في لقائي الأول مع إيتيل عدنان (1925-2021)، قالت لي: «لست ثرية ولم أكن يوماً ثرية، من يريد الاطلاع على أعمالي عليه أن يبحث عنها». كان هذا الكلام أواخر عام 2012، أي بعد فترة وجيزة من مُشاركتها في الدورة الثالثة عشر من documenta التي انعقدت في مدينة كاسل الألمانية، حيث أُقيمَ أول معرض استعادي لأعمالها التشكيلية. شكَّلَ هذا الحدث منعطفاً في الفصل الأخير من حياتها، إذ جلب لها اهتماماً فنياً ونقدياً غير مسبوق على المستوى الدولي. إيتيل عدنان كما تعرَّفتُ عليها كانت «فنانة شابة» في السابعة والثمانين من العمر وعلى وشك أن تصبح نجمة في عالم الفن.
وُلدَت إيتيل عدنان في بيروت من أب سوري دمشقي وأم يونانية من سميرنا (إزمير اليوم في تركيا) في السنوات التي تلت سقوط الإمبراطورية العثمانية (1922)، وبدء الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان (1920-1946). عاشت في فرنسا والولايات المتحدة، التي حملت جنسيتها أيضاً. كتبت بالفرنسية والإنكليزية، و«رسمت بالعربية» كما كانت تحب أن تقول. سافرت كثيراً وتضامنت مع العديد من قضايا القرن العشرين، كالنضال ضد حرب فيتنام، وحركات التحرير، والمطالبة بالحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والحركات النسوية، والقضية الفلسطينية. كانت فيلسوفة أيضاً، ومن يقرأ أعمالها يُدرك إلى أي مدى كانت في حالة حوار متواصل مع فلاسفة ومفكري العصور القديمة والحديثة. من الصعب جداً تلخيص أو اختصار إيتيل عدنان، ولكن ربما نستطيع وصفها بكائن غاية في المُعاصَرة وذلك حتى بعد رحيلها، شاهدة أبدية على ما آل إليه وجودنا كبشر على كوكب الأرض وعلى ما لم يأتِ بعد.
دخلتُ إلى عالم إيتيل عدنان عبر سفر الرؤيا العربي (L’Apocalypse arabe)نعتمد هنا عنوان الترجمة الأخيرة التي قامت بها أوديت خليفة (دار التنوير، بيروت، 2016)، لكونها الأكثر قُرباً من التأثيرات اللاهوتية للنص. قامت إيتيل عدنان بترجمة النص بنفسها إلى الإنكليزية (The Arab Apocalypse)، ونُشر عام 1989 في دار النشر التي أسستها شريكتها سيمون فتَّال في الولايات المتحدة (The Post-Apollo Press, 1989). أما باللغة العربية، فهناك ثلاث ترجمات: ترجمة أولى قام بها الشاعر السوري نزيه العظمة – من دون علم المؤلِّفة ومن دون الرسوم، نُشرت في مجلة «الآداب الأجنبية» عام 1982؛ ترجمة للشاعر العراقي شوقي عبد الأمير حملت عنوان «يوم القيامة العربي» (دار الصقَّار، باريس، 1991)، وهي الترجمة التي أخذنا منها صور النص المرافقة للحوار كونها المتوفرة لدينا؛ وترجمة أوديت خليفة التي سبق ذكرها.، وهو كتاب مؤلف من 59 قصيدة كتبتها باللغة الفرنسية وتتخلَّلها رسوم. رافقت كتابةُ النص بدايةَ الحرب الأهلية في لبنان (1975-1976)، إلَّا أنه لم يُنشَر حتى عام 1980 ADNAN, Etel, L’Apocalypse arabe, Paris, Éditions Papyrus, 1980..قادني هذا الكتاب إلى البحث في مفهوم القيامة ورؤيا نهاية العالم في أعمالها، وهو ما يُعرَف بالأپوكالپتية (Apocalypticism) يعود أصل الكلمة إلى اليونانية القديمة: apokálupsis، التي يمكن ترجمتها بـ «الكشف» أو «الوحي» أو «النشور».، وتأثُّرها بالنصوص الدينية في التراث اليهودي-المسيحي، وأشهرها رؤيا يوحنا (L’Apocalypse de Jean) أو ما يُعرف بالإنكليزية بـ«كتاب الرؤيا» (Book of Revelation)، وهو الكتاب الأخير في العهد الجديد الذي يَعِد بمملكة الخلود بعد ظهور المُخلِّص (Messiah)، وانتصار «الخير» على «الشر»، ونهاية العالم كما نعرفه بعد وقوع كارثة كونية كُبرى.
حدثَ هذا اللقاء على ضوء ثورات الربيع العربي وما تلاها من عنف ودمار وشعور عام بالإحباط والهزيمة، أي أن قراءتي لنصوص إيتيل عدنان التي تتحدث فيها عن الكارثة العربية والاقتراب من النهايات التاريخية والسياسية، كانت متأثرة بما يحدث في سوريا وغيرها من بلدان المنطقة العربية التي تسكن كتاباتِها وأشعارَها. وهكذا طلبتُ مقابلتها لأول مرة لمُحاورَتها حول هذا النص الصعب. جرَّ هذا اللقاء الأول الذي دار في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 العديد من اللقاءات الأخرى وجلسات الدردشة التي استمرت، وأحياناً تباعدت، حتى توقفتُ عن محاورتها في السنوات الأخيرة من حياتها مكتفيةً بصداقتها وبالضوء الذي تجلبه إلى هذا العالم. مضت ثلاث سنوات على رحيلها، ويبدو أن هذه الحوارات لم تعد تستطيع الانتظار. أعود إلى إيتيل عدنان وإلى كتابتها مع كل كارثة عربية، ومع بدء الإبادة الجماعية التي يتعرَّض إليها الفلسطينيون اليوم كان من الطبيعي أن أفتح سفر الرؤيا العربي من جديد لأتذكر أن كل ما يحدث الآن سبق وأن حدث من قبل، ومن المُرجَّح أنه سيستمر بالحدوث.
دارت جميع هذه الحوارات بين عامي 2012-2016 في منزل إيتيل عدنان في باريس، وقمتُ بترجمتها من الفرنسية وبإعدادها كي تتناسب مع النشر. وهنا يهمني أن أشكر شريكة حياتها، الفنانة والناشرة السورية الأصل سيمون فتَّال، التي أدخلتني إلى عالمهما ومدَّتني بالعديد من المعلومات والمصادر، وكانت حاضرة في العديد من هذه اللقاءات وأغنتها بتفاصيل وتوضيحات لم يكن من الممكن أن أحصل عليها من أي مصدر آخر. إيتيل وسيمون، كم أنا مدينة لكما.
*****
1- البدء من القيامة العربية
دار هذا الحوار الأول على ثلاث جلسات بين 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 و23 شباط (فبراير) 2013
إيتيل، كيف يكتب المرءُ كتاباً كـ«سفر الرؤيا العربي»؟
وُلدتُ في عالم ما بعد سقوط الإمبراطورية العُثمانية الأپوكالپتي. كان قد اندلع حريق سميرنا عام 1922، ومع نهاية هذا العالم خسر العديد من أفراد عائلتي، ومنهم والدي، عملهم كضبَّاط وموظفين في سوريا العُثمانية. حلَّ الانتداب الفرنسي محل الاحتلال العُثماني، وهكذا بدأ استعمار جديد في المنطقة. أذكر أني كنت في الحادية عشر من عمري عندما رأيت في مكتبة المدرسةكانت إيتيل عدنان طالبة في مدرسة الراهبات الطيبات (Les Bonnes Soeurs) في بيروت، حيث حصلت على تعليمها باللغة الفرنسية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. كتاباً صغيراً يحمل عنوان L’Apocalypse de Jean (رؤيا يوحنا). أثار العنوان اهتمامي واجتاحتني رغبة عارمة بقراءته، إلَّا أن إحدى الراهبات المشرفات منعتني من قراءته مُتحجِّجة بصغر سني، وناولتني بدلاً منه رواية للكاتب الفرنسي جول ڤيرن. في تلك الأيام، لم يكن لدينا كُتب في المنزل عدا عن العهد الجديد باليونانية، لأن أمي كانت يونانية، يجلس إلى جانب قرآن والدي، وفي الوسط بينهما كانت أمي تُشعل شمعة. وبما أن الأتراك كانوا حلفاء الألمان خلال الحرب العالمية الأولى، كان يوجد لدينا أيضاً قاموس ألماني-تركي. كان هذا كلَّ شيء. إلاَّ أني لم أتوقف عن التفكير في ذلك الكتاب الصغير الذي منعتني الراهبة من قراءته… في كانون الثاني (يناير) 1975، كنتُ قد عدت إلى بيروت حيث عملت كصحفيةفي عام 1949، حصلت إيتيل عدنان على منحة لدراسة الأدب والفلسفة في جامعة السوربون في باريس، قبل أن تقودها مجموعة من الصدف إلى زيارة الولايات المتحدة عام 1955. وفي أميركا الستينيات، بدأت رحلة إيتيل عدنان الحقيقية في الرسم والكتابة. ولكن مع الغليان والقلق الذي اجتاح المنطقة العربية بعد هزيمة حزيران 1967. عادت إيتيل عدنان للاقتراب من العالم العربي حتى استقرت مجدداً في بيروت عام 1972. في هذه الفترة، عملت في الصحافة وبشكل خاص في جريدة «الصفا» الصادرة باللغة الفرنسية، وذلك حتى غادرت لبنان مرة أخرى مع اندلاع الحرب الأهلية وصدور روايتها «ست ماري روز» (1977)، التي عرَّضتها إلى تهديدات من قبل الكتائب اللبنانية.. لم تكن الحرب قد اندلعت بعد بشكل رسمييختلف الكثيرون في تاريخ بدء الحرب، ومع ذلك هناك اتفاق واسع على كون 13 نيسان (أبريل) 1975 هو التاريخ الرسمي لبدء الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت حتى عام 1990. عندما راودتني رغبة بكتابة قصيدة عن الشمس. أردت كتابة قصيدة مُضيئة، مُتعِبة، تكرارية عن الشمس، قصيدة مجنونة. وفي يوم من الأيام، وأنا في المكتب، كتبت من دون توقف ولا تَردُّد الفصل الأول مما سيصبح لاحقاً سفر الرؤيا العربي. لعلني كُنت مشحونة بالتوترات الكامنة، الكارثة الآتية، ذلك الشيء الذي لامسته في قطار بيروت ← الجحيم (1970)كتبت إيتيل عدنان ثلاث قصائد طويلة يمكن النظر إليها اليوم كثلاثية أپوكالپتية متأثرة بمناخ عام من التوترات العنيفة في المنطقة: يبوس (Jébu, 1967)، التي كتبتها على ضوء ما يُعرف بـ«الهزيمة الكُبرى» وسقوط مدينة القدس كاملةً في أيدي الإسرائيليين (يبوس هو أحد الأسماء القديمة للقدس)؛ قطار بيروت ← الجحيم (L’Express Beyrouth ⟶ Enfer, 1970)، التي تُدين فيها المجازر التي بدأت في المخيمات الفلسطينية في الأردن أو ما يُعرف بـ«أيلول الأسود»، وحيث تُحذِّر من الخطر الذي بدأ يُهدد مدينة بيروت مع صعود الكتائب اللبنانية وتفشي العنف؛ وآخرها «سفر الرؤيا العربي»، وهي قصيدة بداية الحرب الأهلية في لبنان. كُتبت هذه القصائد الثلاثة بالأسلوب نفسه وهو أسلوب الرؤيا التي تُنبئ بالنهاية القادمة كما في العهدين القديم والجديد.. عندما كتبتُ القصيدة الثالثة التي أتحدثُ فيها عن طائرة الفانتوم، كانت قد اندلعت الحرب وكنا منذ ذلك الحين بانتظار هجمة إسرائيلية، إلا أنها لم تكن قد حدثت بعدبدأ الجيش الإسرائيلي بغزو جنوب لبنان لمحاربة المقاومة الفلسطينية عام 1978، وهو ما يُعرف بـ«عملية الليطاني» التي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف فلسطيني ولبناني وتشريد عشرات الآلاف.. ثم في شهر أيار (مايو) 1975، توفيت مي خوري، زوجة المهندس المعماري بيير خوري. ذهبنا إلى الجنازة، وهناك تأملت الطبقة العُليا اللبنانية متشحة بالسواد كما في الأفلام اليونانية، وفي تلك اللحظة عرفتُ أننا نشهد نهاية عالم ما. كنا في شهر أيار (مايو) وكان اسمها مي، وهكذا كتبت: «إسمها مَي…» (القصيدة التاسعة). ثم بدأ حصار مخيَّم تل الزعتر الذي استمر شهرين، وانتهى بمجزرة أسفرت عن مقتل آلاف الفلسطينيين (12-14 آب 1976). رافقت هذه الأحداث ثلثي الكتابة التي انتهيت منها في صيف عام 1976. يتبع ترتيب النصوص التسلسل الزمني لكتابتها، وفي كل مرة، كنت أكتب على دفتر الرسم نفسه الذي أعطى شكل الكتاب (المستطيل) عند الطباعة. المخطوط موجود الآن في كاليفورنيا.في عام 2018، تبرَّعت كل من إيتيل عدنان وسيمون فتَّال بأرشيفهما إلى مكتبة بانكروفت في جامعة بركلي في كاليفورنا.
تتحدثين عن دفتر الرسم الذي أعطى شكل الكتاب عند الطباعة، إلَّا أن الأمر لا يقتصر على شكل الكتاب، فالنص بأكمله تتخلله رسوم ورموز تُشكِّل جزءاً لا يتجزأ من الجُمل التي تحتويها. كيف نلفظ رسماً؟ كيف نفك معناه؟
صحيح، ولكن لا يجب ترجمة هذه الرسوم إلى كلمات. إنها ما لا يُقال، فهي لا ترمز إلى شيء محدد. إنها ما يفوق المعنى، تلك الحاجة إلى مساحة قبل إيجاد الكلمة، اللحظة التي لم نجد فيها الكلمة بعد. لحظة توقُّف، امتداد غير منطوق للفكرة أو حتى ما قبل الفكرة، كما هو الحال عندما نُخربش شكلاً ما ونحن نفكر. مثلاً، كنت أفكر في مَركَب فرسمت شيئاً يُشبه المَركب، ولكن لم يكن هذا ما أريد أن أقوله تماماً. الكلمة لم تكن قد أتت بعد…
الكلمة غير موجودة؟
لا أعرف، ولكن هذه الرسوم التي تتخلَّل النص هي كالصمت في الموسيقى… إنها ضرورة. يضبط شكلُ النص إيقاعَه دون أن تكون هناك حاجة إلى ترجمته إلى كلمات، ولكنه تأثير بصري أيضاً. عندما ترجمتُ النص إلى الإنكليزية (1989)، قمتُ بتعديل الرسوم بعض الشيء لكي تتناسب مع تنسيق الصفحة. وفي النسخة العربية (ترجمة شوقي عبد الأمير، 1991)، أردتُ التخفيف من عدد الرسوم لأن الأبجدية العربية هي بحدِّ ذاتها رسم.
إن هذه العلاقة مع اللغات مهمة جداً في أعمالك. اللغات، الهويات، وبالطبع، الأپوكالپتية…
أجل، ولكن الأپوكالپتية هي الأهم.
أنتِ إذن تؤمنين بالقيامة؟
أجل، سينتهي العالم. الأرض مكتظَّة بالسكان ولم تعد قادرة على إطعام الجميع. العالم العربي مكتظّ بالسكان. هناك تُخمة من كل شيء. انظري إلى لبنان مثلاً، لقد أصبح بلداً غير قابل للعيش. القيام بجولة في لبنان هي كأن تعبري مدينة لوس أنجلوس بالسيارة، ولكن الفرق يكمن في وجود صحراء خلف لوس أنجلس، هناك فراغ، مما يخلق شيئاً من التوازن. أما في لبنان، فلم يعد هناك مساحات فارغة. وأيضاً، كيف سنُطعِم كل سكَّان الأرض؟ الأوروبي المتوسط الذي لا يكف عن التذمُّر، يأكل كما ملوك فرنسا. إلى متى سيبقى النيل مصدر ماءٍ لكل سُكَّان الوادي؟ ليس الاحتباس الحراري إلَّا نتيجة للفوضى التي أحدثها الإنسان في نظام الطبيعة، وهذه الفوضى هي التي تُسبِّب مختلف أنواع الكوارث البيئية وهي التي ستجلب القيامة في نهاية المطاف. إن الإنسان هو من سيجلب القيامة.
ولكن القيامة التي تكتبين عنها هي قيامة العرب على وجه الخصوص… يقول الراحل سمير قصير (1960-2005) في كتابه الأخير «تأملات في شقاء العرب»، إن «السمة الأكثر وحشية» لشقاء العرب تكمن في «عجزهم عن أن يكونوا بعد أن كانوا»، مشيراً بذلك إلى «البكاء على الأطلال»، و«قياس الذات (…) بمرجع معيار تاريخي مأخوذ من زمن آخر»قصير، سمير، «تأملات في شقاء العرب» (2004)، تر: جان هاشم، مر: هيثم الأمين، دار النهار للنشر، بيروت، 2005، ص 21-22.. هل توافقينه؟
هذا صحيح للغاية.
لقد تعرَّضَ العالم العربي لخيانة عميقة بعد قرون من الاحتلال العُثماني، وُعِدَ هذا العالمُ بالاستقلال، إلَّا أنه لم يمرَّ يوم واحد كان فيه مستقلاً فعلاً، بل تمَّ إذلالهم بشكل مستمر. وهذا الذلّ قد ينتج أيضاً عن فعل لفظي، كذلك الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين مثلاً. يتم التلاعب بالشعوب العربية باستمرار. العثمانيون، القوى الاستعمارية، الزعماء العرب… بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، استطاعت تركيا أن تنفد بجلدها وأن تنهض من جديد، على الأرجح أن مضيق البوسفور هو الذي حماها: مدخل مباشر إلى البحر، استقلال، انفتاح. وإن وُجِدَت في الماضي قواعد عسكرية أجنبية في إيران، إلَّا أنه لم يتعرَّض لاحتلال ثقافي كالذي تعرَّض له العالم العربي، عالم سُرقت منه لغته وثقافته. الوجود العسكري والاحتلال الثقافي، كما حدث عبر الفرانكوفونية مثلاً، دمَّرا المنطقة من المغرب إلى المشرق. تعرَّضت هذه المنطقة إلى عنف حقيقي ضد اللغة، وهذا العنف لم يبدأ منذ قرن فقط. لقد بدأ مع ما فعله الأسبان في المغرب العربيبدأ الغزو الإسباني لبعض مناطق شمال أفريقيا في نهاية القرن الخامس عشر، واستمرّ بشكل متقطع حتى منتصف القرن العشرين. تملك إسبانيا حتى اليوم مستعمرتين في شمال المغرب: سبتة ومليلية.، والصليبيون في المشرق (من القرن الحادي إلى الثالث عشر). أصبح سُكَّان هذه المناطق جزءاً لا يتجزأ من تاريخ من احتلَّهم، وعلاقة القوة هذه مستمرة حتى الآن وإن كان تحت مسميات أخرى. لم يكفّوا عن التواجد في ديارنا، عن إذلالنا وعن خيانتنا. كما أنهم يدفعون القادة العرب إلى الجنون، يحيطونهم بالجواسيس، يتآمرون معهم، ثم يتآمرون عليهم. يمارسون عليهم ضغطاً شديداً، يمارسونه بدورهم على شعوبهم. انظري إلى ما فعلوه في العراق مثلاً، لقد حطموه ثقافياً. عندما زرتُ بغداد عام 1976، تفاجأت بعدد الكُتَّاب والشعراء. كان العراق مثقفاً «زيادة عن اللزوم» من وجهة نظر الغرب، لذلك عملوا على تحطيمه. كتبت قصة عن هذا الموضوع، سيد الكسوف (Master of the Eclipse)، تحدثت فيها عن تدمير العراق ثقافياً وتاريخياً عبر لقائي بالشاعر بلند الحيدري (1926-1996). انظري أيضاً إلى الصحافة الفرنسية: إن ارتكب جزائري جريمة قتل في فرنسا، سيقول الإعلام الفرنسي إن «مسلماً ارتكب جريمة قتل». لماذا يقولون «مسلماً» ولا يقولون «جزائرياً»؟ هل يدَّعون أنهم لا يعرفون من هو الجزائري؟ ولماذا هو هنا أصلاً؟ وما الذي دفعه لارتكاب جريمته؟ عنوان صحفي كفيل بأن ينزع هوية شخص ما وبأن يُلصق به هوية أخرى يدَّعون أنهم لا يعرفونها. كيف أنهم لا يعرفوننا؟ علينا ألَّا نتعجَّب إذن إن لم يعد هذا الشخص يعرِف نفسه مع الوقت إلَّا كمسلم.
تُشيرين هنا إلى نقطة مهمة: الادعاء بعدم المعرفة أو حتى عدم الفهم، وذلك على الرغم من هذا التاريخ المتداخل الذي تتحدثين عنه. هل من الممكن أن يكون الغرب فعلاً عاجزاً عن فهمنا؟
ما لا يفهمه الغرب هو أن مشكلة العالم العربي الحقيقية تكمن في كون الإسلام، وبالمناسبة اليهودية أيضاً، هو دين محكوم بفكر توحيدي يتدَّخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية. إنه الدين الذي يُملي كيف تُقاد الحروب والشعوب، في الوقت نفسه الذي يُملي فيه على الناس كيف يجب أن يغتسلوا ويتزوجوا ويُحضِّروا طعامهم. إن الكُتُب السماوية لهذين الدينين هي من وجهة نظر المؤمن نقل حرفي لكلمة الله، أي أنها فوق أي دستور أو نص تشريعي. خلَّصَ يسوع المسيحية من هذه الإشكالية عندما قال: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، أي أنه فصل السياسي عن الروحاني. كما أنَّ المسيحية لا تعاني من وطأة التوحيد الراديكالي: هناك الإله، يسوع، مريم… أي أن الغرب المسيحي لم يختبر هذا الانفصام (بين الدين والقانون)، مما يجعله غير قادر على فهمه. اليوم، لفهم المشكلات التي تقود المنطقة العربية إلى الكارثة، يجب أن نفهم ثقل التوحيد في الكيان المُسلم. يعيش المسلم في فرنسا مُعضلة حقيقية: يسمح له الدين بالزواج من أربع نساء، ولكن الدستور الفرنسي يمنع تعدد الزوجات. كيف له أن يضع المدني فوق الإلهي؟ يتجنَّب الجميع الحديث عن أصل المُشكلة، بما في ذلك كبار المثقفين العرب. كما أن وسائل الإعلام لا تريد إعطاء مساحة لحوار من هذا القبيل. تُدين وسائل الإعلام الغربية التطرُّف الديني، ولكنها لا تريد الحديث عن الأسباب التي تدفع المسلم إلى التطرُّف، وذلك لأن شرح أصل المشكلة يعني البدء بحلِّها، وحل المشكلة سيؤدي إلى فقدان سيطرة القوى العالمية على مناطق من العالم تهمها استراتيجياً واقتصادياً. انظري أيضاً إلى كيف يعجز العرب عن التفاهم، وكيف يخسرون حروبهم، إلى عجز المعارضة السورية عن التفاهم بينما يتم قتل الشعب السوري، كل هذه نماذج عن العجرفة العربية. الكُلُّ يتماهى مع الإله الواحد، وهو فكر مُناقِض في جوهره لطبيعة هذه المنطقة المُتعددة دينياً وعِرقياً. يجب أن يضع المثقفون إصبعهم على جوهر المشكلة وأن يُخرِجوا الحديث عنها من عالم المُحرَّمات. إنها المعركة الحقيقية التي يجب أن نخوضها لكي نُبطئ دوامة الكارثة في الشرق والغرب على حد سواء، إلَّا أن المشروع الاستعماري لن يسمح على الإطلاق بقيام دول ديمقراطية مستقرة في المنطقة. لن يرفعوا أيديهم عن العالم العربي ولن يسمحوا لسكانه بأن يعيشوا بسلام أبداً.
على صعيد شخصي، كيف عشتِ ما خلَّفه الاستعمار وتصادم مختلف هذه الهويات والحروب التي شاركت بدورها في تشكيلك كإنسانة وكاتبة ورسّامة؟
احتجتُ وقتاً طويلاً حتى وجدت توازني بين أبي السوري المسلم وأمي اليونانية المسيحية وتعليمي لدى الراهبات الفرنسيات في بيروت. كما أنه لم يكن لدينا لغة مشتركة حقيقية نتحدث بها في المنزل. كانت لغة أبي هي العربية، ولغة أمي اليونانية، لذلك كانت التركية هي الأقرب لتكون اللغة التي نتحدث بها ثلاثتُنا. والحقيقة أن عدم وجود لغة مشتركة نجيدها ثلاثتنا حرمني من أن أكون أكثر قُرباً من والدتي، كُنا عاجزتَين عن التواصل بشكل حقيقي. وفي المدرسة، عانينا من احتقار الراهبات الفرنسيات، ليس فقط لأننا كنا من السُكَّان الأصليين ولأن لغتنا هي العربيةمن المهم التذكير بأنه كان يُمنع على طلاب مدارس الانتداب الفرنسي التحدُّث باللغة العربية في الصف أو حتى في باحة المدرسة. كتبت إيتيل عدنان عن تأثير هذه المرحلة الدراسية الأولى على علاقتها مع اللغة في نص قصير حمل عنوان «أن تكتب بلغة أجنبية» (To Write in a Foreign Language, 1984).، ولكن أيضاً لأننا كنا مسلمين: «مسكينة إيتيل، والدها مسلم». حتى أنه كان لدي صديقة انتحرت في سن الرابعة عشر لأنها لم تعد تحتمل التمزُّق بين والدها المسلم ووالدتها المسيحية. في تلك اللحظة، قررت أن أجعل من كل هذه الهويات مصدر غنى وأن أقبلها. أعتقد أن ذهابي إلى الولايات المتحدة لعب دوراً أيضاً، حرَّرني من شيء ما. وكما أنقذني أن أصبح رسامة وكاتبة، أنقذتني فلسطين أيضاً. زرتُ أريحا والقدس عام 1966، ووقعت في حب فلسطين والفلسطينيين. ابتداءً من تلك اللحظة، بدأت بالعودة إلى العالم العربي وعُدتُ للاستقرار في لبنان حتى اندلاع الحرب الحرب الأهلية.
واليوم تعودين للعيش في باريس… ما الذي قادك للعودة إلى باريس على الرغم من تعلُّقك الشديد بالولايات المتحدة حيث أمضيت قرابة نصف قرن من الزمن؟
أتيت للمرة الأولى إلى باريس لدراسة الفلسفة والأدب في جامعة السوربون (1949-1955)، وبعدها ذهبت لزيارة بعض الأصدقاء في الولايات المتحدة وقررتُ أن أبقى هناك. عشتُ في الولايات المتحدة لسنوات طويلة، ويكفي أن تعبري طرقات أميركا مرة واحدة لكي تسكُنك مدى الحياة. ولكن اليوم، لأسباب صحية ولرغبتي بالاقتراب من العالم العربي، عدت للعيش في باريس التي لم أتوقف عن زيارتها. كما لم أَعُد أستطيع ركوب الطائرة، وتواجدي في باريس يسمح لي بالتنقُّل بالقطار عبر مختلف أرجاء أوروبا. إلَّا أنه من الصعب جداً العمل في فرنسا، من صعب إيجاد دار نشر أو صالة عرض. الوضع مختلف في لندن مثلاً حيث أعمل كثيراً، وفي ألمانيا أيضاً باعتبارها أكثر انفتاحاً من فرنسا على الثقافات الأخرى، ولدي عدة مشاريع في دول الخليجمن أهم هذه المشاريع كان المعرض الاستعادي الذي أُقيم في المتحف العربي للفن الحديث في مدينة الدوحة عام 2014، وقد حمل عنوان إيتيل عدنان بكل أبعادها. رافق المعرض نشر كتاب ضخم شمل عدداً كبيراً من أعمالها التشكيلية والأدبية منذ عام 1960 حتى تاريخ المعرض.. ترجم الألمان حتى الآن ثمانية من كتبي، بينما كان علي أن أجد بنفسي من يترجم كتابي الأخير إلى الفرنسية ولا أعرف أين سأنشره. تُقاطِعُ دور النشر الفرنسية الكبيرة أعمالي، إن كان تلك التي تَنشر لكُتَّاب من المشرق العربي أو حتى تلك التي تَنشر لكُتَّاب من الولايات المتحدة. في أميركا يعتبرونني كاتبة أميركية لأني كتبت كثيراً عن أميركا، حتى أنهم يحضِّرون الآن أنتولوجيا لأعماليDONOVAN, Thom, SHIMODA, Brandon (Eds), To Look at the Sea is to Become What One Is: An Etel Adnan Reader, Volume I & II, Brooklyn & Callicoon, New York, Nightboat Books, 2014.. كتبت أيضاً عن باريس (باريس عندما تتعرى، 1993)ADNAN, Etel, Paris, When It’s Naked, Sausalito, The Post-Apollo Press, 1993.، ولكني لست متأكدة من توفُّر الكتاب في المكتبات الفرنسية. من الصعب فعلاً الوصول إلى الناشرين في فرنساتغيَّر الوضع كثيراً بعد فترة وجيزة من إجراء هذا اللقاء. أصبحت معارض إيتيل عدنان الكثيرة في الفصل الأخير من حياتها، فرصة لنشر نصوص قديمة وجديدة مرافقة لكتالوجات هذه المعارض، إضافة إلى نشر العديد من نصوصها ومجموعاتها الشعرية والقصصية في دور نشر مستقلة أو مختصة في مجال الفن التشكيلي. كما أن رحيلها في عام 2021، قاد إلى البدء بنشر أعمالها في فرنسا بشكل أكثر جدية ومن قبل دور نشر أكثر ثقلاً في عالم الشعر والأدب.. كما كنت أتمنى لو كان لدي ديوان شعر يجمع قصائدي المترجمة إلى العربية، ديوان حقيقي كما دواوين الشعر العربية. من المؤسف أن الناشرين العرب في فرنسا لا يتعاونون مع بعضهم بشكل أفضل. على كل حال، لم يبقَ الكثير من القُرَّاء في العالم العربي، كان الوضع مختلفاً في العراق قبل تدميره… أصبح العالم العربي غير قابل للعيش. وحتى لو اشتقنا إليه، لم نعد قادرين على التأقلم معه. كنت أتمنى لو كان بإمكاني أن أعود إلى بيروت، ولكن هذا غير ممكن. يجب أن نعيش اليوم في مدن مثل لندن أو نيويورك، باريس خيار جيد أيضاً.
لِنعُد إذن إلى العالم العربي. كيف تنظرين إلى ما يحدث اليوم في سوريا؟
إن خسرنا سوريا، سنخسر العالم العربي بأكمله. لقد سُكبت الكثير من الدماء وخطر الحرب الأهلية بات موجوداً في كل مكان، حتى في بلد مثل فرنسا التي لم تعد تحتمل مهاجريها الموجودين هنا أصلاً بسبب الاستعمار. ولكن لا يجب أن يمنعنا كل هذا الدمار من الرغبة بمستقبل أفضل. لا يجب أن يمنعنا إدراكنا للتلاعب المستمر الذي يتعرَّض له العالم العربي من السعي نحو مستقبل أفضل. لا يجب أن يمنعنا إدراكنا لاستحالة الخلاص في هذا العالم من الرغبة بالعيش. نحن نشهد الحرب نفسها منذ فجر التاريخ ومازلنا هنا، لا خيار لدينا سوى أن نعيش. ولكن الحديث عن كل هذه الأشياء يُتعبني، أُفضِّل أن نتوقف الآن.