صلّيتُ في السجن مرتين، أحياناً أقول مرة وأحياناً ترتفع إلى ثلاث، بحسب ما أعتبره صلاةً لحظةَ الحديث.
*****
في قسم شرطة التجمُّع الأول كان حجزُ السياسيين يضم عشرة مساجين، يزيد العدد وينقص، بعضهم يذهب إلى التحقيق في مقر أمن الدولة بالعباسية في القاهرة (الاسم الرسمي هو «الأمن الوطني»)، وبعضهم إلى السجن أو إلى قسم شرطة آخر، وفي معظم الأحايين لا يعرف السجين إلى أين سيذهب ولا نعرف نحن إلى أين أخذوه، نعتمد على ما يتسرّب من الضباط والشاويشية وما يتناقله المساجين من شائعات. كانوا يُصلّونَ جماعةً في الحجز وكنتُ أبقى جالسًا، سادَ استغرابٌ مصحوب بالنصائح المعتادة، أذكر منها ما قاله لي زميل اسمه أحمد، ضاعَ اسمه الثاني من ذاكرتي لكثرة الأحمدات (سعيد؟ ربما)، لكنه كان شخصًا مميزًا: «أنا مَكُنتِش بَركعها برة السجن، بس هنا بتكتشف إن مَلكش حد غير ربنا، محدِّش معاك لا فيه محامين ولا قضاة ولا أهلك نفسهم هيعرفوا يعملولك حاجة، فَ انتَ اللي محتاج الصلاة عشان تقدر تكمّل». أظن أنّ كلامه كان أكثر بلاغةً وتأثيراً من ذلك، لكنني أَعجزُ عن تذكره بحذافيره، لم آخذ به وقتها، ولم أَركعها في قسم التجمّع الأول، مع ذلك فقد تذكرتُ كلامه فيما بعد.
كان معظمهم لطيفين، عدا إخواني عرص اسمه جمال من الشرابية، هدَّدني مرة حين قلتُ نكتة ذات نكهة دينية: «تصلّي أو ما تصليش دي بتاعتك، إنما تتريق على الدين أقطع رقبتك»؛ ما زلتُ مستاء من أنني لم أردَّ عليه وقتها، اكتفيتُ بابتسامة صفراء ولزمتُ الصمت. للضرورة الدرامية، هناك شيخ شرير وشيخ صالح، كان الصالحون كُثُرًا: الشيخ نضال أظنه كان صاحب مدرسة أو مجموعة مدارس، كان دمثًا ولطيفًا، ولم يفاتحني في أمر الصلاة معهم رغم أنه كان إمامهم. وبَشمهندس هيثم الإخواني أقربهم إلَي. ومراهقٌ جهاديٌ مُختلٌّ بعض الشيء اسمه مؤمن. وشاب سيناوي مَخفيٌ قسرًا مثلي (يُسمّينا قسم الشرطة أمانات)، أُعيدَ تدويرهالتدوير: هو إعادة احتجاز السجين الذي أنهى مدة حكمه، أو حصل على حكم بالبراءة أو قرار إخلاء السبيل من قبل النيابة، وعادة ما يكون بنفس التهم، وقد تَوسَّعت السلطات المصرية في استخدامه ضد آلاف المعتقلين في السنوات العشر الأخيرة.بعد إخلاء سبيله، وهي قصة مُعتادة بين معظم السيناوية الذين قابلتهم في السجن، إذ يمضون سنين بلا تهمة سوى أنهم من سيناء. ودكتور تامر المَخفيّ قسرًا هو الآخر، ولم يكن شيخًا ولا مطلوبًا لكنهم قبضوا عليه ﻷن أمن الدولة كان يبحث عن أبيه القيادي الإخواني، أعطاني سجائر مالبورو أبيض التي كنتُ أشربها أحيانًا قبل السجن، وصاحبتني كذلك خلال فترة السجن، حين توفرت السجائر.
*****
المرة الأولى التي صلّيتُ فيها كانت في المقر الرئيسي لأمن الدولة بالعباسية، أعتبره أكثر الأماكن التي دخلتها في حياتي إثارة للرعب، مع أنني قضيت فيه أقل من يومين لم أتعرض خلالهما للتعذيب. كنتُ قد عُذّبت في فرعهم بالتجمّع الخامس، وأرسلوني إلى العباسية لفترة نقاهة. قابلتُ أناسًا قضوا في العباسية أشهرًا، وسمعت عن من قضوا فيه سنين، فيما بعد قابلت شخصين قالا إنهما سجدا لله شكرًا حين وصلا إلى العباسية، أحدهما كان قادمًا من سجن العازولي العسكري والآخر من المخابرات.
في مقر أمن الدولة بالعباسية تبقى جالسًا من التاسعة صباحًا إلى التاسعة ليلاً، ثم تبقى مستلقيًا من التاسعة ليلاً إلى التاسعة صباحًا، وطوال الوقت تكون مُغمَّى العينين ومُقيَّدًا إلى الجدار، يُسمح برفع الغمّاية قليلاً عند الأكل وعند دخول الحمام، في هذه الحالة يُنقَل القيدُ من الجدار إلى اليد الأخرى، بحيث تكون مُقيَّدًا على مدار 24 ساعة. في هذا الجلوس الطويل شعرتُ بالملل، سألتُ أحد أمناء الشرطة ذوي الملابس المدنية الذين يراقبوننا إن كان مُمكنًا أن أقوم ببعض التمارين الرياضية في مكاني، نظرَ مُستعجِبًا وسأل أمينًا آخر اسمه وليد على ما أظنّ، كان مميزًا لأن في سلوكه كثيرًا من الأنوثة، وبعد مداولات انتهيا إلى أن ذلك غير مسموح؛ هكذا بقيتُ أمام الخيار الوحيد للحركة وهو الصلاة، فصلّيت.
مُقيّدًا بالكلبش في يدي اليسرى إلى حلقة حديدية في الجدار، لم تكن الصلاة شيئًا لطيفًا، لكنها منحتني فرصة القيام من مكاني على الأقل. بقي الأمين وليد يراقبني بينما أُصلّي فشعرتُ بالتوتر، حين انتهيت جاء وشمَّرَ البنطلون عن ساقي دون كلام، كنتُ في مدينة دهب الساحلية قبل الحبس بأيام، وهناك أهدتني صديقة حظّاظة كانت ترتدي أُختَها كخلخال في ساقها، ففعلتُ مثلها، وبَقيَتْ في قدمي بعد العودة من دهب ثم خمسة أيام من الاعتقال دون أن يلاحظها أحد، لا أعرف كيف رآها، ربما ظهرت بينما كنتُ ساجدًا، حاول فَكَّها فلم يستطع حتى ساعدتُه، سألني: إيه ده؟ فقلتُ مُغمغِمًا: حظّاظة، قال: لابسها ليه؟ قلت مُرتبِكًا وعلى وجهي ابتسامة باهتة: رَوشَنة، فأخذها وعادَ للجلوس على مكتبه.
كان دخولُ الحمام مرتين فقط بعد الفطور وبعد العشاء، فيهما يتوضأ المعتقل ويقضي حاجته. كان رقمي هناك 58، وكان رقم 57 لرجل عجوز ربما تجاوز السبعين، يرتدي بذلة كاكية أقرب إلى ما يرتديه الزعيم الكوري الشمالي، يطلب دخول الحمام مرات عديدة، ويقول للحراس إنه مصاب بسلس البول، سمحوا له مرة بعد مداولات طويلة، أما بقية المساجين فكانوا مُعتادين على مواعيد الحمام، وحين يحلّ موعد الصلاة يتيممون بضرب الأرض بأياديهم ومسح كفوفهم ووجوههم، ويُصلّون.
عِقابُ صلاة الجماعة
مرة فوجئتُ بأحد الأمناء، عملاق الجثة، يقطعُ الممر ركضًا إلى غرفة داخلية تقع في ممر عمودي على يمين الممر الذي أجلس فيه، سمعت أصوات الصياح المنبعثة من الداخل دون أن أفهم ما يجري، خرج بالمُتهمَين، أحدهما نحيلٌ في عشرينياته والآخرُ ممتلئ وملتحٍ يكبره قليلًا، واستمرّ الجدال؛ قال الملتحي بشيء من الرجاء: ما نَصلّيش يعني؟ فانتفضَ الأمين كأنما شتمه، قال بِحدة: لا طبعًا صلّي، ما كلنا مؤمنين بالله وبنصلّي، ما قُلتلكش ما تصلّيش، إنما ما تصلّوش جماعة.
أعاد النحيلَ إلى الغرفة، وأبقى الملتحي واقفًا قبالة الجدار لوقت طويل.
*****
المرة الثانية، إن كان يمكن اعتبارها مرة، كانت في زنزانة 2 في عنبر 2 جنائي بسجن ليمان طرّة، حيث قضيت شهر فبراير (شباط) 2021 وحيدًا باستثناء أسبوع الاختفاء القسري. كان العالم مُشوشًا ومُربكًا والوحدة قاسية والبرد قارسًا، كان سقف الزنزانة عاليًا وشُبّاكها واسعًا، طوله أقل من متر وعرضه 35 سم تقريبًا، سمعتُ من سجناء آخرين أنها بُنيت أيام الإنكليز، ولا أعرف مدى دقة الشائعة، لكنَّ أقدمَ نقشٍ في الزنزانة كان مُؤرَّخًا في يناير (كانون الثاني) 1992 بعد مولدي ببضعة أشهر، وعلى الحائط نفسه، الذي هُدِمَ الآن بعد أن بيعت أرض السجن المطلّة على النيل لمستثمر عقاري شهير، حفرتُ مقولة محمود درويش «نفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل… نربي الأمل». طلبتُ من المُسيّرالمُسيّر: يكون أحد المساجين الذين يعاونون ضابط أمن الدولة المسؤول عن السجن ويكون واسطة بينه وبين المساجين، عادة ما يكون من المحكومين بسنوات حبس طويلة، وبعضهم يحمل سلطات واسعة، ويحصل في المقابل على بعض الامتيازات داخل السجن.استعارةَ كتب من مكتبة السجن، فاكتفوا بإحضار مصحف، هكذا كان روتيني اليومي يتكون من قراء القرآن والاستمناء وتمارين رياضية والنوم. راجعتُ سورة البقرة التي حفظتُها وأنا طفل في هذه الفترة، وسَمَّعتُها فيما بعد لزميلَيَّ في الزنزانة التالية: إبراهيم عز الدين وعمر محمد علي فكَّ اللهُ سِجنه. كانت هذه الفترة فترة خيالات جنسية جامحة لا تتوقف، فكّرتُ فيها في كل النساء اللاتي عرفتهنَّ طوال حياتي تقريبًا، كنتُ أستمني ثلاث أو أربع مرات يوميًا وأحيانًا أكثر، ولبرودة الجو كنت عاجزًا عن الاغتسال أو حتى الوضوء، كان الشباك الضخم يُدخِلُ تيارات هوائية مستمرة من بين طبقات السلك والقضبان، ولم يكن معي سوى زي السجن الأبيض الخفيف دون ملابس داخلية سوى البوكسر الذي جئت به وبلا منشفة، شعرتُ بالذنب في البداية من مَسِّ المصحف على جنابة، لكني قلتُ إن عدم طهارتي هو آخر ما يهم الله بالتأكيد.
في يوم الثلاثاء التاسع من فبراير، وهو اليوم الذي ذهبتُ فيه إلى الطب الشرعي للتحقق من شكواي بتعرضي للتعذيب، بعد أن مرت فترة كافية لتختفي آثار الضرب من على وجهي، صلّيتُ نصف صلاة حين عدتُ للزنزانة، كان وقت المغرب، توضأتُ وخمَّنتُ اتجاه القبلة، وفي ركوع الركعة الأولى أو الثانية، لستُ متأكدًا، توقفت عن الصلاة؛ لا أعرف السبب بالتحديد، أظنني فقدتُ الرغبة.
*****
المرة الثالثة، وهي التي أَعدُّها صلاة فعلًا، كانت حين بدأتُ الإضراب عن الطعام، في 22 من شهر يونيو (حزيران) 2021. حُكِم َعلي بالسجن أربع سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة، وكان الأمر عبثيًا، فبعض بوستات فيسبوك التي طُبعت وعُرضت أمام المحكمة كان عدد المتفاعلين معها أقل من عشرة أشخاص، حتى أنَّ عدد من رأوها مطبوعة في المحكمة أكثر ممن رأوها على السوشيال ميديا. ليلتَها قرّرتُ الإضراب عن الطعام، نقلوني إلى عنبر العظام، وهو ممّا يبدو من اسمه جزء من مستشفى السجن، لكنه كان مكانًا انتقاميًا، معظمُ نزلائه قادمون من سجن شديد الحراسة (العقرب). من ناحية، كان المبرر الرسمي لنقلي أن أكون تحت الرعاية الطبية في المستشفى، أما في الواقع فقد كان العنبر مكانًا للعقاب. كما في الشهر الأول في السجن، حُرمت من الكتب والتريُّض وعُزلت عن السجناء الآخرين، الذين كانوا قلقين مني بسبب إجراءات إدارة السجن التي شددت قبضتها عليهم بسببي، فيما بعد صرنا أصدقاء: أحمد تمام الجنائي المحكوم بالإعدام، والذي سمعتُ فيما بعد أنه أُعدم فعلًا، وأحمد علي عبده عفيفي المحكوم عليه بالإعدام في قضية التخابر مع قطر، ودكتور صفوت عبد الغني القيادي بالجماعة الإسلامية وعضو مجلس الشورى سابقًا، ودكتور عصام الحداد الذي كان مساعد الرئيس محمد مرسي للشؤون الخارجية، ودكتور رشاد بيومي نائب مرشد الإخوان المسلمين، وآخرون من قضايا مثل أنصار بيت المقدس وحسم وكتائب حلوان.
كان الإضراب صعبًا، لا بسبب الجوع فحسب، فقد خفتت حدة الجوع إلى حد كبير بعد أول يومين، لكن بسبب الفراغ الطويل جدًا، أطول حتى من شهر السجن الأول؛ اختفى الأكل من أنشطة اليوم، وتقلَّصت مع الإضراب ساعات النوم إلى ساعتين فقط في معظم الأيام، كما خفتت الرغبة الجنسية وخيالاتها كثيرًا، وكنتُ قلقًا من الاستمناء خوفًا على جسمي من الانهيار، لم أستمنِ سوى مرتين في الأربعين يومًا التي دامها الإضراب، ولم يبقَ من أنشطة الشهر الأول سوى قراءة القرآن، فقد كان المصحف الكتابَ الوحيدَ المسموحَ به في الفترتين. في شهر السجن الأول راجعتُ سورة البقرة، وفي الإضراب راجعتُ سورة آل عمران، أما النشاط الثاني فهو الصلاة.
صلّيتُ كثيرًا جدًا في تلك الفترة، الفروض والسنن، وصلوات إضافية أخرى خصوصًا في الليل، صلّيتُ بصدق وإخلاص، ودعوتُ بحرارة في السجود لنفسي وأهلي وسهيلة وزملاء السجن الآخرين والسجناء الموتى في مشرحة السجن التي كان شبّاك الزنزانة الصغير، العالي جدًا بحيث لا يمكن الوصول إليه، مُطِلاً عليها. كنتُ أسمع أصوات الداخلين والخارجين من المشرحة، وأعرف أنَّ سجينًا مات حين يفتحونها.
*****
لم أؤمن، لكن نظرتي للدين اختلفت، صرتُ مُدرِكًا ﻷهميته ودوره المحوري في حياة الناس، خصوصًا في مثل هذه الأوقات القاسية التي ينعدم فيها الأمل في عونٍ بشري، فلا يبقى سوى النظر إلى السماء المحجوبة وراء سقف الزنزانة. كنتُ صادقًا في رغبتي في أن تتدخل قوة ما ﻹنقاذي من هذا الموقف، ﻹبعاد هذا الظلم الفَجّ الواقع علي، دون قناعة بوجود مثل هذه القوة. لا أعرف إن كان كلامي منطقيًا، لكنها كانت الطريقة «الطبيعية» لمخاطبة شيء ما وراء جدران الزنزانة، صرخة استغاثة للمجهول الذي أعرفه، ولو كنت تعوّدتُ على وسيلة أخرى لما ترددتُ في استخدامها. جرّبتُ في الشهر الأول أن أتأمل على الطريقة البوذية لكني لم أنجح، لم أتربَّ على هذا ولم يكن لدي أي ارتباط بها، بينما الصلاة الإسلامية مألوفة ومفهومة ولم أجد تَكلُّفًا في استحضار طقوسها وأُدعيتها.