لا شكَّ أن حادثة مقتل حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، وعلى الرغم من وقوعها منذ أيام قليلة فقط، تُشكل تحولاً كبيراً في المنطقة. تَعدَّى دور الرجل، كما هو معلوم، قيادة منظّمته في لبنان إلى مواقع وأدوار إقليمية شديدة الأهمية، وكان وجوده أحد عوامل نمو تحالف عميق بين الحزب والنظام السوري. وهذا ما يدفع اليوم إلى التفكير بمصير بشار الأسد ونظامه بعد مقتل نصر الله.
تطورت الروابط بين سوريا وحزب الله عبر السنوات، وأصبحت مؤخراً علاقةً عضوية شديدة التلاصق. وحدهُ النظر إلى تاريخ هذه العلاقة وما نتج عنها اليوم على الصعيد العسكري والسياسي سيُساعدنا على فهم الأسباب التي تجعل من فصمها صعباً وخطيراً، هذا إن لم يكن مستحيلاً دون إحداث تغيير جذري في المنظومة السياسية التي تحكم كلاً من سوريا ولبنان.
تعود العلاقة بين النظام الحاكم في دمشق وحزب الله إلى نهاية السبعينيات، عند تأسيس المجموعات الأولى التي شكّلت لاحقاً حزب الله، بالتوازي مع انفجار الثورة الإسلامية في إيران وتراكم إرث العمل المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل في جنوب لبنان.
وبين المجموعات المكونة للحزب، الإسلامية من جهة وتلك الآتية من خلفية العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى، لم يكن أحد معجباً بنظام البعث في دمشق على أغلب تقدير، ولأسباب مختلفة، لكنّ المجال الذي أعطاه حافظ الأسد لدخول العناصر الإيرانية إلى لبنان للمساعدة في تأسيس حزب الله، وتدريب مقاتليه في سوريا، أسس لعلاقة قُيّضَ لها أن تتعمق مع الوقت.
على الرغم من ذلك، حافظ النظام السوري على حذره أثناء التعاطي مع حزب الله ذي التوجهات الإسلامية. استفاد حافظ الأسد بالطبع من التفجيرات التي استهدفت القوات الأميركية أو الإسرائيلية في لبنان، لكنه لم يكن راضياً عن الصِدام بين الحزب وحركة أمل، التي كانت أحد ممثليه الخُلصاء في لبنان، حتى أن مناوشات حصلت بين جيش النظام ومجموعات للحزب في البداية. ثم استمرت المخابرات السورية في لبنان، تحت قيادة غازي كنعان، باستدعاء بعض قيادات حزب الله من حين لآخر.
أعطى وصول بشار الأسد إلى الحكم خلفاً لأبيه عام ألفين دفعةً جديدة لهذه الشراكة، كان بشار أقرب بكثير إلى حزب الله من أبيه، ويبدو أنّه كان أكثر طواعيةً في الانجرار وراء المحور الإيراني في المنطقة بسبب تلك العلاقة، وذلك بعد عقود من إدارة حافظ الأسد توازنات حذرة وحسّاسة بين إيران من جهة، ودول الخليج العربية ومصر من جهة أخرى.
بعد وصول موجة الربيع العربي إلى سوريا في آذار (مارس) 2011، لم تكن تركيبة النظام السوري قادرة على التعامل معها بأي طريقة غير القمع الواسع والعنف المنفلت، ما أدى إلى تضعضع البنية العسكرية للنظام، فجاءت قوات حزب الله لتكون أسرع وأُولى النجدات التي وصلته من خارج البلد.
لم يشارك حزب الله في معارك مفصلية فقط، مثل معركتي القصير ويبرود اللتين قدَّمَ فيهما للنظام السوري نصراً كان يحتاجه الأخير بشدة، بل ارتكبت قواته انتهاكات بحق السكان مثل عمليات الإخفاء القسري والتهجير وحصار المناطق المدنية وتجويعها، خاصةً في المناطق التي اعتُبرت حيويةً بالنسبة للحزب مثل القلمون الملاصق للبنان، كما بات الحزب عِماداً لما أصبح لاحقاً وجوداً إيرانياً وعراقياً وأفغانياً أوسعَ في سوريا.
ليس هناك شكٌّ لدى المحللين اليوم في أنّ حزب الله مُني بخسارات كبيرة خلال الأسابيع الأخيرة، وأنّ قدراته قد تعرضت إلى أذىً كبير سيحتاج سنواتٍ طويلة لتعويضه، لكنّ السؤال الذي تبقى الإجابة عليه أكثر غموضاً هو مصير التنظيم نفسه. فقد خسر التنظيم قيادات عسكرية وميدانية مهمّة، ومن ثمّ زعيمه الذي قاده بشكل مباشر وأداره بطريقة تجمع كل الخيوط بين يديه وحده على مدى قرابة 32 عاماً، وهو ما يعني أنّ هذه الهزّة قد تؤدي إلى ما هو أكبر من خسارة القدرات العسكرية.
في المقابل، فإنّ وجود حزب الله العسكري في سوريا ما يزال، حتى هذه اللحظة، عاملاً أساسياً ومحورياً في استقرار النظام السوري. فهو من الأطراف القليلة التي تمتلك اليوم في سوريا قوات يمكن تحريكها بسرعة في حال اشتعلت خطوط التماس مجدداً، كما أنّه، إلى جانب سيطرته على مناطق واسعة من البلاد، يمتلك حضوراً في مطبخين أساسيين: الأول هو غرف عمليات الميليشيات الإيرانية التي تقود وتُحرّك وتضع الاستراتيجيات لعشرات آلاف المقاتلين الأجانب والمحليين، بالإضافة إلى وجود حزب الله على مقربة شديدة من رأس السلطة والحلقة الصغيرة التي تضمّ أفراداً مثل ماهر الأسد شقيق بشار الأسد وقائد الفرقة الرابعة، أكثر فرق جيش الجيش تسليحاً وقوة. لذلك فإنّ نوع السيناريو الذي سيتجه إليه مصير حزب الله خلال الأيام والأسابيع القادمة سيلعب دون شك دوراً أساسياً في استقرار النظام السوري، وفي مدى قدرته على السيطرة على البلاد.
قد يؤدي تراجع حزب الله وضعفه في لبنان، أو تَفكُّك مجموعاته في سوريا ولبنان، إلى مزيد من التحلل والتفكُّك الذي تشهده مناطق النظام السوري، الذي يبدو وكأنه يسيطر بالكاد على الميليشيات التي تنتشر في مناطق سيطرته، والتي جاءت أصلاً لمساندته. وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية لا تعطيه مجالاً لأي مناورة، سيكون النظام أمام تحدٍّ صعب لإدارة العلاقة مع هذه الميليشيات في غياب نصر الله.
وفي الوقت نفسه، يشكل غياب شخصية مهمّة في «محور الممانعة» فرصة هامة قد تسمح للنظام بالاستجابة بفعالية أكبر للمبادرات العربية، وربما الاستدارة تماماً والخروج من هذا التحالف، ولكن هذه الفرصة تواجه عوائق جديدة يمثلها ضعفُ هذا المحور ذاته، وهو ما يعني انخفاض الثمن الذي يستطيع النظام السوري تحصيله من الابتعاد عن التحالف في حالته هذه.
لن تختفي قوات حزب الله الموجودة في سوريا من تلقاء نفسها بالطبع، ولا البنية التحتية والعلاقات التي نسجتها على جميع مستويات السلطة والأمن، وهو ما يعني بقاء تأثير حزب الله في سوريا، طالما أرادت إيران ذلك وطالما سمح الواقع الميداني به.
فهل سيقودُ ذلك النظامَ السوري إلى مزيد من الضعف؟ أم أن هذه الأحداث تفسح له المجال للقيام باستدارة كبيرة؟ هي أسئلة لن نستطيع الإجابة عنها قبل معرفة مصير حزب الله ذاته.