مات حسن نصر الله. قتلته إسرائيل.

ألقت الطائرات الإسرائيلية في عملية الاغتيال 80 طناً من المتفجرات التي مسحت 6 أبنيةٍ من الوجود، وكان حسن في واحدٍ منها. قيل إن جسده لم يعد موجوداً، وقيل إنه مات اختناقاً في غرفةٍ محصنةٍ اختبأ فيها، وقيل إن رأسه ارتطم بفعل الانفجار دون أن يلحق الأذى بجسده.

لا شيء مؤكد حتى الآن عدا أن حسن عبد الكريم نصر الله قد مات.

التوقيت: بعد قرابة عامٍ من حرب إبادةٍ إسرائيلية على قطاع غزة، رافقتها مناوشاتٌ تراعي «قواعد الاشتباك» على حدود لبنان الجنوبية، واستباحةٌ كاملة لسماء سوريا وأرضها دون رد، والكثير الكثير من ضبط النفس الإيراني الذي لا يرى في تصفية حلفائه، في طهران كما في لبنان، إلا زيادةً في عزيمتهم وإصرارهم على النصر.

يأتي الاغتيال أيضاً بعد أيامٍ من توسّع حرب الإبادة الإسرائيلية لتشمل لبنان، ويعقبه تحركٌ بريٌّ بدأ ليل الإثنين الماضي، ثم نحو 200 صاروخٍ إيراني سقط بعضها في مناطق متفرقة من إسرائيل. بدأ العدوان على لبنان بالعنف الإسرائيلي المُفرط والمعهود؛ 500 من القتلى اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين في 24 ساعة. لا تقيم إسرائيل وزناً لحياتنا، لا تفرّق بين المدنيين والعسكر والأطفال والنساء، وتدعمها «ديمقراطياتٌ من العالم الأول» في حروبها القيامية تحت ذرائع «الدفاع عن النفس» و«الحق في الوجود» مهما كان عدّاد الضحايا، وحتى لو ذهبت إلى زجّ الشرق الأوسط كله في حربٍ شاملة.  

قبل هذا، وبالتزامن معه أيضاً، كان محور مقاومة إسرائيل في إيران وسوريا ولبنان والعراق يبذل رجاله وسلاحه ليكون شبيهاً بالدولة التي يقاومها: يمارس الإبادة كما تفعل، ويُهجّر كما تُهجّر، ويحرم الناس من العودة إلى مدنهم وقراهم كما تفعل منذ قيامها، ويغيّر ديموغرافيا المدن الثائرة ضده أو التي تقع على خطوط إسناده، ويقتل السجناء. وإن كانت تتفوق عليه في التكنولوجيا والعدة الحربية المتطورة، فيفضُل عليها في التغييب والسلاح الكيماوي. تطحننا إسرائيل لتحمي نفسها، وتطحننا مقاومتها لتحمينا من إسرائيل. وفي المحصلة، لسنا أكثر من أضرارٍ جانبية بالنسبة للطرفين. يُعيّر نتنياهو وحكومته المتطرفة خصومَهم ومنتقديهم بما فعله محور الممانعة بالسوريين، ويعيّر المحورُ إسرائيلَ و«قوى الاستكبار» التي تساندها بما فعلوه في قطاع غزة.  

مات حسن نصر الله. قتلته إسرائيل.

تشبه عملية الاغتيال وحشية إسرائيل في حروبها علينا منذ قيام دولتها عام 1948، ولكنها لا تجعل من حسن نصر الله ذلك البطل المقاوم الذي مات مدافعاً عن فلسطين ولبنان في وجه إسرائيل. التاريخ، تاريخنا العربي الحديث، مليءٌ بأمثال السيد حسن.

أعطت الولايات المتحدة رأس صدام حسين لحلفاء إيران في العراق، فحرصوا على جعل البشاعة طاغيةً على مشهد التخلص منه، وصار لموت الطاغية رمزية. لكنّ هذا لا يغير شيئاً من حقيقته: كان سفّاكاً للدماء طوال حكمه للعراق، وضرب الأكراد في حلبچة بالأسلحة الكيماوية، وأعدم رفاقه وخصومه، وأذاق العراقيين أقداراً لا تُحتمل من الاستبداد والعنف والترهيب والإفقار.

قتلت أميركا زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ومعه طفلٌ صغير، ثمّ مثّلت بجثمانه فألقته من طائرة. سلوك القوة العظمى شائنٌ وانتقامي، لكنه لا يُصيّر بن لادن ما لم يَكُنه. ظل قائد الجماعة الإرهابية المجرمة التي لا تتورع عن قتل الأبرياء.

هل غيّرت طريقة قتل معمر القذافي، الأعزل المُسن المُتوسّل لقاتليه في مشهده الأخير، من كون الرجل قد عاش بوصفه عتبةً مريضةً ومنحطةً في تاريخ الديكتاتورية؟ بالطبع لا، كان الديكتاتور الذي أنفق ثروات شعبه في المؤامرات والسفالات، ثم قصفَ بنغازي ومدناً أخرى بالطيران الحربي، وأخيراً قتله خصومٌ دون مروءة. طريقة القتل، مجدداً، عرّفت القاتل لا القتيل.

أليست الولايات المتحدة، التي تتيح لإسرائيل التجبّر والإبادة وتزوّدها بكل ما يتطلبه ذلك من سلاح هي التي قتلت زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي؟ أيغيّرُ ذلك من حقيقة أن هذا الرجل كان زعيم تنظيمٍ عدميٍّ ومجرم أحرقَ البشر أحياء؟

هذا أيضاً حسن نصر الله قد قتلته إسرائيل بالطريقة الإبادية التي تشبُهها، بالمحق الذي تعوّدت ممارسته، ولكن هذا لا يغير من حقيقة أمين عام حزب الله: زعيم تنظيمٍ طائفيٍّ تغوّل حتى صار فوق الدولة التي نشأ فيها، ثم عبَر الحدود ليكون رأس حربةٍ في إبادة السوريين والسوريات على يد المحور وروسيا، وأدّى قسطه في الصراع على اليمن بين إيران والسعودية، وأسهم في سفك الدم العراقي والقتل الطائفي عبر مشاركته الفعلية وتدريبه لعناصر الميليشيات الطائفية التي شكلتها إيران. 

مات حسن نصر الله. قتلته إسرائيل.

في طريقه إلى القدس عبر حواضر السوريين، خلال اثنتي عشرة سنة، انكشف حزب الله أمام إسرائيل واخترقته مخابراتها، فصادت طائراتها، بيسرٍ وخلال وقتٍ قصيرٍ، الغالبية العظمى من قيادات صفوفه الأولى وصولاً إلى الأمين العام نفسه. من طريق القدس الذي سلكه نصر الله في سوريا، عرفت إسرائيل طريق مخبئه في ضاحية بيروت الجنوبية. هذه إذاً حربٌ ينكسر فيها حزب الله لأنه سخّر سلاحه في ترسيخ حكم الأبد الأسدي واحتفاظ إيران بمشروعها التوسعي. ولكنّ جمهوره، ومعهم المنضمون الجدد إلى جمهوره، يصرونّ على تجاهل هذا كله، متفرّغين لملاحقة شامتٍ على تويتر وتقريع مُبتهجٍ في فيسبوك.

لا يُدافَع عن الشماتة ولا يُبرَّر لها لأنها لا تنتمي لعالم السياسة أو الأخلاق، بل أكثر من ذلك أنها تُجرّد المرء من إنسانيته. ولكن ثمة ما استجدَّ بخصوصها لدى المحور وأتباعه جعلهم يرونها كذلك الآن فقط. كان للمحور حجر السبق في أن تصبح الشماتة جزءاً من «قاموسنا السياسي العربي»، فمع صعود المحور قادته الشماتة إلى توقيت قتل خصمه صدام حسين صبيحة عيد الأضحى، ليكون كبش العيد، ثم حُمل جثمانه إلى بيت نوري المالكي حيث كان حفل زفاف أحد أبنائه قائماً. بعدها عرفنا «المجد لكاتم الصوت» و«البرميل المقدس» و«الباص الأخضر» و«موائد مضايا» ونبش القبور ونكت العظام وأكل الشعيبيات وتوزيع البقلاوة. ثمّ ماذا؟ فجأةً، ودفعةً واحدة، صارت الشماتة تصهيناً. يااااه!

تتطلب الشماتة ومشاعر الفرح التي أبداها جمهورٌ عربيٌّ واسع، من محور المقاومة والموقعين أدنى ممارساته، وقفةً أمام تاريخهم. طوال 14 عاماً اجتهد هذا المحور في نزع القدسية عن أرواح الناس طالما أنهم ليسوا في صفّه، وفي جعل الموت والموتى ورُفاتهم وكراماتهم بلا حرمة. لقد أوصلنا محور المقاومة والممانعة، محور علي خامنئي وحسن نصر الله وقاسم سليماني وبشار الأسد ونوري المالكي وأبو مهدي المهندس ورفاقهم الأصغر شأناً، إلى جعل الشماتة جزءاً من التعبير السياسي، ينعكس فيها حجم الشرخ الذي أحدثه الاستعداد المُنفلت للقتل وازدراء حياة الخصوم الأضعف. هذه الشماتة، المرذولة طبعاً، هي قاموسهم الذي باتوا يشتكون منه اليوم. إنّ عقوداً من حرمان الناس من السياسة، من حق المشاركة في الشأن العام، لا يمكن أن يُرجى منها أن تأتي بتعبيراتٍ نبيلة في لحظات انكسار الخصم. 

على الرغم من ذلك، فإن الشماتة، بحسن نصر الله أو غيره، عقيمة ولا تفيد في شيء، لا تفيد البشر ولا قضاياهم. الأجدى والأصلح لشعوب منطقتنا المنكوبة، اليوم ومستقبلاً، أن نُحرّر كلماتنا ومشاعرنا منها، أن نكفّ عن تعميم ثقافة محور الممانعة التي تحطّ من شأن النفس الإنسانية حيةً وبعد موتها. الشامتون، مهما كانت قضاياهم محقّة، يعيدون استحضارها وتلخيصها بما لا يليق بها، يسيئون إلى آلامهم وحكايات البطش بهم.

مات حسن نصر الله. قتلته إسرائيل.

ثمة من يُريد اليوم أن يكون الذي مات هو المقاوم حسن نصر الله الذي قتلته إسرائيل في حربها الإبادية على غزة ولبنان، وأن سيرته السورية، التي يتفقون أو يختلفون مع مضمونها، تفصيلٌ عابرٌ مما يمكن القول قبله «بغض النظر». نقرأ ذلك في سيرٍ عديدة للراحل نُشرت بعد موته، تتفق جميعها على أن تتجاهل سيرته السورية أو أن تقلّل من شأنها. هذا تدليسٌ وافتراءٌ على التاريخ وعلى دماء مئات الألوف من ضحايا حسن ورفاقه. وهذا، قبل كل شيء، افتراءٌ على فلسطين، على القضية العادلة المُحقة، وعلى حق أهلها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي دون أن تتلطخ قضيتهم بدماء الأبرياء. الأساسي والمركزي في سيرة حسن نصر الله أنه قتَل السوريين، وحاصرهم، وهجّرهم. إن مضايا والقصير أساس حكاية حسن نصر الله، وجرف الصخر التي اقتُلع أهلها وغُيّر اسمها هي أساس حكاية نصر الله، وقنص عيون متظاهري ثورة تشرين العراقية أساس حكاية نصر الله، وتفجير مرفأ بيروت أساس حكاية نصر الله، 7 أيار حكاية نصر الله، ودم لقمان سليم وسمير قصير أساس حكاية نصر الله. أساس حكاية نصر الله أنه ركنٌ في المحور الذي جعل من سوريا بلداً محطماً وخارج التاريخ، ثم دولة مخدرات، وأنه من المحور الذي ما يزال يناقش بجديةٍ سياسيةٍ شرعيةَ مفاخذة الرضيعة، بينما تسعى أحزابه وميليشياته الحاضرة في البرلمان العراقي إلى إقرار قانونٍ يتيح تزويج ابنة التسع سنوات، وهو ابن المحور الذي ينهب العراق ويجعله ميليشياتٍ تتناسل من ميليشيات، ابن المحور الذي قتل مهسا أميني. أساس حكاية نصر الله أنه ابن المحور الذي لم تتّحد ساحاته إلا في سوريا، فوق جماجم أهلها. أما التفصيل العابر وقليل الأهمية، فهو أن إسرائيل، عدونا الذي يحتل أرضنا ويقتلنا جموعاً وأفراداً، هي التي قتلته.