العزيز خالد،
اشتقنا لك! لم يمض على غيابك المفاجئ سوى القليل من الوقت وما زلنا بين تصديق وعدمه…
خفيفاً رحلت ولكن الفراغ الذي تركتَه وراءك ثقيلٌ جداً…
ها قد وصلتُ البلادَ ولكنّي لم أجدكَ… لم أجد سوى الفراغ!
ولم أحاول أن أبحث عنك… فما جدوى البحث عمّن مات؟
*
في شوارع هذه البلاد المظلمة أراقبُ وجوه العابرين وأتلقّف كلماتهم… كما كنتَ تحبُ أن تفعلَ…
أسجّل في عقلي كلمات الرعب والمرض والسرطان والغلاء والبنزين والسفر وألمانيا والبحر… «والله يجازي اللي كان السبب»… تنطقها ألسنة متعبة في وجوه حزينة بائسة.
عتمة… عتمة… عتمة… أهلاً وسهلاً في أرض العتمة. أتيتُ لأزورك في بلادنا، فرحلتَ قبل أن أراك… سبقْتَني إلى ما وراء العتمة، حيث الضوء الأبدي…
فلم يمض على وصولي أربع وعشرون ساعة حتى جاءني خبر موتك. كنّا قد تواعدنا أن نلتقي بعد وصولي بأيام قليلة. أخبرتني أنك تنوي الذهاب إلى دمشق لقضاء بعض الأمور العالقة وستعود بعدها إلى «شاليه الندم»، كي نحتفل…
هل فعلاً غادرتنا يا خالد؟ هكذا وحيداً… أنت يا من جمعت الناس من حولك في كل لحظة؟
كم هي مخاتلة يد الموت تلك…
*
أجريتُ العديد من الاتصالات لحظة سماعي الخبر. أردتُ أن أعرف كل ما أستطيع من تفاصيل.
قيل لي، وجدوك على أريكتك مرتاحاً… راحة أبدية.
عزائي أنك لم تتألم كثيراً في آخر لحظاتك. فالموت القلبيُّ المفاجئ، وإن نجم عنه ألم، فهو ألم سريع زائل زوال الحياة. ألم هشٌّ، أعتقد أنك احتملتَ أضعافه في حياتك الزاخمة.
عجيبٌ كيف يمكن لهذه الفكرة وحدها أن تخدّر آلامنا نحن الأحياء من بعدك. نحن الذين اجتمعنا نعزّي أنفسنا برحيلك…
«عزائي أن خالد مات بلا ألم…» ظللتُ أردّد أمامهم… فعلى الرغم من أنَّ أحداً لم يعد من الموت ليخبرنا، إلا أن ما أتخيّله بعد سنوات من ممارسة الطب أن هكذا ميتة لا بد وتكون خاطفة وقليلة الألم…
*
كيف يختار المرء موته وأنت المهووس بالموت وثيماته…
لعمري إنه أمر صعب. فهل كنت تفضّل أن تموت بالسرطان؟
أراك تقول لي: لا حاجة لي بألم مزمنٍ مستعصٍ… يا حسام…
ولكن الموت البطيء كان ليحضّرنا جميعاً على فقدانك، يا صديقي…
تضحك وتقول لي: ما معنى الحياة إذا كنا سنقضيها ننتظر الموت؟
أفحمتني يا خالد!
*
سامحني، لم أستطع السفر إلى دمشق لأرافق جسدك في رحلته الأخيرة، إلى تحت… أو إلى فوق…
أو أقصد إلى الما-وراء… (صدمة غيابك أفقدتني الاتجاهات يا غالي…!)
«أقرب من أي وقت مضى، ولكن أبعدَ ما يمكن…»
رحلة اللاذقية-دمشق في هذه الأيام التي تعيشها البلاد أصبحت من المشقات التي تحتاج تدبيراً كونياً.
لحظتها علّلتُ نفسي بالظروف، بصعوبة تأمين مواصلات قبل ساعات قليلة من موعد جنازتك.
وكان عندي شعور أنك ستغفر تخلّفي عن وداعك وتقول لي بابتسامة مراضاة: «ولو يا أبو الحسم، ليش الشنشطة… خليك جنب أهلك…»
*
لم أعهد نفسي يوماً صديقاً جيداً… حتى ولو حاولتُ… وأنت كنت دائماً صديقاً أفضلَ منّي.
لا شكَّ أنك كنتَ لتفعل المستحيل كي تخرج في جنازتي— لو تبادلنا الأدوار، كنتَ لتقوم برحلة المشقات تلك بين شقَّتك في دمشق وشاليه الندم المطلة على المتوسط.
فالسنة الفائتة، قمتَ بتأمين البنزين الغالي لتقطع تلك المسافة. أتيتنا مسرعاً من دمشق الى اللاذقية عندما علمت بزيارتنا الأولى إلى الأهل بعد غياب سنين طوال. واحتفيتَ بنا كأنّ العالم يدور حولنا. يا لقدرتك العجيبة على أن تُشعِرَ أي شخص بالحب والحنان والاهتمام… أن تترك من معك يشعر وكأنك تحبّه أكثر من أي شيء آخر في الكون. يا لهذه الموهبة الفريدة… كيف تحقن الأمل في أوردتنا الصدئة كمن خبر حقن ذلك المخدر العجيب في أوردة الروح!
حاولتُ أن أعوّض ذنب تخلّفي عن مرافقتك إلى تربتك الأخيرة بأن أُصلح أوتار عود قديم مهجور… ما يلائم عنوان قصيدة من قصائد دفترك الشعري الذي أخبرني عنه صديقنا المشترك (منذريوس مصريام) في اليوم الذي تلا وفاتك. أخبرني منذر أنّك أتيت إليه في المنام بعد موتك وقلت له أن يحضر الدفتر.
«أي دفتر؟» قفز منذر من نومه وسريعاً تذكّرَ دفتر أشعارك الذي كنتَ قد أعطيته إياه قبل ما يقارب الخمس عشرة سنة عندما قررت أن تعتزل كتابة الشعر…
في دفترك ذاك تقول إحدى قصائدك المكتوبة بخط يدك:
«ستذوي وتموت
كوتر وحيد في كمنجة متروكة»
أقلّب الصورة الشعرية في ذهني وأنا أصلح أوتار العود وأتساءل… مَن غيرك ليسمع الموسيقى وينتشي بها
بعد الآن؟
*
كان من المخطط أن نحتفل سوية ونغني ونرقص. كان من المفترض أن ننادي بصحة كؤوسنا الملأى بالأمل الذي كنت تصبه لنا كأي صانع نبيذ محترف. ولكن بدل أن نغني سوية، غنينا لحن غيابك في (مقهى قصيدة نثر) مع باقي من جاء ليعزي نفسه برحيلك.
وكما يحاول الكثير ممن أحبك يا خالد أن يتعامل مع رحيلك المفاجئ هذا… أقلِّبُ رسائلنا الأخيرة التي تبادلناها قبل ساعات من موتك وأنت تنتظر وصولي. أعيد قراءتها وسماع صوتك في التسجيلات. أحاول كأي طبيب أن أتقصّى علامات المرض والموت. هل كان صوتك يشي بالتعب وباقتراب الأجل؟ أم أنها خيالات ما بعد الواقعة…؟
أسئلة غير مفيدة أمام الخسارة…
*
بالمناسبة، كنتَ قد طلبتَ منّي قبل سفري أن أجلب لك نسختين من رواية الأمير الصغير لأنطوان دو سانت إكزوبيري. قلت لي أنك تريد أن تهدي نسخة إلى «صديقة عزيزة»… والنسخة الثانية «أريدها لنفسي…» قلتَ وأنت تضحك.
«تكرم عيونك وعيون صديقتك» قلتُ لك بكل محبة…
أين هي عيونك التي كنتُ أريد لها أن تتصفح الكتاب الأنيق ورسوماته؟
أحضرتُ لك معي نسختين جميلتي الطباعة والإخراج من هذه الرواية الخالدة… وأحسستُ بعد موتك بالضياع فيما أفعله بالكتب…
ألهمتْني اللحظة أن أترك نسخة في مكتبة مقهى قصيدة نثر، مكاننا المفضل أنا وأنت في هذه المدينة التعيسة. وقّعتُ الكتاب «نسخة خالد خليفة… إهداء إلى روّاد القصيدة»…
وجلستُ أفكر فيما أفعله بالنسخة الثانية، كما أفكّر لماذا الأمير الصغير بالذات؟ لماذا طلبتَ مني هذه الرواية دون غيرها؟ لا يوجد لدي إجابة. وربما ليس هناك من إجابة… مثل مصير أسئلتي العديدة غير المجدية. الأسئلة التي تتعامل مع موتك فحسب. وكلما مرت الساعات كلما ازدادت الأسئلة إلحاحاً…
وهكذا، عكفتُ في الأيام التالية لرحيلك على قراءة نسخة الأمير الصغير الباقية معي… أقرؤها من جديد علّي أتلقّف أي دليل مهما كان واهياً يقودني إلى أي إجابة… ثمّ تتسع عيناي كلما لاحظت كم أنتما متشابهان يا صديقي. كم فيك من براءة وفضول هذا الأمير الصغير وإخلاصه لوردته. إخلاصك أنت لمن أحببت من بشر وحجر.
ربما هذا هو جوابي…! لا أعرف. ولم يعد مهماً أن أعرف… فمن يمتلك الإجابات عن أسئلتي لم يعد هنا الآن…
وعلى الأرجح أن إجابات هذه الأسئلة كانت مجرد تفاصيل تافهة… صارت الآن ذات معنى بسبب رحيلك. فلولا موتك يا خالد، كنتُ لأضُمّك وأنا ألتقيك في اللاذقية، ثم أعطيك هذه الكتب وأنسى أمرها سريعاً عندما أدخل عالمك اللطيف وأكون في حضرة بهجتك ودفء وجودك… ولم أكن لأسألك عن اسم الصديقة التي كنتَ ستهديها الكتاب… فليس من عادتي أن أتطفّل… وأنت تعرف هذا جيداً…
*
أمسكتُ بيد ألمى في التاكسي العتيق الذي يقلّنا أنا وهي والعود إلى مقهى قصيدة نثر حيث اجتمع الكثير من محبّيك لنعزي بعضنا…
كنتُ قد احتضنتها الليلة الفائتة بينما هي تبكي…
وكانت هي قد احتضنتني قبلها بليلة وأنا أبكي…
هكذا يا صديقي نحتضن بعضنا كما كنت لتفعل… وليس بيدنا أي حيلة…
لا حول ولا قوة لنا إلا أن نتذكّرك بعد موتك…
«كان خالد ينتظر وصولك من أميركا يا حسام» ردد الجميع أمامي…
هل ما زلتَ بانتظاري يا خال؟ لأنني باقٍ على عهدي… حتى بعد عودتي إلى بيتي في بوسطن… المدينة التي التقيناك فيها وعشنا معك شهوراً لا تنسى… ما زلت أنتظرك كي نفي بوعودنا ونحتفل… كي نشرب أنخابنا ونرقص على أنغامٍ ونغني… إن لم يكن في هذا العالم، فربما في عالم ما وراء العتمة… هناك حيث أنت في المكان الذي نتجه جميعنا باتجاهه ولا شك…
ولكن الأهم بالنسبة لي الآن، أنا العالق هنا في العتمة، ما الذي تريدني أن أفعله بالنسخة الثانية من كتاب الأمير الصغير المتروكة في مكتبتي تنتظر صاحبتها؟ ماذا أقول لهذا الكتاب الذي يناديني بين فينة وأخرى من رفوف المكتبة، غير آبه بمرور الوقت ولا تعاقب الفصول ولا موت البشر. فالكتب، كما تعرف يا صديقي، لديها زمنها الخاص بها وتوقها الغامض كي تقع في يد الشخص المناسب حتى ولو بعد حين… ما زلتُ أنتظر منك إشارة من وراء الحجب، يا صديق… فهلّا عجّلتَ عليَّ الجواب!
صديقك المخلص
بهلول