرية وبعض يهود أوروبا الوسطى والشرقية، الذين كانوا يتعرّضون لاضطهاد حكومي وحملات انتقامية (بوغروم) تحصدُ الكثير من أرواحهم، وهو ما ساهم في دفعهم إلى مغادرة أوطانهم واللجوء إلى فضاءات أوروبا الغربية. مؤسس الصهيونية، تيودور هرتزل، كان الصحفي الذي أرسلته صحيفته النمساوية لتغطية المحاكمة، وهو ما قاده، بالإضافة إلى الزخم الذي عرفه خطاب معاداة السامية في عاصمة بلده فيينا، إلى التفكير في حدود التحرُّر اليهودي في ظل صعود النزعة القومية، وما دفعه إلى تأسيس الصهيونية، كحركة قومية يهودية حديثة، هدفها العمل على بناء وطن قومي لليهود.

ولكن وإن كانت قضية دريفوس واحدة من المنعطفات الكبرى في تاريخها، فإن صعود النازية ووصولها إلى السلطة، والشروع بحملات اضطهاد اليهود واعتقالهم في معسكرات التجميع تمهيداً لحرقهم في غرف الغاز، والذي تسبب بإبادة أكثر من ستة ملايين من يهود أوروبا، وتحطيم مجتمعاتهم وأغلب أسباب تَمسُّكهم بأوطانهم الأوروبية، هو ما يمثل الذروة الكبرى في تاريخ مُعاداة السامية، وما يحولها إلى نقطة علّام كبرى في تاريخ الغرب وحداثته.

اليسار الفرنسي: الحداثة والمحرقة؛ قاعدة واستثناء؟

اليوم، يبدو اليسار الجمهوري، الإنسانوي، شديدَ الارتباك أمام الموقف الواجب اتخاذه في مواجهة سؤال معاداة السامية في لحظة غزة. يجد ذلك الارتباكُ تجسيده في تغطية صحيفة ميديابارت الفرنسية، والتي كانت بعض تقاريرها إحدى أكبر مصادر اتهامات اليسار الجذري بمعاداة السامية، أو من يُعطي لهذه الاتهامات بعضاً من شرعيتها. أطيافٌ أخرى، كالحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يعيش منذ نهاية فرانسوا هولاند في حالة من الموت السريري، تنتهز فرصة غزة لاستعادة بعض حضورها عبر التأكيد على أولوية قضية معاداة السامية في خطابها. وجوه اليسار البيئي، وبعض وجوه فرنسا الأبية المنشقّة، تبدو الأكثر ارتباكاً، وهو ما قد يُفسِّرهُ جهلُ هذا الطيف وتعاليه عمّا يدور خارج عالمه وتاريخه، ليجعلنا أقدر على فهم السقطات المذهلة التي وقعت بها بعض وجوهه. كدعوة ساندرين روسو، إحدى أكثر وجوه الحركة البيئية والنسوية راديكاليةً، إلى استلهام التحالف ضد داعش لمحاربة حماس بعد 7 تشرين، أو قيام مارين توندلييه، سكرتيرة الحركة البيئية، بتوصيف عبارة الله أكبر بالعبارة «الإرهابية الغبية»، وهو ما ينمّ عن جهل مذهل بثقافة المجتمعات المسلمة شديدة الحضور في فرنسا.

تَمركُزُ هذا اليسار حول تاريخه، واقتناعه بالمقاربة التقدّمية الهيغلية لهذا التاريخ، يجعل أمر مراجعته نقدياً مسألة شديدة الصعوبة والإيلام، فهذا التاريخ الذي سمح لليهود بالتحرر وجعل سعادتهم مضرب المثل هو أيضاً من أنتجَ أكبر الجرائم البربرية، من عشرات ملايين القتلى في الحربين العالميتين إلى العبودية والاستعمار وسباق التسلح النووي، وهو من خصَّ اليهود، في نهاية المطاف، بالمحرقة. تبدو بذلك عملية كتابة سردية شاملة وتَقدُّمية لهذا التاريخ مسألة شبه مستحيلة، وهو ما يقوده إلى تبني سردية انتقائية تعتبر صعود هتلر، على سبيل المثال، حدثاً لاتاريخياً استثنائياً، لا يربطه الكثير بالواقع الذي ولد فيه أو بالفضاء المفاهيمي الذي أنتجه. 

بكلمات أخرى، لا يمكن للحداثة بتقدّميتها وأنوارها ونزعتها الإنسانية أن تكون أحد أسباب المحرقة، على حد تعبير أطروحة المؤرخ الألماني أرنست نولكه وبعض زملائه ممن قاربوا صعود النازية بوصفه رد فعل على صعود البلشفية و«جرائمها»اندلع في نهاية الثمانينات في ألمانيا واحد من أكبر السجالات الفكرية، عرف باسم سجال المؤرخين، حيث قام الفيلسوف الألماني البارز يورجن هابرماس بانتقاد مجموعة من المؤرخين الألمان، وأبرزهم هو أرنست نولكه، لمحاولتهم تبييض الماضي الألماني، عبر تحويل المحرقة وباقي جرائم النازية إلى ردة فعل على جرائم البلشفية، وعبر تحويل المحرقة إلى إبادة أخرى، بين مجموعة إبادات أخرى.. النظرية إذن متينة ومتماسكة، والمشكلة في التطبيق، ورغم أن النزعة الإنسانية قد تسببت بـ«موت الله»، على حد تعبير نيتشه، إلا أنها لم تُسقطه من عُلاه إلا لتضع َالإنسان مكانه. صحيحٌ أن الإنسان، الإله الفاوستي، قد امتلك «سر الحياة»، وصار قادراً على تقييم الحيوات الجديرة باسمها من الحيوات المهدورة، إلا أن ذلك مجرد فهم متعسف للنظرية، بل وفهم إجرامي، لا بدَّ من محاربته والتذكير بماضيه عبر البقاء شديدي الصحوة تجاه اليمين المتطرف ومعاداة السامية، بوصفها العلامةَ الأبرز لتمييز هذا اليمين ورسم حدوده، و«ديناً مدنياً»يفرد إنزو ترافيرسو في كتابه عن «نهاية الحداثة اليهودية» فصلاً عن معاداة السامية بوصفها ديناً مدنياً، وعن خطورة هذا الاعتبار وحدوده في ظل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وسيطرة اليمين المتطرف على إسرائيل، وتوظيف معاداة السامية لتحويلها إلى أداة لتهميش واضطهاد كل من يناضل ضد الصهيونية. يجب على المجتمع أن يَدينَ به كي يضمن وحدته الوطنية.  

مشكلة خطاب اليسار الجمهوري الفرنسي أنه لا يزال حتى يومنا هذا مُصرِّاً على «نظريته» دون أي تفكير جدي بتجربتها التاريخية، وبالنقد الذي وضعها موضع السؤال، سواء الذي يعتبر موت الله سبباً في الاستباحة، على حد تعبير دويستوفسكي، أو مدرسة فرانكفورت وجدل التنوير أو بعض ورثتها كزيغمونت باومان وكتابه الشهير الحداثة والهولوكوست. مشكلة هذا الخطاب أيضاً أن دارسي النازية، كيوهان شابوتوبوهان شابوتو، خريج السوربون وأستاذ من أساتذتها، هو واحد من كبار دارسي التاريخ الألماني وبخاصة في فصوله النازية. أبرز كتبه «قانون الدم»، النازي فكراً وفعلاً، أو «السردية الكبرى»، أو «تاريخ ألمانيا»، أو غيرها من الكتب التي لم يحظ قارئ العربية بتراجم لها.، يؤكدون أنها «لم تخترع شيئاً، وأنها استلهمت الأفكار المهيمنة في عصرها»، بل وأنها لازالت تُلهم عصرنا«حرٌ في الطاعة، عن الإدارة من النازية إلى يومنا»، يوهان شابوتو، جاليمار. وأنها الترجمة السياسية لفكر الكثير من صنّاعهكتب هنري فورد، الصناعي الشهير، الذي تحولت سياراته وفورديته إلى واحدة من اللحظات التأسيسية في رأسمالية القرن العشرين، مجموعة من المقالات في عشرينيات القرن الماضي، نشرها في كتاب «اليهودي العالمي، إحدى أكبر مشاكل العالم»، والذي يعجّ كما يشير عنوانه بتنظير معادٍ للسامية، يصف اليهود بالجراثيم الواجب تطهيرها، ويتحدث عن هيمنتهم على أسواق المال وعن ثقافة الانحلال التي يروجون لها في عوالم الثقافة، وهو ما يشكل الكثير من النقاط التي يتوافق فيها مع الإيديولوجية النازية، التي كان أحد حلفائها ومموليها. للمزيد من التفاصيل، راجع مقالة هنري فورد، ملهم هتلر، بالفرنسية على لوموند ديبلوماتيك.، وأن بعض بقاياها لا تزال تحتفظ بالكثير من سطوتها. مما يثير الشفقة تجاه هذا اليسار، أن محاولته تَجنُّبَ الفخ الذي وقعت فيه الحداثة الأوروبية في محرقتها تعيده إلى الفخ نفسه بنسخته الفلسطينية، ليؤكد أن الخلل الرئيسي ليس في التطبيق وإنما في محدودية هذه الحداثة ونزعتها الإنسانية، وفي مركزية التجربة الأوروبية في فضاءاتها.

لا يبدو اليسار الجذري من جهته شديد الاكتراث بالاتهامات بمعاداة السامية التي يتلقاها من أطراف متعددة في الوسط الإعلامي أو السياسي. تنسب أصواته الثورية نفسها إلى الماركسية، وتعتبر نفسها استمراراً لتقاليد المقاومة التي كانت أول من واجه النازية وأكثر من قدم التضحيات قبالتها. كذلك، لم تتوقف هذه الأصوات يوماً عن التنديد باليمين المتطرف الفرنسي ومواجهته، فهو عدوها شبه الأزلي. كما ترتبط بتراث لينيني، شديد الحساسية تجاه حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما جعلها منذ ستينيات القرن الماضي نصيرَ الفلسطينيين ومقاومتهم، وسائر قضايا التحرر الوطني في العالم الثالث.لأغلب أصوات هذا اليسار المتطرف موقف مشرف من الثورة السورية، بل وكان بعضهم من دعاة تسليحها.

حركة «فرنسا الأبية» الأقرب إلى هذه التيارات في قلة اكتراثها بتهم معاداة السامية وفي جذرية دعمها للقضية الفلسطينية، تحاول الاستفادة من هذه الاتهامات وإدراجها في استراتيجيتها «الشعبوية» لكي تؤكد على موقعها كصديقة حقيقية للشعب مقابل نخب خانعة قبالة ابتزاز الميديا، وهو ما يُقرِّبها من أبناء الهجرة الملونة وما يمثلونه من ثقل انتخابي.

بالمحصلة، يبدو أن ما  يجمع اليسار الماركسي وفرنسا الأبية هو قلة ارتباطهما بالتراث الجمهوري الفرنسي بشكله المُهيمن، فبينما يعتبر التيار الأول تبنيه للماركسية تجاوزاً نقدياً لتراث الثورة الفرنسية وبورجوازيته، تعمل فرنسا الأبية على المضي باتجاه جمهورية سادسة أقل يعقوبية وأكثر ديمقراطية والتصاقاً بالمجتمع.

اليمين الفرنسي: مرجل اسمه «الجمهورية»

على المقلب الآخر، تبدو الحَميَّةُ التي يظهرها حزب التجمع الوطني لإدانة أعداء السامية، والدعمُ غير المشروط الذي يبديه لإسرائيل، واحدة من مفارقات العصر وعلامةً على حِدَّة تناقضاته. فهذا الحزب ليس إلا وريثَ الجبهة الوطنية الفرنسية، بعنصريتها وعدائها للسامية، وزعيمتُهُ مارين لوبين التي حازت على ما يتجاوز الأربعين بالمئة من أصوات الفرنسيين في الانتخابات الرئاسية الماضية ليست إلا ابنة جان ماري لوبين، النازي السابق، مُنكِر المحرقة، والذي توافدَ الفرنسيون للتصويت ضده بعد نجاحه في الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لعام 2002، كتعبير عن الرفض القاطع الذي يكنّه المجتمع الفرنسي ليمين متطرف يعتبر أن غرف الغاز النازية «مجرد تفصيل».

إن كانت الكثير من الظروف التاريخية التي وسمت العقود المنصرمة قد ساعدت هذا التيار على تحقيق انتصاراته، إلا أنه لا يمكن إنكار الجهد الذي بذله لإرساء عنصرية أكثر «عصرية»، هاجراً العنصرية العلموية التي طالما ميزت معاداة السامية، ومؤكداً على قدرته على تجديد الخطاب العنصري، عبر الدفاع عن العلمانية الفرنسية ومحاربة حضور الدين، الإسلامي حصراً، في مؤسسات الدولة وفي الفضاء العام وعبر التأكيد على ضرورة الدفاع عن الحضارة الغربية بوصفها حاملة رسالة كونية، غالباً ما تتوقف عند حدود الثقافات البيضاء دون أي مُساءلة جادة لتاريخها وذاكرتها. الجذور اليهودية المسيحية مقولة أخرى يستخدمها هذا الخطاب لتهميش تعددية المجتمع الفرنسي، الهائلة، ورفض أي إدراج حقيقي لها في السردية الوطنية الرسمية. 

تُمثّلُ هذه المقولات بعض العناصر الرئيسية لخطاب نمط الحياة الغربي كدين مدني للحقل الجمهوري، الذي شاركت في إطلاقه وتكريسه كثيرٌ من وسائل الإعلام الجماهيرية وعموم اليمين وكثيرٌ من أطياف اليسار، والذي قاده اليمين المتطرف إلى نهاياته المنطقية، بهدف إذكاء نار خطابه القومي عبر تحويل الفرنسي المسلم إلى كبش فداء، مؤكداً أن فرنسيي الضواحي المُلوَّنين، المرتبطين بثقافات مجتمعات آبائهم، غير قادرين على اعتناق هذا الدين وهو ما يؤكد أجنبيتهم وما يستوجب إقصاءهم عبر طرد من يمكن طرده وتحويل من تبقى إلى مواطنين من الدرجة الثانية. حَميَّتهم اليوم هي إذن استثمارٌ في لحظة غزة لتتويج انزياحهم الجمهوري، وهو ما عبّرَ عنه حضور مارين لوبين في قلب تظاهرة التنديد بالعداء للسامية كمدعوة طبيعية بعد أن كان يحضر اسمها كعدو على لافتات هكذا تظاهرات. 

تستحق هذه الظاهرة الكثير من التفكير، فهي لا تتوقف عن توسيع هيمنتها على شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، بل وتتحول إلى شكل من أشكال «الحس السليم الجمهوري» الذي لا يتوقف عن دفع المزيد من الفرنسيين إلى التصويت لمارين لوبين، بعد فشل النخب الفرنسية في إعادة صياغة السردية الوطنية بما يتناسب مع انهيار الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية وتَحوُّل الهجرة والتنوع إلى واحدة من حقائق المجتمع الكبرى. الجدير بالذكر أن هذا الخطاب يغوي أيضاً قطاعات وازنة من السوريين الأوروبيين، حقق بعضهم خطوات متقدمة في «انخراطه» في الماكينة الغربية، كالسوري عمر سليمان، كاتب العمود في الصحيفة اليمينية لوبوان، وكاتب سيرة الإرهابي الصغير ورواية أن تكون فرنسياً.

 تستحق هذه المسيرة التفكير أيضاً لأنها تنطوي على ما يُذكِّرُ بالخصومة التي تجمع الكثير من أبناء «سوريا المفيدة»، مع البيئات الريفية السورية، فإن سَلَّمنا بأن بعض المجتمعات تتفوق على أخرى من حيث «مكتسباتها الحضارية»، فكيف يجب على هذه الجماعات أن تتواصل، ووفق أي معايير؟ هل يجب على الجماعات الأدنى أن تُسلِّمَ بدونيتها وأن تقبل فوقية الجماعات الأرقى؟ وما الذي يعنيه ذلك؟ وإن رفضنا التسليم بتفاوت القيمة الحضارية للثقافات، فهل يمكننا الانطلاق من فرضية تساوي كل الثقافات في قيمتها، والغوص في عوالم الخطاب القائل بأن «البربري هو أولاً من يؤمن بمقولة البربرية»هي مقولة لكلود ليفي ستروس، أحد مؤسسي البنيوية، في كتابة «العرق والتاريخ»، والتي يحاول الرد من خلالها على المقولات العرقية التي تفترض علمية مقولة العرق وتفوقاً عرقياً أوروبياً. رغم المحتوى التحرري الناقد للمركزية الغربية الذي يحمله الخطاب البنيوي في الغرب، إلا أنه تَحوَّلَ أيضاً إلى أحد أهم روافد النسبوية والمحافظة السياسية في العالم العربي، حيث يستند الكثير من الإسلاميين على المقولات البنيوية للوصول إلى خلاصات شديدة السلطوية وتكريس بعض أشد التقاليد تسلطاً على أجساد الناس وأرواحهم، كالختان وتعدد الزوجات وحجاب الأطفال وغيرها الكثير، بوصفها عادات وتقاليد تمتلك مشروعيتها من اندراجها في ثقافة المجتمعات وتقاليدها. وما قد يقود إليه ذلك من محافظة سياسية؟ إن تلافينا الأسئلة السابقة عبر القطع مع منطق الجماعة وتبني مقولة المواطن، كيف يجب على الدولة أن تفكر بالمواطن النموذجي؟ ما هي الثقافة التي ينحدر منها؟ ثقافة الأغلبية؟ أم مواطنٌ بلا ثقافة؟ 

طُرِحَت هذه الأسئلة شديدة التعقيد في لحظة سابقة؛ لحظة الثورة الفرنسية، وكان جوابها شديد النظرية، وميالاً لمقولة المواطن بلا ثقافة، التي عبَّرَ عنها ميثاق حقوق الإنسان والمواطن، وهو ما ترافقَ مع سياسات أقرب للهندسة الاجتماعية قوامها الطليعية والعنف، ما ذوّبَ أبناء فرنسا، والذين لم يتكلم إلا القليل منهم الفرنسية وامتازوا بتعددية هائلة، في بوتقةالبوتقة، وفقاً للمعجم الوسيط، هي الوعاء الذي يصهر فيه المعدن. الأمة الفرنسية. اليوم، يودُّ الكثير من الفرنسيين، ممّن يعبدون الجمهورية، إعادة رمي المجتمع الفرنسي، أو بالأحرى مواطنيه المُلوَّنين، في بوتقة النموذج الجمهوري اليعقوبي كي تتصالح فرنسا مع الصورة التي يطلب منها التاريخ أن تكونها. هذا هو ما أصبح عليه مشروع اليمين المتطرف، وهو أيضاً ما يتحول رويداً رويداً إلى مشروع اليمين بأكمله وبعض اليسار، فـ«ماريان، رمز الجمهورية، عارية الثدي، لأنها تغذي الشعب، وهي ليست مُحجَّبة لأنها حرة، وهذه هي الجمهورية»، على حد تعبير مانويل فالس، رئيس وزراء فرنسا في عهد حُكم اليساري فرانسوا هولاند. 

مثقفون يساريون كبار بتاريخ نضالي طويل، كـ ريجيس دوبريه، شاركوا في صياغة قانون 2004 الذي جاء بهدف تمييز المسلمين، بحجة منع الرموز الدينية في المدارس؛ الجمهورية الفرنسية تقتضي من موظفاتها المسلمات أن يخلعنَ حجابهنَّ إن أردنَ العمل في إحدى المؤسسات الحكومية. عليهم، وبخاصة النساء، أن يعيشوا في قوالب الجمهورية. 

نتذكر هنا كيف قادت تعقيدات الثورة السورية بعض أطياف اليسار السوري «الجمهوري»، من أنصار «سوريا المفيدة»، إلى لحظات عاطفية معقدة، منعتهم من التعبير عن خطابهم بأكثر من بوستات فيسبوكية، يشتمون فيها النظام والإسلاميين، بل وخاصة الديموقراطيين السوريين ممّن يرتدون الجلابية ويحملون السلاح، ويعبرون من خلالها عن رغبتهم بمرجل جمهوري تنويري وعلماني قادر على تذويب أبناء مجتمعهم، بما يمكنهم من توفير الوقت والوصول إلى سوريا مفيدة بكل أبنائها، وكأنَّ الجمهورية هي علّة الوجود. 

معاداة السامية، قضية بيضاء؟

إن أمكنَ الاعترافُ بنجاح البوتقة الجمهورية الفرنسية في صهر الكثير من الموجات القادمة من الجوار الأوروبي، فإن مَهمَّتها في صهر موجات الهجرة المغاربية كانت ولا تزال أكثر تعقيداً، فرغم أن أغلبية أبناء الهجرة المُلوَّنة قد انصهرت بكل طاعة، إلا أن لون بشرتهم يعرضهم أحياناً لأسئلة تحفر عميقاً في الذاكرة وتُعيد علاقتهم بالجمهورية إلى لحظات صفرية شديدة الألم. انحدارُ موجات الهجرة المغاربية من مجتمعات مسلمة، ومستعمرات فرنسية سابقة، متدنية التأهيل، وانخراط جيلها الأول كعمالة رثة في إعادة الإعمار التي تلت الحرب، بالإضافة إلى رثاثة النخب الجمهورية الفرنسية وانتهازيتّها، مسائل زادت من تعقيد المهمة، وحوّلت من رفضوا الانصهار أو لم يحظوا بفرصته إلى شرائح وازنة ومتجذرة في المكان والذاكرة، كما أدخلت علاقتهم بالجمهورية الفرنسية في مرحلة من اليأس والكيدية، حيث يئست الجمهورية، بأغلب طيفها السياسي، من قدرتها على صهر هؤلاء، وباتت تتعامل معهم بمنطق الإخضاع وإدارة الأزمة الكولونيالي، في الوقت الذي فقد فيه هؤلاء القدرة على الإحساس بالانتماء إلى «الحقل الجمهوري» الفرنسي، فباتوا راغبين في مغادرة البلد أو خرابه أو في تشكيل جماعاتهم ومجتمعاتهم المضادة.  

لعبت حرب التحرير الجزائرية، منذ ستينيات القرن الماضي، دوراً هاماً في تَحوُّل مجتمعات الهجرة الملونة إلى كيان فاعل في المجتمع الفرنسي، وفي ولادة صوت سياسي وإعلامي عبّرت عنه، على سبيل المثال، تجارب حركة العمال المغاربيين وراديو العاصفة. كانت القضية الفلسطينية بدورها أيضاً واحدةً من أسباب تَجدُّد لقائهم باليسار الفرنسي الثوري، والذي ساعدهم على صياغة هوياتهم والتعبير عن أنفسهم، ما حَوَّلها إلى قضية أكثر مركزية من الكثير من القضايا الوطنية، فأبناء الضواحي الشعبية لا يتحركون لمناصرة اليسار في صراعاته النقابية والاجتماعية ولم يكترثوا بهذا اليسار إلا بعد حضور فرنسا الأبية واشتغالها على خطاب أكثر حساسية لهمومهم.اليمينيون أيضاً يبدون اهتماماً بالغاً بالصراع ولأسباب كيدية أحياناً، فالجديرُ بالذكر مثلاً أن مؤازرة إسرائيل والفرح الهائل بانتصاراتها، ، كما في حرب حزيران، كانت سبيل قطاعات واسعة من الفرنسيين للتعبير عن كراهيتهم للعرب والقومية العربية التي سلبتهم مقاطعة الجزائر.

اليوم أيضاً، وبعد عقود من المُراوحة في المكان، وبعد تَحوُّل الضواحي الشعبية إلى حاضن لشبكات توزيع المخدرات والتسرّب الدراسي والسلفية والانتفاضات الحَضَرية العدمية، كالتي ضربت فرنسا مؤخراً، تبرز أصوات استفادت من تأهيلها ومن تجربتها لتقديم خطاب نظري وسياسي شديد الجذرية في مُساءلته لاستعمارية الخطاب الجمهوري الفرنسي وحقيقة قيمه. تبدو هذه الشرائح اليوم شديدة البلاغة، كما هي حال حزب «بلديّو الجمهورية»حزب Les indigènes de la République، والذي يصعب إيجاد ترجمة دقيقة لاسمه بالعربية، فكلمة indigène تعني السكان الأصليين ولكنها تنطوي أيضاً على شحنة من الازدراء الاستعماري. ومُنظِّرته حورية بوتلجة، الذين باتوا يلعب دوراً وازناً في صياغة خطاب هذه الشرائح. ما يميز هذه المُنظّرة الألمعية هو تطرُّفُ رفضها لأسس الحداثة الاستعمارية واحتقارها «للنموذج الجمهوري» الذي يطالب باحترامه كاملُ أطياف المجتمع السياسي تقريباً. ترفض بوتلجة «المركزية الأوروبية» وكل ما هو «أبيض»يحاول بعض مثقفي اليمين، كالروائي والمثقف الفرنسي البارز باسكال بروكنر، مقاربة معاداة السامية بوصفها تجلياً من تجليات العنصرية ضد البيض. بكل ما يمكنها من استفزاز، وتبدو كآخرين، أقرب للاعتزاز بتلك «البربرية» التي يتهمونها بها، وشديدة التمسك بالتقاليد والتعبيرات الأهلية التي يُنتجها أبناء هذه الضواحي، فقد هبَّت على سبيل المثال للدفاع عن التعبيرات المعادية للسامية، الصادرة بأغلبها عن أبناء الهجرة الملونة، والتي استهدفت فرنسية، حاملة للجنسية الإسرائيلية، بعد فوزها بلقب ملكة جمال مقاطعة فرنسية على اعتبار أنه ما من إسرائيليين أبرياء وأن معاداة السامية المُلوَّنة مختلفة بنيوياً عن معاداة السامية الأوروبية بسبب عمقها المعادي للاستعمار. مواقف كثيرة، تجلب عليها الكثير من الانتقادات والاتهامات بمعاداة السامية، ولكنها تحقق حضوراً واسعاً في صفوف المُلوَّنين، وتفرض على اليسار، بمتانة أساسها النظري، احترام مشروعية خطابهاوقّعت الكثير من أقلام اليسار الراديكالي بياناً للتأكيد على مشروعية حضور صوت بوتلجة في النقاش الفكري والثقافي الفرنسي، والتضامن معها ضد افتراءات محرر جريدة لوموند على الأخيرة.، بعد عجزه عن تقديم إجابات حقيقية على أسئلة أبناء الهجرة المُلوَّنة.

يصعب إيجاد تعبير مناسب لاختصار خطاب بوتلجة، بسبب طابعه المُركَّب ولعبه على الهوامش الحدودية ليتراوح بين معاداة الحداثة والجوهرانية المضادة كما نظَّرَت لها المفكرة الهندية البوست كولونيالية غاياتري سبيفاك، وسياسات الهوية. من جهة أخرى، تبدو بوتلجة واعية بحدود خطابها الحالي وقلة خصوبته، وهو ما يدفعها للتفكير بضرورة رفض التقوقع على الذات وفي حدود التفكير الهوياتي، وبضرورة التفكير بالتواصل مع الآخر المختلف عبر التفكير في ائتلاف فقراء فرنسا البيض مع سُمرها لمواجهة «الكتلة البرجوازية». لا تبدو أجوبتها على أسئلة السياسة شديدة الإقناع، بل ولا تبدو إلا تهويماً ثورياً آخر، تحتمي به من كل انتقاد لتقوقعها الهوياتي وقلة خصوبة تفكيرها، لتبقى أسيرة نشوة تَحوُّلها إلى صوت مجتمعات وجماعات مضادة مشحونة بالغضب، بما قد يعنيه ذلك من تمرد وجذرية وأُخوّة من جهة ومن سينيكية وانطواء على ذات متوهمة وخطاب ضحية من جهة أخرى.

المحرقة والدرس الأكبر

الاطلاع على الفكر التحرري المعاصر الأكثر جذرية يقودنا إلى ملاحظة وجود موجات مرتبطة بأحداث تاريخية كبرى. منها مثلاً ما أعقب ربيع الشعوب الأوروبية، عام 1848، حيث كانت الأفكار الاشتراكية «شبحاً ينتاب أوروبا» بنسخ عديدة، من الاشتراكية الطوباوية السان سيمونية إلى الاشتراكية العلمية الماركسية وصولاً إلى لاسلطوية برودون وباكونين وغيرهم. يذكرنا هوبزباوم أن الكثير من اليهود قد شاركوا بحماس في هذه الموجة، فكان منهم بعض أبرز قيادات الحركات الاشتراكية ومنظريها من كاوتسكي وتروتسكي إلى روزا لوكسمبورغ. انتصار الثورة البلشفية، وهزيمة الثورة الألمانية بالإضافة إلى صعود النازية وحروبها ومحرقتها، خلقوا أيضاً موجات أخرى من موجات الفكر التحرري، كان للكتاب اليهود من أصول ألمانية دورٌ مذهلٌ في أعمق إسهاماتها، وهو ما يذهب إليه إنزو ترافيرسو في كتابه نهاية الحداثة اليهوديةيحاول الكتاب التفكير في مآلات هذه الحداثة عبر المقارنة بين موجة الفكر الثوري اليهودي، والتي كان ليون تروتسكي أحد أبرز مجازاتها، وبين موجة محافظة سادت لدى الأنتلجنسيا اليهودية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي الموجة التي يجسدها مسارُ اليهودي الأميركي، من أصول ألمانية، هنري كيسينجر، أفضلَ تجسيد.. جورج لوكاش وفالتر بنيامين وسائر أسماء مؤسسي مدرسة فرانكفورت من أدورنو إلى ماركوزه أو بعض أسماء الماركسية الفرويدية وكافكا وجانتر أندرس، قدموا جميعاً إسهامات مفتاحية لفهم مأزق الحداثة ودموية العقلانية التقنية التي أنتجتها. حنة آرنت، قدمت أيضاً إسهامات بالغة الثراء في سبيل تجاوز هذه العقلانية وإعادة اختراع سياسة يخرج فيها الفرد من ابتذال الشرّ وعاديتهتُقدم مدرسة نقد القيمة الألمانية الماركسية، والتي تُشكّل الامتداد الأكثر جذرية لمدرسة فرانكفورت، تحليلاً شديد الأهمية لمعاداة السامية، والعنصرية و..، بوصفها إيديولوجيات مرتبطة بحداثة متمركزة على فكرة القيمة وعالمها من عمل وإنتاج وفرداني،ة ونافية لأبعاد إنسانية أخرى أصيلة كالمشاعر والجماعة والكسل.. وهو ما يشكل امتداداً لمقولة جدل التنوير لأدورنو.. كانَ لوسيان جولدمان، ولا يزال ربما، الماركسي الوحيد الذي فَكَّرَ بروحانية مُحايثة ليقدم نسخة باسكالية من الماركسية. 

قَدَّمَ المؤرخ وعالم الاجتماع نوربرت إلياس أيضاً، عبر التحليل المذهل لمجتمع البلاط ولمفهوم الفرد الذري وتناقضات هذا المفهوم، إسهاماً آخر لا يقلّ أهميةً عن إسهامات من سبقوه لفهم جذور مشاكل العقلانية المعاصرة. جذريةُ إسهامه تأتي لتبدو متناقضةً مع البعد التحليلي لأعماله، والذي يغيب عنه أي لكنة نقدية غاضبة، رغم فقدانه لوالدته في المحرقة والويلات الكثيرة التي جَرَّها عليه عصره بسبب يهوديته؛ تناقضٌ أثار استغراب دارسته الفرنسيةراجع البودكاست الإذاعي «صيرورة التحضر إلى الانحلال الحضاري، عودة على فكر نوربر إلياس»، بالفرنسية، على فرانس كولتور.، والتي لم تستطع أن تُصالح عمل الياس مع سيرة حياته، إلا بعد أن أدركت أن مجمل حياته واجتهاده وفضوله لم يكونوا إلا أحد أكثر الأشكال سمواً للإجابة على سؤال لماذا حدث هذا؟، أو لماذا أنتجت تلك الحداثة التي كان الكثير من اليهود من أكثر من تماهى معها وراهنَ عليها، بل ومن بذل التضحيات في سبيل مُعانقتهاعشقُ الكثير من يهود ألمانيا للُّغة الألمانية، حتى بعد الهولوكوست، واندفاعهم في تبنيها على حساب اليديشية، ليس إلا واحدة من الأمثلة عن الحماس الذي قابل به يهود ألمانيا وأوروبا الوسطى الأمل الذي وَلَّده انتصار الحداثة وفضاءات المواطنة. راجع «أزمنة متصدعة»، فصل «اليهود وألمانيا»، إريك هوبزباوم. على سبيل المثال، حنا آرنت، التي أكدت على عجزها عن حب الوطن، سواء كان ألمانياً أو إسرائيلياً، أكدت أنها تُقيم في الألمانية كلغة.، سلطات شعبية قامت بردهم إلى تفاصيل كادوا أن ينسوها، كالعِرق، بل وإبادتهم وتحطيم مجتمعاتهم على أساس هكذا تفاصيل. 

لا تُحاول السطور السابقة، بكل تأكيد، الحديث عن «عبقرية يهودية» وإنما عن «شرطٍ يهودي» قادَ بعض أبنائه، على العكس من اليسار الجمهوري بل والماركسي، إلى استخلاص دروس المحرقة الكبرى، فكانوا جزءاً أساسياً من التركة التحررية التي خَلَّفها القرن الماضي. تجربتنا السورية الفلسطينية، أو الشرق أوسطية، تحمل، بعُمق عَدميتها، وبتعقيد علاقتها مع الحداثةإن قَدَّمَ السوريون الكثير من التضحيات في سبيل الدخول في العصر، فإن الحداثة الغربية أظهرت الكثير من الخِفَّة والاستهانة بهذه التضحيات عبر عملها الدؤوب على الإمداد بعمر النظام الرسمي العربي. علاقة هذه الحداثة بالقضية الفلسطينية، كما توضحها اليوم لحظة غزة، شاهد آخر على عطب هذه الحداثة وعلى ضرورة ارتكازها على الجريمة لضمان استمراريتها.، ما يدعونا إلى التفكير بـ«شرطنا السوري» في ضوء سَلَفه اليهودي وتَرِكته التحررية، بما قد يساعدنا على التفكير في سياسة تحرّرية تليق بعالم ما بعد المحرقة والإبادة.