«لا أستطيع الكتابة أكثر
تحدثنا عن كل شيء.. نحن نموت»
– إسماعيل الغول
قاربت سنة على حرب الإبادة في غزة، مع الهلاك المتراكم بألوانه الرمادية فوق شوارع المدينة التي يتحدث عنها الجميع اليوم. سنةٌ من المقتلة والتنكيل في الجسد والحجر الغزاويّ، ومن تفجير الأفكار الكبيرة العظيمة وتحويلها إلى أخاديع صغيرة تدور في سماء العالم المشغول بكل شيء سوى المجزرة. وإلى الآن، لا أ/نعرف فكرت طويلاً بالضمير اللغوي الذي يصلح لمقالٍ لا بدّ أن تدخل فيه الجماعات، والانتماءات واللغات والأديان وسياسات الجسد وحقوق الإنسان والمجتمع المدني. فكيف تكون اللغةُ مع كارثة تتناول حزناً فردياً وتضع يديها على وجه العالم كلّه في آنٍ واحد. كيف نُفكّر نحن السوريون بما يحدث في غزة؟ وقد رأينا بلادنا تُقاد نحو السكاكين؛ كنهرٍ رأيناهم يفرغون منه الحصى والعشب والماء ويضعون جسمه الهزيل في مقصلة. رأينا من قبل، بلادنا التي تَحوَّلت إلى أكياس كوابيس في عيوننا المغلقة، وإلى أحلام يقظة مُضنية وأمنيات بالعودة، وصور هواتف، وخرائط معلقة على جدران «بيوت» «المنافي» «الدافئة». فكيف نُفكر في غزّة وقد عرفنا أن «العالَم» يكترث بحقوق دون حقوق، وبانتخابات واحدة وديمقراطيات بعيدة، وكأننا خارجه. وما هو هذا العالم وأين يقع؟ وكيف يمكننا أن نذهب إلى العالم لاسترداد بلادنا؟
يحاصرني السؤال بإلحاحِ الصُداع، إذ يأخذ العالمُ شكلَ الصداع الذي يدقّ رأسي؛ ليصبحَ «في صيغة سؤال» يقول جبرا إبراهيم جبرا: «إذا كنتُ أضع العالم في صيغة سؤال، فمعنى ذلك أن عندي سؤالاً يجب أن أطرحه. ولكن قد يكون الأمر معكوساً: لعلني أنا الذي أواجه سؤالاً من العالم؟». انظر: جبرا إبراهيم جبرا، «تأملات في بنيان مرمري»، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1989). يحاصرني/ا ويلقي أثقاله الهائلة في/نا. ونحن لا نريد العالم، ولا نريد منه أن يرانا، أو أن يفهم معنى خارجِه -أو معنى ما دون العالَم-، بل نريد أن يكفّ عن ذلك؛ أن يكفّ عن محاصرتنا. أن يسحب أظافره الخناجر من حناجرنا، وأن يمنحنا ضمائرنا المفردة، وأن يتوقف عن تسميتنا، وعن دراسة نَحيبنا في المآتم. نريده أن يُحجِمَ عن حجزنا في خنادق جماعية. نريد لهذا العالم أن يحتفل بعيداً عن موتنا، أو ألّا يحتفل بموتنا.
ماذا نتوقع من العالم؟ ولماذا نتوقع من العالم؟ تلك أسئلةٌ أخرى، وعنيفةٌ /تدعو للعنف أيضاً. ولكنّني أَنعطفُ عنها بصمت ودون صراخ. وقد رَبّت الفاجعةُ السوريّة هذا الصمت، وقَوّته الخيبةُ التي وصلنا إليها. ولكنَّ براءةَ المثالية، ومُعايشة أفكار ما بعد الحداثة، والرغبة بتصديق العلوم الإنسانية، والتفاؤل بإمكانيات المستقبل القريب، تدفعنا بعد كل كارثة للتفكير بهذه العزلة التي يعيشها الضحايا (نحن وهم وأولئك)؛ العزلة التي يفرضها العالم علينا. وقد تخبطت الأطراف السياسية واختلطت حقوق الإنسان بالعلوم الثيولوجية، وأصبح سؤال الإدانة، يسبق سؤال التعاطف، وأصبح التعاطف مُعقَّداً، وأصبح الجسدُ استعارة، والذات ضرراً جانبياً في سبيل انتصار السرديات الكبرى. وها نحن نتابع باستمرار، ونتشارك التصاميم البصرية واللقاءات الصوتية ونتحدث عن المجزرة في رسائل صوتية، وفيديوهات قصيرة وقصص مصورة. نحمل الحرب معنا في هواتفنا ونذهب للحياة اليومية، لنمارسها كما تمارس الحرب ذاتها بدون توقف، وكما يَطرحُ سؤال (ما العمل؟) نفسَه علينا بلا هوادة. لا يكفُّ العالم عن طرح الأسئلة، يسألنا يومياً عن أفكارنا وعن معتقداتنا وعن ألواننا يسألنا عن عجزنا عن المركزية العالمية عن قتلنا عن تهجيرنا عن دعم الديكتاتوريات عن النفاق المعرفي عن الأخلاق عن سياسات الجسد عن الحرية الفكرية عن الكولونيالية وما بعدها عن كل شيء. يسألنا العالم، بل يطرح نفسه علينا بصيغة أسئلة. كل يوم.
أخلاق المجزرة
حرّكت المجزرة (كعادة المجازر) واقعَ العلوم الإنسانية، وأثارت هواء طواحين أفكارٍ قد بدت من المُسلَّمات سابقاً، فمن مجال ما بعد الاستعمار، إلى مجال الأصلانية، إلى قضايا العنصرية والجوهرانية والمركزية الأوروبية، وثنائية الأخلاق والحداثة، والإرهاب والأبارتايد، وصولاً إلى الأمّة، والمقاومة، والعدالة. وظلَّ الضحايا في جميع هذه النقاشات جسوراً للعبور، وعتبات للتفكير وصُوَراً لخلق الرموز، ومفاتيح لإعادة إنتاج الواقع والمعرفة. حسب (لسان العرب) «الضَّحِيَّةُ: على مثال العَشِيَّة وهي ارْتِفاعُ النهار»، وبالتالي تمثل الضحايا عتبات للمعرفة والتنوير كما يريد العالم لها أن تكون، أي أنها مداخل نحو عوالم جديدة كذلك. ولكن من يفكر بالضحايا؟ أو بماذا يفكر الضحايا؟ وماذا يريدون؟
يسعى الضحايا بين أشياء كثيرة إلى العدالة، ويتوقون إلى تحقيقها، وفي ذلك يعرضون مأساتهم للعالم كي يحصلوا أولاً على التعاطف الذي من شأنه أن يجلب العدالة من العالم. ولكنّ التعاطف أصعب من الحرب، بل أكثر تعقيداً ممّا يَتخيّلُ الضحايا. يَتخيّلُ الضحايا أن المدينة المُدمرة كافية، أو أنّ دماءهم المُسالة في الفيديوهات كافية، يتخيلون أن الأشلاء، أو الأطفال أو الرؤوس أو حتى القصص التي تحملها أجسادهم كافية، لكن ذلك لا يكفي فعلاً. فالأخلاق السياسية ستلعب دوراً حاسماً في اتخاذ القرارات الإنسانية (المتعلقة بوقف المجزرة)، ولفهم هذه القرارات يجب أن نستعرض مذاهب الأخلاق السياسية انظر: أوريا، محمد. «النظريات الأخلاقية المعاصرة وإشكاليات التطبيق: المعضلة الأخلاقية واتخاذ القرار نموذجاً» في مجلة «تبين»، العدد 36، 2021. الثلاثة (الأخلاق العواقبية، وأخلاق الواجب، وأخلاق الفضيلة).
أما أخلاق الواجب، فهي أخلاق تنطلق من معيار أخلاقي محدد وتتبع قواعد لا تحيد عنها (أخلاق كونية)، ونجد سوابق لها في الديانات التوحيدية. لكن صرامتها الأخلاقية عامة جداً؛ فهي غير ملائمة لمعضلات أخلاقية تظهر في مجالات معينة، خصوصاً في السياسة والعلاقات الاجتماعية المتشعبة التي تتطلّب المرونة والتكيُّف مع التغيرات الجديدة. أما أخلاق الفضيلة فهي الأكثر انفتاحاً على حلِّ المعضلة الأخلاقية لأنها تُعير الاهتمام للفرد في تَحمُّل مسؤولية خياراته الأخلاقية، ولا تملي عليه شيئاً من خارجه كسعادة الأكثرية أو العدل. كما أنها مذهب يعترف بوجود مصادر مختلفة للأخلاق.
ولكن بالعودة للمذهب الأول، وهو العواقبية (Consequentialism)، فأشهر أنواع هذا التيار هو الأخلاق النفعية (Utilitarianism)، وتكمن فكرة هذا التيار في أنه لا يعترف بوجود المعضلة الأخلاقية، لأنّه يُرتّب الخيارات بحسب أهمية النتائج وسعادة ومنفعة الأكثرية. وقد واجه هذا التيار صعوبات فكرية متعلقة بتحديد سعادة الأكثرية، أو تحديد جودة حياة الأفراد، وهو ما حاول ريتشارد هار (أحد مفكري النفعية) تجاوزه من خلال مفهوم النفعية التفضيلية (Preference Utilitarianism)، والذي يبرر كل ما يساعد على إسعاد تفضيلات الأكثرية من الكائنات الحية. يسعى هذا المذهب إلى وجود مستويين من التفكير الأخلاقي، وهما مستوى التفكير الحَدْسي للحياة اليومية (والذي يُطبّق الحدسَ الأخلاقي/ المبادئ الأولية للأخلاق)، ومستوى التفكير النقدي، فنلجأ إليه في المواقف المصطنعة أو المُتخيّلة، مثل التمارين الأخلاقية، وهو مستوى مثالي قد لا يمكن تطبيقه في الحياة اليومية. لكن يبقى أهم ما في هذا التيار في مُقاربتي هذه للمجزرة، ما قدمه الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر، الذي سيعطي تعريفاً أخلاقياً لمفهوم «الشخص» Peter Singer, Practical Ethics (Cambridge: Cambridge University Press, 2011), p. 73. مُحدِّداً أربع خصائص لاعتبار الإنسان شخصاً. تشتمل الخصائص على كونه عقلانياً أولاً، ويتمتعّ بوعيٍ ذاتي، ويُدرك قدرته على امتلاك رغبات حول مستقبله، إضافة إلى أنّه كائن مستقل (Autonomous Being). وبعد ذلك، سيُدخِل سينجر مفهوم «التفضيلات»، بمعنى أنّ القيمة الأخلاقية للفعل تتحدّد بحسب تفضيلات الأفراد الذاتية، أي قدرتهم على التفكير في مشاريع وأحلام، وعلى تَخيُّل مستقبلهم. سيعتمد سينجر مسألة التفضيلات هذه في البحث الأخلاقي في مسألة الإجهاض من الناحية النفعية. وكما هو معلوم، فإن الإجهاض في نظر سينجر مبرَّرٌ أخلاقياً، لأنّ الجنين لا يمتلك تفضيلات. وبذلك سيصبح للإنسان قيمة أخلاقية، وهي تابعة لكونه شخصاً لا مُجرَّد إنسان وفقاً لهذا التعريف الجوهراني من جهة والسلطوي من جهة أخرى. من الجدير بالذكر أن سينجر ينحدر من عائلة عاشت في المخيمات النازية، وقد فقد أجداده فيها، انظر: «Peter Singer: Some people are more equal than others». وإنّ أخلاق النفعية التفضيلية، وتعريفها للشخص، ستساعدنا على فهم هذا الصمت الهائل أمام المجزرة، كذلك ستُعيد صدى كلمات المجرم واصفاً الضحايا بالحيوانات البشرية أو الحرب بالصراع بين الحضارة والبربرية. كل هذه الأطر النظرية تدفع الناس لتجاوز شكوكها الأخلاقية تجاه المجزرة، وتمنحهم الراحة في تَخطِّي التعاطف وتَجنُّب صورة الموتى.
عَطَفَ، ملاحظة لغوية (فيليلوجية)
الفكرة البديهية عن التعاطف أنه القدرة على تَخيُّلِ معاناة الآخر للإحساس به والشعور بشعوره، ولذا يتطلب التعاطفُ التَخيُّلَ، أي يتطلب إعمال الفعل الجمالي الفني وهو التخييل والمحاكاة، لكنّه كذلك يقع في إطار الأخلاق. وفي ذلك يرى المفكر الألماني ماكس شيلر أنّه من الممكن تصوير ألم شخص ما، وإدراك حقيقته دون أن يعني ذلك الشعور به، فالشعور في هذه الحالة يتطلب معرفة للذات التي تتعرض لهذا الألم. وبذلك نعني أنها تتطلب أن نضع ذاتنا في مكان ذات الآخر دون أن تذوب تلك المسافة الفاصلة بين الذاتين. لكن وتبعاً لنظريات الأخلاق التي تشتغل في اتخاذ القرارات السياسية، فيبدو أن التعاطف فعلٌ لاحقٌ للحكم الأخلاقي. فكيف يمكن التعاطف مع إنسان لا يرقى لأن يكون شخصاً وفقاً لبيتر سينجر؟ أو كيف يمكن التعاطف مع الشخص المرمي في معضلة السكّة الحديدية حين نعلم أننا سنُنقذ أشخاصاً آخرين وفقاً للعواقبية؟ أو كيف يمكن فهمُ التعاطف في حالة السوريين الراغبين بطرد اللاجئين السوريين في بعض الدول المضيفة؟ وكيف نفهم تعاطفهم ذاتهم مع الضحايا في غزة، أو مع ضحايا مجتمعات الروهينغيا؟ تضعنا هذه الأفكار أمام اختبار التعاطف، لتحديد ما إذا كان فعلاً أخلاقياً، أو جمالياً؟ أم أنّه فأرُ تجارب الإيديولوجيا؟
في معاجم اللغة العربيّة، نجد في مصدر العطف، عطفَ الشيء أي حَناه وأماله، وأن الناقةَ تلوي عنقها فتعطف. ولو ذهبنا لتأثيل العطف، فنجد العطو، أي أعطى وتناول، وتعاطى المرء أمراً: قام به أو خاض فيه. يمكن مراجعة مقال «ألفاظ المحبة والتعاطف» بقلم عبد الحق فاضل في مجلة المورد، 1975. تفيدنا هذه الملاحظة اللغوية في النظر إلى طبيعة فعل التعاطف في العربيّة، فهو فعل حركيّ قائم على الإمالة، وتغيير الموضع، والحنو، والتحرُّك. وبالتالي فإنّه لا يتقارب مع رؤية ماكس شيلر للفعل بوصفه مجرد حدس حسّي (Fellow Feeling) وإنّما هو فعل يتطلب التغيير من السكون للحركة. فهل يمكن للتعاطف أن يقتصر على التَخيُّل؟
جسد بدون رأس على إنستاغرام
في حديثه عن الافتراضي (virtual)، يرى المفكر الفرنسي جان بودريار بأن التكنولوجيا تَوسَّطت كل شيء، لكنّه يتساءل ما إذا كانت ستساهم في نهاية العالم الحقيقي أم أننا نحن من سنقوم بهذا الدور. ويقترح مبدأ الواقع الفائق (Hyper reality) للتفكير في علاقة الواقع بالصورة في الإعلام (كل ذلك قبل ثورة وسائل التواصل الاجتماعية)، حيث يعتقد بودريار من خلال هذا المفهوم بأن الواقع الفائق يُوهم المستخدمين بإعادة إنتاج الواقع من خلال تعميتهم عن الواقع نفسه، وهو ما تريده السلطات نفسها سواء عبر الرغبات المبثوثة في المقاطع المصورة القصيرة (الريلز) أو من خلال تلفزيونات الواقع (أو الشاشات المقسومة في الحروب) التي تدفع للتَخيُّل وإعادة إنتاج الواقع، أو من خلال الحروب الانستاغرامية التي نخوضها اليوم ربّما بدافع التعاطف أيّاً كان نوعه (جمالي، أخلاقي، إيديولوجي).
لم يعد الوهم ممكناً لأن الواقع لم يعد ممكناً جان بودريار، «الفكر الجذري أطروحة موت الواقع»، ترجمة: منير الحجوجي، (الدار البيضاء، دار توبقال، 2006)، ص39. ، فإنّ مجال وسائل التواصل الاجتماعي هو الرمز لا الواقع، وبذلك نعتاد الصورة وتصبح فكرة، ويصير الضحايا قصصاً مُصوَّرة، وحكايات، إنّها عملية تعمية جان بودريار، المرجع السابق نفسه، ص61. غرضُها إعادة توليد وَهمِ الواقع. وهي محاولة جادة «لإنقاذ مبدأ وجود الواقع» أو في حالتنا لإنقاذ مبدأ وجود التعاطف، تعاطفنا مع ضحايا هذه المجزرة.
هكذا يصبح حدوث الواقع (الحرب) حدوثاً زائلاً مع نهاية مدة القصص المصورة على انستاغرام، وتصبح الشوارع المُهدّمة رموزاً تعبيرية ويصبح اللاجئون ضريبة لا بدّ منها لمعركة لا تنتهي في مسارات لا نهائية من الخيال. ومن يمكن له أن يفهم ذلك سوى الضحايا أنفسهم؟ فكيف للسوريين اليوم أن يفكروا في غزة؟ وكيف لهم أن يشرحوا تواطؤ العالم للغزيين وكيف يمكننا أن نفهم موقعنا في هذا العالم بعد الآن. وكيف يمكننا أن نعرف ما هو العالم وأين يقع، كي نستردُّ بلادنا منه.