هذا المقال هو مساهمتي في النقاش والسجال الذي دار بين الزميلين شكري الريان وعبد الله أمين الحلاق، والذي نشره موقع الجمهورية مشكوراً، انطلاقاً من قناعتي الشخصية بأن جدلاً بهذا المستوى يجب أن يستمر ويتوسع بين المثقفين السوريين، فهو يطرح أُسساً نظرية لما يمكن أن يكون عليه الحل السوري مستقبلاً، والمستعصي في الوقت الراهن، على صعيد التفكير به على أقل تقدير. هذا ما دفعني، ككاتب مقيم داخل سوريا، للمساهمة في هذا النقاش، دون إقصاء الأفكار التي طرحها الكاتبان حفاظاً على المصداقية المعرفية لما يمكن طرحه.

الواقع والممكن

لعلَّ الجدل السوري المتطور والأوضح بدأ مراحله الأولى بعد استلام بشار الأسد السلطة في سوريا عام 2000، وتراجع كثيراً مع نهاية ربيع دمشق عام 2002، وقد تعددت طروحات المثقفين السوريين فيما يخص «المجتمع المدني» حينها لتأخذ طابع الجدل الهيغلي والماركسي، استناداً إلى ماركس باعتبار المجتمع المدني القاعدة المادية المؤسِّسة للدولة، بخلاف هيغل الذي اعتبره مرحلة من مراحل تطور الدولة. لكن هذا السجال انحصر ضمن النخبة المثقفة فقط، فلم تتمكن شرائح اجتماعية عديدة من الانخراط فيه، ربما لأنه لم يستمر أكثر من سبعة أشهر بعد أن قام النظام بحظر منتدياته واعتقال معظم المثقفين الفاعلين فيه.

أشارَ شكري الريان إلى نظرية «العقد الاجتماعي»، وهي نظرية يرى فلاسفتها ومفكروها مفهوم «المجتمع المدني» مرادفاً لمفهوم «المجتمع السياسي»، أي المجتمع المُؤسَّس بناء على «العقد الاجتماعي»، وأشهر منظريها هم مثقفو الثورة الفرنسية أمثال جان جاك روسو، والفيلسوف الإنكليزي جون لوك. لكن السؤال المطروح سورياً اليوم، برأيي، هو: هل يمكن إيجاد «عقد اجتماعي» يتواضع أفراد المجتمع السوري على صَكِّه بكل مكوناتهم؟

 إن فكرة «العقد الاجتماعي» تُقدِّم نفسها كرؤية منهجية لحل المشكلات الموروثة والجديدة، ولكنها تبقى مشروطة بجدليتين مهمتين: جدلية الواقع والممكن أولاً، وجدلية الواقع والمنهج ثانياً، وبالنظر إلى الواقع السوري الراهن يمكن ملاحظة انقسامين: انقسام شاقولي في المجتمع «طائفي، إثني…» وانقسام جغرافي شبه مُتَّفق عليه بين أطراف الصراع السوري، بل بين الدول الداعمة والمُموِّلة لكل طرف، ومن دون إغماض العين عن أن الثورة السورية تحولت إلى حرب أهلية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة.

بناء على ما سبق، وعلى الرغم من نُبل الفكرة وتَقدُّميتها، فإنها يمكن أن تتحول إلى النقيض منها، وتؤدي إلى مفعول مُعاكس، إن وُضعت في مرحلة تاريخية لا تحتملها.

وبعد 13 عاماً على انطلاق الثورة السورية، يتّضحُ اليوم أنه لا كيفيات ثابتة للوضع السوري ولا للمُمكنات المحتملة للحلّ فيه، وبقراءة سريعة لعشرات المبادرات والمؤتمرات التي جرت، من مبادرة كوفي عنان في شباط (فبراير) 2012 مروراً ببيان جنيف والقرار الدولي 2254 وإلى سوتشي وصولاً إلى مسار أستانا الذي كانت آخر جولاته في كانون الثاني (يناير) 2024، نرى أنها تواترت بين رحيل النظام وبين الجلوس على طاولة المفاوضات معه، أي أنها لم تطرح حلاً للواقع السوري، بل تسوية يكون النظام أحدَ أعمدتها، وهذه التسوية تفرضها القوى الأجنبية الفاعلة على الأرض السورية وفق ما تقتضيه مصالحها، وليس للسوريين القرار أو الرأي فيها.

بالعودة إلى ما طرحه الريان والحلاق في نقاشهما، يُركّز الحلاق على مسألة الهوية ويَعتقد أنها «الصراع الأعلى صوتاً اليوم ولزمن طويل قادم»، ويقول الريان في معرض رَدِّه على ذلك بأن «الدولة في منطقتنا كانت دائماً دولة هويات، وليست دولة عقد اجتماعي، بما يعني الأمر من ارتكاز السلطة نفسها على وجود الفئة الغالبة».

نعتقد بأنه يجب فهم الجذور التاريخية لمشكلة الهوية السورية، وبضرورة النقاش حولها وحول تنوعها الثقافي والاجتماعي كمسألة تهم السوريين ومستقبلهم وشكلَ اجتماعهم السياسي في السنوات وربما العقود المقبلة، بعد ما أصابَ المجتمع السوري من تدمير في بنيانه المتزعزع أصلاً، على أمل الوصول يوماً إلى هوية وطنية جامعة قائمة على أساس المواطنة، وفق أُسس ديمقراطية تسود المجتمع، وتحكم تنوعه الثقافي والإثني والطائفي، مع التذكير بأن سلبَ النظام السوري للحقوق الوطنية السياسية، والمدنية الإنسانية، لمكونات الشعب السوري هي السبب الرئيس في تقويض الهوية السورية الوطنية الجامعة، والعودة إلى الطائفة أو العشيرة أو العرق كتعويض عنها. أَضِف ذلك إلى سياسة «الزبائنية» التي استخدمها النظام مع زعماء العشائر والطوائف لتكريس ما سبق ذكره. وأكاد أجزم بأن هذه الحقوق مستلبة تاريخياً، بدرجات مختلفة، ومن قبل كافة أشكال الحكومات التي مرَّت على سوريا وصولاً إلى حكم البعث.

يعتبر شكري الريان أن السوريين «شعبٌ واحد» حسب التعريف العام لأي شعب من شعوب العالم: «مجموعة من الأفراد تجمعهم هوية مشتركة تتشكل بناء على عناصر متعددة، مثل اللغة، أو الثقافة، أو التاريخ المشترك، أو الدين، أو الأصل العرقي، يعيشون في منطقة جغرافية معينة، أو ينتشرون في مناطق متعددة، ويرتبطون بشكل من أشكال التنظيم السياسي أو الاجتماعي، ولهم تطلعات، أو مصالح مشتركة».

ولكن للمفارقة، فإن ما ذكره من عموميات هي التي لا تجعل من السوريين «شعباً واحداً» من حيث تعدد القوميات والأصول العرقية والدين والثقافة والتاريخ وحتى اللغة، والأجدر باعتقادي اعتبارهم «مجتمعاً سورياً» من حيث تعريف المجتمع كمجموعة من الأفراد الذين يرتبطون بعلاقات اجتماعية مختلفة مثل العلاقات العائلية والعلاقات المهنية والعلاقات السياسية.

صحيح ما قاله شكري أن «العامل الأكثر حسماً في جعل السوريين شعباً واحداً طيلة معظم سنوات حياة الدولة السورية الحديثة، هو الاستبداد نفسه»، ولكنَّ اختلافي معه هو في تفسير ما سلف، ربما من حيث أن النظام فرضَ على السوريين أن يكونوا «شعباً واحداً» ظاهرياً هو «الشعب العربي السوري» من خلال إيديولوجيته القومية العربية. هذه التراكمات وغيرها أفضت إلى انفجارات تم قمعها بالقوة في بعض الأحيان، وكلنا يذكر أحداث القامشلي بين الكُرد والعرب عام 2004، والتي أفضت إلى انتفاضة كُردية في عموم مناطق شمال سوريا، ما استدعى تدخل الجيش والفوج 555 من الفرقة الرابعة لـ«ضبطها» على سبيل المثال، والأحداث والاشتباكات التي جرت بين الآشوريين والعرب في مدينة الحسكة في أواخر العام 2004 أيضاً، وتم قمعها بالقوة والاعتقالات. وللتذكير أيضاً فإن استبعاد كثير من الكُرد من الإحصاء الذي قامت بة الحكومة السورية عام 1962، الذي خلَّف وراءه عشرات الآلاف منهم بدون جنسية، حرمهم فئة منهم الحق في الحصول على أبسط الحقوق المدنية كالوظائف الحكومية أو امتلاك العقارات حتى.

يتفق عبد الله وشكري على أن ثورة 2011 «كانت محاولة لتكوين شعب سوري، أكثر منها ثورة شعب ناجز ومتشكل سياسياً»، وباعتقادي فإن انتفاء صفة «الشعب» عن «المجتمع السوري» تنفي عنه صفة «الحامل الاجتماعي» ككتلة واحدة لأي مشروع قادم نحو الحل السوري. وإن كان لا بدَّ من اعتبارنا شعباً على سبيل المجاز، فنحن من «الشعوب التي تعيش حالة الفوات» على رأي الراحل ياسين الحافظ، وهي «الشعوب التي يُشكل وجودها في عصر معين، ضرباً من غلطة تاريخية أو مفارقة تاريخية باعتبار أنها تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى».

الداخل والخارج… الفيدرالية والتقسيم

بداية، وقبل الحديث عن بعض الأفكار التي طُرحت لحل المسألة السورية، يجب الإقرار بأن الطرفين المعنيين بالحل، المعارضة والنظام، لم يعد لهما دور أو فاعلية فيه، بعد أن فقدا ثقة السوريين والعالم على حد سواء، وبات الملف السوري بالكامل بيد القوى الخارجية، فروسيا وإيران على رأس النظام، وتركيا وأميركا على رأس المعارضة، مع دور متفاوت لبعض الدول العربية، ما يُمكِّننا من الاستنتاج أن لا حلَّ جذريَّ للمسألة السورية، أي الحل الذي من المفترض أن يبدأ برحيل الأسد ونظامه وخروج القوى الأجنبية من الأراضي السورية، بل تسوية تفرضها القوى الخارجية المعنية بهذا الملف، وهذا ما جعل الحل السوري أكثر تعقيداً بعد ربطه بملفات تمثل مصلحة تلك القوى، كالحرب في أوكرانيا، وفي غزة، ومن هنا يبدو الأفق السوري غير واضح المعالم بانتظار اكتمال صورة الأحداث في المنطقة كلها.

لكن بالعودة إلى الأفكار النظرية التي طُرحت أو تم تداولها، ومدى مطابقتها مع الواقع انطلاقاً من رؤية ياسين الحافظ حول «الوعي المطابق»، يمكن أن نلحظ عدة طروحات وكتابات وأفكار، ومن بينها الاختلاف النظري بين الكاتبين المُتساجلين، وآخرها كان الدعوة إلى الانفصال، تحت مسمى الحكم الذاتي، وتجددت الدعوة مؤخراً بعد انتفاضة السويداء لتصبح على شاكلة «نموذج» شمال غرب و«نموذج» شمال شرق سوريا، ليزيد بذلك عدد المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد بالكامل، ما يُضعف الدولة المركزية في دمشق، وهذا بحد ذاته ما يدعو «لأملٍ ما» بحسب شكري الريان، ولكن الواقع السياسي لا يسمح بهذا التطور لعدة أسباب أهمها: عدم وجود دعم خارجي لانتفاضة السويداء يسمح باتخاذ خطوة كهذه، وبالتالي أي محاولة للانفصال قد تعطي المبرر للنظام لاجتياحها وقمع الثورة فيها، عدا عن أن فكرة الانفصال مُستبعدة في الأدبيات السياسية لغالبية النخب في السويداء، وحتى على المستوى الشعبي، ولا أعلم ما هي طبيعة الهمَّة التي يجب على السوريين امتلاكها لتبدأ السويداء «بالتكون ككيان مستقل بِهمّة السوريين وحدهم، داخل وخارج سوريا» بحسب الريان مرة أخرى. الواقع أن ضعف النظام وقوته أمورٌ تحكُمها القوى الداعمة له «روسيا وإيران»، وهو الباحث عن سوريا «المفيدة» في إحدى مراحل الحرب في سوريا السابقة، ولا يجب أن نُغفِلَ أيضاً أن الانفصال بمعنى الاستقلال مرفوضٌ من جميع الدول الإقليمية في المنطقة، وتحديداً تركيا ذات المخاوف من تَشكُّل دويلة كردية على حدودها.

الطرح الآخر كان «الفيدرالية»، وبالنظر إلى التجارب الفيدرالية في العالم فيمكننا تقسيمها إلى أشكال عدة، فبعض الدول استدعت العامل الفيدرالي للخروج من النزاع بين مكوناتها، مثل جنوب أفريقيا وإسبانيا ورواندا، ودول اختارت النظام الفيدرالي بدون نزاع للتكيُّف مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية مثل نيبال، ودول أنشات فيدراليتها بشكل طوعي عبر اتحاد بلدانها كالولايات المتحدة الأميركية.

تبنت فكرةَ الفيدرالية في سوريا بعضُ القوى الكردية وبعض الناشطين المعارضين ممّن يعتقدون بأنها المخرج الوحيد لضمان حقوق المكونات السورية، والحفاظ على وحدة الأراضي. ولكن هذا الطرح يحتاج إلى توافق سوري، قبل التوافق الدولي، لأن «العقل الجمعي» السوري، والعربي على نطاق أوسع، يرى أن الفيدرالية تعني التقسيم، وهذا يُحيلنا للطرح الأول ومعطياته، ما يجعله في موقع الـ«لا إجماع» عليه. ويُشير بعض الناشطين السياسيين إلى أن نظام الفيدرالية موجود على أرض الواقع نظراً للتقسيمات الجغرافية السورية الحالية، وهذا كان ليكون صحيحاً على نحو ما لو كانت هذه التقسيمات لا تُحكَم من قِبل ميليشيات تَأتمر بمموليها.

يبقى القول إن التوجّس غير القطعي من النظام الفيدرالي يأتي من أنه يساعد على بقاء نظام الأسد في فيدرالية خاصة به من جهة، عدا عن أن النظام الفيدرالي يختلف عن نظام اللامركزية، من حيث الفرق في السلطات الدستورية الواسعة التي يعمل بها النظام الفيدرالي للأقاليم، ما يُنذِرُ بتحوُّل هذه الأقاليم إلى دُويلات متحاربة نظراً لكونها مدعومة من دول متنازعة أساساً من جهة أخرى. 

أما بشأن ما طرحه شكري الريان عن تَشكُّل «نخبة جديدة» أو ما سمّاها «نخبة مهنية» من المُهجَّرين خارج سوريا، وفي أوروبا وأميركا على وجة التحديد، مُعتقِداً أنه «من الضروري سؤال أنفسنا حول المُمكنات التي تطرحها هذه الحالة، أثناء محاولتنا قراءة أفق ما للخروج من الكارثة التي أوصلتنا إليها العصابة الأسدية»، ومُعتبِراً أن الرابط الذي يجمعهم هو أنهم «ضحايا التوحش الأسدي». لم يشرح لنا الريان «المُمكنات» التي يمكن أن تقوم بها هذه «النخبة» لتغيير الوضع السوري، وهي فئات مهاجرة، لا يتجاوز عمر هجرتها عشر سنوات وأعتقد أن 90 بالمئة منهم لم يحصلوا على الجنسيات في بلدان لجوئهم، أي أنهم ليسوا مواطنين يحق لهم الانتخاب أو الترشّح في أوروبا، وحتى لو اعتبرناهم «كتلة واحدة» فهم خارج حسابات الضغط على الحكومات الغربية لصالح القضية السورية، ومع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً الصورة السيئة التي قدمتها «هيئات» المعارضة السياسية في الخارج، من خلال طريقة تعاطيها مع الشأن السوري، ونزاعاتها، وفسادها. كي تتغير هذه الصورة ويصبح سوريو الخارج قادرين على تشكيل «هيئة» أو «لوبي» يضغط على الدول الغربية، هو أمر يحتاج عشرات السنين، وطبعاً كلُّ هذا بافتراض أن السوريين في الخارج لديهم الرغبة بالتجمع ككتلة واحدة، أو أنهم متجانسون لدرجة أنه يمكن أن يشكلوا «كتلة واحدة». يبدو هذا الأمر «طوباوياً» وبعيداً عن الواقع للأسف.

وكسوري مقيم في الداخل، أرى أن مَخرجنا الوحيد من هذا الوحل الذي نحن فيه مرهونٌ بسقوط النظام، أو رحيله بعد رفع إيران وروسيا اليد عنه، وهذا مُستبَعدٌ في المدى المنظور على ما يبدو، ولكني على يقين بأنه سينتهي، وأنه سيسقط لا محالة ولو بعد زمن، ومهمتنا كسوريين، وكنُخَب سوريّة على وجه التحديد، هي التفكيرُ بشكل سوريا بعد رحيل النظام، ومواصلة هذا النقاش الذي يصبُّ في هذا الصلب على المدى البعيد. التفكير والنقاش بين بعضنا بعضاً على الأقل، في الوقت الحالي.