بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على كتابته في المعتقل السياسي السوري، صدر عن دار (شرق غرب) كتابٌ بعنوان دنيا الدين الإسلامي الأول (2013) بقلم راتب شعبو. وبحسب الكاتب، كان الكتاب ثمرة بحث طويل استغرق سنتين كاملتين خاليتين من العطل ومناسبات الحياة العادية.
يقول شعبو في مقدمة كتابه: «وفّرَ السجنُ الوقتَ للبحث في الموضوع الذي طالما نفرتُ من الخوض فيه، واعتبرته بفعل ثقافتي أو شبه ثقافتي الماركسية موضوعًا ميتًا ونبشًا في قبور لا طائل منه، لأكتشف مع الوقت والاختلاط والمعايشة أنه الموضوع الأهم في حياتنا الاجتماعية، وأنه القاع الذي تتدحرج إليه بآلية عفوية كل المواضيع المثارة، من أكثرها حداثة إلى أقلّها، ومن مجال السياسة إلى الفن إلى كل شيء. إنه في حياتنا الموضوع المرجعي الأول». راتب شعبو ليس أول المثقفين الذين عبّروا عن شعورهم بتلك المسافة النفسية إلى التراث الإسلامي، إلا أنه حسب متابعتي للمشهد السوري الحالي من القلّة الذين جدّوا على أن يتجاوزا أنفسهم في ذلك.
إذ يرى شعبو إنه يحق لنا دراسة الدعوة الإسلامية بالعقل البشري، لأن الله خاطب الناس بلغتهم البشرية، وأنفذ الدعوة في حدود القوانين الطبيعية للغتهم. وهكذا حدّدَ الكاتب منهجه، وأوضح أنه سيتناول موضوع دراسته من منظور علمي قدر الإمكان، وليس من منطلق إيماني. وأرى أن هذا الوضوح مهم، لأنه يحصل أحيانًا ألّا يكون الكُتّاب (ذوي الأصول العربية أو المسلمة) شفافين حول موقعيّتهم، فتختلط أمور التجديد بمشاريع البحث العلمي والتاريخي. ورغم أن كلًّا من البحث والتجديد الديني يدعمان ويكملان بعضهما بعضًا، إلا أنه من المهم التفريق بينهما إلى حدٍ ما، بحيث يشتغل المجددون-ات من داخل المنظومة الإيمانية التي تستهدف المؤمنين والمؤمنات بشكل مباشر، بينما يتوخى الباحثون-ات مدَّ يد العون والمشاركة في النقاش العام. والحق أن كتاب شعبو لا ينزع إلى هجوم أو دفاع متحيّز، ولا يهدف إلى اختطاف الموضوع من يد أحد، بل ينطلق من رغبة في الاشتباك مع موضوع يهمنا جميعًا، جرّاء تغلغله في معظم مناحي حياتنا العامة والخاصة.
كما أن شعبو باستخدامه لتعبير «دنيا» في عنوان كتابه، يؤكد على أنه يدرس الشق الدنيوي لحركة الدعوة الإسلامية الأولى، وليس الديني، وعلى أنه يتناول الرسول محمد بوصفه قائدًا سياسيًا وليس نبيًا. وعلى عكس ما هو شائع من أن الوجه السياسي للرسول ظهر بعد الهجرة إلى يثرب، فإنه يرى أن السياسي كان حاضرًا في ثنايا الديني منذ اللحظة الأولى للدعوة. كما أن مخاوف قريش من محمد لم تكن دينية، وإنما سياسية. ذلك أن قريش كانت تمارس الديمقراطية الدينية إلى حدٍ كبير، ولم تكترث بالحنفاء الموحدين الذين سبقوه. غير أن محمد كان يختلف عنهم، لأنه سرعان ما زاوج بين الديني والسياسي، وانتقل من تنظيم علاقة العبد بخالقه إلى تنظيم علاقات البشر فيما بينهم وفقًا لمبادئ محددة. وهكذا خرج من الدائرة الحنيفية المغلقة.
اللافت أن شعبو يستخدم مصطلح «السياسة» بمعناها الواسع، فيَصِلُ بذلك إلى استنتاجات مختلفة. يبدو أن السياسة، بالنسبة له، تشمل السعي إلى التغيير انطلاقًا من المحيط الصغير ومن تشكيل تحالفات إيجابية بين الأتباع والرفاق. هذا بخلاف الاستخدام الشائع للمصطلح كسعي إلى السلطة وإدارة أمور الحكم، مما جعل (معظم) الباحثين يفترضون أن محمد السياسي لم يظهر إلا بعد هجرته إلى يثرب. غير أن رؤية شعبو الواسعة إلى السياسة ألقت الضوء على جوانب سياسية في سيرة محمد المكّية كانت غائبة بشكل عام. أرى هذا التوسيع لمفهوم السياسة مفيدًا، إذ أن السياسة لدى شعبو ليست السلطة بمعناها المباشر والضيق فقط، وإنما الطموح الإنساني المشروع لجميع الأفراد إلى المشاركة والتأثير والتغيير والتحقُّق.
لا يتجاوز الكتاب المئة صفحة من القطع الصغير، إلا أنه نجح في ربط وقائع مرحلة معينة ليُبدع رؤية جديدة إلى التاريخ. ومن أهم ما قدمه شعبو في كتابه، حسب رأيي، هو أنه توصَّلَ إلى أن الإسلام كان في بداياته يجمعُ الناس ويُوحِّدهم فوق انتماءاتهم الجزئية والقَبَلية، أما الآن فقد تفتَّتَ تحت مسميات كثيرة (شيعة، سنّة، ومذاهب أخرى)، وتغيَّرَ دور السياسية في الإسلام من قوة عقلية ومادية تتجاوب مع معطيات المحيط، إلى عامل فرض بالقوة لإحدى التوجهات التفسيرية الدينية على غيرها. أي أن راية الإسلام التي كانت تُوحّد الناس صارت تُفرّق فيما بينهم للأسف، وإذا أردنا أن نجد الراية المحمدية الحقيقية في زماننا، فهي حسب قول شعبو راية المواطنة التي تجمع تحتها كل الفرق والمذاهب والأديان دون أن تنتقص منها أو تحط من قيمتها. طبعًا شعبو يستخدم «الراية المحمدية» بمعناها الرمزي، وليس الحرفي. أحببتُ فكرته، وأحسبها تستحق التوقُّفَ عندها مليًا ودراسة تبعاتها واحتمالات توظيفها، فلعلَّ فيها تكمنُ إمكانات الخروج من مأزق انفصال بعض تطبيقات الدين الإسلامي الحالية عن موكب التطور الحقوقي والأخلاقي الذي وصلت إليه البشرية في عصرنا الحديث. هل أسبر هنا بذورًا لإنبات توافق بين الدين الإسلامي وشكل من أشكال الدولة العلمانية التي تساوي بين جميع مواطنيها ومواطناتها؟ هل يعمل شعبو على التأصيل النظري للمواطنة في الإسلام؟
ولكن رغم تعريف شعبو الواسع للسياسة في البداية، ومحاولته إلى تأصيل مفاهيم عصرية في الإسلام، يختم كتابه بدعوة صريحة إلى الفصل التام للديني عن الدنيوي (قُل السياسي). يقول: «لذلك مهمة الفرز بين الزمني واللازمني ليست مهمة إيديولوجية، بل مهمة علمية ستجد نفسها مضطرة للخوض في المجال المقدس كي نُخرِجَ اللامقدس من دائرة القدسية، وإلا فإن الفشل هو مصير كل التنظيرات التي تتناول موضوع العلمانية. إذا كان الدمج بين الدين والدنيا قد قاد منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا إلى نهضة حضارية رائعة، فإن الفصل بينهما يبدو المخرج الوحيد من التدهور الحضاري الذي تعيشه مجتمعاتنا». بمعنى آخر: بعد أن حطّمَ شعبو ثنائية الدين والسياسة، ووجد أن الأمور مترابطة في الواقع، عاد ليقول إنه ما كان ينطبق في ذلك الزمان، لم يعد صالحًا الآن، ولم تعد السياسة تمتلك ذلك الدور الذي كانت تؤديه في بدايات الإسلام.
كان بودي أن يتوسَّعَ شعبو هنا أكثر. أولًا لأني أريد أن أعرف ماذا يقصد حين يطالب بدراسةٍ «علميةٍ» للمقدّس؟ من هم القادرون على الإتيان بتلك الدراسة، وما شروطها؟ وما موقفه مثلًا من المحاولات التجديدية الصادقة التي تنطلق من موقف إيماني؟ وكيف سيتم التعاون مع تلك المحاولات رغم السقف المحدود نسبيًا الذي تشتغل تحته؟ وهل يمكن لأسباب استراتيجية استبدالُ مفهوم «العلمية» بالحكمة في بعض الأحوال؟ وألا ينبغي أن يكون العلم قادرًا على استيعاب حالة التديّن لدى معظم الناس وأن يأخذها كمعطى قابل للتأثر، وليس كحالة غير مرغوب بها سلفًا، وينبغي محاربتها أو حبسها في صندوق مظلم بغية إبعادها؟ ففي رأيي، ينبغي على من يدّعي «العلمية» أن يثبت ادّعاءه بفهمه لحاجة الناس إلى حلول معقولة ضمن منظومتهم الإيمانية أيضًا، وتقبّل أن للإيمان أبعادًا لا يمكن الوصول إليها بالعقل فقط. كان بِودّي أن يكون شعبو أكثر وضوحًا بهذا الخصوص، لأن بعض أشكال «العلمية» التي نشهدها في الساحة الثقافية السورية تصل أحيانًا إلى حدّ الإقصائية.
وثانيًا لأن جزءًا كبيرًا من مجتمعنا يُسيء الظن (عمدًا) بمطالب فصل الزمني عن اللازمني الذي ينطوي تحته مطلب فصل الدين عن الدولة. أول سؤال خطر في بالي هو هل هذا الفصل بتلك السهولة؟ هل يأتي بجرة قلم أم أنه مجرد شعار؟ ألا نحتاج إلى سبر تفصيلي للآليات التي ينبغي اتّباعها للوصول إلى ذلك الفصل المنشود؟ وبخاصة لأني ألمس في خاتمة كتاب شعبو قفزة غير متوقعة إلى استخدام السياسة بمعناها السلطوي الضيق والشائع، فلم يشرح كفاية كيف لم تعد سياسة الرسول محمد صالحة في عصرنا بعد أن أشاد بها مطولًا. هل يسحب شعبو باليد اليسرى ما مَنحَنا إياه باليمنى؟ لا أعتقد طبعًا، ولكنه يعبّر في رأيي عن نفاذ صبره المشروع، فيدق ناقوس الخطر. تمنيتُ لو يحتفظ شعبو بفهمه الواسع للسياسة، فيكون المَخرَجُ من أزمة الإسلام المعاصر في إحياء ذلك المفهوم الواسع والإيجابي للسياسة، أي أن يقرّب السياسة الحميدة إلينا، نساءً ورجالًا، مسلمين وغير مسلمين، أحرارًا ومُستعبدين، بدلًا من تسليمها رمزيًا إلى الطغمة الدينية ذاتها بهدف سحبها منهم مجددًا.
يبدو لي أن حصر السياسة بمعناها الضيق له أثر تعطيلي على تطور أي منظومة. وبالنسبة للإسلام سيكون الناس أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء ضمن صندوق الدين المغلق والاستمتاع بتخلُّفه عن طور الحضارة، أو القطع التام معه والتحرر الوهمي من ثقله. وفي الحالتين يبقى الحل هشًا، فهو يحتاج إلى الفرض من فوق، ويتجاوز معظم الناس العاديين الذين كانوا وما زالوا يؤمنون بأن عليهم هندسة حيواتهم وفق مشيئة الله. هؤلاء بمقدورهم الانقلاب إلى أسوأ ممّا كان إن لم يُؤخَذوا على محمل الجد. ألم يقل شعبو إن التدرّج هو أحد أشكال السياسة؟
لا أرى المَخرَج في نزع الفتيل التام عن السياسة إذن، وإنما في نقدها الدائم (كما فعل شعبو في كتابه أيضًا)، وفي الدفع نحو توسيع تعريفها، ونحو تقاسُمها العادل والمتساوي داخل الدين الإسلامي نفسه (نساء ورجالًا) وخارجه (ابتكار لغة حوار مبنية على أسس معرفية مشتركة مع الآخر). على سبيل المثال، ما صدّقت بعض النساء المسلمات أنهنّ وجدنَ صوتهن أخيرًا حتى جاء من يخبرهنّ أن السياسة في الإسلام انتهت، وأن الدين بات ناجزًا. هل يعتقد شعبو أنهنّ سيرضينَ بذلك الكلام؟
نحتاج إلى سبيل ينطلق من الإيمان بالإنسان وإمكانياته-ا على التغيُّر والتغيير، وليس من ذاتية محدودة وأمل بالخلاص من صندوق مظلم من دون الالتفات إلى من سيبقى عالقًا فيه. وهذا ما كان شعبو يرمي إليه بداية في محاولته الجميلة والضرورية لتقريب مفهوم المواطنة من الإسلام.