مطلع الشهر الجاري عُقدَ اجتماعٌ في مدينة غازي عنتاب التركية، ضمَّ أطرافاً عسكرية وسياسية من المعارضة السورية، لبحث هدف رئيسي يتعلق بـ«مناقشة سبل تذليل التحديات» بحسب البيانات الرسمية، فيما تحدّثت أوساط مُطّلعة على الاجتماع عن أنّه كان يهدف إلى تسهيل فتح معبر أبو الزندين مع مناطق سيطرة النظام السوري، وسرعان ما ارتسمت صورة عكسية ومُخالِفة للهدوء الذي ساد البيانات الرسمية، وترجمها شِقاقٌ بين بعض الفصائل وشخصيات من المعارضة.
الاجتماع، الذي عُقدَ في مطار المدينة، ضمَّ كلاً من رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة هادي البحرة، ورئيس هيئة التفاوض بدر جاموس، ورئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى، والأمين العام لمجلس العشائر والقبائل السورية جهاد المرعي، وقادة فصائل الجيش الوطني، بالإضافة إلى مندوبين عن كل من وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات التركيَين.
وبحسب مصادر خاصة للجمهورية، سادت أجواء سلبية خلال الاجتماع الذي شهد خلافات حادة بين بعض الحضور، ولم تتوقف الخلافات على النزاع بين قادة فصائل الجيش الوطني، بل انضمَّ إليها هذه المرة عبد الرحمن مصطفى، رئيس الحكومة السورية المؤقتة، الذي وجّه الاتهامات لقادة الجبهة الشامية وحركة التحرير والبناء (تضمُّ فصائل المنطقة الشرقية)، حيث قال المصطفى خلال الاجتماع إنّ الفصيلين يقفان وراء الاحتجاجات الأخيرة و«حالة الفوضى وتعطيل عمل المؤسسات الحكومية» في مناطق شمال حلب، وخصّ الجبهة الشامية بتهمة سرقة عائدات المعابر.
كما شهد الاجتماع هجوماً من قائد فرقة الحمزة ونائب قائد «القوة المشتركة» سيف بولاد على رئيس الائتلاف الوطني هادي البحرة، واتّهموه بالتقصير بواجباته السياسية، وعدم تقديم الدعم اللازم لفصيل القوة المشتركة لرفع العقوبات الأميركية المفروضة عليه وعلى قائد فصيل سليمان شاه والقائد العام للقوة المشتركة محمد الجاسم المعروف باسم أبو عمشة، بحسب تعبيرهم.
على إثر هذا الاجتماع، أصدرت الجبهة الشامية بياناً حادّاً غير مسبوق، أعلنت فيه تعليق تعاملها مع الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الرحمن مصطفى، داعيةً إلى حجب الثقة عنه، وبذلك أُلقيت الكرة في ملعب الائتلاف الوطني، الذي بات تحت وطأة امتحان عسير يهدد علاقته مع فاعلين رئيسيين في الداخل السوري ويضعه على مفترق طرق.
مصادر من الائتلاف وهيئة التفاوض قالت للجمهورية إنّ الهيئات السياسية للمعارضة ناقشت جديّاً استبدال عبد الرحمن مصطفى بعد عودته من مرافقة وفد المعارضة إلى نيويورك، وإنّ المرشّح المُحتمَل لخلافة المصطفى هو نائب رئيس الائتلاف الحالي عبد المجيد بركات، الذي يمثل المجلس التركماني في هيئات المعارضة.
وتُتَّهم عدّة فصائل من الجيش الوطني بارتكاب انتهاكات وجرائم حرب، خاصةً في مناطق سيطرتها ضمن عفرين، والتي تشمل وفق تقارير حقوقية ودولية عمليات الخطف والابتزاز، الإخفاء القسري، والقتل خارج إطار القانون، والاستيلاء على الأراضي والأملاك الخاصة، كما تفرض بشكل دوري إتاوات على المحاصيل الزراعية في المنطقة وعلى أي عمليات تجارية فيها. وهذه الاتهامات كانت السبب وراء فرض العقوبات الأميركية على شخصيات مثل محمد جاسم أبو عمشة وقائد فرقة السلطان مراد فهيم عيسى.
تحركات فصائلية وتركية وسط أجواء مشحونة
يوم الجمعة الفائت، دارت اشتباكات عنيفة بين الأطراف المتنازعة في بلدة كفرجنّة، الواقعة على الطريق بين مدينة اعزاز معقل الجبهة الشامية ومنطقة عفرين حيث تقع مقرات القوة المشتركة، وقد حاولت آليات تابعة للقوة المشتركة بناء سواتر ترابية على الخط الفاصل بينها وبين مناطق نفوذ الشامية، إلا أن غزارة النيران منعتها من استكمال السواتر. وقد شهد أول أمس السبت اجتماعاً في بلدة حوار كلس بين مندوبين عن الجبهة الشامية والاستخبارات التركية بهدف تهدئة الوضع، دون الوصول إلى نتائج حاسمة بحسب مصادر مُطّلعة.
وكانت مناطق ريف حلب الشمالي الخاضعة للسيطرة التركية قد شهدت خلال الأيام الماضية استنفاراً عسكرياً بين مكونات فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، حيث سُيِّرَت أرتالٌ عسكرية من قبل الطرفين المتنازعين؛ «الجبهة الشامية» في مدينة اعزاز من جهة، والقوة المشتركة (تتكون من فصيلي الحمزة والسلطان شاه المعروف أيضاً باسم العمشات) في عفرين من جهة أخرى، وهي الجهة التي تدعم موقف رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى. وجاء ذلك بالتزامن مع إعادة فتح وإغلاق معبر الغزاوية، الذي يربط بين مناطق سيطرة «الجيش الوطني» في حلب ومناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» في إدلب، وانتشار آليات عسكرية تابعة للجيش التركي بمنطقة كفرجنّة، التي تعد الحد الفاصل بين مناطق سيطرة القوة المشتركة في عفرين ومناطق سيطرة الجبهة الشامية في مدينة أعزاز.
التوترات الأخيرة والحشود العسكرية من الطرفين جاءت على خلفية قرار أصدرته وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، قالت مصادر مُطّلعة للجمهورية إنه كان بتوجيه تركي، يقضي بحل فصيل «صقور الشمال» المُقرَّب من الجبهة الشامية، وتوزيع مهامه وقوته البشرية واللوجستية ضمن مؤسسات وفصائل مختلفة في «الجيش الوطني»، الذي تشرف عليه الوزارة صورياً.
كما نصَّ القرار على عزل قائد الفصيل وتعيين نائب وزير الدفاع العميد عدنان دياب قائداً عاماً لـ«صقور الشمال» بشكل مؤقت، بسبب إصابة قائده حسن خيرية بوعكة صحية، وبرّرت الوزارة القرار بأنه من ضمن خطة لإعادة هيكلة «الجيش الوطني»، والتي بدأت قبل عامين.
لكن فصيل صقور الشمال التفَّ على القرار عبر اندماجه بالجبهة الشامية، حيث أصدرت قيادة الفصيل بياناً أكدت فيه الاندماج الكامل مع «الشامية»، لأسباب قالت إنها متعلقة بـ«الحرص» على قوة الثورة السورية، وانسجاماً مع الرغبة التركية في اختصار الفصائل الثورية، ورغبة من المقاتلين وقيادي الفصيل في الاستمرار في التضحية في سبيل الثورة.
ويُذكَر أن فصيل صقور الشمال يُعَدُّ من أقدم فصائل «الجيش الحر» في محافظة إدلب، حيث تأسَّسَ في جبل الزاوية عام 2012، وتعرّضَ فيما بعد لهجوم من جبهة النصرة ليخرج نحو ريف حلب الشمالي، حيث شارك مع الجيش التركي في عمليات «درع الفرات» ضد داعش و«غصن الزيتون» و«درع السلام» ضد قسد.
جذور الخلاف
تعود جذور الخلاف إلى العام 2022 الذي شهد قتالاً عنيفاً بين الفيلق الثالث بالجيش الوطني، وعلى رأسه الجبهة الشامية وجيش الإسلام، وفرقتي الحمزة بقيادة سيف بولاد، وسليمان الشاه بقيادة محمد الجاسم (أبو عمشة)، وهو التحالف الذي يحمل اليوم اسم القوة المشتركة، والذي استطاع هزيمة الجبهة الشامية وقتها بعد تدخل هيئة تحرير الشام لصالحه، حيث أُخرِجَ الفيلق الثالث من منطقة عفرين وتم حصر وجود الجبهة الشامية ضمن قطاع «درع الفرات» فقط.
وقد أعادَ ما حدث خلال الأيام الماضية تأجيجَ الخلاف والتوتر، وبحسب مصدر في « القوة المشتركة»، فضّلَ عدم الكشف عن اسمه، فإن قيادة القوة بدأت تشعر بالقلق من أن تَستغلَّ الجبهة الشامية انضمام صقور الشمال إليها للعودة إلى مناطق جديدة كانت قد خسرتها في عفرين، وتوسيع رقعة انتشارها بشكل أكبر، خاصة منطقة حوار كلس بحجة وجود مقرات لصقور الشمال فيها؛ والمنطقة المقصودة هي مربع أمني يحوي قيادة الفيلق الثاني في «الجيش الوطني» ومقرات عسكرية لفصائل الفيلق بما فيها القوة المشتركة، وهو ما يسبب في حال حدوثه تهديداً للقوة المشتركة خاصةً مع تغيير التحالفات.
ويشير المصدر إلى أنّ مخاوف فصائل القوة المشتركة ازدادت بعد التقارب الذي حدث بين الجبهة الشامية وفصائل الشرقية من جهة وهيئة تحرير الشام من جهة أخرى، والتي تمتلك أذرعاً تابعة لها في منطقة عفرين تُعرف باسم «تجمُّع شهبا». وأكّدت عدة مصادر أخرى من المنطقة للجمهورية أن الجبهة الشامية وفصائل الشرقية بدأوا بالفعل بتلقي الدعم العسكري والمالي من قبل هيئة تحرير الشام، بهدف رفع جاهزيّتهم العسكرية لأي عملية مرتقبة، وبالتالي تشير المعطيات الراهنة إلى أن انحياز هيئة تحرير الشام سيكون لصالح الجبهة الشامية هذه المرة، وليس لصالح فصائل القوة المشتركة كما حدث في العام 2022.
خارطة جديدة
بحسب مصدر خاص في وزارة الدفاع بالحكومة المؤقتة، رفضَ الكشف عن اسمه، فإن ما حدث مع صقور الشمال هو بداية خطة تركية لإعادة هيكلة فصائل الجيش الوطني السوري، وذلك بهدف تقليص عددها وتوزيعها على أربع أو خمس تشكيلات رئيسية تُعتبَر الأكبر في المنطقة، مثل: الجبهة الشامية، والقوة المشتركة، وفرقة السلطان مراد، وحركة التحرير والبناء وربما جيش الإسلام، وذلك استعداداً للمرحلة القادمة التي ستشهد عدة استحقاقات هامة وفق الرؤية التركية.
وأكَّدَ المصدر أن قرارات الاندماج قد أُرسلت لعدد من الفصائل، وخاصة ضمن مرتبات الفيلق الثاني، فبالإضافة لصقور الشمال تم إبلاغ فرقة المعتصم بالاندماج مع إحدى مكونات الفيلق الثاني مثل السلطان مراد أو القوة المشتركة، ولكن المصدر رجَّحَ أن قيادة المعتصم لن ترضخ وستنضمُ للجبهة الشامية.
أضافَ المصدر أن ما يحدث يهدف في النهاية إلى دمج «الجيش الوطني» مع «الجبهة الوطنية للتحرير» في كيان واحد بشكل حقيقي ضمن بوتقة وزارة الدفاع، بدل الاندماج الصوري الذي تم قبل سنوات.
بالمقابل، فإنّ مصدراً آخر، مُطَّلعاً على الأحداث الأخيرة والنقاشات ضمن الحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع، أشار إلى وجود نيّة تركيّة واضحة لإنهاء ملف الفصائل التي تستند إلى مجتمعاتها الأهلية، والتي امتلكت تاريخاً من القتال ضدّ النظام السوري، مثل الجبهة الشامية وفصيل المعتصم، وهو ما يعطي هذه الفصائل دوماً هامشاً أكبر لعدم الانصياع الكامل للأوامر التركية. واستدلَّ المصدر على ذلك من خلال مثال رفضِ تلك الفصائل تجنيد مقاتليها من أجل الذهاب والمشاركة في معارك ليبيا أو أذربيجان. بالمقابل، فإنّ تركيا مرتاحة بشكل أكبر للإبقاء على الفصائل التي تَشكّلت من عمليات تجنيد حصلت بدعمها المباشر، والتي تخضع بشكل كامل لأنقرة دون أي هوامش فرضتها ظروف السنوات الماضية، كما هو حال الحمزات وفصيل سليمان شاه.
الصدامات بين فصائل المنطقة الخاضعة للنفوذ التركي ليست جديدة على أي حال، لكنّها هذه المرة تحمل بذور تحولات يبدو أنّ زمانها قد حان، بما يتلاءم مع التوجهات السياسية التركية الجديدة التي تهدف إلى التقارب مع النظام السوري وفتح باب العلاقات السياسية معه من جديد، وهو ما يَفرضُ على ما يبدو خريطةً جديدة للفصائل في الشمال السوري.