بات مألوفاً تقسيم الثورة، كلّ ثورة تقريباً، إلى اثنتين على الأقلّ. ففي معظم تلك الزلازل التاريخيّة، إن لم يكن فيها كلّها، نقع على تمايزات وخطوط فاصلة قد تتعدّد صِيَغها وتختلف تعابيرها. وفيها تواجهنا صراعات تنشب بين أطراف الثورة إيّاها، وعنها تنجم عهودٌ يختلف واحدها عن الآخر، وهذا إن لم يكن ضدّه ونقيضه.
مثل ذلك كان بالغ الوضوح في روسيا عام 1917، فارتبطت الثورة الأولى بقيادة كيرنسكي والحكومة المؤقّتة ارتباط الثانية بقيادة لينين والبلاشفة. ودون أن يكون خطّ الفصل بهذا الوضوح الروسيّ، شهدت الثورة الإيرانيّة، في 1979، شيئاً مشابهاً دلّ إليه دور السياسيّين المدنيّين والأحزاب، ممّا بدا امتداداً للحقبة المصدّقيّة في الخمسينيات، قبل أن ينعقد لواؤها الأوحد لآية الله الخمينيّ وولاية فقيهه. ونعثر على ما يقارب ذلك في تجارب أوروبيّة أقدم عهداً: ففي إنكلترا مثلاً، حاول الحفّارون والمُسَوَّون (Diggers and Levelers) في أواسط القرن السابع عشر أن «يستكملوا» الثورة البيوريتانيّة التي قادها كرومويل، وقبل قرن ونيّف عليهم حاول اللاهوتيّ والقائد الفلاّحيّ الألمانيّ توماس مونتسر أن «يستكمل» الثورة البروتستانتيّة التي ارتبطت بمارتن لوثر وبأفكاره. وانطوى «الاستكمال» هذا، في محاولتيه، على راديكاليّة مُركّبة، دينيّة وطبقيّة، إلاّ أنّ المحاولتين آلتا إلى انتصار القوى «الأكثر اعتدالاً» فيهما، تبعاً لافتقارهما إلى ما عرفته الثورات اللاحقة من تلازم مع ظاهرة «الجماهير» المدينيّة، ثمّ مع توسّعها. ورغم فوارق الزمن واختلاف مضامينه الاجتماعيّة والسياسيّة، يدلّنا «الربيع العربيّ» إلى تحوّل كبير تخلَّله أو اخترقه، فانتقلت الثورات بعده من عهدة الفئات الاجتماعيّة الوسطى بشبّانها وشابّاتها، ممّن أقام أكثرهم في المدن، إلى قيادة القوى الإسلاميّة الريفيّة على أنواعها. وهذا علماً بأنّ الهزيمة، في حالتنا العربيّة هذه، إنّما حلّت على الطرفين معاً.
صحيح أنّ التاريخ يعامل كلّاً من الثورات المذكورة بوصفها وحدة واحدة ناجزة، إلاّ أنّ حتميّة تاريخيّة بالغة الضيق والفقر هي وحدها ما يدفع إلى القطع بأنّ كلّ ما حصل كان، وبأصغر حذافيره، مُقدّر الحصول سلفاً، وأنّه ما من داعٍ، بالتالي، للإنصات إلى الانشقاقات والتباينات، أو إلى الاحتمالات التي لا يلغي عدمُ تحقّقها التنبّهَ إلى ثرائها.
فالثورة لا تكون إلاّ أكثر من ثورة، إذ هي حكماً منشقّة على ذاتها، كما أنّها أفعالٌ متسلسلة يعوزها الاتّساق والتناسق. فبطبيعتها وتعريفها، هي الحدث الذي تنعقد فيه النقائض وتتساكن، فيتلازم طلب الأهداف الرفيعة والانسياق وراء الثارات الوضيعة، كما يتجاور التوق إلى المستقبل، ولو كان غامضاً، والشوق إلى الماضي، ولو كان مزعوماً. وهذا بينما تقيم داخل الثورة رغبة في قتل الآلهة جميعاً على مقربة من حنين جارف إلى إله أقوى، ويتصاحب هوس التخلّص من كلّ مُلكيّة وسلطة والغلوُّ في الاستئثار بالمُلكيّة والسلطان. وإذ يسود تطاحنٌ كهذا، تكون العوازل التي تحدّ من تصادم المصالح والأفكار والتوقّعات، إبّان الحياة العاديّة، مستسلمة، واهنة أو واهية.
والراهن أنّ الثورة الفرنسيّة، أمّ ثورات العالم الحديث، لم تنجُ من انشطارات كبرى تعدّدت محطّاتها وعبّرَ تعدّدها عن كثرة القوى المتصارعة والتطلّعات المتصادمة.
وتحديداً بسبب صعوبات الدمج بين الثورتين، أو الثورات الكثيرة، في وحدة واحدة، وإن طغت عليها تسمية جامعة هي «الثورة الفرنسيّة»، وجدنا أكبر العقول الأوروبيّة في زمنه، إيمانويل كانط، يأخذ في حسابه عدم الاستواء هذا ويلجأ بطريقته إلى تمييز غدا شهيراً.
فكانط كان ممّن خاطبهم اندلاع الثورة وأثار حماستهم، مثله مثل أغلب المثقّفين في بلده وقارّته ممّن طرح عليهم الحدث الكبير سؤالاً فلسفيّاً في مواجهة سطوة الدين، مدارُه إمكان تأسيس ميتافيزيقيّات جديدة على قاعدة الحريّة – حرّيّة العقل الإنسانيّ. وفي انضوائه في موجة التأييد العارم هذا، نُسب إلى كانط تعليق على الحدث يشبه الصلاة أو الوصيّة أو تنفّس الصعداء: «يا إلهي، الآن إجعلْ عبدك يرحل بسلام، لأنّني رأيتُ مجد العالم». إلاّ أنّ أب التنوير الألمانيّ كانت له، مع هذا، استدراكاته الكبرى على ما فهمه بمصطلح «ثورة»، فرأيناه يكتب: «إنّ كلّ مقاومة للسلطة التشريعيّة العليا، وكلّ إثارة تستهدف تفعيل تذمّر الرعايا، وكلّ عصيان ينفجر على شكل تمرّد، جريمةٌ عليا شديدة الاستدعاء للقصاص في الكومنويلث [الدولة] لأنّها تدمّر أساساته». وثمّة شارحون لكانط اعتبروا أنّ تمييزه إنّما بُني على الفارق بين الوسائل القانونيّة التي انطوى عليها تحويل السيادة إلى الشعب في 1789، وهي وسائل حظيت بتأييده، والوسائل غير القانونيّة التي مثّلها إعدام الملك، بتهمة الخيانة العظمى، والتي حظيت بإدانته.
وبصفة عامّة، تركت مواقف كانط بعض الحيرة لدى مَن استغربوا جمعه بين الدفاع عن الحقوق الفرديّة والدستور الجمهوريّ وبين نقدٍ بلغ به حدّ رفض الحقّ في الثورة نفسه.
وبعد أكثر من قرن ونصف القرن، ميّزت حنة آرنت بين نمطين من الثورات تبعاً لبؤرة التركيز لدى كلّ منهما. فالنمط الأوّل، الذي اعتمدته الولايات المتّحدة، سياسيّ يسوقه التحرّر من الطغيان فيما يستهدف الثاني، الذي عرفته فرنسا، التحرّر من الحاجة والفقر. هكذا وقعت الثورة الفرنسيّة في «فخّ» مطلبٍ مستحيل هو «إنهاء الفقر» الذي أعدم الطلب الأصليّ على الحرّيّة. وبالنتيجة حلّت محلَّ حقوقِ الإنسان حقوقُ «منزوعي السراويل» (sans culottes) من السكّان الفقراء، ما آل بالثورة إلى العنف وقادَها إلى الإخفاق.
وكان لبواكير الثورة أن سجّلت، بحسب آرنت، نشوء تنظيمات جمهوريّة وانتخاباً لضبّاط وقيادات وإنشاءً لبُنى المشاركة الشعبيّة ولمجالسها، لكنّ الحكومة الثوريّة ما لبثت أن انقضّت على تلك الظاهرات المضيئة. فمكسيميليان روبسبير ورفاقه، وبتأثير من تعاليم جان جاك روسّو، جعلوا التعاطف مع الفقراء أمّ الفضائل السياسيّة. وهو شعور لا يمكن، تبعاً لذاتيّة مفهوم التعاطف، إلاّ أن يفضي إلى شفقة تغلّف رغبتهم الماحقة في السلطة.
وكان فرانسوا فوريه، المؤرّخ الفرنسيّ المُراجِع في قراءته الثورةَ، قد نبّه إلى انعطاف يعود إلى 1792، وخصوصاً 1793، حين ظهر اندفاعها الأعمى إلى العنف. أمّا السنوات القليلة التي أعقبت 1789 فكانت زمناً لاعتدال مستنير عمّت خلاله أفكار الحرّيّة والمساواة وحُدّ سلماً من سطوة الكنيسة. وهكذا كانت الثورة حركة إصلاح ليبراليّ لا تشبه بتاتاً ما حلّ بعدذاك. غير أنّ فوريه بات لاحقاً أشدّ نقديّة في محاكمة الثورة، وبدل الفصل الزمنيّ، بات فصله ينهض على التمييز بين الواقع وأفكاره. فالثورة والإرهاب لم ينفصل واحدهما عن الآخر منذ 1789، لأنّ المثالات الثوريّة التي احتلّت الصدارة لدى انهيار «النظام القديم»، أعادت تشكيل المجتمع عبر قاموس سياسيّ جديد، كالديمقراطيّة المباشرة والمساواتيّة و«الإرادة – الروسويّة – العامّة»، قاموسٍ استحضر بذور الديماغوجيّة ونمّاها. أمّا محرّك الحدث ذاك فلم يكن الصراع الطبقيّ بل رغبة في تجذير الثورة على نحو يجعلها أشدّ تماسكاً مع خطابها.
* * * * *
ما تحاول الأسطر هذه الدفاع عنه أنّ الثورة الأولى، التي جذبت المؤيّدين واستحقّت أن تثير الحماسة العقلانيّة، هي التي غلّبت الاستجابة للواقع. فالذي قادها إنّما هو السعي إلى تجسير الهوّة بين حياة الجماعة المعنيّة وتطلّعاتها وبين طريقة في الحكم والسلطة لم تعد تلبّي الحرّيّات والحاجات، ولم تعد قادرة على اللحاق بالمستجدّات، في الفكريّ منها والفعليّ سواء بسواء. فهي إذاً، وإذا استبعدنا الشكوك الوجيهة التي تثيرها مدرسة المؤرّخين المُراجعين، ثورة ضدّ قوى رجعيّة تجمّد الواقع أو تحول دون تطوّره المنسجم والحرّ. أمّا الثورة الثانية فيجوز وصفها بأنّها ثورة تغلّب الفكرة كما تغلّب التطابق معها، إذ بالفكرة وعَبرها يُصار إلى إملاء تصوّرات بعينها، زمنيّة أو دينيّة، على الواقع هذا. وعلى عكس المعنى السامي الذي توحيه كلمة «فكرة»، فإنّها فعليّاً لا تلبث أن تشرّع الأبواب للغضب والحماسة والعنف، وكلّما اكتشف حاملوها أنّهم عاجزون عن «فتح» الواقع تزايدت الفكرة تشبّثاً وتأجّجاً في رؤوسهم.
والثورتان غالباً ما تتقاطعان، فيقيم شيء من الأولى في الثانية أو يمهّد لها، كما قد تبدو الثانية امتداداً زمنيّاً للأولى، وإن انعطفت، في الوقت نفسه، عن مساعيها وقطعت مع دلالاتها. وقد يعبّد طريقَ الاستمرار الانقطاعيّ هذا فشلٌ ينتاب الثورة الأولى أو بطءٌ أو تعثّر، ما يصطدم بإلحاح أولئك الذين يستعجلون التغيير وبتوقّعاتهم المتورّمة، وكذلك بالرغبات السلطويّة المنتفخة لدى قادتهم. كما قد يستدرج الاستمرارَ الانقطاعيَّ إيّاه مناخٌ من القلق يخلقه الابتعاد عن المألوف والعاديّ الذي ينجم عن الثورة الأولى وعن صخب أجوائها، ما يتحوّل بدوره مقدّمةً ملائمة للثورة الثانية. وفي أزمنة الاضطراب والغموض حيال تعقيد الواقع وسيولته تتعاظم قدرة الأفكار الآحاديّة على تأميم العقل والتحكّم به، تبعاً لما تملكه من انسجام وتماسك ووعود خلاصيّة توهم بأنّ تعقيد الواقع سخيف أو مُفتعل، وأنّ في وسع الإرادة الحديديّة أن تذلّل المشكلات مهما كانت عصيّة.
وفي أغلب الأحيان تحضر الأسباب المذكورة أعلاه معاً، وفي رزمة واحدة، خصوصاً وأنّ السلطة السياسيّة التي تثور الثورة عليها قد تضاعف التوتّرَ الذي يصيب الأوضاع العامّة بتعاملها الجلف مع الثورة الأولى، وتعنُّتها حيال مطالبها، أو تردّدها وتأخّر استجابتها لها. هكذا يصار إلى تخصيب محفّزات العنف والتطرّف عند قادة الثورة الثانية ولدى رموزها.
والحال أنّ المرحلة المبكرة، أو الثورة الأولى، حيث المركزيّة للواقع، ينتجها طلب على الحرّيّة أو احتجاج على سياسات اقتصاديّة أو تعليميّة قابلة للقياس التجريبيّ. وهذا بينما يسود المرحلةَ الثانية، حيث يتغلّب الفكرانيُّ وتُناط قيادة المسيرة بأشخاص «عارفين» وعاشقين للسلطة، ذاك التعويل على الإراديّة القصوى التي تُكلَّف تطويعَ الواقع وتسوية نتوءاته قسراً، وهذا قبل أن تصطدم الإراديّة الواثقة بفشلها الكارثيّ. فإذا طمحت الثورة الأولى إلى تغيير الواقع المعطى من ضمن مُمكناته، فكانت بالتالي ثورة موضوعيّة، اتّجهت الثانية إلى إلغائه ونسفه وعدم الاكتراث أصلاً بتلك المُمكنات، فكانت تعريفاً ثورة ذاتيّة، وفي الآن عينه، عنفيّة بالضرورة.
ونعلم، في ما خصّ الثورة الفرنسيّة، أنّ جان جاك روسّو، الذي توفّي قبل 11 سنة على الحدث الكبير، كان أبرز صائغي الفكرة التي استحوذت على راديكاليّي الثورة حتّى لُقّب بـ«أب الثورة الفرنسيّة». والراديكاليّون أولئك ممّن انتسبوا إلى «النوادي اليعقوبيّة»، إنّما ضمّوا، على عكس انطباع شائع، مَن عُرفوا لاحقاً بـ«الجيرونديّين» («المعتدلين»)، ومَن باتوا يُعرفون بـ«الجبليّين» («المتطرّفين»)، تماماً كما كانت الراديكاليّة تصف جورج دانتون بقدر ما تصف حليفه، الذي غدا خصمه، روبسبير.
على أيّ حال، وبسبب تأثير روسّو على عموم الراديكاليّين، رأينا بعض أبرز المفكّرين الليبراليّين الغربيّين في القرن العشرين ينشغلون في تحديد مدى تورّط الفكر الروسّويّ، الرومنطيقيّ والتنويريّ في آن، في تأسيس الإرهاب و«عهد الإرهاب» (1793-4).
فالمؤرّخ جاكوب تالمون مثلاً لم يتردّد في أن يعزو إلى روسّو أبوّةَ الوعي والسلوك التوتاليتاريّين الحديثين. ذاك أنّ مفهومه في «الإرادة العامّة»، الذي كان من ذرائع الإرهاب، إنّما تأدّى عنه أيضاً تسييس جوانب الحياة كلّها، إذ بات عليها مجتمعةً أن تنتظم على إيقاع «الإرادة العامّة». وروسّو في كتاب «اعترافاته» لم يترك مجالاً للّبس، فرأى أنّ «كلّ شيء يعتمد اعتماداً عميقاً على السياسة. فكيفما نظر المرء تبدّى أنّ الناس لا يكونون أيّ شيء سوى ذاك الذي صنعتهم حكومتهم عليه». ولئن رصد تالمون في هذا الميراث التوتاليتاريّ، حيث الدولة تؤلّف الشعب وتشكّله، صلةً ما تجمع روبسبير الروسويّ بستالين الشيوعيّ، فإنّ فوريه، الذي غادر الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ في 1956 احتجاجاً على سحق الثورة الهنغاريّة، حذا الحذو نفسه مشبّهاً ستالين بروبسبير، و«التطهير الكبير» بـ «عهد الإرهاب»، ومعتبراً أنّ البلشفية والفاشية توأمان في التوتاليتاريّة.
* * * * *
لقد كان روسّو، بعد قرن على الإنكليزيّين توماس هوبز وجون لوك، ثالث المُهتمّين الكبار بمبدأ العقد الاجتماعيّ، وذلك مع تآكل مبدأ «الحقّ الإلهيّ للملوك» وفقدانه القدرة على إسناد شرعيّة الحكومات والدول. يومذاك بات مطلوباً، لدى البيئة الفكريّة الأوروبيّة الأكثر تقدّماً واستنارة، إشعار الحكّام بأنّهم لا يستمدّون مواقعهم من الله، بل من شعوبهم التي تعطيهم من السلطة ما تشاء وتستردّ منهم ما تعطيهم حين تشاء.
فمن خلال نصّيه «خطاب في عدم المساواة» المنشور في 1754 (والعنوان الأصليّ والكامل «خطاب في أصل عدم المساواة بين الرجال وأساسه») وعمله الأشهر العقد الاجتماعيّ في 1762، أنتج الفيلسوف الفرنسيّ تصوّراً في البشر وحالة الطبيعة وصِيَغ الحكم والحاكميّة. فالإنسان، وفق السيناريو هذا، يروح، في مسار التطوّر ومباشرة التحضّر، يقارن نفسه بالآخرين، ومع دخوله المجتمعَ يتحوّل لديه «حبّ الذات» (amour propre) إلى تنبّهٍ أكبر لقيمته ولمكانته، فتدفعه مقارنة ذاته بسواه إلى انتفاخ تعاليه عليهم وانكماش تعاطفه معهم. والأمر كان مغايراً يوم عاشوا جميعاً في عهدة الطبيعة، إذ تمتّعَ البشر بفضيلة أصليّة كامنة فيهم أجمعين، هي امتلاك واحدهم عواطف نبيلة حيال الآخر، وهو ما شكّل الأساس الذي نهض عليه شرطهم الإنسانيّ. أمّا ما بِتنا نراه بعدذاك من أذى وألم يتبادلونهما فيرقى إلى انقلاب على حياتهم كما عِيشت في حالتهم المثلى تلك.
وعلى عكس الصورة الموحشة كما رسمها هوبز لحالة الطبيعة التي لا تضبطها إلاّ سلطة «ليفاياثان» المطلقة، أنشأ روسّو تمييزاً صارماً بين «الإنسان» الطبيعيّ و«المواطن» الاصطناعيّ، فبدت الدولة والمؤسّسات قوّة تطيح طبيعة الإنسان التي عُرف بها يوم كان «متوحّشاً نبيلاً»، سعيداً وحرّاً وغيريّاً، ليتحوّل كائناً كارهاً وكريهاً، موغلاً في الخداع والعبوديّة والبؤس وأنانيّات «حبّ الذات».
وأصل الشرور الاجتماعيّة إنّما هو المُلكيّة الخاصّة، التي خلت منها الطبيعة بما سادها من وفرة وسخاء وغيريّة واستبعاد للتنافس. فالمُلكيّة، وبما تتيحه لصاحبها من حقوق، أنشأت بين الناس تمييزاً مفتعلاً، فقضمت المساواة وأدّت إلى ظهور الطبقات والمراتب، بحيث غدا مطلوباً، في مجتمع الحرّيّة والمساواة، إلغاؤها والتخلّص منها.
هكذا، وبعد مخالفته هوبز، خالف روسّو لوك الذي رأى أنّ المُلكيّة الخاصّة إنّما وُجدت في حالة الطبيعة فغدت تالياً من طبيعة الأشياء، وغدا واجب الحكومة أن تحميها، لا أن تستأصلها. ولئن ورث الليبراليّون اللاحقون رأي لوك، فقد ورث الماركسيّون اللاحقون، من خلال نظريّتهم في «المشاعيّة البدائيّة»، رأي روسّو، وإن أدخلوا عليه تعديلات تطال الندرة والوفرة.
لكنْ إذا كان المجتمع الروسويّ لا يُشكَّل ولا يُحفَظ إلاّ من خلال اتّفاق أو «عقد اجتماعيّ»، فلا بدّ أن يتخلّى الفرد، لدى انضوائه في جماعة سياسيّة، عن جزء من حرّيّته ويخضع لقوانين الجماعة تلك. بيد أنّه إذ يتخلّى، فإنّه لا يتخلّى لمصلحة أفراد آخرين، بل لمصلحة الجماعة المتساوية والمتكافئة والمتعاضدة. وبهذا، فإنّ ما يُملي عقد روسّو الاجتماعيّ وينظّمه هو «الإرادة العامّة» التي باتت مفهوم المفاهيم لديه. فهي وحدها صاحبة السيادة، لا الملك ولا البرلمان، ولأنّها هي ما يضمن حرّيّة الفرد ويحمي حقوقه، لا يقوم تصرّف أخلاقيّ، أو عقلانيّ، إلاّ بالتساوق معها.
وكان أن دُفع بعيداً بهذا المفهوم الذي شُيّدت عليه مزاعم «ديكتاتوريّة الفضيلة» و«ديكتاتوريّة الخير» و«ديكتاتوريّة المصلحة» التي قد لا يعرفها صاحبها المفترض وقد لا يُقرّها، وهذا ما منحها من التعالي والإطلاق ما لا يجوز معه معارضتها، بل يجوز اتّهام معارضيها بالافتقار إلى العقل والأخلاق. فالحرّيّة الروسويّة، وفق تالمون، لا تُكتَسب إلاّ حين تعبّر «الإرادة العامّة» عن نفسها بوصفها الكيان السيّد والأوحد الذي يفتي وحده في صالح الشعب العامّ. فإن آثر الفرد العملَ بموجب أنانيّته، ولم يعمل بموجب «الإرادة العامّة»، وهي وحدها تُكسبه الحرّيّة الحقيقيّة التي تعادل خدمة مصالح الكلّ، فعندها سوف يُجبَر على أن يكون حرّاً، يفعل ما تُمليه تلك الإرادة عليه.
والمسألة هذه، التي استعادها البلاشفة الروس بعد قرن ونصف القرن، تفتح الباب واسعاً أمام ما جرت عليه العادة من أنّ مَن يقرّر تلك الإرادة نخبةٌ ما أو طليعةٌ ما غير منتخَبة بالضرورة، بل غير منتخَبة في الغالب.
وبالفعل فإبّان «عهد الإرهاب» أُحكم ربط الحرّيّة بالإذعان لتلك الإرادة، ومن ثمّ بكون الفرد «مواطناً فاضلاً في الدولة»، وبالتالي وجد الإرهاب والتجاوز على الحقوق تبريرهما في معاكسة ذلك. فعند روبسبير ورفاقه، لم يكن مسلك كهذا يستدعي الاعتذار عنه في الصراع ضدّ الثورة المضادّة وقوى الغزو الخارجيّ، إذ هو أداة تحويل اجتماعيّ يخدم «الإرادة العامّة»، وهو، لهذا، مبرّر أخلاقيّاً. وقد ذهب القائد الثوريّ إلى حدّ تعريف الإرهاب ذاك بأنّه «مجرّد شكل آخر، حازم وحادّ وغير مرن، من العدالة»، مجادلاً بأنّه «الشفرة التي تضيء في أيدي أبطال الحرّيّة (…) [فـ] حكومة الثورة هي استبداد الحرّيّة ضدّ الطغيان».
لكنْ إذا كانت «الإرادة العامّة» هذه لا تتعالى عن السجال والتصويت، وعن كون كلّ مواطن معنيّاً بالعمليّة السياسيّة، فإنّ وسواسها هو تجانس المجتمع الذي يبقى أولويّة قصوى تنصاع لها الأولويّات. فمجموعات المصالحِ والانقساماتُ الفئويّة أو الحزبيّة لا مكان لها في ديمقراطية روسّو المباشرة، إذ المجتمع الذي تفيض فرديّاته لن يعرف إلاّ أفراداً فرديّين مهما ادّعوا العمل لصالح الآخرين. وعالمٌ أنانيّ كهذا عالم جحيميّ، تختفي فيه الصداقة المخلصة والاحترام والثقة بين البشر ليحضر الحسد والحذر والخوف والبرودة والتحفّظ والكراهية والتزييف حتّى لو تم إخفاؤها والتحايل عليها.
وبدورها فإنّ «الإرادة العامّة» حين تمثّلها دولة أو أمّة أو حاكم، تتمتّع بسيادة مطلقة ومنيعة على النقد والمحاسبة، سيادةٍ لا بدّ أن يغنمها من يمثّل تلك “الإرادة العامّة” فتكون امتيازه.
وهكذا تُحِلّ السلطةُ الروسويّة الإرادةَ الإنسانيّة الذاتيّة والاعتباطيّة محلّ تحكيم العقل والقانون تحكيماً موضوعيّاً. فالقانون هو الذي يذعن لـ«الإرادة العامّة» ولا تذعن الثانية للأوّل، إذ ما من قانون أعلى ولا قانون موضوعيّ يصحّ، على نحو متساوٍ، في الحاكم والمحكوم.
فإذا قيست شرعيّة الحكومة، عند جون لوك، بخضوعها لعقد محدّد يحظى بتصديق الشعب عليه، ما يعني وجود قواعد تحكم العقد الاجتماعيّ وعمليّات محدّدة لتطويره، فإنّ الحكومة تكون شرعيّة، عند روسّو، بقدر صدورها عن إرادة أكثريّة السكّان، علماً بصعوبة قياس هذه الأكثريّة وقياس إرادتها. وباسم إطلاقيّات متعالية كهذه، يصبح تعطيل العمل بحقوق الإنسان والمواطن ممكناً بوصف التعطيل لحظةً طارئة واستثنائيّة توجبها ضرورات قاهرة.
ولأنّ البشر فاضلون أصلاً، فإنّ كثرتهم وإرادتها العامّة لا يمكن إلاّ أن تضيفا السؤدد إلى المجد، إذ هما ضمانة مثلى للتناسق وللحرّيّة. فإذا كان هدف العقد الاجتماعيّ، عند لوك، حماية حقوق المواطن الطبيعيّة في الحياة والحرّيّة والمُلكيّة، وهو ما يُتوقّع أن تؤدّيه الحكومة، فهدف العقد الاجتماعيّ عند روسّو خلق حكومة تمثّل الناس ككلّ وتعبّر عن «الإرادة العامّة».
لقد ظهرت أفكار روسّو إبّان التغيّرات الكبرى التي شرعت تشقّ فرنسا. فالسلطة الأخلاقيّة للمَلَكيّة والكنيسة كانت تتحوّل موضوعاً للمساءلة. وتبعاً للقراءة السائدة قبل مراجعة المؤرّخين المراجعين، كان الإقطاع والسلطة السياسيّة يتراجعان عهدذاك فيما تتقدّم العلاقات التجاريّة الرأسماليّة والمعاني الكونيّة التي تتجاوز النطاقات المحلّيّة والصغرى. هكذا اكتسب صاحب «العقد الاجتماعيّ» صيتاً وتأثيراً عظيمين باعتباره أحد الفلاسفة الذين قادوا إلى التنوير، قبل أن تؤثّر فلسفته على الثورة التي اعتُبرت اللحظة المحدّدة لولادة أوروبا الحديثة، تأثيرَها في كلّ فيلسوف لاحق.
لكنْ منذ البدايات الأولى بدا واضحاً أنّ تنويريّة روسّو تُدرجه في خانة تميّزه عن باقي رفاقه التنويريّين. فهو طالب المواطنين بالاستسلام لسلطة «الإرادة العامّة» المطلقة، وهذا بينما انصبّ جهد مونتسكيو الأكبر على فصل السلطات وفرض الرقابة والإشراف عليها حمايةً للحرّيّة من الاستبداد ومن تغوّل السلطة، فاهتمّ بحماية الحرّيّة والمُلكيّة، وتأثّر به، كما بجون لوك، «الآباء المؤسّسون» في الولايات المتّحدة. وكان مونتسكيو مؤمناً بأهميّة القوانين والمؤسّسات صوناً للمجتمع في سلامه وسلامته، بينما رأى روسّو، في المقابل، أنّ الناس إنّما كانوا أحراراً ومتساوين في حالة الطبيعة السابقة على السياسة والاجتماع السياسيّ، فيما لم يُفسدهم إلاّ تأثير المجتمع. أمّا الوظيفة الحاكمة للقوانين فتنحصر عنده في نشر الصالح العامّ وفي الدفاع عنه.
وكان فولتير قد كتب لروسّو عن كتابه خطاب في عدم المساواة فوصفه بأنّه «كتاب ضد الجنس البشريّ»، وبطريقته اعتبر أنّ الكتاب يبذل الكثير من الجهد والبراعة «لجعلنا بُلهاء»، متّهماً إيّاه بأنّه يريدنا جميعاً أن نعيش عيش الوحوش. ثمّ تعدّدت أسباب الخلاف بينهما حتّى احتلّ خلافهما ذاك موقعاً متصدّراً في خلافات المثقّفين الكبار عبر التاريخ، كما شابتْه اتّهامات وشتائم، سيّما وأنّ فولتير، الذي اعتبر مكافحة التعصّب قضيّته الأولى، اشتمّ في مشروع روسّو قدراً فائضاً من التعصّب.
وقد وُجد من يربط بين روسّو وهوبز انطلاقاً من تبايُنهما الضخم في ما خصّ حالة الطبيعة. فالإثنان تجمع بينهما ذاتيّة قصوى ترسم البشر أخياراً في حالة روسّو، وترسمهم أشراراً في حالة هوبز، وفي المرّتين تتراجع القدرة على المحاكمة الموضوعيّة كما تتراجع الطاقة على التجريب، لتطغى مفاهيم من نوع التفاؤل بالإنسان (روسّو) أو التشاؤم به (هوبز).
ولاحقاً أوجزت حنة آرنت ما اعتبرته نتائج يرتّبها الأخذ بمقدّمات روسّو وبتقديمه الشعب على الجمهوريّة. فهو يؤول إلى تقديم «الإرادة العامّة» على الدستور، والسلطة المطلقة على التداول العامّ، كما يضع روسّو، بطبيعة الحال، فوق مونتسكيو وقبله.
* * * * *
ليس من الصعب التدليل على أنّ ما أسميناه ثورة الواقع كان مطلباً سياسيّاً واقعيّاً، وبالتالي تقدّميّاً، لا فارق أجسّدتْه مرحلة زمنيّة بعينها أم مواقف وأفعال سياسيّة فاضت عن تلك المرحلة.
فعند مراجعة بعض الأدبيّات التي تتناول قيام الثورة الفرنسيّة وتطوّر أحداثها، تداهمنا المعطيات التي تعلن عن وجود تيّارين ملموسين، واحد كان يذوي تدريجيّاً وتصاعديّاً ويُستَنفد، وآخر كان يهمّ بالبدء وسط شعور متنامٍ يحضّه على أن يبدأ.
وتقضي الأمانة، أقلّه من أجل ضبط شطط الرواية ما أمكن، أن نستعيد، ولو بسرعة، أحد عناوين التحفّظات التي تركتها مراجعات المراجعين، كفرنسوا فوريه، والمؤرّخ الانكليزيّ ألفريد كوبّان الذي سبقه في المراجعة. فمنذ أواخر الستينات غدا الإنتاج المُراجع شرطاً شارطاً للنظر في الثورة الفرنسيّة وتاريخها، وهذا قبل عقود على بروز المؤرّخ الإنكليزيّ سايمون شاما الذي ذهب شوطاً أبعد.
فقد ساد، مع الأوّلين، كوبّان وفوريه، ميل قويّ إلى رفض «التأويل الاجتماعيّ للثورة» والذي أرساه وعمّمه مؤرّخون ماركسيّون كبار كجورج لوفيفر وألبير سوبول وسواهما من غير أن يقتصر عليهم. فهما قدّما وجهة نظر ليبراليّة كلاسيكيّة تعتبر أن الثورة لم تغيّر فرنسا ولم تكن محطّة انتقال من الإقطاع إلى البورجوازيّة أو رمزاً أيقونيّاً للتقدّم. وإلى ذلك تراجعت أحوال السكّان الأفقر، بعد الثورة، سيّما وقد خسروا الإعانات التي كانت تقدّمها لهم كنيسة تُعيل أجزاء واسعة من السكّان، وذلك بسبب ضرب قاعدتها الاقتصاديّة ومصادرة أملاكها في 1791. ثمّ إنّ فرنسا كانت لا تزال بلداً زراعيّاً وقد تخلّفت ثورتها الصناعيّة كثيراً عن مثيلتها الإنكليزيّة، وهكذا فإنّ ما حصل ثورةٌ سياسيّة أنتجت تحوّلات اجتماعيّة، لا ثورة اجتماعيّة أنتجت تحوّلات سياسيّة، أو أنّها ثورة ردّت على حَراك طبقيّ وسياسيّ جامد لم تنعكس عليه آثار النموّ السكّاني والازدهار الذي عرفه القرن الثامن عشر. فهي، التي لم تكن ثورة بورجوازيّة على النبالة والاقطاع والاستبداد الملكيّ، كان صانعوها الأساسيّون أريستوقراطيّين ليبراليّين.
أمّا الرواية السائدة فتذهب إلى أنّ المؤسّسات المَلكيّة التي عاشت ألف عام وجدت نفسها تصطدم بالقرن الثامن عشر. فهي حينذاك شرعت تواجه تحدّيات لا تُقاوَم ولا تُستجاب من داخل النطاق المَلَكيّ المعهود. ذاك أنّ فرنسا دخلت القرن المذكور بلداً أساسيّاً وقياديّاً في أوروبا، وكان تعدادها 28 مليون نسمة، أي أنّها كانت أكبر بلدان قارّتها سكّانيّاً بعد روسيا شبه الأوروبيّة. ورغم أكلافها، فإنّ الحروب الدينيّة كرّستها قلعةً للكاثوليكيّة ديناً وثقافةً وكانت، في الآن نفسه، ذات ناتج محلّيّ إجماليّ هو ضعف مثيله البريطانيّ، تتباهى بامتلاك أكبر جيش أوروبيّ وببحريّة قويّة، تباهيها بلغة هي الثانية لدى متعلّمي أوروبا، والأولى في صالوناتها، كما تبدي حضوراً قويّاً ومؤثّراً للأدب والمسرح والفلسفة، وأيضاً للأزياء والمطبخ.
لكنّ الثورة الصناعيّة كانت تقلع لتوّها، والتعليم الواسع ينشر أفكاراً غير مألوفة، فيما النموّ السكّانيّ ذو الطابع الانفجاريّ يدفع إلى اكتظاظ المدن، وخصوصاً بؤرها الأفقر. ولئن حدّ ارتفاع مستويات المعيشة في أوروبا من نسب الوفيّات بين الأطفال، فإنّ تسارع النموّ بدت نتائجه أوضح في فرنسا ممّا في أيّ بلد آخر، كون فرنسا آنذاك أوفر بلدان أوروبا عدداً.
وكان التطوّر الاقتصاديّ قد بدأ يصطدم بالطوائف المهنيّة (guilds) القديمة وقيودها القروسطيّة، وبعوائق الرسوم الاقطاعيّة على حركة السلع داخل البلد. لكنْ لئن باشرت التقنيّات الزراعيّة الرأسماليّة ربط الزراعات بالمواسم، فقد تلاحقت المواسم السيّئة في السبعينات والثمانينات لتبلغ أقصى سوئها في 1778، ما أدّى إلى تضخّم متعاظم وصعوبات معيشيّة في أجزاء واسعة من البلاد. وبين ارتفاع الأسعار وفقدان عشرات الآلاف مصادر رزقهم، جعلت تتوسّع جيوش العاطلين عن العمل، اليائسين من غدهم، في كبريات المدن، لا سيّما باريس.
وفي الآن نفسه كانت فرنسا تسائل نظامها القِيَميّ والثقافيّ الذي شكّلت الكاثوليكيّة عموده الفقريّ. فقد انتشر الفساد والمحسوبيّات في الكنيسة نفسها، وباتت الحكومة، رغم هزالها، تحظى بقوّة تتعدّى قوّة الكنيسة التي تحالفها. وبفعل نفوذ القوميّة التي اخترقت مسكونيّة الدين، اعتنق كثيرون من المطارنة الغاليكانيّة (Gallicanism)، وهي نزعة دينيّة عرفتها البلاد منذ القرون الوسطى، تبشّر باستقلاليّة أوسع عن الفاتيكان وبأولويّة الخضوع للسلطة المَلكيّة الفرنسيّة («الغاليّة»). وبهذا شابهت الغاليكانيّةُ الأنغليكانيّةَ الإنكليزيّة في تقديمها سلطة الحاكم على سلطة روما، وفي اعتبارها أن العكس إنّما هو الهرطقة. وفي 1765، وبتُهم زائفة، نفت الحكومة الجسم النخبويّ للكنيسة، ممثّلاً باليسوعيّين، ما ضاعف إفقار المؤسّسة الدينيّة وتجفيف دعوتها، وإن أعجب فولتير الذي كان يرى في التخلّص من اليسوعيّين شرطاً للتخلّص من الكنيسة.
أمّا المراسيم الأخلاقيّة الصادرة عن البابويّة فصار مألوفاً تجاهلها، فيما كان يتنامى عدد القائلين بأفكار دينيّة منشقّة وليبراليّة. ففي 1738 مثلاً، أمر البابا رعاياه الكاثوليكَ بعدم التحوّل إلى الماسونيّة، لكنّ المحافل الماسونيّة كانت تنتشر على مدى فرنسا، وبانتشارها راحت تعمّ تصوّرات نسبويّة وربوبيّة تتحدّى الديانة القويمة. كذلك راحت الماسونيّة والأفكار التقدّميّة الأخرى تخاطب بعض النافذين وتجذبهم، محاصرةً النظام في مكانه الحميم، وكان أبرز المتحوّلين لوي فيليب، دوق أورلين وابن عمّ الملك الذي انتسب أيضاً إلى النوادي اليعقوبيّة. وبين 1772 و1789 ارتفع عدد المحافل الماسونيّة من مئة إلى ألفين.
فحين انفجرت الثورة عامذاك كان بعض رموزها الأساسيّين كروبسبير وجون بول مارا، الراديكاليّ المدافع عن «منزوعي السراويل» وكاتب المناشير التحريضيّة، في عداد الماسونيّين، وإن تقلّبا في ماسونيّتهما.
هكذا عرفت الكاثوليكيّة هبوطاً لم تعرف مثله منذ بدأ التبشير وأنشئت الكنيسة في فرنسا. وبينما بدأ الدين يفقد مكانته في عقول الكثيرين من الفرنسيّين وفي حسبتهم للعالم، وداخلت الشكوكُ بعض رجال الدين أنفسهم، نمت ظاهرات عادةً ما يلدها امتزاج الفقر والقلق وانكسار أنظمة القيم، كالبغاء والبورنوغرافيا البدائيّة. ومعروفٌ أنّ لويس الرابع عشر سبق أن منع البغاء، لكنّ لويس الخامس عشر سمح به، فحين حاول لويس السادس عشر منعه مجدّداً كان انتشاره أصبح أوسع من أن يُمنع.
وعلى مقربة من السجالات الفكريّة الكبرى، لاح هذا المُنتَج علامة من علامات اضطراب الأزمنة. فالبورنوغرافيا السياسيّة وصِيَغ التفسّخ الأخرى التي جعلت تعمّ، استهدفت بالتشهير العائلة الملكيّة، بين من استهدفتهم، لا سيّما الملكة ماري أنطوانيت. فهي كامرأة ذات أصول نمسويّة، والدُها فرنسيس إمبراطور النمسا الراحل وشقيقها الامبراطور ليوبولد الثاني، مثّلت مادّة سهلة للمُشهّرين. فهي لُقّبت بـ«السيّدة عجز» للإيحاء بأنّ إنفاقها سبب العجز الماليّ الذي تعانيه البلاد، وهذا علماً بأنّ إنفاق المَلَكيّة الفرنسيّة كان نصف مثيله البريطانيّ. وكان من صفات التشهير التي قُذفت بها التوحّش والدعارة والمثليّة الجنسيّة التي كانت يومذاك تهمة تشين صاحبها وصاحبتها. وبدورها أضافت الهجمات المتواصلة هذه وقوداً إلى الوقود الذي كان يقضم الهيبة المَلكيّة.
والمؤسّسات كانت هرِمة هي الأخرى. فالأزمة الماليّة طرحت السؤال عمّن يصنع القرار ويراقبه، وكيف تُوزّع الصلاحيّات والمسؤوليّات تالياً. وما جعل الدولة مَدينة، وفي الوقت نفسه عاجزة عن ضبط الإنفاق، كان حرب السنوات السبع (1756-63) بين فرنسا وحلفائها وإنكلترا وحلفائها. فبسبب هزيمة الأولى، أجبرتها معاهدة السلام على التخلّي عن أجزاء كبرى من إمبراطوريّتها في «ما وراء البحار»، خصوصاً في أميركا الشماليّة والوسطى. هكذا تولّت أكلافُ الحرب، ثمّ أكلاف الهزيمة، إيقاع الحكومة في مديونيّتها. وكما سبقت الإشارة، بقي الإنفاق الباذخ للبَلاط، وفساد الإدارة والسياسات الماليّة هامشيّين بقياس تلك الأكلاف الحربيّة. وإذ أرادت باريس الانتقام من لندن بدعمها الثورة الأميركيّة وتمويل حربها في السبعينات، غدا نصف عائدات الدولة يُنفق على خدمة الدَين.
هكذا ضغط النبلاء لانعقاد «مجلس الطبقات العامّة»، حيث يحظون هم والإكليروس باليد العليا، وهذا فيما كانت الطبقة الوسطى والقطاعات الشعبيّة العريضة المؤيّدة لها تضغط هي أيضاً، ولو لأهداف مختلفة، من أجل انعقاد ذاك المجلس.
وربّما كانت استجابة المُركّب السلطويّ للتحدّيات، ونمط مؤسّسات السلطة المتّهمة بأنّها مصابة بالتكلّس، أفصح تعبيرات الأزمة العامّة. فـ«مجلس الطبقات العامّة» هذا، وكان الملك يختار أعضاءه من قادة الكنيسة والطبقات العليا والوسطى، لم يُدع إلى الانعقاد قبل أيّار (مايو) 1789، وهذا علماً بأنّه لم يكن قد انعقد قبلذاك منذ 1614. وبوصفه مؤسّسةً قروسطيّة غير مؤهّلة التعاطي مع مشكلات حديثة، منح المجلس قوّة اقتراعيّة ضخمة للنبلاء والإكليروس غير متكافئة مع ما أقرّه لباقي ممثّلي المجتمع. وإذا صحّ أنّ الدعوة المَلكيّة إلى انعقاده ترافقت مع تخفيف القيود على الصحافة والمنشورات الداعية إلى التغيير، فالتنازل هذا، على ما رأى البعض، جاء متأخّراً جدّاً وأبويّاً جدّاً، يتّصل بالنتائج وبالأمزجة أكثر ممّا يتعامل مع الأسباب وتكرّسه القوانين.
فالموضوع الأساس، كما قرأته الطبقة الثالثة، إنّما هو التمثيل الذي يوزّع مواقع السلطة تبعاً للعدد. والراهن أنّ الطبقة المذكورة، بما ضمّته من تجّار ومحامين وصحافيّين، مثّلت قيادة الدعوة إلى تغيير نُسب التمثيل، وإليها انحاز نبلاء ورجال دين حرّكتهم القيم أو لمسوا أنّ هبوب العاصفة بات وشيكاً. لكنّ ما عرضته الطبقة الثالثة واجهه بالرفض الجسم العريض للإكليروس والنبلاء، فاندفع ممثّلوها إلى إعلان أنفسهم الجسمَ التشريعيّ الشرعيّ الأوحد تحت اسم «العامّة» (the commons)، وبحماسة كبيرة استقبل الجمهورُ إعلانهم هذا. لكنّ الملك، الذي لم ير جديداً تحت الشمس، منع المجلس الجديد من الانعقاد في القاعة المخصّصة في فرساي، فاحتلّ أعضاؤه ملعب التنِس الملكيّ وأقسموا ما بات يُعرف بـ«قسم ملعب التنِس»، متعهّدين للشعب عدم التفرّق قبل إنجاز دستور جديد. وبعد لجوء الملك إلى سياسات متضاربة شابتْها المناورات، أبدى بعض الليونة ودعا، في 9 تمّوز (يوليو)، طبقتي الإكليروس والنبلاء للانضمام إلى المجلس الذي بات يُسمّى «الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة».
إلاّ أنّ لويس السادس عشر عاد مجدّداً يراهن على الحلّ الأمنيّ فطوّق باريس بجنوده، كما أقال، في تلك اللحظة، وزير المال الإصلاحيّ جاك نيكِر. وانتشرت شائعات تفيد أنّ الجيش على وشك أن يشنّ هجوماً على الشعب، وأنّ الأرستقراطيّة والملك يخطّطان لإطاحة الطبقة الثالثة ومجلسها. هكذا استولى المواطنون على 28 ألف بندقيّة من مستشفى للمحاربين القدامى واقتحموا بها، يوم 14 تمّوز (يوليو)، الباستيل.
وهذا كان يوم الثورة الذي هلّلت له أكثريّة الشعب، فيما تفجّر التعبير الحرّ في الإعلام المكتوب الذي راحت منابره تتزايد، علماً بأنّ الكثير منه كان عنيفاً وتشهيريّاً وبورنوغرافيّاً.
وللتنوير كان هناك تأثير مؤكّد. فأوروبا القرن الثامن عشر كانت تسجّل ظهور أفكار تتحدّى المعتقدات الشائعة عن العلم والحكم والدين. ولم يكن التنوير لينفصل عن الثورة العلميّة التي سبقته قبل أن تواكبه. فهي، في القارّة بأسرها، ولّدت حسّاً بالتفاؤل والنشوة والمبادرة والأمل، إذ في كلّ عام شرع يظهر اكتشاف لم يكن لأحد أن يتوقّعه، كما انتعش التفكير القائل إنّ في الدين والمَلَكيّة وضخامة التفاوت الاجتماعيّ ما يعيق التقدّم وكرامة العقل والإنسان، وهذا بينما ذهب الأشدّ تطرّفاً في طلب المستقبل إلى أنّ التخلّص من تلك المعوقات كفيل بإدخال الإنسانيّة عصراً ذهبيّاً جديداً. وكان ممّا لازم انفجارَ التنوير ما سُمّي «ثورة القراءة»، فنوعيّاً تعاظم عدد الكتب التي تُنشر، تعاظمَ المقاهي والصالونات الثقافيّة، فضلاً عن المحافل الماسونيّة التي وفّرت حيّزات للتعبير عن الأفكار الراديكاليّة ومناقشتها. وباهتةً بدت حجج المجادلين التقليديّين من أنّ واجب الحكومة الحفاظ على الأمن والنظام والتقاليد الأخلاقيّة السائدة، وأنّ إرادة الشعب لا معنى لها فيما الملك هو السيّد المكتفي بذاته والذي لا يعوزه إقرار به يأتيه من خارجه. وفي المقابل كانت تزدهر الأفكار القائلة إنّ واجب الحكومة خدمةُ الشعب وإطاعته، وإنّ الشعب سيّد نفسه وسيّد بنفسه، وهي المساجلة التي سوف تقيم في قلب الثورة الفرنسية. وإلى جانب السجال حول لمن تكون السيادة، تناولت الجدالات طبيعة الإنسان ذاته، وهل هو خيّر أو شرّير، وما معنى الحرّيّة الحقيقيّة، ممّا كان يعلن كسر قمقم الفكر المسيحيّ ومبارحة الإجابة الدينيّة المعهودة. وبصورة عامّة بدا الفكر التنويريّ مطابقاً واقعَ الحال وضرورات التغيير. فلم يكن بلا دلالة أنّ مونتسكيو، وكان بين صفاته الكثيرة أنّه قاضٍ، ركّز على «فصل السلطات» وعلى «الاستبداد»، وهذا فيما تولّت إنسَيكلوبيديا ديدرو تعريف الفرنسيّين بالعالم من خارج الصندوق الدينيّ، وحضّهم بالتالي على المعرفة والتفكير المستقلّين، كما تُرك لنقد فولتير اللاذع تبيان التهافت في الكنيسة والعبوديّة والتعصّب، والدفاع عن حرّيّتي التعبير والإيمان وعن فصل الكنيسة عن الدولة .
* * * * *
لم تخل الثورة من إشارات عنفيّة متفرّقة أوحت باحتمال تطبيع العنف العامّيّ بوصفه وسيلة ثوريّة لتحقيق الأهداف. فالعاميّون الذين اقتحموا سجن الباستيل وقلعته الموصوفين بأنّهما رمز للعتوّ المَلكيّ، أقدموا على قتل قائد كتيبة حرّاس السجن وتعليق رأسه على رمح، وكان مقزّزاً ما فعلوه حين طافوا برأسه على شوارع العاصمة التي اكتظّت بحشود المحتفلين الهائجين. وفي عداد الرواية الملحميّة اللاحقة، التي استدعاها تحويل اقتحام الباستيل إلى أسطورة مؤسِّسة للثورة وللجمهوريّة، أنّ المساجين الذين حُرّروا كانوا سبعة فحسب، أربعة منهم مدانون بالتزوير، وثلاثة موصوفون بالجنون. ورغم أنّ أحداثاً مضيئة لاحقة تجاوزت هذه البشاعة، فقد ظهر حرص مُقلق، سوف تتكشّف آثاره السيّئة لاحقاً، على جعل طلب المستحيل «تعريفاً صالحاً للثورة»، وفق المؤرّخ المراجع سايمون شاما، ونشأ ذاك الربط بين الحرّيّة والدم (فاستورده أحمد شوقي إلى العربيّة في بيته الشهير عن دمشق و«الحرّيّة الحمراء» واليد «المضرّجة»).
وفي ظلّ انحياز الجنود على نحو متزايد إلى مواطنين مسلّحين ارتفع عددهم إلى 150 ألفاً، ظهر من يستولي على سلطات المدن والمناطق، كما هاجم جياعٌ مخازن الحبوب وأراضي الإقطاعيّين وانتزعوا منها الغذاء والمؤن. وإذ عبّر أعضاء من الجمعية الوطنيّة عن قلقهم حيال علامات الفوضى، رأى روبسبير والراديكاليّون في تلك الأفعال تعبيراً طبيعيّاً عن آراء الشعب، لكنّهم أيضاً جعلوا يداورون فكرة جديدة نسبيّاً مفادها أنّ الخطر الفعليّ إنّما يكمن في معارضي أفعال الثورة، وهي فكرة مهّدت للإصرار اللاحق على التخلّص من كلّ مَن يبدي معارضة لـ«الإرادة العامّة».
على أنّ أحداثاً ومواقف كهذه كانت مُتَوقّعة وظلّت هامشيّة بقياس الحدث التحرّريّ والديمقراطيّ الأعرض. وهي لئن استدعت التحذير الواجب والصحّيّ، بقي أنّ الإنجازات احتفظت لنفسها باليد العليا، حتّى لو تطرّفت قليلاً هنا أو هناك انفعالاً منها بعلامات التطرّف.
ففي 4 آب (أغسطس)، أي بعد عشرين يوماً على الاقتحام الذي عُدّ عيد انتصار الثورة، ألغي الإقطاع، وكان ذلك من ضمن إصلاحات كاسحة أُمّمت بموجبها أراضي الكنيسة وصودرت ثروة النبلاء والإكليروس كيما تُستخدم العوائد في استثمارات تنتفع بها المناطق الأبعد والأفقر كما يُسدّد الدَين العامّ. والدَين كان كبيراً جدّاً، حتّى ليمكن القول إنّ المشكلة الماليّة كانت الصاعق المفجّر للتناقضات وللثورة.
لقد باعت السلطة الثوريّة بعض ما استولت عليه من أملاك للأغنياء البورجوازيّين. ووسط هذه المعمعة تزاحم كثيرون من النبلاء والإكليروس لتسليم ثرواتهم كي يُظهروا ولاءهم للوضع الجديد. وبالفعل شهدت جلسة إلغاء الإقطاع إعلان النبلاء الليبراليّين ورجال الدين الإصلاحيّين تخلّيهم عن امتيازاتهم وألقابهم القديمة. وبهذا الإلغاء الذي طال أيضاً ضريبة العُشر الكنسيّة، كما استهدف الفساد من خلال الوظيفة العامّة، نجمت إعادة توزيع هائلة للمُلكيّة أُرفقت بإعادة نظر لا تقلّ ضخامة بأنظمة المكانة والقيم.
ووفق سايمون شاما، في كتابه المواطنون، هو الذي ينفي أن يكون النظام القديم قديماً، كانت النبالة شديدة الانفتاح على دم جديد وأفكار جديدة، فأكثرُ النبلاء حديثو العهد في نبالتهم التي أحرزوها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهم قابلون لأن يُعَدّوا بورجوازيّين ناجحين وثيقي الصلة بالمشروع الرأسماليّ، وبين هؤلاء لم يكن الماركيز لافاييت أو الكونت ميرابو أو دوق أورلين استثناءً.
وأهمّ من إلغاء الإقطاع والامتيازات كان «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» في 26 آب، والذي استوحى قيم التنوير، تكراراً لما فعله «إعلان الاستقلال» الأميركيّ في 1776. وكان دور لافاييت أساسيّاً في صياغته، هو الأرستقراطيّ المتطوّع للقتال مع الثوّار الأميركيّين، والمتحمّس لإلغاء العبوديّة، ولتأسيس دولة أمّة ديمقراطيّة على قاعدة القانون الطبيعيّ. وفي مهمّة الصياغة، شارك أيضاً توماس جيفرسون، أبرز واضعي «إعلان الاستقلال» الأميركيّ.
ومع الدستور الأوّل المكتوب الذي وضعته الثورة، صيف 1791، وكان «المعتدلون» لا يزالون يحظون بموقع قويّ، كُرّس رسميّاً مبدأ الملكيّة الدستوريّة الذي صالح الملك وجمهوره مع الإصلاحات الثوريّة. وكان ميرابو، على رأس الطبقة الثالثة، من أبرز المتحمّسين لهذا الحلّ الذي أريد له أن يحاكي الصيغة المَلكيّة البريطانيّة. صحيح أنّ الملك اعترض على عديد الإصلاحات، غير أنّه، في نهاية المطاف، وعندما بدت مقاومته خائرة ومنهكة، استسلم للأمر الواقع. والحقّ أنّ الصراع كان قد حُسم منذ وقت مبكر يرقى إلى 5 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1789، حين تمكّن متظاهرون ومتظاهرات من دخول فرساي، وإجبار الملك والملكة على مغادرة القصر والإقامة في قصر تويلِري في باريس، حيث يكونان تحت عين الثوّار، في ما يشبه الإقامة الجبريّة.
والراهن أنّ ميوعة الملك وتردّده لم يُوازنا تعنّته فحسب، بل شكّلا واحداً من العناصر التي تتيح للسيولة السياسيّة فرصةً ومجالاً. وما عزّز ذاك الواقع أنّ باباً للسياسة ظلّ دائماً مفتوحاً، وأنّ الحلقات الوسيطة بين الملك و«الشعب» إنّما وُجِدت منذ وقت سابق على الثورة. وقد كان أبرز تلك الحلقات المراقب العامّ للماليّة شارل ألكسندر دو كالون ووزير المال الذي جيء على ذكره قبلاً، جاك نيكِر. فحينما عرض الملك في 1787، تيمّناً بما فعله قبله لويس الخامس عشر، خططاً لإصلاح النظام الضريبيّ رفضتها الأرستقراطيّة التي فاقت الملك تحجّراً، دعا دو كالون نبلاء البلد إلى اعتماد خطّة يتغلّبون بها على عجز الموازنة من خلال رفع الضرائب على الطبقات الغنيّة. لكنّ الأعيان الأرستقراطيّين رفضوا الخطّة، على ما سبقت الإشارة، مطالبين بالاحتكام إلى «مجلس الطبقات العامّة». أمّا نيكِر فكان سياسيّاً ومصرفيّاً ومثقّفاً جِنِيفيّ الأصل، وكان إصلاحيّاً من دعاة المَلكيّة الدستوريّة المبكرين، متحمّساً لجعل موازنة الدولة السرّيّة شفّافة ومتاحة للعموم. ولئن أقاله التعنّت الملكيّ في 11 تمّوز 1789، من دون أيّ اعتبار للاحترام والثقة الشعبيّين الواسعين اللذين حظي بهما، فقد شكّلت إقالته واحداً من أسباب الغضب الذي تفجّر في اقتحام الباستيل بعد أيّام ثلاثة.
وكان ممّا أنجزه نيكِر أنّه، إبّان احتدام الخلاف حول تمثيل الطبقات الثلاث في «مجلس الطبقات العامّة»، تمكّن في أواخر 1788 من مضاعفة تمثيل الطبقة الثالثة التي اعتبرت نفسها بحقٍّ مغبونة تمثيليّاً قياساً بالنبلاء والإكليروس.
ولاحقاً، مع انحياز الجنود وأعداد من النبلاء والإكليروس إلى الثورة، بدا أنّ الملكيّة الدستوريّة لا تفتقر إلى أسباب القوّة التي ترشّحها كي تكون بديلاً ناجحاً من المَلكيّة المطلقة.
لقد شرعت الأحداث تنضوي تحت عناوين قابلة لأن تكون موضع إجماع عريض. فعبر التسوية الجديدة انخفضت حدّة مناهضة الثورة عند الجمهور الملكيّ الذي تبيّن، في ما بعد، أنّه أكبر من أن يُستهان بحجمه ووزنه. وبدوره هلّل جمهور الثورة للملك في موقفه الجديد الراضي بالمَلكيّة الدستوريّة، فبدا الأمر لكثيرين من الثوريّين ذوي النزعة البرلمانيّة مصالحة وطنيّة وخاتمة لحالة الاستثناء، تتيح استئنافاً لحياة طبيعيّة يُستعاد معها الاستقرار وينشأ نصاب سياسيّ جديد.
هكذا كانت الثورة تنجز الأهداف التي تجيب عن أسئلة الواقع، أكان لجهة إلغاء الامتيازات الطبقيّة المتقادمة والإجحاف المترتّب عليها، أو تقديم الشكل السياسيّ الأشدّ تمثيلاً وديمقراطيّة، أو مواكبة الأفكار التقدّميّة في إعلائها الإنسان والمواطن والبُعد الكونيّ الكاسر للأبرشيّة وضيقها.
ومنذ 1790، وفي الذكرى الأولى لاقتحام الباستيل في 14 تمّوز، أُسّس عيد سُمّي «عيد الاتّحاد» أريدَ منه الاحتفال بوحدة الشعب في طبقاته ومناطقه. فالثورة تبدّت بوصفها التحوّل الذي انتصر وحقّق أهدافه، ما لا يحوج بعدذاك إلى أيّة ممارسة للعنف وأيّة حدّة في الاستقطاب.
* * * * *
هذه التسوية، على أيّ حال، بدت أقلّ كثيراً ممّا يطلبه راديكاليّون مسحورون بالأفكار التنويريّة في صيغها الأشدّ تطرّفاً. فهم آمنوا بأنّ تطهير العالم القديم كلُّ ما ينبغي فعله لبلوغ الطوبى. أمّا أن تنشأ حياة سياسيّة مستقرّة تتبلور فيها منظومة قيميّة بديلة ومتماسكة تحلّ تدريجاً محلّ الأخلاق والقيم الكنسيّة التي أزيحت، فبدا غريباً عن أطوارهم وأمزجتهم.
ومنذ بدايات الثورة كانت تنتشر في باريس مناشير توزّعها عناصر أشدّ راديكاليّة تشكّك بالتعريف المعتمد لـ«الطبقة الثالثة»، ومعها تظهر البذور الأولى لما سوف يغدو تيّاراً سياسيّاً عريضاً يصعب عليه الانضباط في لعبة سياسيّة. فبعد أن ضمّت البورجوازيّةُ الشعب كلّه إليها، زاعمةً تمثيل أكثريّة السكّان الساحقة، أطلّت توكيدات مضادّة مفادها أنّ تلك البورجوازيّة تضمّ ميسورين يملكون ما يكفي من الوقت لكي ينغمسوا في عمليّة سياسيّة بطيئة، وهذا فيما ينبغي لصوت الطبقة الثالثة أن يخرج، حاسماً مستعجِلاً، من حناجر عمّال وفلاّحين وحِرَفيّين. وفي مقابل الموقف المَلَكيّ المتراوح كعادته بين تعنّت وتردّد، وتقديمه التنازل المتأخّر، كان كتّاب المناشير الراديكاليّون يمهّدون لقطع القليل من الجسور الممكنة أو المحتملة مع الإكليروس والنبلاء، ماضين في نعيهم الافتقارَ إلى تمثيل للجماهير حقيقيٍّ ومطابق. ومن بين القادة الكثيرين الذين ظهروا في هذا الوسط كان روبسبير، المحامي والنائب عن الطبقة الثالثة في بلدته أراس، في أقصى الشمال، فكان من المدافعين عن استعجال دخول الطبقات الدنيا النظامَ السياسيّ. وللغرض هذا كان يكتب مناشير بعضها ذعريّ يحذّر من أمور خطيرة سوف تحصل، أو تحمل عناوين على شيء من التآمريّة التي درجت لاحقاً، من نوع «أعداء البلد وقد نُزعت أقنعتهم».
لكنّ مصاعب الوضع الجديد، وكما في المراحل الانتقاليّة عادةً، كانت اقتصاديّة أساساً. ذاك أنّ البطالة تزايدت، والندرة طالت التموّن بالسلع الأساسيّة فيما هبطت قيمة العملة الورقيّة هبوطاً كبيراً. ولم يكن هذا غير متوقَّع الحصول، كما لم يكن مستحيلاً على الأوضاع الجديدة معالجته، ولو بشيء من البطء والتعثّر.
إلاّ أنّ الحلول الخلاصيّة والفوريّة التي لا تخفي بَرَمها بالسياسة بدأت أيضاً تطلّ برأسها، تستولي على أصحابها فكرة إحلال «الإرادة العامّة» والتضافر الذي يجمع الشعب دون أن يقف خارجه أحد. ولسوف تقسم الأخطاء المذكورة الحكومة والثوّار والشعب وتخلق جوّاً من الكراهية والخوف وجنون العظمة. ولربّما جاءت المبادرة المبكرة الأولى في هذا الاتّجاه مع صدور «الدستور المدنيّ للإكليروس» في تموز 1790، والذي أعلن وضع الكنيسة كلّيّاً تحت سيطرة الحكومة، وانتخاب الكهنة والمطارنة بدل تعيين البابا لهم، ومن ثمّ تأسيس جسم سياسيّ يراقب أيّ تواصل قد يحصل بين رجال الدين وروما. وكان ما هو أهمّ من ذلك كلّه، تأدية الإكليروس قَسَم ولاء للثورة وحكومتها الجديدة. والقانون هذا كان يعني إخضاع الكنيسة كلّيّاً للسلطة، ويهدّد، على مدى أبعد، بإماتة الكاثوليكيّة، لا كمؤسّسة كنسيّة فحسب، بل كتراث فكريّ وكعنصر من العناصر الثقافيّة المكوّنة لفرنسا ولتاريخها، وهذا فضلاً عن تقويضه المجتمع المدنيّ وإمكانات تطوّره. ويُقدّر أنّه لو لم يتراجع نابوليون عن هذا القانون لاحقاً لماتت الكاثوليكيّة وثقافتها وتراثها في فرنسا، ولتأخّرَ كثيراً تعافي الديمقراطيّة والمجتمع المدنيّ الذي عرفه البلد بعدذاك.
والراهن أنّ الكنيسة، قبل صدور القانون هذا، كانت قد أبدت استعدادها، ولو على مضض، لتقبّل الإجراءات الثوريّة التي قضت بمصادرة أملاكها، واختارت التعايش مع خسارتها امتيازاتِها التقليديّة، تمهيداً لبلورة تسويةٍ ما تجمع بين مثالاتها ومثالات الثورة. لكنْ بالطبع لم يكن وارداً القبول بالقانون الجديد، إذ هو من جنس استئصاليّ مصدره افتراض الثوريّين الأكثر راديكاليّة أنّ الكاثوليكيّة، وليس الكنيسة وحدها، ماتت، وأنّ قانونهم لن يواجه أيّة مقاومة لأنّ التاريخ شرع يسلك هذا الطريق القويم الذي يجبّ ما قبله. والخطأ هذا، الذي شكّل التهديد الكبير الأوّل للمَلَكيّة الدستوريّة، لم يكن ممكناً أن يكون أكبر: فأغلبيّة ساحقة من مطارنة فرنسا وكهنتها رفضوا القانون، ورفضوا خصوصاً أداء قسم الولاء للثورة ودولتها، كما أدلى بدلوه البابا بيوس السادس، فأصدر وثيقة تشجب القانون.
وبدورهم أطلق راديكاليّو الجمعية الوطنيّة حملة على الكنيسة الموصوفة بأنّها قوّة رجعيّة موالية للنظام القديم وخطر وجوديّ على الثورة، فيما كان يتعاظم الإلماح إلى «بدايات» كلّيّة الجدّة لا مكان معها للكنائس، و«نهايات» يُطوى معها كلّ ماضٍ، لا سيّما الماضي الدينيّ.
بيد أنّ الأطراف الراديكاليّة التي كانت تصعد آنذاك، ممثّلة بالجيرونديّين خصوصاً (والذين اكتسبوا لاحقاً اسمهم هذا تبعاً لانتماء معظم قادتهم إلى منطقة جيروند في الجنوب الغربيّ) كان صعودها مأزوماً. ذاك أنّ تلك الأطراف واجهت معضلة لم تقلّ عن قدرتها على ممارسة الحكم وتسيير الشؤون العامّة. ففي عهد الجمعيّة التشريعيّة التي حلّت في أواخر 1791 محلّ الجمعيّة التأسيسيّة، كانت الأكثريّة الجيرونديّة تقاتل على جبهات عدّة. فهي ضدّ الملك بوصفها جمهوريّة، وضدّ المحافظين الدستوريّين بوصفها معارضة للمَلكيّة الدستوريّة، وأيضاً ضدّ اليعاقبة الآخرين الذين مثّلوا الباريسيّين بعمّالهم وعاميّيهم، مقابل تمثيلها المتنوّع جغرافيّاً ومناطقيّاً، والأعلى كعباً طبقيّاً. وفوق هذا حمّل الجيرونديّون مسؤوليّة الأزمة الاقتصاديّة للمهاجرين الذين فرّوا، مع قيام الثورة، إمّا إلى النمسا وبلدان أخرى أو إلى المناطق الحدوديّة، ففرضوا عقوبات قاسية طالهم بعضها بينما اتّجهت شفرة بعضها الآخر إلى رجال الدين الذين لم يؤدّوا قسم الولاء. وقد صيغ مبدأ الحكم عبر العقوبات في إجراءات مارس الملك عليها حقّه الدستوريّ في النقض (الفيتّو). لكنْ ما بين أواخر 1791 وحلّ الجمعيّة التشريعيّة في صيف 1792، غُيّر أربعة وزراء للعدل، وأربعة وزراء للبحريّة، وستّة وزراء للداخليّة، وسبعة وزراء للشؤون الخاررجيّة، وثمانية وزراء للحرب.
وفي مناخ كهذا، واستباقاً منه للوعي الفوضويّ، دعا أحد الراديكاليّين، جان دِبري، أو الماركيز دو برِي، الذي كان واحداً ممّن تولّوا رئاسة «المؤتمر الوطنيّ» اللاحق، إلى تأسيس منظّمة وظيفتها «إبادة الطغاة»، تضمّ 1200 مقاتل مهمّتهم اغتيال الملوك والجنرالات و«باقي أعداء الحرّيّة».
لكنّ الجيرونديّين لم يكونوا الطرف الراديكاليّ الأوحد الذي كان يوالي صعوداً مشوباً بالأزمات وبالكثير من الصخب والغضب. فذلك ما كان حال الطبقة العاملة الباريسيّة ومعها العاميّون المحتقنون والمهتاجون. وقد امتلكت وفادتهم إلى مسرح الأحداث الأعرض ديناميّةً ميّزتهم بها مدينيّتهم وما انطوت عليه من حَراك وحركيّة لا يتوافران بالدرجة نفسها في فئات أخرى. ولئن كان «منزوعو السراويل» أبرز أدوات هذه الكتلة، فإنّ الطعن بمبدأ الملكيّة الدستوريّة كان أبرز أفكارها المطروحة في ساحات التداول العامّ.
وفي محاولة للحدّ من هذا الصعود، ومن استيلاء الفوضى المطلقة على الحياة السياسيّة برمّتها، صدر في 14 حزيران (يونيو) 1791، أي في أواخر عهد الجمعيّة التأسيسيّة، القانون غير الموفّق الذي عُرف بقانون شابلييه. فقد تطرّف القانون هذا في اتّجاه معاكس فألغى النقابات والنقابات الحِرَفيّة كما ألغى الإضرابات، مثيراً أوسع الغضب لدى «منزوعي السراويل» ممّن اعتبروه بحقّ إصراراً على إلغاء الجماهير المدينيّة سياسيّاً. فالليبراليّون الفرنسيّون غير المجرّبين ظنّوا أنّه إذا كانت الحرّيّة وحقوق المُلكيّة والسوق الحرّة هدفَ الثورة، فحماية الهدف هذا من جموح تلك الجماهير وفوضاها تغدو غاية مستحقّة.
ومن جهة أخرى، ولدى كلّ خلاف مع الجمعيّة التاسيسيّة، كانت الأصوات الراديكاليّة الأعلى تذكّر بأنّ الملك «عدوّ الشعب» وتطالب بالاقتصاص منه ومن محيطه. هكذا، وفي 21 حزيران، فرّ لويس السادس عشر شمالاً مصحوباً بزوجته، بعدما ترك وراءه وثيقة تدين الوضع القائم. غير أنّ الهرب والتخفّي لم يسعفاهما فألقي القبض عليهما واقتيدا مجدّداً إلى باريس تحفّ بهما شبهة الخيانة. وكان لمحاولة الهرب أن عزّزت صورة «عدوّ الشعب» و«المتآمر». وبعد ليلة على المحاولة ألقى روبسبير خطاباً حماسيّاً أعلن فيه أنّ ألدّ أعداء فرنسا هم المضادّون للثورة، وأنّ الملك أحد أعداء الأمّة هؤلاء. وكان للخطاب أن قسم الجمعيّة فريقين، أولئك الذين مضوا في تمسّكهم بالمَلكيّة الدستوريّة وأولئك الداعين إلى جمهوريّة تُعلن للتوّ. لكنّ روبسبير، وفي خطوة تصعيديّة أخرى، راح يدعو إلى محاكمة علنيّة للملك، ثمّ في 17 تموز واجه «الحرسُ الوطنيّ»، بقيادة لافاييت، بعض موقّعي العرائض الداعين إلى محاكمة لويس السادس عشر وقتل 15 منهم. وكان لافتاً أنّ النوادي اليعقوبيّة كانت هي نفسها تنشقّ حينذاك بسبب الخلاف حول إزاحة الملك عقاباً على محاولته الهرب، بحيث انفصل عنها نوّابها الأكثر اعتدالاً من المدافعين عن التمسّك بالدستور وبالملكيّة الدستوريّة.
* * * * *
بكثير من الصعوبة والقسر عُمل على رأب صدوعات الملكيّة الدستوريّة. إلاّ أنّ الحرب على النمسا ما لبثت أن أطلّت بوصفها الحدث الأهمّ في كسر الثورة الأولى والتمهيد لثورة أخرى سوف تبلغ ذروتها في «عهد الإرهاب». فالحرب تلك نيطَ بها تحقيق أغراض عدّة مباشرة وبعيدة المدى. هكذا اندرج في الإطار هذا تحويل الأنظار عن الصعوبات السياسيّة والاقتصاديّة للنظام الجديد، وتمكين قبضة الجيرونديّين في السلطة، مثلما اندرج تعميم التنوير، فطالب قائدهم جاك بيار بريسّو، الذي ارتبط اسمه مبكراً بإلغاء العبوديّة، بوضع خطّة عسكريّة طموحة لنشر الثورة في أوروبا. فإذا كان «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» قد تبنّى الحقوق الطبيعيّة للبشر كلّهم فلماذا قَصْر تلك الحقوق على الفرنسيين وحدهم؟ وكان أن وجد الطلب على الحرب الزيت اللازم لآلته في خرافة تنويريّة مفادها أنّ الجيوش الأوروبيّة مؤلّفة من عبيد، والعبيد لا بدّ أن يرموا سلاحهم لدى مواجهتهم جيش المواطنين الفرنسيّين الأحرار.
وإلى الأسباب أعلاه ظهر من يضيف أنّ الجيرونديّين، ممّن لُقّبوا حينذاك بـ«حزب الحرب»، وجدوا في الحرب ما يستجيبون به لرغبات بعض البورجوازيّين الراديكاليّين الذين دعموهم. وعملاً بمنطق ذاك الزمن، فإنّ رغبات الأخيرين ليست سوى توسيع سوقهم المحلّيّ توازياً مع حماية المصلحة والأمن الفرنسيّين.
في أيّة حال، كانت الثورة الفرنسيّة وما استجرّته من تطوّرات قد أرعبت ملوك أوروبا، سيّما وأنّهم رفضوا بعناد انتقال الأفكار والممارسات الجديدة إلى بلدانهم. وبقدر ما انجذب إلى الثورة مثقّفو القارّة وقطاعاتها التي اختارت التحرّر من ثنائيّ الإقطاع والكنيسة الهرمين، أثار مخاوفَ الحكّام تعاطفُ الثورة الفرنسيّة، بعد شقيقتها الأميركية، مع مبدأ ثوريّ في القانون الدوليّ هو حقّ الشعوب في تقرير المصير.
والثوّار، منذ البدايات الأولى، كان ينتابهم توجّسٌ من غزو نمسويّ، خصوصاً بعدما صدر، في آب، تحذير نمسويّ – بروسيّ مؤدّاه أنّ أيّ تهديد للملك قد يؤدّي إلى إعلان حرب على فرنسا. وراحت تتتالى مواقف تحذيريّة لبست لبوس التصعيد، فكانت بالضبط ما يحتاجه راديكاليّو الثورة الفرنسيّة لإعلان الحرب.
وبالفعل انطلقت الدعوة إلى الحرب من باريس، عبر إنذار وجّهه لويس السادس عشر، بوصفه الملك الدستوريّ، إلى النمسويين كي يطردوا المهاجرين. ومع أنّ النمسويّين استجابوا وطردوهم، أُعلنت، في 20 نيسان 1792، الحرب على النمسا وبروسيا التي سمّاها الجيرونديّون «حملة كونيّة للحرّيّة». والحرب كانت أكبر أخطاء الأخيرين القاتلة، وكانوا هم من أبرز قتلاها، ظانّين أنّهم من خلالها ينشرون «المكاسب المستنيرة للثورة» بين «الشعوب المقهورة في أوروبا».
وبدورهما ردّت الدولتان، وهما قوّتان عسكريّتان معتبرتان، بغزو منسّق ما لبثت أن انضمّت إليه بريطانيا ثمّ روسيا ومَلكيّات أوروبيّة أخرى. وعلى مدى قرابة عشر سنوات، قُطّعت على مرحلتين، خيض ما عُرف بـ«الحروب الفرنسيّة الثوريّة» التي كلّفت ملايين القتلى.
وكان لافتاً أنّ الملك هو من أعلن الحرب تبعاً لما وصفه كثيرون، في وقت لاحق، بأنّه خليط من سوء تقدير وتذاكٍ. فهو ربّما ظنّ، بحسب تقديرات مرجّحة، أنّ الحرب تقوّي موقعه وتُحدث التفافاً حوله، أو افترض أنّ القوّات الأجنبيّة سوف تحقّق نصراً حاسماً وسريعاً تنقذه بعده من محنته. لكنْ إذا صحّت الاتّهامات التي وُجّهت لماري أنطوانيت بأنّها كانت، إبّان الحرب، «جاسوسة نمسويّة» تزوّد أبناء جلدتها أسراراً عسكريّة، بات التذاكي وسوء التقدير وصفين مخفّفين جدّاً.
* * * * *
لم يُبدِ روبسبير والجبليّون، الذين اكتسبوا تسميتهم من جلوسهم في أعلى مقاعد «المؤتمر الوطنيّ»، الذي بات هو البرلمان منذ أيلول (سبتمبر) 1792، حماسة للحرب. فهم ركّزوا، بمكيافيلليّة حادّة، على توطيد السلطة في الداخل، لمعرفتهم أنّ هذا الهدف شرط شارط لكلّ هدف آخر. وفي نظرة متأخّرة إلى خلاصات الأحداث، يمكن القول إنّ الجيرونديّين دفعوا كلفة الحرب التي أطلقوها فأفادت صعود منافسيهم، والحروبُ دائماً هديّة للأكثر تطرّفاً، خصوصاً متى كان الأكثر معرفة باقتناص السلطة.
فلقد تخوّف روبسبير من أن تُستغلّ الحرب إمّا لإعادة المَلكيّة المطلقة بعد استظلال الشعب بها، أو إلى قيام ديكتاتوريّة عسكريّة يفرضها الضبّاط الأرستقراطيّون الذين كان يحذرهم ويمقتهم. وهنا بدأت تتّضح خطوط التمايز بينه وبين الجيرونديّين. فهو عوّل على تسليح الشعب، أكان للقتال في الخارج أو لمنع عودة الاستبداد في الداخل. ولئن بدا موقفه معزولاً في البداية، فإنّ خُطبه راحت، وبتأثيرات روسويّة، تؤكّد على «المواطن الجنديّ»، حيث كلّ واحد «مدافع عن الوطن». وسريعاً ما تحوّلت الحرب دِيناً لتعبئة الشعب ومادّة إجماع بين القوى الثوريّة إذ في مائها فحسب تُصطاد السلطة.
وأصيبت القوّات الفرنسيّة بهزائم ضخمة، وانتُزعت من فرنسا مواقع حدوديّة حسّاسة، كما أفصحت حكومتا النمسا وبروسيا عن نيّتهما استعادةَ المَلكيّة في شكلها القديم. وانفجرت، في المناخ هذا، هستيريا الثوريّين في باريس، خصوصاً مع إعلان الدوق برونزفيك، وهو جنرال بروسيّ، أنّ الملك سوف يعود إلى السلطة ويحكم بموجب الطرق القديمة، فيما يُعامَل خصومه بوصفهم عصاة متمرّدين. ولئن أغضب الفرنسيّين وأثار حميّتهم القوميّة أن يتولّى جنرال بروسيّ تقرير شؤونهم عنهم، جعل الغضب يضرب في الاتّجاهات جميعاً. فمن جهة صدر قانون يقضي بأن يُطرد من البلد الكهنة الذين رفضوا أداء قسَم الولاء، كما قُرّر إنشاء ميليشيا ثوريّة رسميّة داخل باريس. وإذ أبدى الملك اعتراضه على القرارين، وجد ثوريّو باريس وحلفاؤهم، ممّن يتّهمون المَلَكيّة أصلاً بالتواطؤ مع القوى الأجنبيّة، فرصتهم للتخلّص منه وإقامة ما اعتبروه جمهوريّة كاملة المساواتيّة.
وبدأ يتنامى، في تلك الغضون، زخم الدعوة إلى إقامة الجمهوريّة، علماً بأنّ النوادي اليعقوبيّة لم تكن كلّها قد حسمت أمر خيارها الجمهوريّ. وفي آب اعتُقل الملك وعائلته، ثمّ ألغيت المَلكيّة في أيلول بعد أكثر من ألف عام عليها، وأُعلنت الجمهوريّة وسط جوّ عارم من الهياج والإحباط نتيجةً للتخبّط الاقتصاديّ والتراجع العسكريّ. وبدت البلاد، والحال هذه، أشبه بسفينة تتّجه نحو جبل من جليد وليس في يدها ما تدافع به عن نفسها سوى زعم امتلاك الفكرة الفاضلة. وبدورهم شرع الباريسيّون المعبّأون والمسلّحون والعنيفون يلعبون دوراً أساسيّاً من دون وسائط سياسيّة ومؤسّسيّة موصولة على نحو أو آخر بالطبقة الثالثة، وانتشر الفولكلور الثوريّ السقيم على شاكلة تسبيق إسم المخاطَب بكلمة «المواطن» (وهو ما كان جَدّاً أعلى للمخاطبة بـ «رفيق»)، كما نصّت الصِيغ المستَخدمة لثالوث الثورة الشهير على «حرّيّة، مساواة، أخوّة، أو الموت»، إذ ينبغي لـ«الإرادة العامّة» أن تحرّرهم غصباً عنهم.
وإذ فقدت الجمهوريّة الناشئة السيطرة على النظام والقانون في العاصمة، اعتبر مسلّحو الطبقة العاملة في المدينة وعموم «منزوعي السراويل» أنّ عليهم إطلاق «عدالتهم» باتّجاه كلّ من يتصوّرونه عدوّاً للثورة ولقيمها، وهذا فيما وجد القادة الثوريّون ما يُسعدهم في استخدام المسلّحين لأغراضهم. هكذا قُتل 1400 سجين سياسيّ في زنزاناتهم، ممّن صُنّفوا «مناهضين للثورة»، في ما بات يُعرف بـ «مذابح أيلول» التي نفّذها «منزوعو السراويل» وباقي الراديكاليّين. وتزامنت تلك المذابح مع تقدّم الجيش البروسيّ من العاصمة الفرنسيّة، فظُنّ أنّ المساجين سوف ينضمّون إلى البروسيّين حال وصولهم، وكان ظنٌّ كهذا مبرّراً كافياً لقتلهم. وإذ أصرّ روبسبير على أن يُجري كوميون باريس، المسؤول عن أمن المدينة والذي انتُخب عضواً في قيادته، تحقيقات بشأن نشاطات مناهضة للثورة، أدين بنتيجة التحقيقات 28 شخصاً وقطعت رؤوسهم.
وإنّما وسط هذه الأفعال المرعبة أجريت انتخابات لاختيار جمعيّة تأسيسيّة جديدة هي التي باتت تُعرف بـ«المؤتمر الوطنيّ» الذي سيطر عليه الجبليّون والباريسيّون واستمرّت سطوتهم عليه تتنامى. وقد فُرضت آنذاك ضرائب أعلى على الأغنياء، وقُدّم عون أكبر للفقراء والمعوقين، كما صودرت أملاك كلّ من غادروا فرنسا وبيعت. وفضلاً عن السعي إلى اعتماد إعادة توزيع راديكاليّة للثروة، ساد التشدّد في المطالبة بإنزال العقوبة القصوى بالملك.
ووراء هذه السياسات جميعاً طغت نظرة متفائلة مفادها أنّ العقل والمساواة سوف يحكمان فرنسا المستقبل، وأنّ رجال الثورة مدعوون، في أتون الحرب، إلى استعجال هذا المستقبل. وإذ كانوا مُغالين في حماستهم للفكرة الروسويّة حول الصلاح الأصليّ للإنسان، بدا من المنطقيّ أن تتكاثر الجهود الآيلة إلى تحرير هذا الإنسان من التأثيرات التقليديّة التي تحدّ من بلوغه العظمة أو تسرّع عودته إلى زمنها القديم المفترض. وفي تنفيذهم مشروعهم التحريريّ هذا، غدوا الجماعةَ التي افتتحت في التاريخ نزع الأنسنة عن الخصوم السياسيّين باسم الحرّيّة.
هكذا، وفي ضجيج الحرب والحملة على الملك والمَلكيّة، تلاحقت أعمال عنف وصدامات داخل قوى الثورة، نعود لاحقاً إليها. لكنْ في 26 كانون الأوّل (ديسمبر) بدأت محاكمة الملك، وبعد ثلاثة أسابيع قرّ الرأي على أنّه مذنب وخائن، فأوجز روبسبير «إرادة الأمّة» بقوله: «عليّ بأسىً أن أعلن الحقيقة المميتة: على الملك أن يموت لكي يعيش البلد»، وغدا الموت بالتالي شرطاً شارطاً للحياة. وبشفرة المقصلة أعدمت فرنسا، في 21 كانون الثاني (يناير) 1793، ملكها. وفي خطوة تصعيديّة أخرى، شكّل «المؤتمر الوطنيّ» في 6 نيسان (أبريل) “«لجنة السلامة العامّة» لإدارة المجهود الحربيّ وقمع النشاط المناهض للثورة. ولم يكن مجرّد صدفة أن يترافق إنشاؤها مع إلغاء حصانة النوّاب وتوسيع صلاحيّات «المحكمة الثوريّة» التي يمكنها محاكمتهم.
فاللجنة وحّدت جميع السلطات في جسم واحد، وقضت بالإعدام على كلّ من يظهر «افتراضٌ» حول تواطئه «مع أعداء الحرّيّة». وبها، ومعها، بدأ ينشأ ما عُرف لاحقاً بحكم الحزب الواحد وتفرّعاته في النوادي اليعقوبيّة الأكثر راديكاليّة. ذاك أنّ الأخيرة، وهي الأداة المادّيّة، السياسيّة والتنظيميّة، لـ«الإرادة العامّة» الروسويّة التي ستعاود الظهور لاحقاً على المسرح في جبّة أحزاب شيوعيّة، ضمّت ما بين خمسة آلاف نادٍ وثمانية آلاف، وبوصفها جزءاً من الآلة الحكوميّة تولّت توفير المؤن للجيش وجمعها، ومراقبة الأسواق المحلّيّة، وبأعضائها استُبدِل مسؤولو الإدارات المحلّيّة. ولكونها أيضاً مراكز لـ«الفضيلة العامّة»، كانت اللجنة ترصد ذوي الآراء «المشبوهة» وأقوالهم، وتشرف على أعمال حركة نزع المسيحيّة، كما تنظّم احتفالات ترتبط بمناسبات وطقوس ثوريّة مستجدّة. كذلك استرعاها الاهتمام بالثقافة والتعليم، فمنحت الأخير أهميّة مستمدّة من دوره في نشر الأفكار الجديدة وترويجها والدعاية لها، وأمرت مهندسي العمارة، في انحياز مبكر وتأسيسيّ للنُصبيّة العُظاميّة، بأن يجعلوا أعمالهم أقرب ما يكون إلى مباني اليونان القديمة كيما يستعرضوا «العظمة الديمقراطيّة».
وفي 24 حزيران (يونيو) صدر الدستور الثاني الذي كُتب بحبر الطوبى وبدم معارضين من أصناف ومواقع شتّى. لكنّ وفرة الحقوق والحرّيّات في الدستور الجديد كانت أقلّ من الندرة الفعليّة في توفيرها. فالدستور ضمن للفرنسيّين جميعاً الحرّيّة والمساواة والأمن والمُلكيّة وممارسة الدين بحرّيّة والحقّ في الحصول على معونة الدولة، وهذا فضلاً عن حرّيّة الإعلام المطلقة وممارسة السياسة وتسلّم المناصب والوظائف من دون شرط المُلكيّة، وكذلك الحقّ في توقيع العرائض والدعوة إلى تجمّعات ولقاءات شعبيّة والتمتّع بكافّة الحقوق التي ينبغي أن يتمتّع بها البشر. على أنّ الحرب كانت ذريعة تعليق العمل بهذا الدستور، الذي دُعي أيضاً «دستور الجبليّين»، إذ أبقيت الامور في عهدة الحكومة الثوريّة «بانتظار السلام».
لكنْ بين أيّار (مايو) وحزيران (يونيو) انتشر السمّ في المجتمع بأسره، فبدأت تتفجّر انتفاضات لم يكتمل إخمادها إلاّ في تشرين الأوّل (أكتوبر). وهي انتفاضات سمّاها الحكّام الراديكاليّون ومشايعوهم «فيدراليّة»، قاصدين اتّهامها بتجزئة الوطن والدولة. وكان للانتفاضات المذكورة أن أضافت اعتراضها على مركزيّة باريس وتهميش المقاطعات الـ82 الأخرى إلى اعتراضين آخرين، واحد على السياسات المتطرّفة المعمول بها، وآخر على طرد الجيرونديّين من «المؤتمر الوطني» في 2 حزيران.
ولئن سهّل ضعفُ التنسيق بين تلك الانتفاضات سحقَها، فإنّ الدم الذي صُبغت به عمليّة السحق لم يكن قليلاً. فمدينة ليون، المتعاطفة مع الملكيّين ومع الجيرونديّين، والتي تعرّضت للمعاملة الأشرس، سُمّيت في بيئة الثوّار «المدينة التي كفّت عن الوجود»، فيما وُصفت مارسيليا بـ«المدينة التي لا اسم لها». ولم تنج من أفعال القهر والإخضاع وعمليّات الإعدام الموسّعة مدن تولون وبوردو، فضلا عن مناطق بريتاني في الشمال الغربيّ. وبهذا دُمّرت الحواضر الساحليّة والحدوديّة التي تتاجر مع العالم، كما قضي على المدن والبلدات التي تحضن صناعة النسيج.
وبعد فحيح القوميّة والاستئثار السلطويّ والتطرّف الاجتماعيّ، كان للعسكرة فحيحها. ففي صيف 1793 كانت فرنسا لا تزال في وضع عسكريّ سيّء في حربها مع النمسا وبروسيا. وآملةً بتعديل الكفّة فرضت الحكومة تجنيداً إجباريّاً لكلّ الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين الـ18 والـ25 سنة، وهو ما كان قانوناً غير مسبوق في أوروبا. وإذ ارتفع عدد المجنّدين في 1794 إلى 700 ألف، فقد رتّب التجنيد آثاراً بالغة الأهميّة على المدى الأبعد. فمن جهة، أُسّس ذاك الربط الذي سيتكرّر كثيراً في الأزمنة اللاحقة بين مدى الراديكاليّة التي ينطوي عليها نظامٌ ما ودرجة العسكرة التي يقوم عليها ويمدّ شباكها في المجتمع. ومن جهة أخرى، واكب ذاك الإجراء، بقدر ما حفّز، وطنيّة فرنسيّة ضدّ الغزاة الخارجيّين، وُلدت في الحرب، وكان لها دورها في تحقيق الانتصار اللاحق على القوّات النمسويّة والبروسيّة. إلاّ أنّه، من جهة ثالثة، بدا ذا طابع اغتصابيّ بالنسبة إلى المَلكيّين والمسيحيّين وعموم معارضي النظام الجديد، إذ فرض عليهم القتال دفاعاً عن حكومة يرونها عدوّاً قاتلاً لشركائهم في العقيدة أو المعتقد.
على أنّ سحق الحالة الانتفاضيّة استمرّ حتّى 1796. فبعد قانون التجنيد، وفيما كانت تُقمع انتفاضات «الفيدراليّين»، انشغل النظام بقمع انتفاضة أخرى في منطقة فِندي، في الغرب. وهذه كانت حركة ذات تأثّرات كاثوليكيّة ومَلكيّة حقّق فيها المتمرّدون انتصارات عدّة استنزفت عديد الموارد الحكوميّة. ولم تُهزم الانتفاضة إلاّ بعد أعمال وحشيّة دُمّرت خلالها قرى بأكملها. فالحكومة الثوريّة لم تظهر أيّة رحمة، وقُدّر أنّ قتلى تلك المنطقة تجاوزوا المئة ألف، أي ثلث سكّانها، كما أُعدم قادة الانتفاضة بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
* * * * *
لقد أعلن روبسبير بوضوح وصراحة أنّ الثورة «حرب الحرّيّة على أعدائها»، وهكذا انطلق ما بات يُعرف بـ«عهد الإرهاب» الذي يؤرّخ لبدايته الرسميّة بـ5 أيلول (سبتمبر)، وذلك فيما صُوّت بالإيجاب على قرار يعلن أن الإرهاب «نظام اليوم». فكل من يُشَكّ بوقوفه ضدّ الثورة أو تعاونه مع العدوّ عرضة للاعتقال، حتّى أنّ بعض المؤرّخين اعتبروا العهد المذكور أوّل دولة بوليسيّة في العالم.
وفي 17 أيلول مُرّرت قوانين تسمح بإعدام أيّ شخص يُتّهم بالتورّط في تأييد المَلكيّة، وفي شبكة حكم الإرهاب وقعت ماري أنطوانيت. فبعد محاكمة صُوَريّة أخرى قضت الملكة على المقصلة في 16 تشرين الأوّل، بعد تسعة أشهر على إعدام زوجها. ومع احتلال مشهديّة الموت موقع القلب من الثورة، وفي ظلّ تفلّت شائع من سائر الضوابط، نُسبت إليها سرقات وعلاقات جنسيّة وأقوال تبيّن أنّها لم تقلها، أشهرها أنّ في وسع طالبي الخبز الجائعين أن يأكلوا البسكويت. أمّا بعد إعدامها، فعُرض رأسها، بثأريّة تسابق التشهير، على كلّ واحدٍ من أفراد جمهور محتفل ومُنتشٍ بهذه البربريّة. كذلك اعتُقل ابنها الطفل الذي كان ليكون لويس السابع عشر، ثمّ مات في 1795 مريضاً له من العمر عشر سنوات، وهذا بعدما اتُّهمت الأمّ، بلسان البذاءة الثوريّة، بعلاقة جنسيّة معه. وكان لإعدام الملكة أن ألهب المحافظ والرومنطيقيّ الإنكليزيّ إدموند بيرك الذي تحوّل إلى أهمّ نقّاد الثورة الفرنسيّة، فرأى في قتلها ما يستحقّ نَعي «عصر الفروسيّة» في فرنسا وأوروبا.
وفي 6 تشرين الثاني (نوفمبر) كان أحد الذين أعدموا دوق أورلين السابق لوي فيليب، الذي كان الشخصيّة الماسونيّة البارزة، والرجل الذي لعب دوراً بارزاً في دفع بعض النبلاء إلى تأييد الثورة، كما صوّت لصالح إعدام الملك، ابن عمّه، مُتبنّياً العديد من القرارات والمواقف الراديكاليّة التي سقط هو نفسه ضحيّة لها.
وبينما كانت الحكومة تسجّل انتصاراتها الدامية على المنتفضين والخصوم، بمن فيهم شركاء الثورة، فإنّها كانت تكتب أحد أبشع فصول التاريخ الفرنسيّ. ذاك أنّ الحرّيّة عنت لليعاقبة تدمير كلّ مَن يمتّ بصلة، وما يمتّ بصلة، إلى النظام القديم، حتّى لو كانت الصلة وهميّة أو متوهَّمة، واعتبار أنّ الغايات الفاضلة تبرّر الوسائل المجرمة. وفي هذه الغضون اختفى كلّ حسّ بمحاسبة السلطة نفسها، وبات كلّ فشل تُردّ المسؤوليّة عنه إلى شرور الماضي والقوى المناهضة للثورة، حقيقيّة كانت أم مزعومة.
وبعد كلّ حساب فإنّ «معاقبة ظالمي الإنسانيّة رحمةٌ ومسامحتهم بربريّة»، بحسب روبسبير الذي كان في شبابه معارضاً لحكم الإعدام، يعتبر أنّ الانسانيّة تجاوزت هذه الاشكال من العقاب، فانقلب مبرِّراً وداعية لسفك الدم. وفي سياق كهذا أُسبغ شكل مَوْتيّ على مبدأ المساواة، أو أنّ الموت اصطبغ بشكل مساواتيّ. أمّا تفعيل ذلك فنِيطَ بالمقصلة التي عُدّت أداة توفّر المساواة في القتل. ففي القرون الوسطى كان ثمّة تمييز طبقيّ في طرق القتل، إذ كانت رؤوس النبلاء تُقطع بينما يُعدم أبناء العامّة. لكنْ مع المقصلة بات الكلّ يموتون بشفرتها موتاً سريعاً وغير مؤلم.
وتمكّن روبسبير، الرجل «غير القابل للانفساد»، من إحراز سلطة مطلقة تطال الحياة والموت داخل «لجنة السلامة العامّة»، فانتخب رئيساً لـ «المؤتمر الوطنيّ» وأصبح تالياً ديكتاتوراً. وبسلطته المطلقة هذه صار هذائيّاً على نحو متزايد، فأدخل تعديلات تضاعف قدرته على إدانة المواطنين والحكم عليهم بالموت، وباتت المحاكمات كلّها مجرّد إدانات وتشهير يُحرم خلالها المتَّهمون كلَّ تمثيل قانونيّ. كذلك كرّست اللغة الرسميّة وعمّمت استخدام مصطلح يشير إلى فئة جديدة من «المجرمين» هم «أعداء الشعب». وهؤلاء إنّما قُصد بهم في البداية المحافظون والمَلكيّون، ممّن فرّ من البلد كثيرون منهم، لكنّ المصطلح بدا شديد القابليّة للتوسّع بحيث ضمّ إليه الجيرونديّين وكلّ ناقد للثورة. وبتدريج، إنّما بتسارع، أمكن إدراج أيٍّ كان من «الشعب» في خانة «أعدائه»، كائنة ما كانت تفاهة التهمة الموجّهة إليه، فيما العقاب الذي ينزل بالمتّهم هو دائماً إيّاه: الموت على المقصلة. وبالفعل أُنزل حكم الموت بـ17 ألف شخص فضلاً عن أكثر من عشرة آلاف قضوا في السجون.
وفضلاً عن إعدام كلّ مَن يُشكّ في ولائه لليعاقبة، تعاظمت السياسات المناهضة للدين. فحيال مشاكل الجمهوريّة، وهي كثيرة، جُعل الدين كبش المحرقة. وحتّى الكهنة الذين أقسموا على الولاء للدولة قُتل كثيرون منهم بطرق وحشيّة وحُوّلت كنائس كثيرة إلى «قاعات للعقل» ولـ«عبادة العقل». فقد أُطلقت حملة لـ«نزع المسيحيّة»، كما أُبطلت الحقوق الدينيّة للكاثوليك والبروتستانت سواء بسواء. وكان من أبشع المحاكمات الاعتباطيّة الكثيرة محاكمة 16 راهبة من الراهبات الكرمليّات ثمّ إعدامهن بسبب رفضهنّ التخلّي عن قسمهنّ الدينيّ، وهو ما اعتبرته المحكمة الثوريّة خيانة عظمى يعاقَب عليها بالموت. وبشجاعة وبلا تردّد توجّهت الراهبات إلى المقصلة.
هكذا أتاحت الثورة لمثقّفين ومناضلين، جدّيّين أو زائفين، يكرهون الكنيسة والتقاليد بقوّة الفكرة المستولية عليهم، أن يقيموا نظاماً أسوأ كثيراً من ذاك الذي أطاحوه. لكنْ على مدى أبعد، جاءت النتائج عكس ما أرادوا، فانطلقت صحوة كاثوليكيّة كبرى في فرنسا القرن التاسع عشر، وسِيمَ الكثيرون من رجال الدين الذين أُعدموا قدّيسين.
وإذ انفجرت في 1793 مجاعة واجهها الثوريّون بتثبيت أسعار الخبز، قبل أن يرسلوا الجيش إلى الأرياف لسرقة الحبوب من الفلاّحين، وفيما الحرب تتواصل وتتوسّع ضدّ القوى الخارجيّة، قرّرت السلطة الثوريّة تغيير التقويم الغريغوريّ المحكوم بالسيرة المسيحيّة، فحلّ محلّه تقويم ثوريّ يبدأ بالسنة 1 «للحرّيّة»، والحرية هي عمليّاً الدولة البوليسيّة والتصفيات والتشهير ومتفرّعاتها، كما غُيّرت أسماء الأشهر بحيث باتت تمجّد العِلم أو الطبيعة أو الزراعة، فيما قُرّر أنّ النهار يتألّف من عشر ساعات، وكلّ ساعة تتألّف من مئة دقيقة.
وروبسبير كان شخصيّة محوريّة في هذا كلّه. فهو رحّب بحملة نزع المسيحيّة ورعاها، وإن كان يفضّل على «الدين» الإلحاديّ اعتماد دين ربوبيّ (deistic) يقف فوق الأديان وتُستجاب دعوته عبر استخدام العقل ومن خلال مراقبة العالَم الطبيعيّ. ولأجل هدفه هذا دعا إلى «عبادة الكائن الأعلى» الذي أراده ديانة رسميّة للدولة، كما أقام احتفالاً لذاك الإله الربوبيّ.
* * * * *
في غضون هذا الاضطراب العظيم، تساقطت قوى ثوريّة متلاحقة، اصطبغ تساقطها، بطبيعة الحال، بالدم. ولئن كان الصراع على السلطة والاستئثار بها أبرز محفّزات الحلّ الدمويّ، بقي أنّ أبرز محرّكات الصراع كان الاصطدام بالواقع. فهناك بين الثوّار مَن كشفت لهم التجربة، بعدما ساهموا هم أنفسهم في إطلاقها، أنّ كلفة إخضاع الواقع للفكرة التي يحملونها تفوق الاحتمال، فضلاً عن توسيعها دوائر الأعداء والخصوم، وإفضائها في آخر المطاف إلى نتائج مريعة على البلد والسكّان.
وكان الأقربون أولى بالمعروف، علماً بأنّ المعروف، في هذه الحال، ليس سوى شفرة المقصلة. هكذا سُكّت حينذاك عبارة «الثورة تأكل أبناءها» التي قالها صحافيّ كالفينيّ من جنيف يُدعى جاك ماليه دو بان. وكان من أوائل الأبناء المأكولين، على ما سبقت الإشارة، دوق أورلين وباقي النبلاء التقدّميّين الذين انحازوا إلى الثورة وإلى المَلكيّة الدستوريّة. وفي عداد هؤلاء كان لافاييت الذي اعتُقل صيف 1792 بوصفه مناهضاً للثورة، لكنّ حظّه أسعفه بالهرب إلى هولندا، وكانت في قبضة النمسويّين، فاعتقله الأخيرون وأبقوه خمس سنوات في السجن، إلاّ أنّ حياته صِينَت. وفي وقت لاحق انقسم «المؤتمر الوطنيّ» بين جيرونديّين وجبليّين. فالأوّلون حتّى إبان تطرّفهم وكونهم «حزب الحرب»، ظلّت تستحوذ عليهم فكرة الجمهوريّة البورجوازيّة، كما كانوا أشدّ رحابة في انفتاحهم على الأفكار وعلى العالم، ربطتْهم صلات متينة بأصدقاء كتوماس باين، الكاتب والناشط الإنكليزيّ المولد ثمّ الأميركيّ الاستقلاليّ الذي بات أحد «الآباء المؤسّسين». وكان كوندورسيه، عالم الرياضيّات والاقتصاديّ التنويريّ، مَن كتب مشروع دستورهم، وحينما سُحقت انتفاضات المدن والمناطق ووضع الجبليّون دستور 1793 الذي انتقده كوندورسيه، اعتُقل قبل أن يُعثر عليه ميّتاً في زنزانته، فيما رُجّح أنّه انتحر.
والجيرونديّون هؤلاء انشقّوا عن راديكاليّي اليعاقبة بسبب تسيير الحرب ورفضهم اعتماد إجراءات طارئة في «الدفاع عن الثورة»، كما بسبب إعدام الملك الذي رفضوه برغم نزعتهم الجمهوريّة، مطالبين بالاكتفاء بإبقائه أسيراً، علماً بأنّ مطلب الإعدام بلا محاكمة هو ما كان يصرّ عليه روبسبير وحليفه المقرّب سان جوست الذي رأى دائماً أنّ الثورة تعادل استئصال كلّ ما يعارضها لأنّه «لن يكون هناك أمل في الرفاه ما دام آخر عدوّ للحرّيّة يتنفّس». وفي خطاب شهير له دفاعاً عن إعدام الملك، أتحفَ الفكر السياسيّ بموقف مناهض لمبدأ القانون، يستقي الإدانة من الموقع السياسيّ أو الاجتماعيّ لا من الأفعال الجرميّة: فـ«القانون تعبير عن علاقة بالعدالة، لكنْ أيّةُ علاقة من هذا النوع يمكن أن توجد بين الإنسانيّة والملوك؟ إنّ الملك ينبغي أن يُحاكَم لا عن جرائم إدارته، بل عن كونه ملكاً». وهكذا فعندما أُعدم لويس السادس عشر، شغر موقع العدوّ الأوّل في جمهوريّة العداوة، فأُحلّ فيه الجيرونديّون إذ سبق لهم أن دافعوا عن الإبقاء عليه. والجيرونديّون رفضوا كذلك المركزيّة الصارمة لراديكاليّي النظام، سيّما وأنّ الأخيرين بمن فيهم المنتمون إلى الطبقة الوسطى، كانوا الأرفع حساسيّة حيال مطالب الطبقة العاملة و«منزوعي السراويل»، خصوصاً في باريس. وهذا بينما كان للجيرونديّين حضور واسع خارج العاصمة، بمدنه وأريافه. وكان تسيير الاقتصاد أحد أسباب الخلاف، فركّز الجبليّون على منح الطبقات الدنيا حصّة أكبر في القرار السياسيّ والاقتصاديّ، كما انجذبوا دوماً إلى مجتمع مساواتيّ من صغار المنتجين، لا مكان فيه لثراء «قلّة من العائلات». إلاّ أنّ نقص المعرفة بالاقتصاد زاده تردّياً وزاد في دفع السكّان الأفقر إلى مزيد من البؤس، ما أدّى إلى انفكاك كثيرين من «منزوعي السراويل» أنفسهم عنهم. فسان جوست مثلاً كان يرى أنّ وظيفة الاقتصاد من وظائف السياسة، وافترض أنّه بمجرّد أن يحلّ عهدُ الفضيلة فإنّ المشكلات الاقتصاديّة تنحلّ تلقائيّاً. وتخوّف الجيرونديّون، في المقابل، من إغراق العمليّة السياسيّة بالانحيازات الطبقيّة الحادّة والمسبقة، وكانوا، بعد كلّ حساب، ليبراليّين مؤيّدين للسوق الحرّة.
وبالفعل شكّل تثبيت سعر الخبز الذي فرضه الراديكاليّون موضوعاً خلافيّاً نافراً إذ رأى الجيرونديّون بحقّ أنّه يشي بكارثة اقتصاديّة. هكذا حرّض الأوّلون بعض عناصرهم على مهاجمة مقارّ الإعلام الجيرونديّ، ما اعتبره الجيرونديون دليلاً على أنّ عاميّي باريس وعمّالها اختطفوا الثورة التي تعود إلى الفرنسيّين كلّهم. وإذ طالبوا بحلّ «المؤتمر» تسبّبت المطالبة باتّهامهم بتدبير انقلاب عسكريّ.
وفي شباط 1793 بات الجيرونديّون من دعاة وقف الثورة عند الحدّ الذي بلغته قبل أن يُفلت التطرّف من عقاله ويقع الجميع في يد الغوغاء. فهم استشعروا نتائج السياسة التي أرسوها فراحوا يراجعون: لقد كانوا «حزب الحرب» ثمّ وقفوا ضدّ إجراءات تكييف المجتمع على ضوء الاستثناء الحربيّ، وكانوا ضدّ المَلكيّة، حتّى لو كانت دستوريّة، لكنّهم عارضوا إعدام الملك، ومارسوا العنف السياسيّ ثمّ عارضوه بقوّة.
وكانت الانتكاسات العسكريّة في المرحلة الأولى من الحرب تمنح الجبليّين والجماهير الهائجة في باريس حججاً استخدموها ضدّ الجيرونديّين، المتحمّسين دائماً للحرب، تمهيداً لطردهم اللاحق من «المؤتمر»، ثمّ إعدام 22 من قادتهم أواخر العام، وكان في عدادهم جاك بيار بريسّو والكاتبة المعروفة بـ«مدام رولان».
وبين تداعيات المذبحة التي نزلت بهم، أنّ أحد المتعاطفين معهم اغتال جون بول مارا، الصحافيّ والمثقّف اليعقوبيّ الداعي إلى قتل كافّة المعتدلين، وسياسيّ الثورة الأكثر تورّطاً بدم الجيرونديّين. وعن هذا الحدث الذي جرى في 13 تمّوز 1793، كانت اللوحة الشهيرة التي خلّدته بعنوان «موت مارا» للرسّام جاك لوي دافيد، صديق القتيل.
واتّسعت، بعد سقوط الجيرونديّين، رقعة التفسّخ الذي ألمّ بالراديكاليّين واليعاقبة، وتعاظم اتّهام واحدهم الآخر بممالأة الثورة المضادّة، كما انفجر نزاع روبسبير وجورج دانتون. وفي 24 آذار (مارس) 1794 أعدم الصحافيّ جاك هيبير الذي كان أحد قادة الثورة، ثمّ في 5 نيسان (أبريل) أعدم دانتون نفسه ومعه 15 شخصاً من رفاقه، في عدادهم الصحافيّ كاميل ديمولان الذي عُدّ ملهِم اقتحام الباستيل.
ودانتون كان صاحب التجربة الأهمّ والأغنى. فهو من سبق أن دافع عن إعدام الملك وإقامة الجمهوريّة، كما تولّى شؤون السياستين الخارجيّة والدفاعيّة قبل أن يطلق فكرة «لجنة السلامة العامّة» التي كان أوّل رؤسائها. وكان ممّا اشتُهر به دانتون ذاك البيان الذي أصدره «المؤتمر الوطنيّ» في أواخر 1792 حول التعامل مع الأراضي التي تحتلّها القوّات الفرنسيّة في «الحرب الثوريّة». فقد أجاز بيانه ضمّ بلجيكا لأنّ «حدود فرنسا لا تحدّدها الطبيعة، فنحن سنصل إلى زوايا الأفق الأربع، إلى آخر الراين، وإلى آخر المحيط، وإلى آخر البيرينيه، وإلى آخر الألب، فهناك ينبغي أن تكون حدود جمهوريّتنا». وبهذا يمكن لتجربة دانتون مع الغزو أن تضعف تأويل الاستعمار على النحو الأحاديّ الذي ساد لاحقاً، مشدّدةً على ربط التقليد هذا بالتقاليد الثوريّة التي تنجم عن فكرة وتُصاب بهاجس نشرها، كما تبدّد ربط الاستعمار حصريّاً بـ«العالم الثالث».
بيد أنّه، في أواسط 1793، تحوّل دانتون ورفاقه دعاةً لوقف الإرهاب بوصفه غير إنسانيّ وغير مُجدٍ، وللعفو عن آلاف المتّهمين بمناهضة الثورة، فضلاً عن التوصّل إلى سلام مع القوى الأوروبيّة التي تحارب فرنسا. هكذا قضى، وهو ابن الرابعة والثلاثين، على المقصلة، بتهمة «الميول المَلكيّة» و«التآمر والفساد». لكنّه قبل أن تسقط الشفرة على عنقه تنبّأ بأنّ روبسبير «سيلحق بي»، وهي النبوءة التي تحقّقت بعد أقلّ من أربعة أشهر.
* * * * *
لقد انتقلت الثورة الفرنسيّة من حقبة شبه ليبراليّة سادت سنوات 1789 – 1791 إلى حقبة طغيانيّة بلغت ذروتها في 1793 – 1794. وتوازى هذا مع تحوّل في المرجعيّات اختفت معه الحاجة إلى جون لوك ومونتسكيو، ليقتصر التأثّر على روسّو الذي تلائم أفكاره إقامة «ديكتاتوريّة ديمقراطيّة» على يد حزب واحد.
وبعيداً جدّاً ذهب روبسيببر في تنفيذ هدفه بإقامة «جمهوريّة الفضيلة»، وخرافة التخلّص من الماضي كلّه، بينما شرعت تتنامى تعابير الرفض لاستبداديّة «عهد الإرهاب»، سيّما وأنّ كفّة المواجهات العسكريّة مع النمسويّين والبروسيّين وحلفائهم بدأت تميل لصالح فرنسا، الأمر الذي أضعف إحدى أقوى ذرائع الإرهاب، وهي التصدّي للغزو الخارجيّ وما يُمليه من حالة استثناء. فبين استيقاظ القوميّة الفرنسيّة المدافعة عن الوطن، وارتفاع عدد الجنود إلى ما يقارب المليون، تحقّق للفرنسيّين في أواخر حزيران 1794، وفي معركة فلوروس، انتصار عسكريّ حاسم على الجيوش المتحالفة. وهكذا غدا العسكر المؤسّسةَ الوحيدة التي تحظى بثقة الشعب واحترامه، ما يفسّر جزئيّاً قيام الديكتاتوريّة النابوليونيّة بعد سنوات خمس.
لقد بات مُلحّاً وضع حدّ لـ«عهد الإرهاب» الذي كان سخيّاً في الشعارات الطنّانة، بخيلاً في الإنجاز، بينما راح عدد الأعداء الذين يخلقهم يفوق عدد الأعداء الذين يجتثّهم. وفي تموز صاغ خصوم روبسبير رسالة مفبركة تورّطه في محاولة انقلابيّة، وحصل انقلاب عليه قاده رفاق آخرون، فاعتقل هو وجميع حلفائه وحوكموا وصدرت الأحكام بحقّهم، وكلُّ هذا، على جاري ذاك العهد، في غضون أيّام. وكان روبسبير قد دافع عن نفسه ضدّ تهمة الديكتاتوريّة في خطاب دام ساعتين، دُشّنت به تقاليد خطب المستبدّين الطويلة، كما حذّر من مؤامرة تُحاك ضدّ الجمهوريّة. لكنّ هذا لم يُنجِّه من المصير الذي كان يُنهي بمثله حياة خصومه ومنتقديه. ففي أواخر ذاك الشهر، وعلى المقصلة إيّاها، كان هو نفسه آخر ضحايا نظام إرهابه. لكنّ روبسبير قُتل بوحشيّة مضاعفة تكافىء وحشيّته المضاعفة، إذ ثُبّت إلى ظهره تحت المقصلة كيما يشاهد شفرتَها تهبط على عنقه. أمّا «منزوعو السراويل» والمسلّحون الباريسيّون فنُزع سلاحهم وكُسرت شوكتهم، وبهذا خُتم أشدّ فصول الثورة فكرانيّة وجنوناً.
* * * * *
رغم قصر أمده، ضجّ «عهد الإرهاب» بكوارث يستدعي حصولها زمناً أطول كثيراً، لكنّه ضجّ أيضاً بدروس وعِبَر لشعب فرنسا وشعوب العالم تخصّ معاني الثورة والعنف والتغيير. على أنّه مع سقوط العهد المذكور، وفي المرحلة التي تلته مباشرة، ساد ذاك النوع من الخواء الذي يسود بعد سقوط أنظمة تصادر الحياة والحركة. فقد دخلت الثورة نفقاً من التيه والتخبّط، تماماً كحال الملهاة حين تلي المأساة. وإذ تولّت السلطةَ مجموعة سمّت نفسها «مجلس المديرين» الذي حكم بين 1795 و1799، فقد عُرف هؤلاء بما يُستحسن أن لا يُعرف به السياسيّ الجيّد، أي الفساد وضعف الكفاءة وتزوير الانتخابات طريقاً إلى ضمان الاستقرار، وهذا فضلاً عن التعويل المبالغ فيه على الجيش لسحق كلّ معارضة. وكان الراديكاليّون الباريسيّون الأكثرَ استهدافاً هذه المرّة، كما كانوا الأشدّ خوفاً على حياتهم. وفي هذا السياق أعدم الصحافيّ والمناضل المتورّم في تطرّفه فرنسوا نويل بابوف الذي كان يرى أنّ المجتمع الأمثل الذي ينبغي السعي إليه هو حيث يستأصل الناس رغبتهم في أن يكونوا أغنى أو أقوى أو أكثر حكمة من سواهم، وذلك لمسؤوليّته عن الانقلاب الذي عُرف بـ«مؤامرة المتساوين».
لقد نفّذ المديرون «ردّة ثيرميدوريّة»، وهي التسمية التي أطلقت على المرحلة التي افتتحها إسقاط روبسبير، نسبةً إلى الشهر الذي حصل الانقلاب فيه، والذي سمّاه التقويم الجمهوريّ «ثيرميدور». ولاحقاً استخدم ليون تروتسكي، الذي اعتبر أنّ اليعاقبة كانوا بلاشفة أيّامهم، «الردّة الثيرميدوريّة» ليحذّر من مثيلتها في روسيا السوفياتيّة.
بيد أنّ المديرين مضوا في سياسة العداء الحادّ للدين، ما أدّى إلى نشوب انتفاضات متلاحقة عليهم، فيما كان لنقص كفاءتهم وفعّاليّتهم، معطوفاً على فرط اعتمادهم على الجيش، أن دفع بنابوليون بونابرت لأن يستولي على السلطة.
* * * * *
في موازاة الانتقال من الثورة الأولى إلى الثورة الثانية، ومع ظهور التحوّلات التي طرأت على مواقف الجيرونديّين ودانتون وسواهم، غدت الثورة الموضوعَ الأوّل لحركة الأفكار في فرنسا وسائر أوروبا. وكان واضحاً إبداء التفاوت في الموقف منها، فهي كفعل سياسيّ واقعيّ يمكن أن يؤيَّد، أو أقلّه أن يُناقَش بانفتاح وتفهّم، وهي كفعل فكرانيّ يستدرج، أكثر ما يستدرج، العداء ومحاولة تجنّب العدوى. وما يمكن قوله، بقليل من التعميم، أنّ المزاج الثقافيّ حيال الثورة انتقل من خانة أقرب إلى أن توصف بالإيجابيّة، تتفاوت بين القبول المتحفّظ والتهليل، إلى خانة سلبيّة، بل بالغة السلبيّة. ولا تفوت هنا، عملاً بمبدأ استدعاء النقيض نقيضَه، ملاحظة الاندفاع نحو مواقف أشدّ محافظة، أو رجعيّة، في مواجهة الجموح الفكرانيّ «التقدّميّ» الذي طغى على الثورة. وإذا جاز الخروج بعبرة فمفادها أنّ الثوريّة المبالِغة كثيراً ما تكون أمّاً للمحافظة أو للرجعيّة. فالتاريخ إذا تقدّم تقدّم بالأمتار، لكنّه متى تراجع فبالأميال يتراجع، ما يجعل النكوص والانتكاس مرشّحين دائمين لوراثة الاستعجال والتهوّر.
ووصف الثورة الفرنسيّة في علاقتها بالأفكار، وعلاقة الأفكار بها، لا يكتمل من دون الرجوع إلى تجربة إدموند بيرك الذي، كما سبقت الإشارة، كان أبرز نقّادها.
فبيرك لم يكن رجعيّاً، وإن كان محافظاً ورومنطيقّيّاً، بحيث أسبغ عليه كثيرون من دارسي الفكر السياسيّ وصفاً غير مألوف هو «المحافظ الليبراليّ». فهو، كمفكّر وكسياسيّ برلمانيّ، انتمى إلى حزب «الويغز»، أي حزب «البلد» أو «الريف» ذو التوجّه الاصلاحيّ والذي استقطب الملاّكين الزراعيّين من ذوي الصلة الوثيقة بالتجّار وبالمصالح التجاريّة، ولم ينتم إلى حزب «التوريز» المحافظ الذي يُعدّ حزب البَلاط المؤمن باتّباع طرق الحياة التقليديّة في أرياف انكلترا. والحزبان تعود بدايتهما إلى القرن السابع عشر، لكنّ «الويغز» باتوا، في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، يُعرفون بالليبراليّين، فيما يُعرف «التوريز» بالمحافظين.
صحيح أنّ بيرك مثّل في حزبه من سُمّوا «الويغز القدامى» لمعارضتهم الثورة الفرنسيّة، وقد اتُّهموا بأنّ آراءهم حيالها أقرب إلى آراء «التوريز»، وذلك على الضدّ من «الويغز الجدد» الذين أيّدوا الثورة، وكان يتزّعمهم تلميذ سابق لبيرك هو تشارلز جيمس فوكس الذي عُرف أيضاً بمناصرته التسامحَ الدينيّ. لكنّ الصحيح أيضاً، وهو ما يجعل التبسيط والتسرّع في وصف بيرك غير ملائمين، أنّه عارض السياسات الضريبيّة التي تتّبعها إنكلترا في المستعمرات الأميركيّة، كما أيّد حقوق المستعمرات في مقاومة سلطة المتروبول، وإن ناوأ محاولات نيل الاستقلال الكامل والفوريّ. وهو، حتّى قبل اندلاع تلك الثورة، دافع عن لبرلة العلاقة مع المستعمرات عبر الإقرار لها بتمثيل برلمانيّ والكفّ عن حرمانها الحقوقَ التي بات يتمتّع بها الانكليز بسبب «الثورة المجيدة» في 1688. وبيرك كان شديد الاستعادة لـ«الثورة المجيدة» بوصفها التعبير عن الثورة المقبولة والجيّدة. فهي التي أنشات قوام النظام السياسيّ الإنكليزيّ بوصفه مَلكيّة دستوريّة، وعلى هذه القاعدة نظّر لها جون لوك موفّراً تبريرها الفلسفيّ بوصفها مَلكيّة دستوريّة ترتكز على تصوّره للحقوق الطبيعيّة.
كذلك وجدت الثورة الأميركيّة عند بيرك الدعم والتأييد لشعوره أنّ الأميركيّين أُجبروا، دفاعاً عن حرّيّاتهم، على أن يثوروا، وأنّ قرارهم هذا جاء على مضض منهم. وهو سبق أنّ حذّر الحكومة البريطانيّة، مستخدماً حجّته التي لا تمجّد الثورات لكنّها تعتبرها اضطراراً لا يمكن تفاديه بغير الإصلاحات. فبريطانيا ما لم تغيّر علاقتها بالمستعمرات، لا في أميركا فحسب بل أيضاً في الهند وباقي «الممتلكات» الكولونياليّة، فإنّ عداوة تلك المستعمرات، وبالتالي خسارتها واندفاع أهلها إلى الثورات ستكون نتائج محقّقة.
وتقصّى بيرك الممارسات الفاسدة لـ«شركة الهند الشرقيّة» التي كان خصماً لها، معتبراً أنّ وفادتها إلى الهند أساءت إلى الأخيرة كما أساءت إلى القيم البريطانيّة. وهو جادل دفاعاً عن عزل وارن هستينغز الذي كان الحاكم الأوّل للبنغال، في الهند، بسبب عدم مراعاته حقوق المستَعمَرين، فضلاً عن فساده، كما ساجل لتخفيف الوطأة الاستعماريّة الإنكليزيّة عن إيرلندا (وهو ترعرع فيها وكانت أمّه كاثوليكيّة) وتبنّى مساواة الكاثوليك وتحريرهم من القيود التي فُرضت على كنيستهم. وضدّاً على تقاليد الدم والأصول القويّة عهدذاك، لم يستشهد بيرك مرّةً طوال حياته السياسيّة بالأصول التي جاء منها، ولا عوّل عليها.
وقد تحمّس لمنع ملاّكي العبيد من احتلال مقعد في مجلس العموم، لاعتباره أنّهم خطر على التصوّر التقليديّ للحرّيّة البريطانيّة، وكان من دعاة التحرير التدريجيّ للعبيد دون أن يندفع إلى التخلّي عن الفكرة الرائجة في زمنه ذاك من أنّ الأفارقة «برابرة» ينبغي على المسيحيّة تمدينهم.
وبيرك كان مهتمّاً بمنع الفساد من التحكّم بالحكومة الانكليزيّة، وبأن لا تنشأ تالياً حالة ملتهبة تؤدّي إلى الثورة والعنف، كما اهتمّ بالنظر في أصول الشرعيّة والطريقة التي يمكن بها إصلاح الحكومات وتوطيد استقرارها، بحيث يُذلَّل التوتّر الذي ينشأ عادةً بين الإصلاح والاستقرار. فهو انحاز إلى تغيير لا يهدّد الاستقرار وإلى استقرار لا يمنع التغيير، وإن غلب توكيده على الاستقرار توكيدَه على التغيير تبعاً لمحافظته وخوفه من «حالة الطبيعة» الهوبزيّة، ومن الانتكاس إلى الإرهاب والفوضى.
لهذا رأى أنّ الإصلاحات البطيئة والتدريجيّة والمدروسة جيّداً، والتي تُطبّق على مدى زمنيّ، هي وحدها ما يقلّص المخاطر والمجازفات، حائلاً دون الوقوع في العنف الثوريّ الذي يفوق أيّ شيء آخر سوءاً.
وبحسب دارسيه، أضاف بيرك مساهمات أساسيّة للثقافة السياسيّة والديمقراطيّة الحديثة. فهو اعتبر أنّ الأحزاب ليست شرعيّة فقط بل ضروريّة أيضاً. ففي التقاليد السياسيّة القديمة وُصم الحزب بأنّه صيغة معبّرة عن التجزئة والتنازع، إذ هو الفصيل أو العصبة (faction) الشرّيرة فطريّاً. وكان الفكر السياسيّ في العالم القديم، بالإغريقيّ منه والرومانيّ، مهموماً بتنظيم المجتمع على نحو يستبعد الانقسام إلى عُصَب تنجم عنها حروب أهليّة، مُركّزاً، في المقابل، على وحدة في العواطف والأهداف تجمع سكّان المدينة. وما بين الحروب البيلوبونيسيّة في رواية ثيوسيديديس لها إلى الحروب الدينيّة، لم ينطق انقسام المجتمع جماعاتٍ إلاّ بالحرب. ولهذا لم يُجز أفلاطون للعائلة من طبقة الأوصياء أن تنجب أكثر من ولد واحد، ولا أن تتمتّع بمُلكيّة خاصّة لأنّ في ذلك ما يوجِد لها مصالح تستقلّ بها عن مصالح المجتمع وتتحوّل إلى طبقة مغايرة للعموم.
وإلى هذا، ساد، في العالم القديم والقروسطيّ، مبدأ «الحقّ الإلهيّ للملوك»، ما يجعل المعارضة شرّاً وفعلاً شيطانيّاً لأنّها تمسي معارضة لله ومشيئته. لكنْ مع علمنة السياسة والتنوير، ومع أفكار العقد الاجتماعيّ واستمداد الشرعيّة من الشعب، بدأت تسقط القداسة عن الحكومة، وبدأت تالياً تسقط الشيطانيّة عن المعارضة التي غدا من المقبول النظر إليها بوصفها مجرّد رأي آخر مغاير.
وربّما كان صديق بيرك، الفيلسوف الاسكتلنديّ ديفيد هيوم، أوّل من دافع عن فكرة المعارضة الشرعيّة، وهي ما تفعله الأحزاب، علماً بأنّه أرفق دفاعه بالتحفّظات التي يمليها الخوف من الحرب الأهليّة نتيجةً للتحزّب. وفي النهاية استقرّ رأي هيوم على إيجاد ما أسماه «محكمة المتنافسين» حيث يتمتّع معارضو الحكومة بدور إشراف سلبيّ ومحدود على عمل الحكومة.
إلاّ أنّ بيرك هو من ساعد على بلورة فكرة الحزب الشرعيّ المعارض، إذ تستدعي المعارضة تعريفاً تنظيم الذين يؤيّدون سياسات الحكومة والذين يعارضونها، بحيث ينحصر التشريع في مؤسّساته من خلال أدوار الأحزاب السياسيّة.
وهكذا فبعد هيوم الذي كان محطّة انتقاليّة، جاء بيرك يؤكّد على ضرورة الأحزاب الحاسمة للتشريع، وكان هو نفسه قضى سنوات طويلة في النشاط التشريعيّ، إذ شغل مقعداً نيابيّاً بين 1766 و1794، فبدا كمن يؤسّس نظريّة تعكس ممارسته تأسيسه مقاربة للسياسة تكون بموجبها بديلاً عن المقاربة اللاهوتيّة أو الفكرانيّة. وما حضّه على ذلك أنّ إنكلترا لم تعد، منذ أواسط القرن السابع عشر، تعيش حرباً أهليّة، كما لا يمارس أيّ من حزبيها التحريض على العنف.
وعُرف بيرك كذلك بنظريّته في التمثيل (representation). فهو رأى أنّ ثمّة فكرتين عنه: الافتراضيّ والفعليّ، وهو أيّد الافتراضيّ. ذاك أنّ الممثّل الفعليّ يأخذ توجّهاته بحَرفيّتها ممّن صوّتوا له في دائرته الانتخابيّة ويفعل ما يريدونه بحذافيره، فيعكس مزاجهم ورأيهم حتّى لو كان رأيُه ومزاجُه غير ذلك. وهو، كواحد من أبناء ذاك الزمن وتعصّباته، لم يكنّ كبير التقدير لرأي الكثرة، وبلغة زمننا كان، في بعض أحكامه، عنصريّاً حيالها، كما في إشارته إلى «كثرة خنزيريّة» (swinish multitude) لدى تناوله الثورة الفرنسيّة. وهو عموماً لم يؤمن بأنّ أكثريّة الشعب ينبغي أن تحظى بالكلمة الأخيرة والقرار النهائيّ، سيّما وأنّ الشعب لا يستطيع أن يطيح أخلاقيّة مستمدة من الله.
وكان لمواقفه هذه أن كلّفته خسارة مقعده النيابيّ حين عمل بعكس رغبة مقترعيه ممّن لم يعامل آراءهم بكبير احترام. فهو لا يمثّل دائرة بعينها بل يمثّل الأمّة وسائر مصالح المجتمع، بجسبما رأى نفسه ودوره.
وبرغم ما يثيره التمثيل الافتراضيّ هذا من مآخذ وجيهة، بينها وضع الممثِّلين في موقع أعلى من الذين مثّلوهم، وهو ما يصعب عدّه فعلاً ديمقراطيّاً، يبقى أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة تجد ما يلائمها في هذا التصوّر البيركيّ، عديم الشعبويّة وغير المباشر، عنها.
وهكذا يصعب الجمع في خانة واحدة بين معارضة بيرك للثورة الفرنسيّة ومعارضة الاسم الثاني الذي يتصدّر قائمة نقّادها، أي الأرستقراطيّ الفرنسيّ جوزيف دو مَيستر. فالأخير الذي تأثّر بالأوّل، وكان يصغره بـ24 عاماً، يستحيل بالمطلق تنسيبه إلى ما هو ديمقراطيّ أو تنويريّ. فهو أحد أنبياء الرجعيّة والتطرّف اليمينيّ في الفكر الأوروبيّ، لا يحمل تموضعُه على شيء من الحيرة والالتباس ولا يخون التنميط البسيط.
ففيما كان بيرك نفعيّاً وتجريبيّاً، محافظتُه من جنس تطوّريّ يظنّ أنّ الثورة تؤذيه وتسيء إليه، كان دو مَيستر أشدّ إيماناً بالأقدار وأكثر ماهويّةً، تتعارض محافظتُه مع كلّ تغيير أو تحوّل. وكبرلمانيّ ودستوريّ، فضّل بيرك التقاليدَ على القيم الثوريّة واختار الحرّيّات التقليديّة على الثورة. أمّا دو مَيستر فتعلّقُه بالتقاليد تعلّقٌ بالسلطة التقليديّة للملك والكنيسة، ورفضٌ لميراث التنوير بأكمله. فهو كان سلطويّاً متشائماً وضعيف الثقة بالبشر لأنّهم في جوهرهم عاطفيّون ونازعون إلى الشرّ والفوضى، ينبغي أن يُحكموا بصرامة وتخويف من الإعدام.
كذلك ففي الخيارات السياسيّة كان دو ميستر نصيراً لعودة المَلكيّة المطلقة إلى فرنسا، بالتحالف مع الكنيسة، أو حكم «العرش والمذبح» وفق تعبيره الشهير، وهو ما لم يكن رأي بيرك، القياديّ في حزب «الويغز»، والذي تقلّ محافظته مراتبيّةً وجموداً.
لقد عادى إدموند بيرك الثورة الفرنسيّة منذ بواكيرها، لكنّه عادى فيها ما بات الثورة الثانية، أي أنّه ركّز خصوصاً على الأفكار والممارسات المستلهِمة لها والتي تمّ لاحقاً الانتقال، في ظلّ الاسترشاد بها، من ثورة إلى أخرى. ففي أيّامها الأولى كان مُحيَّراً من غير أن يكتم إعجاباً مضبوطاً بنشاطيّة الفرنسيّين وديناميّتهم وحماستهم للحرّيّة، لكنّ تحوّله بدأ يظهر في تشرين الأوّل 1789، مع التظاهرة التي أجبرت الملك على الحضور إلى فرساي، إذ أنّ تخريب المّلكيّة وهلهلتها لا يعنيان بالضرورة إقامة الحرّيّة.
لكنْ يبقى أنّ كلّ إمعان في التحليق بالأفكار كان يمعن في تثبيته على الأرض وجعله يتشبّث بالواقع منظوراً إليه في سكونه. فالواقع ثقيل وطيد، وتغييره على النحو الذي تحاوله الثورة خفيف وخطير وطريق إلى الوهم والاستحالة، وإلى الفوضى والدم.
ثمّ إنّ همّ بيرك الأساسيّ يدور حول ما هو قابل للنجاح عمليّاً، أي ما يتيحه الواقع. وهو لئن قامت ممارسته السياسيّة على إجادته اللعبة البرلمانيّة كنائب، وعلى بناء اللوبيات لتمرير الإصلاحات، فقد لازمه الخوف من خطر الإصلاح حين يندفع إلى حدّ لا يحتمله الواقع.
فأفكار بيرك، في آخر المطاف، مضادّة للطوبى، فيما السياسة لديه هي «فنّ الممكن». وبدورها بدت له الثورة الفرنسيّة فعلاً يفيض عن ضفاف الممكن، يتعدّاه ويتحدّاه. وهنا يقيم عنده، كما عند ديفيد هيوم، التقليد البريطانيّ السياسيّ والأخلاقيّ الذي يرى أنّ التعقّل (prudence) أمّ الفضائل، مميّزاً هذا التقليد التجريبيّ، المتصالح بطريقته مع التنوير، عن تقليد العقلانيّة القاريّ. فالإنكليز لا ينقادون إلى العواطف كما لا ينقادون إلى العقل الصارم، بل يحرّكهم «الحسّ السليم»، وذلك ضدّاً على القاريّين، لا سيّما الألمان، حيث تُدفع الفكرة إلى مداها الأبعد ويُقرَّر إحلالها في الواقع تبعاً لصوابها، أو «روعتها»، من دون توقّف عند ما قد يستتبعه تطبيقها من قسوة وما يستدعيه من أكلاف. فالرفض عنده، إذاً، هو رفض لإعادة هندسة المجتمع تبعاً لمخطّط تجريديّ غير مجرّب من قبل. بيد أنّه إذا كانت التجريبيّة متعقِّلة وأشدّ حرصاً من سواها على حياة البشر والحؤول دون ضياع المجتمعات، من خلال تسبيق الإقدام على الفعل بالدراسة المتأنّية والتعلّم من التجارب السابقة، فإنّ رفع هذا «التعلّم» إلى سويّة العقيدة المكبّلة والشالّة هو مصدر الشقّ الرجعيّ منها. ذاك أنّه لا بدّ دائماً من «مرّة أولى» مصحوبة بدرجة لا بدّ منها من المغامرة، ولو اقترن الإقبال عليها بما أمكن من التأنّي والتمعّن. وأحداث التاريخ العظمى كلّها، من إلغاء العبوديّة إلى تحرير المرأة إلى إقامة الديمقراطيّة…، كانت لدى حدوثها تحدث «للمرّة الأولى» ومن دون سوابق.
وفي عمله الأهمّ تأمّلات عن الثورة في فرنسا (1790)، وهو في ظاهره رسالة إلى صديق، هو فرنسيّ نبيل شابّ، ساجل بيرك ضدّ الأفكار الراديكاليّة ممثّلة خصوصاً بالفيلسوف الراديكاليّ الويلزيّ ريتشارد برايس. وبفعل ضلوعه في السجال الأكثر حرارة حينذاك، وبفعل انحيازه الراديكاليّ فيه، أمر لويس السادس عشر بترجمته إلى الفرنسيّة بمجرّد تناهيه إليه.
والكتاب أطلق حرب مناشير، فردّ عليه عدد من التقدميّين والليبراليّين في عدادهم النِسويّة الليبراليّة المبكرة ماري ولستونكرافت، وتوماس باين، والقانونيّ والمؤرّخ الإسكتلنديّ الويغيّ جيمس ماكنتوش الذي كان أوّل من اعتبر الكتاب «بيان ثورة مضادّة» وإن عاد لاحقاً ليوافق على آرائه.
وفي الكتاب نرى بيرك يشرح التأويل الانكليزيّ المحافظ للثورة الفرنسيّة، خصوصاً الإرهاب. فالأخير، عنده، هو أساساً كسر للنظام القانونيّ يُحلّ محلّه قانون الجميع ضد الجميع، بحيث يسود وضع مُرعب هو أسوأ الظروف السياسيّة. فهنا لا يعود يوجد أيّ أمن أو ضمانة لحرّيّة أو مُلكيّة أو حياة، وإذ يحكم الإرهاب ويستحكم، تنعدم القدرة على توقّع السياسات الحكوميّة، ناهيك عن التأثير فيها، وتنعدم القدرة على التكهّن بمَن سيُقتل بعد حين. ومع الإرهاب لا تكرّ سبحة القتل وتتوسّع قاعدته فحسب، إذ تضمحلّ أيضاً الثقة بشيء أو أحد أو جهة يمكن الاحتكام إليها. أمّا مصدر ذلك كلّه فالفكرة وقد استحالت إرهاباً محضاً. ذاك أنّ تقليد التنوير الفرنسيّ والعقلانيّة القارّيّة، في حدود قيامهما على تنظير مجرّد لا تداخِله الظروف المحدّدة وممكناتها، يقودان إلى زيف وأباطيل وتجريدات يصعب ربطها بتجربة الفرنسيّين التاريخيّة. وفي النهاية، وبدل أن تتحسّن الأوضاع تعمّ الفوضى، لأنّ التجارب تعلّمنا أنّ المخططات الطوبويّة لخلق الكمال خاطئة ومخادعة.
وإذ تأتي الممارسة، عند بيرك، قبل النظريّة، ويأتي الواقع قبل ما نحبّه ونشتهيه، فإنّ الإرهاب يأتي، تبعاً للقياس هذا، في صميم الثورة الفرنسيّة نفسها. ذاك أنّ الخطر وحده هو ما ينجم عن صياغة المطالب استناداً إلى عقلنة وتنظير مجرّدين. وهكذا فإنّ روسّو، في ميوله الديمقراطيّة الراديكاليّة وإصراره على أنّ الإنسان ولد حرّاً وغدا مقيّداً بالأغلال، كان يكتب شعراً جميلاً لا يقلّل جماله من خطورته. ولئن أقرّ بيرك لروسّو بما اعتبره نظرات ثاقبة في الطبيعة الإنسانيّة، فإنّه هاجمه بوصفه أيضاً موضوع عبادة للشخصيّة طوّرتها الثورة، آخذاً عليه غروره واعتداده الذاتيّ، دون أن يفوته انتقاد حياته الشخصيّة والعائليّة.
وعلى العموم فإنّ الصرامة والتعصّب العقلانيّين الفرنسيّين اللذين يبدآن مع ديكارت، ويتوّجهما التنوير، خطيران في تجاوزهما الواقع لصالح نظريّات تعوزها الصلة بالتجربة التاريخيّة المحدّدة. فالمقصلة هي، وإلى حدّ بعيد، نتاج منطقيّ للعقلانيّة تلك ولذاك الإصرار على أنّ الواجب السياسيّ والأخلاقيّ إنّما يصدر عن العقل المحض، لا عن مجموع التقاليد والمشاعر والعواطف والتقديرات.
وقد أقرّ بيرك بأنّ الفرنسيّين امتلكوا اعتراضات مُحقّة على الحكم القائم، وأنّ المَلكيّة المطلقة شرّيرة، و«الحقّ الإلهيّ للملوك» من بقايا الماضي الاقطاعيّ، وهي جميعاً أمور ينبغي التخلّص منها، كما ينبغي التخلّص من سيطرة الكنيسة في الشؤون السياسيّة والنبالة الوراثيّة والامتيازات، لكنّها مَظالم قابلة للعلاج تدريجاً، مَظلمةً بعد أخرى، من دون أن تسوّغ قتل الملك وقتل النبلاء ثمّ قتل الثوريّين المغايرين وشيوع القتل الأعمى. فالعهد الملكيّ قد لا يكون راغباً في الإصلاح، لكنّ الثوريّين كانوا أسوأ من الحكّام السابقين لأنّ الإرهاب أسوأ من المَلكيّة المطلقة.
ولا يصدر السلوك الإرهابيّ، بحسب بيرك، إلاّ عن أناس لا صلة تربطهم بتقاليدهم الأبكر، وهذا علماً بأنّ المجتمع لا يبقى موحّداً إلاّ بمزيج من التقاليد والمواضي والعواطف والتجارب. فرفض الثورة الفرنسيّة التقاليدَ والقيم الموروثة واحتقارها الماضي هما من أبرز مصادر رفضه المبكر لتلك الثورة، وتوقّعه أنّها ستؤول إلى الإرهاب والديكتاتوريّة، بما يؤدّي إلى تدمير المؤسّسات المجرّبة دون أيّة ضمانة حول القدرة على استبدالها بما هو أفضل. ودائماً ما كانت التقاليد تردّ بيرك إلى تمايز إنكليزيّ يمكننا بلغتنا المعاصرة أن ننسبه إلى ضرب من الشوفينيّة القوميّة. لكنْ يبقى أنّ العقلانيّة، في رأيه، ليست ما يوحّد المجتمعات، كما أنّ الناس لا يلتقون كي يحلّوا مسائل في الرياضيّات ثم يستنتجون أنّهم يحبّون بعضهم وعائلاتهم وبلادهم. فالناس هم أساساً كائنات عاطفيّة، وهذه آراء لا تعدم صلتها بديفيد هيوم في نظريّته الأخلاقيّة، وبتقليد التجريبيّة عموماً. وفي المعنى هذا فإنّ عدم كتابة الدستور الإنكليزيّ نقطة قوّة لا نقطة ضعف، إذ يجعله أشدّ قابليّة للتغيّر التدريجيّ دون الانقطاع في الاستمراريّة الزمنيّة. وقد كان الحرص على الاستمراريّة ثابتاً راسخاً في فكره، حتّى أنّه في أحد انتقاداته لروسّو، اعتبر أنّ «العقد الاجتماعيّ» لا يكون فقط بين الأحياء والأحياء، بل هو أيضاً بين الأحياء والموتى، كما بين الأحياء والذين سوف يولدون. وهكذا فالدستور، وعلى عكس تعاطي الثورة الفرنسيّة معه، «وراثة تتابعيّة» بحيث لا يُتخلّى عنه كلّه مرّة واحدة.
لقد كانت الثورة الفرنسيّة فعلاً مضادّاً لكلّ ما آمن به بيرك، ولكلّ ما تعلّمه من تجربته، ولهذا رأيناه لا يكتفي بكراهيّتها إذ يدعو أيضاً القوى الأجنبيّة أن تتدخّل في فرنسا وتقمع الجمهوريّة. أمّا ما آلت إليه الثورة فلا يتيح من التوقّع، وفقاً له، سوى ظهور قيصر ما – شخصيّة استبداديّة تسيطر على الفوضى وتفرض الأمن على حساب الحرّيّات التي كانت متوافرة قبل الثورة. وبالفعل فبعد عامين على وفاة بيرك استولى نابوليون على السلطة وباشر ديكتاتوريّته وحروبه.