التنظير للكتابة بالعاميَّة

إننا ننسى، أو حتى لا ندرك، أن دانتي شاعر عاميَّة. ربما لضخامة ومهابة مُنجَزه الأساسي، الذي قُدِّم للقارئ العربي في لغة عربيَّة فصيحة عاليَّة، وهو الكوميديا الإلهيَّة

كتب الشاعر الإيطالي الأشهر، والكاتب والفيلسوف والمنظِّر الأدبي والمفكر السياسي، دانتي أليجييري (1265 – 1321)، المولود في مدينة فلورنسا بإيطاليا، كتاب De Vulgari Eloquentia عن بلاغة العاميَّة في السنوات الأولى من القرن الرابع عشر (حوالي 1302-1305)، بعد فترة وجيزة من نفيه من مدينة فلورنسا. عن بلاغة العاميَّة هو التنظير الأدبي الوحيد المعروف في القرون الوسطى الذي أنتجه شاعر مُمَارس للأدب. 

يُعتبَر عن بلاغة العاميَّة تطوراً للنقد الأدبي غير مسبوق في عصره. أولاً، لأنه يتناول موضوعاً شائكاً وحيوياً، وهو الكتابة الأدبيَّة -وبالتالي الكتابة عموماً- بالعاميَّة، الموضوع الذي لم يُطرح للنقاش مِن قبل بشكل تنظيري ونقدي، رغم وجود شِعر «عامي» سابق عليه. ثانياً، لأن دانتي تعامل فيه مع اللغة كنظام من العلامات، حيث هناك تواضعٌ على صوت أو رسم يُمثِّل بناءً عقلياً معيناً، في استشراف لعلم العلامات «السيميولوجيا» الذي سيظهر في القرن العشرين على يد عالم اللغويات الفرنسي فرديناند دي سوسير. وتعامله مع العاميَّات بصفتها كائناً عضوياً، ينمو ويتأقلم ويذوي، بدلاً من رؤيتها كنظام راسخ لا-زمني من القواعد، وهو جانب آخر من رؤية دانتي اللغويَّة التي ستجد صداها في تفكير القرن العشرين عن اللغة. 

ثالثاً، لأن دانتي يطرح تفوق اللغات الطبيعيَّة الحيَّة المنطوقة على اللاتينيَّة في الكتابة، وهو الادعاء الذي أقل ما يوصف به أنه ثوري وغير مسبوق في عصره. رابعاً، لجمعه عناصر من مجالات مختلفة مثل الفكر اللغوي، التاريخ، الجغرافيا، الفلسفة، تفسير النصوص الدينيَّة، والنظريَّة السياسيَّة، جنباً إلى جنب مع الممارسة الشعريَّة والملاحظة الاجتماعيَّة الواقعيَّة في تكامل ثقافي مُدهِش. 

ومع ذلك كله، لم يُترجَم هذا العمل الكلاسيكي للأديب والشاعر ذائع الصيت إلى العربيّة من قبل. ربما تُطرح فكرة أن يُترجَم هذا الكتاب بـ«العاميَّة». لكن في الحقيقة، كتب دانتي هذا الكتاب، للمفارقة، باللاتينيَّة. فاللاتينيَّة كانت لغة العلم والدين والأدب وقتها، بجانب كونها اللغة الرسميَّة للتعاملات، وهي لذلك بمثابة الفصحى في العربيَّة، ومن المنطقي ترجمته بهذا المستوى اللغوي إذاً، مع ترجمة النماذج والاقتباسات الشعريَّة إلى العاميَّة (المصريَّة) ومحاولة التنويع في لهجاتها لعكس التنوع اللغوي في الأصل. 

وربما يكون قد دانتي اكتسب بعض الشجاعة بالسير قدماً في هذا المشروع، فقد كتب عملاً آخر بالعاميَّة، في نفس الوقت تقريباً، بعنوان المأدبة (1304 – 1307)، وبرَّر قيامه بهذا لثلاثة أسباب: قدرة العاميَّة على معالجة موضوعه أفضل من اللاتينيَّة، ورغبته في وصول عمله لأكبر عدد ممكن، وحب الإنسان الفطري للغته الأم. 

من ناحية لغويَّة، فإن لفظة «العاميَّة» مُشتقة من العموم، فالعاميَّة هي لغة «العامة من الناس»، وهو ما تعنيه كلمة Vulgaris في اللاتينيَّة. يقابل العاميَّة في العربيَّة كلمة «الفُصحى»، وهي الوضوح والسلامة من اللحن، أي الخطأ، وهي لهذا لغة الخاصّة القادرين على ذلك. لكن يعني هذا أيضاً أنها لغة كتابة لها قواعد، فمن الغريب أن «يلحَن» أحدٌ، بعد مرحلة الطفولة المبكرة، أثناء التكلُّم بلغته الأم. يمكننا أن نلخِّص ببساطة ما حاول دانتي فعله هنا «بتقعيد» عاميَّة جديدة، سيستخدمها فيما بعد في عمله الأشهر، الكوميديا، لتصبح بعدها اللغة الإيطاليَّة كما نعرفها الآن.

عن بلاغة العاميَّة هو إرساء نظري لـ«آجرُّوميَّة» أو قواعد نحويَّة للشِعر العامي الإيطالي مثلما فعل أرسطو مع الشعر اليوناني في كتابه فن الشعر، وهوارس مع الشعر اللاتيني في كتابٍ بالاسم نفسه.

نرى، إذاً، أن العاميَّة المكتوبة هي أيضاً لغة لها قواعد اصطلاحيَّة، الأمر الذي تشترك فيه مع الفُصحى المكتوبة، لكن الفارق، كما يرى دانتي، هو أن مصادرها آنية تاريخياً، ويستخدمها بشرٌ في حياتهم اليوميَّة وتواصلهم فيما بينهم، مما يُغذيها ويدفع الدماء في عروقها ويجعلها في حالة تطور وازدهار، على خلاف جمود اللغة الرسميَّة الكتابيَّة الثابتة. للوصول إلى هذه الغاية، أي شَرْعَنة استبدال لغة عاميَّة في الكتابة باللاتينيَّة، المحمَّلة بتاريخ طويل من الممارسة والسُلطة، اتبع دانتي استراتيجيَّة معينة على مدى مشروعه سنستعرضها فيما يلي.

هذا بجانب استراتيجيَّة أخرى مُوازية، لشرعنته هو كشاعر عاميَّة من الصف الأول. فدانتي شاعر مهووس بتعريف وتحديد وتقييم مُنجزه الشعري، كما نرى في أعمال أخرى له مثل الحياة الجديدة والمأدبة بجانب هذا العمل، كل مرَّة بتكتيك مختلف، لكن كل منها يعتمد على تقليد قديم في التعليق على النصوص الأدبيَّة. في بلاغة العاميَّة يستخدم تكتيك ذِكر أعماله الخاصة لتوضيح أفكاره النقدَّية من بين أعمال الشعراء الذين يُصنّفهم بأنهم الأبرز في جيله أو في جيله السابق، وبشكل ضمني يضعها في موضع المثال الفني الأكمل. في حين يذكر شعراء آخرين -ربما يراهم منافسين له- كمثال على الفشل أو الدونيَّة الشعريَّة أو كشعراء متوسطي المستوى. هذا ضمن استراتيجيَّة أوسع لشَرْعَنة ممارسته الشعريَّة التي في قلبها كتابة الشعر بالعاميَّة.

عن بلاغة العاميَّة

خطَّط دانتي أن يحوي مشروعه أربعة كتب، إلا أنه توقف فجأة عند نقطة معينة في الكتاب الثاني؛ ليس فقط في منتصف الفصل، بل في منتصف جُملة، دون إشارة لسبب هذا التوقف الغريب، رغم تأكيد المحققين أن المخطوطات المتاحة كاملة. وهو ما حدث أيضاً مع عمله التالي غير المكتمل المأدبة، الذي في جانب منه دفاعٌ عن الكتابة بالعاميَّة في النثر.

في الكتاب الأول، وهو يتكوَّن من 19 فصلاً، يناقش دانتي تطوُّر اللغة التاريخي. لا الإيطاليَّة فحسب، بل تاريخ اللغات كلها، التي ظنُّ، كما هو شائع في القرون الوسطى، أنها كانت لغة واحدة خرجتْ من جنَّة عدن. يبدأ دانتي هذا التاريخ بتصوُّر فلسفي لنشأة اللغة كمبدأ يمكِّن البشر من التواصل فيما بينهم لما يتكوَّن من مفاهيم في الأذهان. ويقارن هذه الوضعيَّة مع الحيوانات والملائكة، كحالتين وجوديتين أدنى وأعلى من الحالة البشريَّة. ثم يصل إلى حدث بناء برج بابل حيث تبَلْبَلَت الألسنة وتفرعتْ اللغة إلى لغات مُختلفة، وهي سمة أخرى للعلم القروسطي الذي يعتمد على القصَص الدينية وتأويلاتها المختلفة. 

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يختر دانتي اللغة العبريَّة، اللسان المُقدَّس أو «ليشون هاقوديش»، ليكتب بها بديلاً عن اللاتينيَّة، بصفتها اللغة الأم والأكمل بين اللغات، والتي لم تكن نتاج تلوث البَلْبَلة؟ إن دانتي في تحليله للكتاب المقدس يستنتج أن آدم قد تحدَّث العبريَّة في عَدَن، وذريته من بعده، حتى الانهيار والتفكك اللغوي الذي حدث وقت بناء برج بابل بسبب غرور البشر وكبريائهم، فانحصرت العبريَّة في قلَّة بقيت تتحدث بها. 

إنَّ هذا الموقف شبيه بموقف القديس أوغسطينوس في القرن الرابع، الذي كانت تمثِّل له العبريَّة، كما لكل آباء الكنيسة الأوائل تقريباً، اللغة الأوليَّة والإلهيَّة، التي تم التحدث بها قبل كارثة بابل، وبعد البَلْبلة كانت لا تزال لسان الشعب المختار. مع ذلك، لم يعط أوغسطينوس أي إشارة في رغبته لاستعادة استخدامها، ولم يتعلمها أصلاً، بل ألزم نفسه باللاتينيَّة بشكل رئيسي.

حلُّ دانتي في البحث عن لغة فعَّالة يبدو علمانياً، إذا جاز التعبير، فقد ارتكز على تطور وتغيُّر اللغة وناقش تكوين لغة جديدة «لامعة»، لغة كتابة حيَّة، بدلاً من إحياء لغة ميتة حتى لو كانت مقدسة، الأمر الذي حاول فعله علماء عصر النهضة من بعده. فكانت استراتيجيته هي «مطاردة» لغة تستحق كتابة الشعر -أسمى أنواع الكتابة- بها. كان هذا في نظره الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها شاعر حديث مداواة جرح بابل.

في هذا الخط اللاهوتي من التفكير في اللغة، تجاهل دانتي وجود قصة أخرى لتنوع الألسنة أقل درامية في سفر التكوين: «من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيهم، كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم بأممهم» (تك5:10) مما يعني أن هناك تعدد في اللغات جاء بعد الطوفان وقبل حدوث البلبلة. ربما فعل دانتي، وغيره في الحقيقة، ذلك، لأن تلك القصة أقل دراميَّة وتأثيراً، وأقل حضوراً وتمثيلاً لوجود تنوع لغوي للشعوب المختلفة بكل ما يحويه ذلك من اختلاف وقصور في التواصل والفهم.

من المثير أن نرى دانتي قد وجد مخرجاً لاهوتياً لتجاهله العبريَّة أثناء كتابته الكوميديا الإلهيَّة، فحين قابل، في أحد أناشيدها، آدم نفسه في الفردوس، قال له بوضوح إن اللغة التي تحدثها قد انزوت قبل وقت طويل من كارثة بابل، تحديداً حين طُرد من الجنَّة، ربما فعل دانتي ذلك ليزيد من الفارق بين حالة ما قبل السقوط وبعده. 

أياً كان سبب التعدديَّة اللغويَّة، يُكمل دانتي أطروحته ويرسم خريطة جغرافية لتوزع اللغات التي يعرفها، مقسِّماً الإقليم الأوروبيَّ إلى ثلاثة مناطق: واحدة في الشرق، باللغات اليونانيَّة، وواحدة في الشمال، وهي اللغات الجيرمانيَّة (التي اعتقد أنها تتضمن اللغات المجريَّة والسلافيَّة)، وواحدة في الجنوب تفرَّعت إلى ثلاث لغات رومانسيَّة فرَّقها بلفظة «نعم» في كل واحدة فيهن: Oc وOïl وSì. ثم يناقش فكرة الآجرُّوميَّة، التي تمثِّل قواعد غير متغيرة للغة ثابتة وميتة (غير مُتحدَّث بها) وصناعيَّة، تعويضاً عن اللغات الطبيعيَّة الحيَّة المنطوقة، التي يراها أنبل من السابقة لتلك الأسباب.

بعدها يقوم بعملية «المُطاردة» لتلك «العاميَّة اللامعة»، التي من المفترض الكتابة بها بديلاً عن اللاتينيَّة، من بين 14 تنويعة لغويَّة في الإقليم الإيطاليّ، لتكون استجابة للاحتياجات الفنيَّة للشاعر ومُرتكَزاً لغوياً يعوِّض غياب مركز سياسي محوري، أي بلاط ملكي، بسبب تفرُّق المدن والمقاطعات الإيطاليَّة، وهو ما يراه سبباً مباشراً لغياب عاميَّة لامعة في الثقافة الإيطاليَّة، نظراً لعدم وجود سياق عملي رفيع المستوى لاستخدامها. لذلك، يصل دانتي من خلال بحثه أو مطاردته أن تكون تلك العاميَّة الجديدة مزيجاً مفهوماً لجميع المتحدثين بلهجات إيطاليَّة مختلفة، لا متطابقة مع واحدة منها، ويبرِّر هذا فنياً بأنها في تلك الحالة تكون قادرة على أخذ أفضل ما في الجميع دون جوانب الضعف والعوار في كل واحدة منها. 

إن الحاجة إلى لغة «قوميَّة»، ناشئة عن البحث عن لغة شعريَّة «لامعة، وحِبريَّة، وبلاطيَّة، وعَدليَّة» تقود جميع اللهجات وتكون مِثالاً مفهوماً للجميع يُحتذى به، أدت إلى نشوء اللغة الإيطاليَّة الحديثة بالفعل، لكن في واقع الممارسة لم يكن هذا ما قد حدث بالضبط.

نشأة وتطوُّر اللغة الإيطاليَّة الحديثة

ينتقل دانتي في الكتاب الثاني، المتكوِّن من 14 فصلاً، لعملية اختيار الشكل الأدبي الأنسب لهذه العاميَّة المُعبِّرة، فيصل إلى النشيد (أو الأغنية) ليُحلِّل بنيته. النشيد هو نوع شعري تم تطويره في مدرسة الشعر الصِقلية التي سبقت جيله. من خلال تلك العملية يقوم دانتي بتحليل وسائل إنتاجه الشعري ويُحدِّد شروط وقواعد وشكل اللغة المثاليَّة التي يتصورها: لغة قصائده. 

إن شُعراء مدرسة صِقلية قد سبقوا دانتي في كتابة الشعر بالعاميَّة، تأثراً بشعراء التروبادور أو الشعراء الرحَّالة في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا، الذين ربما أول من كتبوا الشعر بلهجات محليَّة في القرون الوسطى، وقال عنهم دانتي في هذا العمل إن لغتهم «بلاغيَّة، وموسيقيَّة، وشعريَّة». وسبق شُعراء صِقلية دانتي أيضاً في اختراع عاميَّة أدبيَّة تمزج عناصر من لهجات محليَّة مختلفة، وكان لهم تأثير شعري كبير عليه كما يتّضح من الاقتباس المكثّف لأشعارهم وتحليلها هنا، بمن فيهم الشاعر «جويتوني دي آرِتزو» الذي أعاد تأسيس مدرسة صِقلية في منطقة توسكانا (التي تضم مدينة فلورنسا) فيما يُسمى «مدرسة توسكانا»، وهي ما تبدو كهمزة الوصل لهذه الكتابة الشعريَّة العاميَّة من شعراء التروبادور وصولاً إلى دانتي، رغم أنه لم ينظر لآرتزو بعين الاعتبار، بل هاجمه عند ذكر اسمه. 

إن لغة مدرسة صِقلية «الكوينيَّة»الكوينيَّة هي لغة قياسية تشكلت بمزج لهجتين أو أكثر من نفس اللغةkoine تأخذ صفات من اللهجة الصِقلية واللهجة البروفنسيَّة بجانب لهجات جنوبيَّة أخرى مع عناصر من اللاتينيَّة. بعض جوانب هذه اللغة تبنّاها دانتي ومعاصروه وسلموها للكُتّاب الإيطاليين من بعدهم، فعند إعادة تأسيس آرِتزو مدرسة الصِقلية، تم تداول الكثير من قصائدهم في فلورنسا بعد تحويلها إلى التوسكانيَّة. أخذ دانتي هذه اللغة إلى خطوة أبعد بنقل مركزها لا للتوسكانيَّة بشكل عام بل إلى الفلورنسيَّة، ونحت فيها كلمات جديدة وأدخل مصطلحات وعناصر لاتينيَّة أخرى.

كان دانتي يُعِدُّ لغةً رائدة تصلح للبلاط الملكي والحُكم، وتصلح للمحاكم القانونيَّة، وتصلح قبل كل شيء لكتابة الجمال والشِعر. وبالفعل أصبحت هذه اللغة المُعدَّلة والمُغْنَاة لغة الثقافة من بعده. للمفارقة لغة الثقافة المكتوبة، أي لغة الأدب المعياريَّة التي يفهمها كل إيطالي متعلم، لكن ليس غيرهم. وذلك تحديداً بسبب انتشار وذيوع ملحمته الشعريَّة، ومن بعده أعمال بوكاتشو وبترارك اللذان كتبا أشعارهم بنفس اللغة أيضاً، هذا بجانب أهمية فلورنسا السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافية في عصر النهضة، الأمر الذي أعلى من لهجتها على بقية اللهجات، وكونها لهجة وسيطة بين اللهجات الشماليَّة والجنوبيَّة. 

بعد 300 عام من بلاغة العاميَّة والكوميديا الإلهيَّة، تم إصدار أول قاموس للغة اللامعة التي شكَّلها دانتي، وبعد 300 عام أخرى أصبحت اللغة المعياريَّة الرسميَّة لدولة إيطاليا الحديثة، ويتحدث بها حالياً 79 بالمئة من الإيطاليين بصفتها لغتهم الأولى. 

إشكاليَّة الكتابة بالعاميَّات العربيَّة

يطرح هذا المسار التاريخي لنشأة وتطور اللغة القوميَّة الإيطاليَّة سؤالاً حول وضع اللغة العربيَّة الآن. من المعروف أن «اللغة العربيَّة» تعاني من الازدواجيَّة اللغويَّة Diglossia، حيث هناك لغة -أو مستوى لغوي- رسميَّة مختلفة عن لغة الحياة اليوميَّة، وهي تعتبر لغة الثقافة والكتابة، وفي مرتبة اجتماعيَّة أعلى من الأخرى، التي تكون بدورها لغة التعاملات اليوميَّة والحديث والتفكير.

هناك تغيُّر جذري حدث في العقدين الأخيرين فيما يخص علاقة العاميَّة بالكتابة، جاء مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي- وفي إرهاصها المدونات الشخصيَّة- الذي يأتي محتواها في جانبه الكتابي على مختلف مستوياته بالعاميَّة بشكل ساحق، ومع إصدار كتب ومقالات وبرامج تثقفيَّة بالعاميَّة بشكل أكبر من أي وقت سابق، بعد انتشار تدريجي لها على مدار عقود، في رحلة ممتدة تصاعدت وتيرتها مع ظهور الهويَّة الوطنيَّة ثم الدولة القوميَّة، كلغة كتابة بين-شخصيَّة وتواصل، وكلغة للأعمال الفنيَّة من أفلام ومسلسلات ومسرحيات وأغاني، ولغة إعلام وصحافة وإعلان، وأيضاً لغة الخطابات الرسميَّة من السُلطات السياسيّة والدينيَّة والثقافيَّة المختلفة. 

هناك في الحالة المصريَّة كتابات نثريَّة وشعريَّة ومسرحيَّة مكتوبة بالعاميَّة المصريَّة على مدار 600 سنة، أي منذ الحكم المملوكي كما يوضِّح كتاب العاميَّة المصرية المكتوبة (2013) لمديحة دوس وهمفري ديفيز. ويمكننا أن نرى في استعراضهما لهذا التاريخ كيف أصبحت الكتابة بالعاميَّة أكثر تنوعاً في الفترة الحديثة، حيث أنها لم تعد مقتصرة على مجال التسلية والفكاهة كما يظهر في الجزء الأول من هذا الكتاب، فبعد انطلاقها في سبعينيات القرن التاسع عشر مع الحوارات التعليميَّة، والصحافة السياسيَّة، ذات المنحى الساخر، ومن بعدها السير الخيالية والمونولوجات، اتسعت للرواية والسيرة الذاتية، لتنتقل في نهاية القرن إلى المنطقة الحاسمة الخاصة بالنثر الفكري، كما يشير الكاتبان في المقدمة.

بغض النظر عن مسألة هل «العاميَّة» لغة أخرى أو مجرد مستوى لغوي آخر (أدنى) من نفس اللغة، ففي النهاية هما تجليان لغويان مختلفان، إن ما يهم هو السؤال لماذا لم تتحول «العاميَّة» إلى لغة قوميَّة رسميَّة للكتابة والحديث، مثلما حدث مع الإيطاليَّة مثلاً من ضمن الكثير من اللغات الأخرى؟

في طرح هذا السؤال نواجه مخاوف واضحة من ملاقاة العربيَّة الفصحى لذات المصير الذي لاقته اللاتينيَّة، باندثارها وتحولها إلى لغة ميتة حين أصبحت العاميات الأوروبيَّة المختلفة لغات مُستقلة للتدوين والحُكم. ويمكننا وراء هذه المخاوف حصر أربعة جوانب في حالة الفُصحى العربيَّة حافظت على الازدواجيَّة اللغويَّة، مع دفع كثير من التشكيك والتوتر وحتى العنف في وجه أي محاولة لاستكمال هذا المسار أو التساؤل حوله:

الجانب الديني: من الشائع والمستقَر أن القرآن جاء في صورة وحي مباشر من الله، أي مُرسل لفظاً ومعنى في لسان عربي حصراً، وأن هذه اللغة بلغت كمالها المقدس في النَص الديني، لذا تعتبَر أي محاولة لتطوير اللغة أو التغيير فيها أو التخلي عنها، في الوعي الجمعي، بمثابة تطاول على المقدس اللغوي. فعلى الرغم من قدسية اللاتينيَّة، لم تكن هي اللغة التي كُتِب بها الكتاب المقدس في الأصل، كما أشير فيما سبق، بل تُرجم إليها. لذا تُماثل حالة اللغة العربيَّة أكثر اللغة العبريَّة، «اللسان المقدس» عند اليهود لأنها لغة التوراة، والتي لا تزال تعيش إلى الآن مثل العربيَّة لهذا السبب. لكن في سياق إعادة إحياءها تم إلغاء نظامها الإعرابي وتحويلها إلى لغة حديثة، على خلاف العربيَّة التي اتخذت مساراً مغايراً نعيشه الآن.

الجانب التاريخي: مثل اليونانيَّة الكوينيّة واللاتينيَّة الإمبراطوريَّة، تمثِّل العربيَّة الفصحى، تاريخياً، لغة الغَلَبة وإدارة إمبراطورية متراميَّة تجمع بين ألسنة مختلفة وتواصلها معاً، ولهذا السبب السياسي-العملي وحده تفوقت اللاتينيَّة على مكانة اللغة المقدسة العبريَّة، وتجلى هذا بترجمة القديس جيروم العهد القديم باللغة اللاتينية في القرن الرابع واعتمادها لغةً مقدسة جديدة. تحمل الفصحى عبق العصر الذهبي للإسلام، وكان من المنطقي في مواجهة الاستعمار الغربي، بعد ذلك في العصر الحديث، استخدام لغة لها أساس حضاري وتاريخي، «لغة إمبراطورية كبيرة وناجحة كان لها إنجازات لا تحصى في العلوم والإنسانيات» كما أشارت الباحثة نيلوفر حائري في كتابها لغة مقدسة وناس عاديون (2003).

الجانب السياسي: رسَّخ صعود المدّ القومي العروبي في منتصف القرن العشرين رؤية أن المشترك الجامع بين العرب هو «العربيَّة الفصحى»، وبالتالي تكون العاميَّات المختلفة للبلاد مُفرِّقة سياسياً، وكان هذا الطرح محبذاً لكل من النظم القوميَّة، لأنه يَبعُد عن العِرق والدين أيضاً، في مقابلة مع منطلقات الإيديولوجيات السياسيَّة المنافسة، ومن الأقليات المختلفة في الوطن العربي التي رأت أن تبنيه يُبعِدها عن التفرقة بحسب العرق أو الدين.

الجانب السُلطوي: فعلياً، ورغم التعليم العام في المدارس للفصحى، وكونها لغة الصلاة والعبادة اليوميَّة وشعائر التدين، إلا أنها تُعتَبَر لغة الخاصة في مقابل لغة العامة، مما يعطيها طابعًا نُخبوياً، يمنح سُلطة رمزيَّة إضافيَّة عبر اللغة لأعضاء النُخب المُختلفة، ومدخل اصطفائي للمعرفة، مما يُحكِم من سيطرتها ويعزز من سلطتها. ومن المنطقي أن تتصدى تلك النخب لمحاولات تنحية هذه الأداة الفعَّالة التي تقع في صالحها. 

ربما يكون من المفيد توضيح تضمينين غير دقيقين تحتويهما استخدامات «العربيَّة الفصحى». التضمين الأول هو أن اللغة العربيَّة الفصحى ترتبط بشكل أساسي بالدين الإسلامي، لذا يجب على أتباعه والبلاد التي تنتمي إليه أن تحافظ على مكانتها كلغة رسميَّة وثقافيَّة، لكن في الحقيقة يوجد بالفعل بلاد إسلاميَّة تدين غالبيتها بالإسلام ولا تجعل من لغتها الرسميَّة اللغة العربَّية، أشهرها إيران وتركيا وباكستان وإندونيسيا وماليزيا وأفغانستان والصومال، والكثير غيرها، حيث يحافظون على العربيًّة الفصحى كلغة صلاة ودين، لكن لكل منهم لغته القوميَّة التي يتحدث ويكتب ويحكم بها، دون إحساس أن هذا يقلل من شأن اللغة أو الدين.  

التضمين الثاني هو أن مصطلح «العربيَّة الفصحى» يعبِّر عن شيء واحد فقط ثابت. في الحقيقة هناك أكثر من «عربيَّة» على المستوى الزمني والجغرافي؛ هناك «العربي القديم» الذي سبق الإسلام بقرون بتنويعاته المناطقيَّة المختلفة واختلاف أبجدياته، وبعده «العربي الوسيط» في القرن الرابع بالأبجديَّة النبطيَّة غير المنقوطة، ثم ما يسمى عربيَّة «الفصحى الكلاسيكيَّة» وهي لغة كوينيَّة شعريَّة جمعت بين لهجات قبائل عديدة، ظهرت في القرن السادس قبل الإسلام وصيغت بها القصائد والمعلقات «الجاهليَّة». وفي سياقها ظهرت في القرن السابع «الفصحى القرآنيَّة» أو «الفصحى التراثيَّة»، التي تعتمد بشكل كبير على اللهجة القريشيَّة الحجازيَّة، وهي عربيَّة القرآن والأحاديث والخلافة من بعدهما، حيث تم تقعيدها -وضع آجرُّوميتها- حتى نهاية القرن الثامن، وحالياً هي لغة الدين والفقه. وهذه الفصحى التراثيَّة لها تنويعات من حيث مصدرها (شمال أو وسط الجزيرة العربية) أو مواقع اختلاطها في مراكز الخلافة عبر العصور الوسطى (الأندلس، الشام، مصر، إلخ…). وهناك فصحى قياسيَّة حديثة (MSA) وهي العربيَّة التي تم إرساء قواعدها في عصر النهضة العربيَّة في القرن التاسع عشر، وتستخدم حالياً في شتى مجالات العلم والأدب والفكر والسياسة والإعلام، وهذه الفصحى القياسيَّة لها تنويعات مختلفة بحسب كل بلد عربي.

من المنطقي أن تتحول لغة السياق الرسمي (القانوني والسياسي) والتعليمي (المناهج الدراسيَّة) إلى العاميَّة الرئيسيَّة لكل بلد، مثلما حدث مع الإيطاليَّة مثلاً، لأنهما غير ذي أهميَّة خارج الحدود القوميّة من ناحية، والأكثر فهماً وانتشاراً داخلها من ناحية أخرى، أما بالنسبة للسياق الفكري والأدبي فهناك وجاهة كبيرة في استخدام الفصحى العربيَّة، تتمثل في الامتداد الجغرافي والتاريخي الكبيرين لها، بغض النظر عن نوعها؛ نتحدث عن أكثر من 24 دولة عربيَّة و1500 عاماً تقريباً من الممارسة اللغويَّة، وهو أمر لا يتوفَّر بالفعل في أي عاميَّة عربيَّة. بجانب كون الجهاز المفاهيمي والأدبي العربي مُشكَّل بالأساس بالفصحى، مع وجود مفردات واسعة ليست بالضرورة أغنى من العاميَّات اليوميَّة، لكنها حصيلة إضافيَّة لها. هذا بالطبع مع الانفتاح الكامل للممارسات العاميَّة في الأدب، والفكر، والفلسفة، إلخ… والتلاقح معها، فهي بالتأكيد لها بلاغتها أيضاً.