كان يبدو أقربَ للمستحيل أن يُقتل حسن نصر الله، وما أن حصل هذا حتى بدا أن أي شيءٍ في مشرقنا ممكن؛ اجتياحٌ برّي في لبنان يستكمل ضعضعة حزب الله، أو توسيعٌ للعمليات الجوية المكثفة لتشمل سوريا، أو حتى العراق، أو داخل إيران نفسها. ما المانع بعد الآن؟
ليس على طاولة الوقائع ما يجعل نتنياهو يتوقف عن التصعيد: لقد تمكنت إسرائيل، استخباراتياً وعسكرياً، من إلحاق متتالية سريعة وكثيفة من الضربات المؤلمة بالمحور الإيراني ككل، وبحجر الزاوية الحزب-اللهي فيه بشكل خاص. جرى ذلك في سيرورة تصاعُدية، استخلصت إسرائيل من ردود إيران عليها أنها أمام فرصة تاريخية لتغيير حاسم في موازين القِوى لسنوات طويلة مقبلة، وليس هناك ما يمنعها من اغتنامها.
تَلقَّت الأراضي السورية خلال السنوات الماضية مئات القنابل الإسرائيلية في مختلف مناطق جغرافيتها، من حلب إلى درعا، ومن شرق البادية إلى مصياف. استُهدفت مواقع لقوات إيران وميليشياتها، ومواقع لجيش النظام مُستخدمةٌ إيرانياً، ومطارا البلد الرئيسيان، وقلبُ العاصمة دمشق. قُتل عدد كبير من العناصر والمقاتلين، وسقط مدنيون ضحايا لبعض هذه العمليات. جرى ذلك كلّه في زمن «قواعد الاشتباك»، ودوماً وفق تنسيق وتواصل دقيقَين مع الروس، حُماة النظام من خصومه السوريين حصراً. الآن، وإذ ندخل مرحلة جديدة عنوانها سعي اسرائيل لقلب الموازين مع إيران وأدواتها بشكل كامل، يبدو بديهياً أن بلدنا سيكون «ساحة» في هذه المرحلة. ولكن مَن في هذه «الساحة» بالضبط؟
يُغري هذا السيناريو بعضَ القراءات السياسوية، فيدفع أصحابها لافتراض أن وصول التصعيد الإسرائيلي إلى سوريا ليس خبراً سيئاً، عدا أسفٍ على خسائر إنسانية ممكنة؛ فهو سيؤذي الراعي العسكري للنظام الأسدي، أكان بشكل مباشر كدولة، أو عبر ميليشياته الفرعية، وأبرزها حزب الله بالذات. لا تُخطئ هذه القراءات في افتراض أذيّة كبيرة لإيران وميليشياتها، فما لم يحصل تغيّر كبير في المقدّرات التي تضعها إيران في المعركة والقرارات التي تتخذها بشأنها، وما لم تُسَدَّ الفجوات الاستخباراتية التي تثير سِعتُها الدهشة، من المُرجَّح أن تُحقق إسرائيل أهدافاً كبرى ضد إيران في سوريا. لكن، عدا تجّار الحلويات في مرحلةٍ أولى، من سيستفيد؟
«تمتاز» سوريا عن غيرها من ساحات المواجهة بين إسرائيل وإيران في أن ثمة حَكَماً روسي يحتلها، ويتحكّم بإيقاعات المناوشات بين احتلالاتها الأخرى، فالقوة الإمبريالية الأبرز في سوريا الآن تجمعها علاقات جيّدة جداً مع إيران في ملفاتٍ عديدة، وهي قادرة على الاستفادة من خسارات الإيرانيين في سوريا دون أن يُفسد ذلك للودّ قضية؛ وتتميّز روسيا كذلك بعلاقات ممتازة مع إسرائيل، عُبِّرَ عنها بتنسيق ودود في «الساحة» السورية خلال السنوات الماضية، كما ثبُت من خلال الحرب على أوكرانيا أن هذه العلاقات لا تمرّ عبر الولايات المتحدة. وللمفارقة، قد يُوسّع إضعاف إيران في سوريا الخيارات أمام بشار الأسد، أكان انفتاحاً أكثر اتساعاً نحو دول الخليج، أو بتوجّه حاسم نحو تطبيعٍ مع تركيا برعاية روسيّة يُنتج تحالفاً ضاغطاً على الأميركيين للانسحاب من الجزيرة السوريّة بشكل متحرّر من شراكة إيرانية ثقيلة الظل.
لكن المهم الآن ليس دحض قراءةٍ واقِعويّة-نفعويّة متفائلة، بل يجدر الذهاب إلى ما هو أبعد: لا شيء تحرري يمكن أن يأتي من كِباش الاحتلالات، وفي تجربة سنواتٍ طِوال من الاحتلالات المتراكبة في سوريا ما يُبرهن على أن هذه ليست مقولة «أخلاقوية»، بل أنها القراءة الوحيدة الممكنة لهذا الواقع. الاحتلالات، توافقت أم اختلفت، تعني أن بلدنا «ساحة»، فضاءٌ من ميليشيات ومُسيَّرات ومواقع عسكرية وخطوط إمداد يفيض فيه البشر، أي نحن وأهلنا، عن الحاجة. إنَّ جمعَ ما أمكن من سياسة ومن شأن عام سورييَن ضد الإمعان في جعل بلدنا «ساحة»، أي حتماً ضد الاحتلالات، كل الاحتلالات، هو الهدف الوحيد ذو المعنى للحديث عن «قضية سوريّة» اليوم. قضيتنا هي الدفاع عن أن لنا ولأهلنا حقاً في مصير مختلف عن النزوح واللجوء بلا هوادة ولا نهاية، وعن العيش في الأنقاض أو الموت تحتها، وعن «التبخّر» إن وقعنا في مرمى نيران «استهدافٍ دقيق» لهذا الاحتلال ضد ذاك. يصعب تصوّر سياسة سورية ناجعة حقيقةً دون هذا. ما يمكن تصوّره هو تصادم شماتاتٍ وإداناتها يُرادف كِباش الاحتلالات.
ختاماً، شيءٌ عن الشماتة وإدانتها.
بمزيجٍ من التفوّق العسكري والظفر الاستخباراتي والوحشية غير العابئة بأرواح آلاف البشر، أي كالمعتاد عندهم، تمكّنَ الإسرائيليون من حسن نصر الله، قائد إحدى قوى الاحتلال الفرعي في سوريا، الشريكة في إجرام النظام الأسدي، والمسؤولة بشكل مباشر عن جرائم كبرى، أكثرها مشهدية كانت حصارات تجويعية وترانسفيرات كولونيالية الطابع. جاء مقتل نصر الله بعد أن اقترفت إسرائيل إبادة مديدة في غزة، وكمّاً هائلاً من جرائم الحرب في الضفة الغربية، ووسطَ تصعيدٍ عدواني على لبنان انفلت من «قواعد الاشتباك»، وأدى حتى الآن إلى كارثة إنسانية واسعة، للاجئين السوريين في لبنان حصّةٌ كبيرةٌ جداً من تبعاتها المأساوية، في بلدٍ منهار سياسياً واقتصادياً سلفاً. لا نعلم حتى الآن عدد المدنيين الذين قضوا في استهداف مقر حزب الله الرئيسي وفي جولات القصف العنيف تلك الليلة، وإن يُرجَّحُ أن يكون بالمئات على الأقل. هذا الواقع المُركَّب والتراجيدي كان سبباً أكثر من كافٍ لأن يتحلى سوريون كثر، سيما الفاعلون العامّون منهم، بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية الكافية لكبح جماح الاحتفالات الشامتة، دون أن يعني ذلك حرمانَ الناس من حقّ عيش فيضٍ من المشاعر، المُركّبة غالباً، الناتجة عن سماع خبر مقتل أحد المسؤولين الكبار عن مأساتهم الشخصية والوطنية. ومن جهة أخرى، يُحسنُ متابعون غير سوريين كثر، حسنو النية وإن قليلو الانتباه، صُنعاً لو فرملوا التوبيخ واتهامات الصهيَنة ونظروا ملياً في طريقة التقليل من شأن مصابٍ أعظم، كالمصاب السوري، في السرد الأكثر شيوعاً لسيرة الرجل هذه الأيام، والذي يضع دور حزبه الإجرامي في سوريا في مصاف ما هو «مثير للجدل» في أحسن الأحوال، هذا إن لم يبرره، أو ببساطة لم يرَه (رغم أن تدخل حزب الله في سوريا كان أطول وأكبر حرب خاضها في تاريخه، يُشير طه بالي محقاً في تعليقه على عدم ذكرها في نعي الحزب لقائده).
بين حَدّي الشماتة وتجريمها يقبع وهمٌ واحد: أنَّ ثمة قيمة ممكنة لحياة أحدٍ منا بالرهان على مَحق حياةٍ أخرى، سيما حياةٍ أخت. هذا وهمٌ بمثابة احتلال.